الشيعة في الاسلام

الشيعة في الاسلام0%

الشيعة في الاسلام مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 206

الشيعة في الاسلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 206
المشاهدات: 84062
تحميل: 5180

توضيحات:

الشيعة في الاسلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84062 / تحميل: 5180
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الاسلام

الشيعة في الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وأن ينشر بينها الكمال، ويُرسي قواعده.

ومن البديهي لم تُدرك البشريّة حتّى الآن طوال أجيال متعاقبة مضت من حياة البشريّة، مثل هذا القانون الذي قوامهُ العقل، ولو قُدِّر أن يصدر إلى حيّز الوجود، لفَهمتهُ البشريّة في حياتها الطويلة بما تمتاز به من تعقّل وتدبّر، وكانت تلتزم به في مجتمعاتها.

وبعبارةٍ أوضح: لو كان هناك قانون كامل عام، بحيث يستجيب لمَا تصبو إليه البشريّة من سعادة، ويُرشد البشريّة من حيث الفطرة والتكوين، لأدركهُ كلّ إنسان بما لديه من إمكانات عقليّة، كما يُدرك ما ينفعهُ أو يضرّه، وكذا سائر الضروريّات في حياته، ولكن لم يتحقّق مثل هذا القانون بعد.

والقوانين التي توضَع من قِبَل شخصٍ حاكم أو أشخاص، أو جوامع بشريّة، نجدها مورد احترام وتصديق لدى فئة، ومورد رفض واعتراض لدى آخرين، وهناك مَن اطّلع عليها وعَرفها، وآخرون لم يطّلعوا، ولن تجد وجه اشتراك في المجتمعات البشريّة - بما أنّهم يشتركون في كونهم بشراً، وأنّهم يتّصفون بالفطرة الإلهيّة - في إدراك هذه القوانين.

4. الشعور المرموز، أو ما يُسمّى بـ(الوحي)

وممّا تقدّم يتّضح: أنّ القانون الذي يضمن السعادة للبشريّة، لا يُدركه العقل، وبمقتضى نظريّة الهداية العامّة، التي ترى ضرورة هذا الإدراك في النوع البشري، لابدّ من وجود جهازٍ آخر بين النوع الإنساني يُدرك ذلك، كي يرشده إلى الواجبات الواقعيّة للحياة، وتكون في متناول يد الجميع، وهذا الشعور والإدراك هو غير العقل والحسّ، إنّه ما يُسمّى بـ (الوحي) .

١٢١

ومن الطبيعي أنّ وجود مثل هذه القوّة في البشر، لا يتحتّم أن يكون في جميع أفراد البشر، كما هو في القوّة المودَعة في الإنسان للتناسل، في حين أنّ إدراك لذّة الزواج، والتأهّب له، يتحقّق في الأفراد عند بلوغهم، وشعور (الوحي) الذي لا يَظهر لدى الأفراد، هو شعورٌ مرموز، كما هو الحال في إدراك وشعور اللذّة في الزواج عند مَن لم يصل إلى سنّ البلوغ، فيبقى هذا الإدراك غير معروف لديه.

واللهُ تعالى يشير في خطابه عن (الوحي) بالنسبة إلى الشريعة وعجز العقل بقوله:

( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً * رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) .

5. الأنبياءُ وعصمة النبوّة

إنّ ظهور الأنبياء يؤيِّد نظريّة (الوحي) الذي سبقَ ذكره، أنّ أنبياء الله تعالى كانوا ممّن ادّعى (الوحي) والنبوّة، وفي ادّعائهم هذا أقاموا الحُجج والبراهين، وبلّغوا الناس ما تحتويه شريعة الله سبحانه، ألا وهو القانون الذي يمنحهم السعادة وجعلوها في متناول أيدي الجميع، ولمّا كان الأنبياء يمتازون بـ(الوحي) والنبوّة، فعند ظهورهم في كلّ زمنٍ كانوا قِلّة، فجعلَ الله هداية الناس على عاتق هؤلاء، بما أُمروا من دعوةٍ وإبلاغ، وما ذلك إلاّ لتعمّ وتتمّ وتكتمل تلك الدعوة.

ومن هنا يتّضح: وجوب عصمة الأنبياء، فهم مصونون من الخطاء في تلقّي (الوحي) من جانب الله تعالى، وفي حفظه، وإيصاله إلى الناس؛ فإنّهم بعيدون كلّ البُعد عن المعصية والخطأ؛ لأنّ تلقّي الوحي - كما ذُكر - وحفظه وإبلاغه،

١٢٢

يشتمل على الأركان الثلاثة للهداية التكوينيّة، ولا معنى بأن يكون هناك خطأ في التكوين، فضلاً عن أنّ المعصية والتخلّف عن أداء الدعوة والإبلاغ، عَمل يُخالف الدعوة، ويوجِب سلب ثقة الناس واطمئنانهم بصحّة الدعوة وصدقها، ونتيجةً لذلك ينتفي الغرض والهدف الأساسي للدعوة.

والخالق جلّ شأنه يشير إلى عصمة الأنبياء في كتابه المجيد بقوله: ( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (1).

وهو القائل أيضاً: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ ) (2).

6. الأنبياء والشرائع السماويّة

إنّ ما حصلَ عليه الأنبياء عن طريق (الوحي) وإبلاغهم الناس على سبيل الخير والأحكام الإلهيّة هو الدين، وباتّخاذه نهجاً لهم في سبيل الحياة والوظائف والواجبات الإنسانيّة، يضمن لهم السعادة (3) .

يشتمل التشريع الإلهي بشكلٍ عام على جانبين: الاعتقادي، والعلمي.

فالجانب الاعتقادي: يحتوي على مجموعة معتقدات أساسيّة، تَفرض على الإنسان أن يتّخذها أساساً لحياته، وهي الأُسس العامّة الثلاثة: التوحيد، والنبوّة، والمعاد، وإذا أُهمِلت إحداها لم يتحقّق اتّباع الدين.

____________________

(1) سورة الأنعام: الآية 87.

(2) سورة الجنّ: الآية 28.

(3) يراجع مقدّمة الكتاب.

١٢٣

والجانب العملي: يتألّف من مجموعة وظائف أخلاقيّة عمليّة، تحتوي على وظائف معيّنة يتقيّد بها الإنسان أمام الله تعالى وأمامَ المجتمعات البشريّة.

ومن هنا تنقسم الواجبات الفرعيّة في الشرائع السماويّة، والتي نُظِّمت للإنسان على قسمين: الأخلاق، والأعمال ، وكلّ من هاتين تنقسم إلى قسمين أيضاً.

فأمّا الأخلاق والأعمال التي ترتبط بالله الخالق فهي: الخُلق، وصفة الإيمان، والإخلاص، والتسليم، والرضا، والخشوع، وكذا الصلاة، والصوم، والفدية وغيرها، وهذه المجموعة من الأعمال تسمّى بـ (العبادات) ، وتُعبّر عن خشوع الإنسان وعبوديّته لربّه.

وأمّا ما يتعلّق بالمجتمع من الأخلاق والأعمال فهي: الصفات الحَسَنة، كحُبّ النوع، والمساعدة، والعدالة، والسخاء، وما يرتبط بآداب المعاشرة، والمعاملة وغيرها، وهذه الأعمال الخاصّة هي ما تسمّى بـ (المعاملات) .

ومن جهةٍ أخرى: فإنّ النوع الإنساني يتّجه نحو الكمال بصورة تدريجيّة، والمجتمع البشري يتكامل بمرور الزمان، وإنّ ظهور هذا النَسخ من التكامل ضروري في الشرائع السماويّة، ويؤيِّد القرآن الكريم هذا التكامل التدريجي (إذ يمكن الوصول إليه عن طريق العقل)، وممّا يُستفاد من آياته، أنّ الشرائع اللاحقة أكمل من الشرائع السابقة بقوله تعالى: ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) (1) .

وممّا تُبيّنه النظريّات العلميّة، ويُصرِّح به القرآن الكريم: أنّ حياة المجتمعات البشريّة في هذا العالَم ليست أبديّة، ومن الطبيعي أنّ التكامل لبَني نوعها لم يكن غير متناهٍ، فمِن هذه الجهة، ستتوقّف جميع الوظائف الإنسانيّة

____________________

(1) سورة المائدة: الآية 48.

١٢٤

من حيث الاعتقاد والعمل في مرحلة معيّنة، وتَبعاً لهذه الحقيقة، فإنّ النبوّة والشريعة أيضاً يوماً ما ستصل إلى آخر مرحلة من مراحل الكمال والاعتقاد، وبثّ القوانين العَمليّة، وبذلك تكون النهاية والخاتمة لها.

ومن هنا نرى القرآن الكريم يوضِّح هذه الحقيقة ويُصرِّح بأنّ الإسلام، الدين الذي اختارهُ لمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو: آخر الأديان السماويّة وأكملها، والكتاب العزيز لا يُنسخ، والنبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو خاتم الأنبياء، والإسلام يحتوي على كافّة الوظائف والواجبات، كما في قوله تعالى: ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ) (1) .

ويقول أيضاً: ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) (2) .

وقوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (3) .

7. الأنبياءُ ودليل الوحي والنبوّة

إنّ الكثير من علماء اليوم الذين حقّقوا في موضوع (الوحي) والنبوّة، قد فسّروا موضوع (الوحي) والنبوّة والأمور المرتبطة بهما، على الأُسس التي يقوم عليها علم النفس وعلم الاجتماع، بقولهم: إنّ الأنبياء كانوا أُناساً أطهاراً، ذَوي هِمم عالية، مُحبّي البشريّة، ولغرض تقدّمها وتطوّرها من الناحية الماديّة والمعنويّة، وكذا تزكية المجتمعات المنحطّة خلقيّاً، نظّموا ووضعوا قوانين خاصّة،

____________________

(1) سورة حم سجدة: الآية 42.

(2) سورة الأحزاب: الآية 40.

(3) سورة النحل: الآية 89.

١٢٥

ودَعوا الناس إليها، ولمّا كان الناس في ذلك الوقت لم يَخضعوا أمام المنطق والعقل، فما كان منهم إلاّ أن ينسبوا أفكارهم وأنظمتهم إلى العالَم العلوي كي يستطيعوا بذلك أن يجلبوا رضا الناس ويُخضعوهم لقيادتهم، وكان اعتقاد البعض أنّ روحهم هي روح القدس وما الفكر الذي يتجلّى إلاّ (الوحي والنبوّة)، وما الوظائف والواجبات التي تُستنتج من ذلك إلاّ (الشريعة السماويّة)، والكلام الذي يتضمّن ذلك كان يسمّى (الكتابُ السماويّ) .

فالذي ينظر بتأمّل وإنصاف إلى الكتب السماويّة، وخاصّة القرآن الكريم، وكذا إلى الشرائع التي جاء بها الأنبياء، لا يشكّ في بطلان هذه النظريّة؛ وذلك أنّ الأنبياء لم يكونوا رجال سياسة، بل كانوا رجالاً يتّصفون بالصدق والصفاء والخلوص، وكلّما كانوا يَدركونه يتفوّهونَ به، وكلّما كانوا يقولون به كانوا يعملون به، وكلّما كانوا يزعمونه هو: أنّ هناك شعوراً مرموزاً، وإمداداً غيبيّاً، يفيض عليهم، وأنّهم عن هذا الطريق يتلقّون الوظائف الاعتقاديّة والعلميّة من جانب الله تعالى، لإبلاغ الناس وإرشادهم.

ومن هنا يتّضح: أنّ ادّعاء النبوّة يحتاج إلى حُجّة ودليل، ولا يكفي أن تكون الشريعة التي جاء بها النبيّ توافق العقل، فإنّ صحّة الشريعة لها طريق آخر للإثبات، وهو: إنّه على اتّصال بالعالَم العُلوي (الوحي) والنبوّة، وقد أُنيطت به هذه المسؤوليّة من قِبَل الله تعالى، وهذا الادّعاء يفتقد إلى دليل عند إقامته.

وعلى هذا، نجد أنّ السُذّج من الناس (كما يُخبر به القرآن الكريم)، كانوا يطالبون الأنبياء بالمعجزة لصِدق دعواهم.

ويُستنتج من هذا المنطق الساذج والصحيح هو: أنّ (الوحي) والنبوّة الذي يدّعيه المُرسَل، لم يكن ليحصل في سائر الناس، والذين هم مثله، ولابدّ من قوّة غيبيّة قد أودَعها الله تعالى نبيّه بنحو يخرق العادة به، والتي بواسطتها

١٢٦

يُصغى إلى كلام الله تعالى، ويوصلها إلى الناس وفقاً لمسؤوليّته، وإذا كان هذا المُعجز صحيحاً، فالرسول يريد من الله تعالى أن يُعينه على معجز آخر، كي يُصدِّق الناس نبوّته ومدّعاه.

ويتّضح أنّ مطالبة الناس الأنبياء بالمعجزة أمرٌ يوافق المنطق الصحيح، وعلى الأنبياء لإثبات نبوّتهم أن يأتوا بالمعجزة، إمّا ابتداءً أو وفقاً لمَا يُطالب به المجتمع.

والقرآن الكريم يؤيِّد هذا المنطق، ويشير إلى معاجز الأنبياء إمّا ابتداءً، أو بعد مطالبة الناس إيّاهم.

وتجدرُ الإشارة إلى أنّ الكثير من المحقّقين مع أنّهم لم ينكروا المعجزة (خرق العادة)، إلاّ أنّ كلامهم لم يكن مُدعَماً بدليل، وهو أنّ العِلل والأسباب للحوادث التي حَصلنا عليها حتّى الآن كانت بالتجربة والفحص، وليس لدينا أيّ دليل أنّها دائميّة، ولن تتحقّق أيّة حادثة أو ظاهرة إلاّ بعِللها وأسبابها.

وأمّا المعاجز التي تُنسب إلى الأنبياء، لم تكن مخالفة للعقل أو يستحيل إقامتها (كزوجيّة العدد 3)، لكنّها خرقٌ للعادة في حين أنّ موضوع خرق العادة يُرى ويُسمع من المرتاضين أيضاً.

8. عدد الأنبياء

ممّا يُنقل في تاريخ الماضين، أنّ أنبياء كثيرين أُرسلوا وبُعثوا، ويؤيِّد القرآن الكريم كثرة الأنبياء، ويَذكر أسماء بعضهم، إلاّ أنّه لم يُصرِّح بعددهم.

ولم نحصل على عددهم من الروايات بصورة قطعيّة، إلاّ أنّ الرواية المعروفة والتي تُنقل عن (أبي ذر الغفاري) عن النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يُبيّن فيها أنّ عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي.

١٢٧

9. الأنبياءُ أولو العزم، حَمَلةُ الشرائع السماويّة

وممّا يُستفاد من القرآن الكريم: أنّ الأنبياء كلّهم لم يأتوا بشرائع، بل إنّ خمسةً منهم قد جاءوا بشرائع سماويّة، وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهؤلاء هم أولو العزم، وأمّا سائر الأنبياء فإنّهم يتّبعون أولي العزم في شرائعهم.

وقوله تعالى:

( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ) (1).

ويقول تعالى:

( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً ) (2).

____________________

(1) سورة الشورى الآية: 12، ولو كان هناك غيرهم لذَكَرهم تعالى في الآية.

(2) سورة الأحزاب: الآية 7.

١٢٨

10. نبوّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)

يُعتبر نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) آخر الأنبياء الذين كانوا يمتازون بالكُتب والشرائع، وقد آمنَ به المسلمون.

ولِد النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قَبل بدء التاريخ الهجري القمري بثلاث وخمسين سنة، في مدينة (مكّة) من مُدن الحجاز، في قبيلة (بني هاشم) من قريش، والتي هي من أشرف القبائل العربيّة.

أبوهُ (عبد الله)، وأُمّه (آمنة)، وقد فقدَ أبويه منذ أوائل طفولته، وتكفّلهُ جدّه لأبيه (عبد المطّلب)، وسرعان ما وافاه الأجل، حتّى تعهّد تربيته عمّه (أبو طالب) وأسكنهُ معهُ في داره.

ترعرعَ ونشأ في بيت عمّه، وقد صَحبَ عمّه في سفرة تجاريّة إلى الشام وذلك قبل سنّ البلوغ، كان النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أُميّاً، ولكنّه بعد البلوغ والرشد اشتهرَ بعقله وأدَبه وأمانته، ونتيجةً لذلك جَعلتهُ (خديجة) - والتي كانت من أثرى القريشيّات - مُشرفاً على أموالها، وإدارة أمورها التجاريّة.

سافرَ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للمرّة الثانية إلى الشام لغرض التجارة، وإثرَ نبوغهِ فقد نالَ أرباحاً جمّة، ولم تمضِ فترة، حتّى اقترحَت خديجة عليه موضوع الزواج، وافقَ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على اقتراحها، وبعد الزواج حيث كان في سنّ الخامسة والعشرين وحتّى بلوغه سنّ الأربعين، كان يُمارس عمله، فحصلَ على شهرة في تدبيره وأمانته فلم يَعبد صنماً (عِلماً بأنّ الدين السائد في ذلك الوقت هو عبادة الأصنام)، وأحياناً كان يَعتكف للعبادة.

١٢٩

فاختارهُ الله للنبوّة في الأربعين من عمره، عندما كان متفرِّغاً للعبادة في غار (حِرَاء) (1) وأُمِر أن يُبلِّغ، ونَزلَت عليه أوّل سورة من سور القرآن (2) ، ورجعَ إلى بيته في اليوم نفسه، فرأى ابن عمّه (عليّ بن أبي طالب عليه السلام) في الطريق، فعرضَ عليه الإسلام فآمنَ به، وبعد دخوله البيت، أسلَمَت زوجته خديجة.

والنبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند بدء دعوته، واجهَ من الناس مواجهة عنيفة مؤلمة، حتّى اضطرّ إلى كتمان دعوته وجَعلها سرّية، ثُمّ أُمِر ثانية أن يُبلِّغ دعوتهُ عشيرته الأقربين، ولكنّها لم تُجدِ، إذ لم يؤمن به سوى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) (3) .

وبعد ذلك، أعلنَ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دعوتهُ بأمرٍ من الله تعالى، وما أن أعلنَ النبيّ الدعوة حتّى شاهدَ ردود الفعل من أهل مكّة، مقرونة بالأذى والتعذيب بالنسبة له وللمسلمين الذين أسلموا حديثاً، ممّا اضطرّ بعض المسلمين ترك ديارهم إثر الاضطهادات التي كانت تقوم بها قريش، فهاجروا إلى الحبشة، وتحصّن النبيّ الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع عمّه (أبي طالب)، وأفراد من قبيلته بني هاشم في (شِعْب أبي طالب) (4) لمدّة ثلاث سنين، في غاية من الضغط والشدّة، فلم يُعاملهم أحد، ولم يُعاشرهم، ولم يستطيعوا الخروج من الشِعب.

ولم ينته كفّار مكّة وعَبَدة أصنامها، من الإيذاء والاهانة والاستهزاء بكلّ أنواعها تجاههم، وكانوا يلتجئون أحياناً عن طريق المُسالمة، والوعد بالأموال الطائلة كي يَصرفوا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن دعوته، وقد اقترحوا عليه

____________________

(1) غار في جبل (تُهامة) على مقربة من مكّة.

(2) سورة العَلق.

(3) وفقاً لروايات أهل البيت (عليهم السلام) ولأَشعَار قالها أبو طالب، تعتقد الشيعة أنّه أسلَمَ، وبما أنّه كان المُدافع الوحيد عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يكتُم إسلامه، كي يحتفظ بقدرته الظاهريّة أمام قريش.

(4) حصار كان في إحدى وديان (مكّة).

١٣٠

الرئاسة والسلطان أحياناً أخرى، وكان وَعدهم ووعيدهم سيّان عند النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكان ممّا يزيد في عزمهِ وإرادته.

وقد اقترحوا عليه مرّةً المال الكثير والرئاسة، فأجابهم النبيّ قائلاً: (والله، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترُك هذا الأمر حتّى يُظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركتهُ).

خرجَ النبيّ من (شِعب أبي طالب) حوالي السنة العاشرة من بعثتهِ، ولم يمضِ زمن حتّى توفيَ عمّه أبو طالب، وتوفيَت زوجتهُ الوفيّة أيضاً.

فلم يكن للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ملجأ، ممّا دعا كفّار مكّة إلى أن يُخطّطوا في قتله، فحاصروا دارهُ من كلّ جانب، كي يحملوا عليه في آخر الليل، ويُقطّعوه إرباً إرباً في مضجعه.

ولكنّ الله جلّ شأنهُ أطلعهُ بالأمر، وأمَرهُ بالهجرة إلى (يثرب) (1) ، فاستخلفَ عليّاً (عليه السلام) في فراشه، وخرجَ ليلاً برعاية الله وعنايته من داره واجتازَ الأعداء، واختفى في غار تَبعد عدّة فراسخ من مكّة المكرّمة، وخرجَ من الغار بعد ثلاثة أيّام، بعد أن يئس الأعداء من الوصول إليه، وبعد أن بَحثوا ونقّبوا تلك المنطقة وحواليها، فعادوا إلى مكّة، عندئذٍ أخذَ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يُتابع طريقه إلى (يثرب).

أمّا أهل يثرب، فقد آمنوا به كبارهم وأسيادهم، وبايعوه، فاستقبلوهُ بحفاوةٍ بالغة، وقدّموا له أموالهم وأنفسهم.

فأسّس الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولأوّل مرة، أوّل مجتمع إسلامي صغير في مدينة (يثرب)، وعقدَ مع الطوائف اليهوديّة - التي كانت تستقرّ في المدينة وأطرافها - معاهدات، وكذا مع القبائل العربيّة القويّة لتلك المنطقة، وقامَ بنشر دعوتهِ الإسلاميّة، وعُرِفت مدينة يثرب بـ (مدينةُ الرسول) .

____________________

(1) منطقة تقرُب من المَدينة.

١٣١

وعلى مرّ الأيّام، قَويت شوكة الإسلام، واستطاع المسلمون - الذين كانوا يعيشون في اضطهاد القُرشيين - أن يَتركوا دورهم وسُكناهم في مكّة، مُهاجرين إلى المدينة شيئاً فشيئاً، والتفّوا حول النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وسُمّوا بـ (المهاجرين) ، كما اشتهرَ أصحابه وأعوانه من يثرب بـ (الأنصار) .

نالَ الإسلام تقدّماً سريعاً، لكنْ عبدة الأصنام من قريش، والطوائف اليهوديّة المستقرّة في الحجاز، لا يزالون حَجَر عثرة أمامَ هذه الحركة، فحاولوا القيام بأعمال تخريبيّة لصدّ النبيّ والمسلمين، وذلك بمساعدة المنافقين، الذين كانوا في صفوف المسلمين، ولم يُعرفوا بأيّ شكلٍ من الأشكال، فكانوا يخلقون المشاكل، ويسبّبون المصائب، والحوادث المستحدَثة، حتّى آلَ الأمر إلى الحرب، فَنشبت الحروب المتعدّدة بين الإسلام وعَبَدة الأصنام واليهود، فكانت الغلبة غالباً لجيش الإسلام، يَقرُب إحصاء تلك الحروب من ثمانين و نيف معركة بما فيها المعارك الدامية الكبرى، والصغيرة منها، وفي كلّ هذه المعارك، كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يشارك المسلمين في قتالهم: كمعركة بدر، وأُحد، والخندق، وخيبر وغيرها، وكانت الغَلَبة في معظمها تتمّ على يد علي (عليه السلام).

والإمام علي (عليه السلام) هو الوحيد الذي ما تراجعَ ولا فَشلَ في إحداها، وطوال هذه المعارك التي دامت عشر سنوات بعد الهجرة النبويّة، قُتلَ من المسلمين أقلّ من مائتين، ومن الكفّار ما يقرُب الألف.

ونتيجةُ المثابرة والتضحية والفداء - الذي عُرف به المهاجرون والأنصار خلال السنوات العشر بعد الهجرة - عمّ الإسلام (شبه الجزيرة العربيّة) وحُرِّرت الرسائل إلى ملوك الدول الأخرى مثل: (إيران)، و(الروم)، و(مصر)، و(الحبشة) تدعوهم إلى الإسلام.

كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يواسي الفقراء في معيشتهم، فلا تختلف حياته عن حياتهم، وكان يفتخر بالفقر (1) ، وكان يستغلّ أوقاته، لا تمرّ لحظة إلاّ وهو دائب في عمل.

____________________

(1) وفي رواية مشهورة يقول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (الفقرُ فَخري)، ولمزيد الاطّلاع في هذا الفصل يُراجع: كتاب سيرة ابن هشام، والسيرة الحَلَبيّة، وكتاب البحار ج6 وغيرها.

١٣٢

وكان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مُقسِّماً أوقاته إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: للعبادة وذِكر الله تعالى، الثاني: لهُ ولعياله وبيته، الثالث: للناس، فكان يسعى في نشر المعارف الإسلاميّة وتعليمها وما يتعلّق بشؤون المجتمع الإسلامي، وتصحيح الأهداف والسُبل التي تؤدّي إليه، وكذا السعي في رفع حوائج المسلمين، وتحكيم العلاقات الداخليّة والخارجيّة، وسائر الأمور المرتبطة بها.

وبعد إقامته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عشر سنوات في المدينة، فارقَ الدنيا على أثر سمٍّ دُسّ في طعامه على يد امرأة يهوديّة، طرَحَهُ في فراشه أيّاماً، وممّا جاء في الروايات أنّ آخر ما تكلّم به النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وصيّته في العبيد والنساء.

11. النبيُّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والقرآن

كان الناس يُطالبون النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالمعجزة، كما كانوا يطالبون سائر الأنبياء، فكان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يؤيِّد المعاجز لدى الأنبياء، والقرآن الكريم يُصرِّح بذلك.

تُذكر للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) معاجز كثيرة، إلاّ أنّ البعض منها لا تتّصف بالقطعيّة في روايتها، ولم تكن مورد قبولٍ واعتماد، ولكنّ المعجزة الباقية له (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والتي لا تزال حيّة هي (القرآن الكريم) كتابهُ السماوي.

فالقرآن الكريم كتاب سماوي يشتمل على ستّة آلاف ونيف آية، وينقسم إلى مائة وأربع عشرة سورة بما فيها المطوّلة والقصيرة.

نَزَلت الآيات القرآنيّة الكريمة بصورة تدريجيّة، خلال أيّام بعثته ودعوته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) طوال ثلاث وعشرين سنة، وكانت توحى إليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بصور مختلفة، من: سورة، أو آية، أو أقلّ من آية، وفي أوقات متفاوتة، في ليلٍ أو نهار، في سفرٍ أو حضر، في الحرب أو السلم، وفي أيّام شديدة أو رخاء.

١٣٣

والقرآن الكريم في آيات عدّة، يُصرِّح تصريحاً، بأنّه معجزة وقد تحدّى العرب في ذلك اليوم، إذ كانت في القمّة من الفصاحة والبلاغة، هذا ما يشهد به التأريخ، وكان في المقدّمة من حيث البيان والتعبير، بقوله تعالى في كتابه العزيز:

( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ) (1) .

( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ ) (2) .

( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ ) (3) .

فتحدّاهم القرآن بهذه الآيات قائلاً: إذا كنتم تظنّون أنّه من كلام البشر، أو من عند محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أو أنّه قد أخذها من أحدٍ، فأتوا بمثله، أو بعشر سورٍ منه، أو بسورةٍ واحدة من سورهِ، واستعينوا بأيّةِ وسيلة شئتم في تحقيق هذا الأمر، وما كان جواب الفصحاء والبلغاء من العرب أن قالوا: إنّه لسحرٌ ويعجز مَن مثلنا أن يأتي به (4) .

إنّ القرآن الكريم لم يتحدَّ العلماء من جهة الفصاحة والبلاغة فحسب، بل تحدّاهم من جهة المعنى أيضاً، وتحدّى الجِنّ والإنس بما يمتلكون من قدرات فكريّة خلاّقة؛ لأنّه يشتمل على البرنامج الكامل للحياة الإنسانيّة، ولو مُحِّص تمحيصاً دقيقاً، لوجِدَ أنّهُ الأساس والأصل في مجالات الحياة الإنسانيّة كلّها، بما فيها الاعتقادات والأخلاق والأعمال التي ترتبط بالإنسان، فإنّه يعالج كلّ جانب من جوانبها بدقّة تامّة، فهو من الله الحقّ، ودينهُ دين الحقّ أيضاً.

____________________

(1) سورة الطور: الآية 34.

(2) سورة هود: الآية 15.

(3) سورة يونس: الآية 38.

(4) وممّا نُقلَ عن أشهر مشاهير العرب في القرآن في قوله تعالى: ( فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ ) سورة المُدّثر: الآية 24 - 25.

١٣٤

الإسلامُ دينٌ يستلهم أحكامه وموادّه من الله الحقّ، وليس من رغبة أكثريّة الناس، أو من فكر شخصٍ حاكم قدير.

إنّ الركن الأساسي لهذا القانون الشامل هو الكلمة الحقّة، وهو الإيمان بالله الأحد، وإنّ جميع العلوم تنبثق من التوحيد، ومن ثُمّ تُستنبط الأخلاق الإنسانيّة المُثلى من هذه الأصول، وتصبح جزءاً من هذا القانون، ثُمّ تُنظّم وتُنسّق الكلّيات والجزئيّات والتي هي خارجة عن نطاق إحصاء البشر، وتدرس الوظائف التي ترتبط بها، والتي تنبع من التوحيد وتصدر منه.

في الدين الإسلامي ارتباطٌ وثيق بين الأصول والفروع، على نحوٍ يرجع كلّ حُكم فرعي من أيّ باب - إذا ما مُحِّص - إلى كلمة التوحيد وينتهي إليه، وكلمة التوحيد مع ارتباطها بتلك الأحكام والمواد تصبح فرعاً منه.

وطبيعيٌ أنّ التنظيم والتنسيق النهائي لمثل هذا القانون الوسيع الشامل، مع ما يمتاز به من وحدة وارتباط كهذه، خارجة عن نطاق شخصٍ متضلّع في علم الحقوق والقانون، وإن كان من أشهر مشاهيرهم، فضلاً من أنّ الفهرست الابتدائي له ليس بالأمر اليسير، فكيف برجلٍ يعيش في زمنٍ يتّصف بالحياة البدائيّة، في خضمّ الآلاف من المشاكل والمصائب التي تُهدّد الأموال والأرواح، والعام والخاص، وتُنشئ الحروب الدامية، والفتن الداخليّة والخارجيّة، وفي النهاية يبقى منفرداً أمام العالَم أجمع.

هذا، فضلاً من أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يتعلّم القراءة والكتابة عند معلِّم، لقد قضى ثُلثي عمره وحياته قَبل دعوته (1) في بيئة تفتقر إلى حضارة، ولم تَسمع بمدينة أو حضارة،

____________________

(1) وفي القرآن الكريم عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ( فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) سورة يونس: الآية 16.

ويقول أيضاً: ( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) سورة العنكبوت: الآية 48.

ويقول أيضاً: ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) سورة البقرة: الآية 23.

١٣٥

كانوا يعيشون في أرض صحراء قاحلة، وجوّ مُهلك، مع أتعس الظروف الحياتيّة، عِلماً بأنّها كانت تُستعمر من قِبَل الدول المجاورة بين آونةٍ وأخرى، ومع كلّ هذه الظروف والأحوال نجد القرآن الكريم يتحدّى من طريقٍ آخر، وهو: أنّه أُنزِل بصورة تدريجيّة مع ظروف متفاوتة مختلفة، في أيّام الفِتن والأيّام الاعتياديّة، في الحرب والصلح، وفي أيّام القدرة، وأيّام الضَعف وغيرها، خلال ثلاث وعشرين سنة.

ولو لم يكن من كلام الله تعالى، وكان من صُنع البشر، لوجِدَ فيه تناقضاً وتضادّاً كثيراً، فلابدّ أن يأتي آخرهُ أجود وأحسن من أوّله، وأكثر تطوّراً، وهذا ممّا يؤيّده التكامل التدريجي للبشر، في حين نرى أنّ الآيات المكيّة والمدنيّة على نمطٍ واحد، لم يختلف آخرها عن أوّلها، كتاب متشابَه الأجزاء، يُحيّر العقول في قدرة بيانه ووحدة تنسيقه (1).

____________________

(1) في قوله تعالى شأنهُ: ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) سورة النساء: الآية 82.

١٣٦

معرفةُ المَعاد

1. الإنسانُ روح وجسم.

2. مبحثٌ في حقيقة الروح من منظارٍ آخر.

3. الموتُ من وجهة نظر الإسلام.

4. عالَم البرزخ.

5. يومُ القيامة، المَعاد.

6. بيانٌ آخر.

7. استمرارُ وتعاقب الخِلقة.

1. الإنسانُ روح وجسم

إنّ كلمة الروح والجسم والنفس قد كثُرَ استعمالها في القرآن والسُنّة، عِلماً بأنّ تصوّر الجسم والبدن الذي يتمّ عن طريق الحسّ قد يكون أمراً بسيطاً، إلاّ أنّ تصوّر الروح والنفس لا يخلو من إبهامٍ وغموض.

إنّ الباحثين والمتكلّمين والفلاسفة سواء من الشيعة أو السُنّة، لهم نظريّات متفاوتة في حقيقة الروح، ولكنّ الروح والبدن من وجهة نظر الإسلام هما واقعيّتان متضادّتان،

١٣٧

فالبَدَن يفقد خواصّه الحياتيّة بالموت، ويضمحل بصورة تدريجيّة، ولكنّ الروح ليست هكذا، فإنّ الحياة أصالة للروح، وما دامت الروح في الجسم، فإنّ الجسم يستمدّ حياته منها، وعندما تُفارق الروح البدن، وتقطع علاقتها به، لا يقوى البدن من القيام بأيّ عملٍ، إلاّ أنّ الروح تستمرّ في حياتها.

وممّا يُستنبط من تدبّر الآيات القرآنيّة، وكلام أهل بيت العصمة (عليهم السلام): أنّ الروح الإنسانيّة غير ماديّة، ولكنّها تُنشئ نوعاً من العلاقة والوحدة مع الجسم، إذ يقول الله تعالى في كتابه المبين:

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ) (1) .

ويتّضح من سياق الآيات: أنّ أوائلها تصف الخلقة الماديّة بشكلها التدريجي، وأواخرها عندما تشير إلى خلقة الروح أو الشعور والإرادة؛ فإنّها تصفها بخلقة أخرى، تختلف عن خِلقتها الأولى.

وفي آيةٍ أخرى، في الردّ على مَن يستبعد (المعاد) أو ينكرهُ يقول: إنّ الإنسان بعد موته وتفتّت أجزائه، وتمازجها مع أجزاء التربة، كيف تُستعاد خلقته، ويصبح كما كان إنساناً كاملاً، يقول الله سبحانه: ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) (2) ، أي أنّ الأرواح تُقبض على يد مَلَك الموت من أبدانكم، وتُحفظ عندنا.

وفضلاً عن هذا، فإنّ القرآن الكريم، يُعرِّف الروح بصورتها المطلقة غير الماديّة بقوله تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) (3) .

____________________

(1) سورة المؤمنون: الآية 12 - 14.

(2) سورة السجدة: الآية 11.

(3) سورة الإسراء: الآية 85.

١٣٨

وفي آيةٍ أخرى من الذِكر الحكيم يتطرّق إلى موضوع الأمر بقوله: ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (1) . وبمقتضى هذه الآيات: أنّ أمْر الله تعالى في خِلقته للأشياء لم يكن تدريجيّاً، ولم يكن محدّداً بزمانٍ أو مكان، ولمّا كانت الروح أمراً من الله، إذاً فهي ليست بمادّة، ولم يكن في كُنهها خاصّة المادّة التي تتّصف بالتدرّج والزمان والمكان.

2. مبحثٌ في حقيقة الروح من منظارٍ آخر

إنّ التتبّعات العقليّة تؤيِّد القرآن الكريم أيضاً في موضوع الروح، كلُّ مِنّا يُدرك حقيقة من وجوده، والتي نُعبّر عنها بالـ(أنا)، وهذا الإدراك موجود في الإنسان بصورة مستمرّة، وأحياناً ينسى بعض أعضاء جسمه من رأسٍ، أو يد، أو سائر الأعضاء، وحتّى جسمه كلّياً، ولكن يدرك الـ(أنا) عندما يكون هو موجوداً، وهذا (المشهود) كما هو مشهود، غير قابل للانقسام والتجزئة، ومع أنّ جسم الإنسان في تغيير وتحوّل دائم، ويتّخذ أمكنة مختلفة له، وتمرّ عليه أزمنة مختلفة إلاّ أنّ الحقيقة المذكورة وهي الـ(أنا)، ثابتة في واقعيّتها لا تقبل التغيير أو التبديل، وواضح إذا كانت مادّة، كانت تتقبّل خواص المادّة، بما فيها الانقسام وتغيّر الزمان والمكان.

نعم، إنّ الجسم يتقبّل كلّ هذه الخواص، وبما أنّ هذه الخواص لها ارتباط روحي، فتُنسب إلى الروح، ولكن مع تأمّل وتدبّر يتجلّى للإنسان، أنّ هذا المكان وذلك المكان، وكذا هذا الشكل وذلك الشكل، وهذه الناحية وتلك،

____________________

(1) سورة يس: الآية 82.

١٣٩

كلّها من خواصّ البدن، والروح منزّه منها، وكلّ من هذه الصفات تنتقل إليها عن طريق البدن.

يسري هذا البيان في خاصيّة الإدراك والشعور على (العلم)، والذي هو من مميّزات الروح، وبديهي أنّ العلم إذا كان يتّصف بما تتّصف به المادّة، لكن تباعاً يتقبّل الانقسام والتجزئة والزمان والمكان.

إنّ هذا البحث العقلي واسع مطوّل، تتبعهُ أسئلة وأجوبة، ولا يسعهُ كتابنا هذا، وهذا المقدار من البحث إنّما أُدرِج هنا على سبيل الإشارة، ولغرض استقصائه واستقرائه يستلزم الرجوع إلى الكتب الفلسفيّة الإسلاميّة.

3. الموتُ من وجهة نظر الإسلام

إنّ النظرة العابرة تفترض أنّ موت الإنسان فناؤه وعدمه، وحُدِّد حياة الإنسان بالأيّام التي يعيشها فيما بين ولادته ووفاته، في حين نرى أنّ الإسلام يَعتبر الموت انتقالاً من مرحلة حياتيّة إلى مرحلة حياتيّة أخرى، وللإنسان حياة أبديّة لا نهاية لها، وما الموتُ الذي يَفصل بين الروح والجسم إلاّ ليوردهُ المرحلة الأخرى من حياته، وإنّ السعادة والشقاء فيها يعتمدان على الأعمال الحسنة أو السيّئة في مرحلة قَبل الموت، وممّا يُروى عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما مضمونه، تظنّون أنّكم تَفنونَ بالموت، ولكنّكم تنتقلون من بيتٍ لآخر (1) .

____________________

(1) بحار الأنوار ج3: 161 الاعتقادات للصدوق.

١٤٠