الوهابيون والبيوت المرفوعة

الوهابيون والبيوت المرفوعة0%

الوهابيون والبيوت المرفوعة مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 111

الوهابيون والبيوت المرفوعة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد علي بن حسن الهمداني السنقري الكردستاني
تصنيف: الصفحات: 111
المشاهدات: 41749
تحميل: 3672

توضيحات:

الوهابيون والبيوت المرفوعة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 111 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 41749 / تحميل: 3672
الحجم الحجم الحجم
الوهابيون والبيوت المرفوعة

الوهابيون والبيوت المرفوعة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

القيامة، فيشفعون لهم عند الله، فيُشفَّعون فيهم.

وإذا كانت المسألة والتوسّل موجوداً في النشأتين، والمناط قائم في المقامين.

فمن أين جاءت هذه الخصوصية؟!

على أنّه يلزم منه أن يكون الباطل بما هو باطل ينقلب في الاخرة حقّاً، والحقّ بما هو حقّ يكون في الدنيا باطلاً وشركاً.

وهذا هو التناقض البيّن وصريح الانقلاب المحال.

[المزورون أحياء في قبورهم]

وإن كان المانع منهما هو الموت فقد أثبت محكم القرآن حياتهم المستقرّة حياةً مخصوصة بهم، فيسمعون ويعقلون ويعرفون من يخاطبهم.

ولا غرو في الحياة بعد الموت مع الاقرار بعموم قدرته تعالى، فجاعل الروح في النطفة يضعها في التراب وحيث يشاء.

فلو كان خطاب الموتى ممّا يوجب عند الجاهل عبثاً، فلا يوجب كفراً وشركاً.

وبالجملة: فإطلاق الموت وخصوصيّة كيفيّة عود الاجسام المختصّة بالقيامة، ممّا لا ينافي شىء منها لحياتهم المستقرّة الثابتة لهم بعد الموت.

وعليه اعتقاد أعاظم المحققين من علماء السُّنّة والجماعة.

ويعاضده الاحاديث المعتبرة كما لا يخفى.

وكما في تفسير قوله تعالى:( واسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا ) .

وكان الاُستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي شيخ الشافعي يقول: إنّ الانبياء لا تبلى أجسادهم، ولا تأكل الارض منهم شيئاً، ولقد التقى نبيّنا مع

٤١

إبراهيم وموسى بن عمران.

وقال الرازي في قوله تعالى:( بَلْ أَحْيَاءٌ ) :

«إنّهم في الوقت أحياء كان الله أحياهم لايصال الثواب إليهم، وهذا قول أكثر المفسّرين».

ثمّ أخذ يستدلّ على حياتهم المستقرّة بوجوه، سادسها: زيارة قبور الشهداء وتعظيمها انتهى.

على أنّهم يسمعون السلام، ويفهمون الكلام.

وأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يبلغه صلوات المصلّين عليه، ويسمعهم، وهو يعلم بهم وبمقامهم، كما ورد في الصحاح:

منها: ما عن سنن أبي داود، رواه عن أبي هريرة قال: قال(صلى الله عليه وآله وسلم): (ما من أحد يسلّم عليّ إلاّ ردّ الله عليّ روحي حتّى أردّ السلام)(١) .

وعن صحيح النسائي عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إنّ لله ملائكة في الارض يبلّغوني من أُمّتي السلام)(٢) .

وفي مرفوعة ابن عبّاس عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ... - إلى قوله -: فإنّ الله حرّم على الارض لحوم الانبياء)(٣) .

____________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي ٥/٢٤٥ باب زيارة قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومجمع الزوائد للهيثمي ١٠/١٦٢ عن الطبراني في الاوسط، وكنز العمال ١/٤٩١ عن أبي داود.

(٢) سنن النسائي ٣/٤٣ في نوع آخر من التشهّد.

(٣) سنن النسائي ٣/٩١، وسنن الدارمي ١/٣٦٩، وسنن ابن ماجة ١/٣٤٥ و ٥٢٤، ومستدرك الحاكم ١/٢٧٨ و ٤/٥٦٠، والسنن الكبرى للبيهقي ٣/٢٤٩، وكنز العمال ١/٤٩٩ و ٧/٧٠٨.

٤٢

وفي حديث آخر صحّ عنه قال: (علمي بعد مماتي كعلمي في حياتي)(١) .

وفي آخر قال: (إنّ الله وكّل ملَكاً يُسمعني أقوال الخلائق، يقوم على قبري، فلا يصلّي عليّ أحد إلاّ قال: يا محمّد إنّ فلان بن فلان يصلّي عليك، صلّوا عليّ حيثما كنتم، فإنّ صلاتكم تبلغني)(٢) .

كما في المرويّ عن الدار قطني في السنن عنه(صلى الله عليه وآله وسلم)أنّه قال: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)(٣) .

وعن ابن عمر - مرفوعاً عنه - أنّه قال: (من جاءني زائراً ليس له حاجة إلاّ زيارتي، كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة)(٤) .

وفي آخر: (من زارني كنت له شهيداً أو شفيعاً).

ثمّ إنّ هؤلاء المزورين من الاولياء والصالحين، إن هم إلاّ عباد الله الذين تشرّفوا بطاعتهم وعبادتهم وتوحيدهم له جلّ شأنه، ولهم التقدّم بسابقتهم في

____________________

(١) لم أجده، لكن في مجمع الزوائد ٤/٢: من حجّ، فزار قبري في مماتي كان كمن زارني في حياتي، رواه الطبراني في الكبير والاوسط.

(٢) مجمع الزوائد ١٠/١٦٢ عن الطبراني في الكبير والاوسط، وكنز العمال ١/٤٩٤ عن الفردوس.

(٣) مجمع الزوائد ٤/٢ عن البزار.

(٤) مجمع الزوائد ٤/٢ عن الطبراني في الكبير والاوسط.

٤٣

الاسلام، واجتهادهم في الدين.

وقد ورد في الشريعة المطهّرة والسُّنّة النبويّة من الرجحان في زيارة سائر المؤمنين من أهل القبور والتسليم عليهم، فكيف بهؤلاء؟!

وهل يكون التسليم على مثل هؤلاء الصالحين شِركاً وقد سلّم الله - عزّوجلّ - في كتابه على آحاد من الانبياء والمرسلين، فقال:( سَلاَمٌ عَلَى نُوح فِي الْعَالَمِينَ سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَ هَرُونَ ) .

وقد سلّم على يحيى وإلْياسين، وصلّى على الصابرين من المؤمنين، وأمر رسوله بالسلام عليهم.

وأوجب على المسلمين كافّة أن يُخاطبوا نبيّهم في كلّ يوم خمس مرّات إلى يوم القيامة بالصلوات عليه فيقولوا: (السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته).

وفرض السلام على عباد الله الصالحين من جميع المؤمنين السالفين منهم واللاحقين.

وأن لا يتمّ لاحد صلاته إلاّ بالصلوات على نبيّه محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)الطاهرين. ولَنِعْم ما قال الشافعي، كما روى عنه ابن حجر في «الصواعق»:

يا آل بيتِ رسول الله حبُّكُمُ فرضٌ من الله في القرآنِ أنزلَهُ

كفاكُمُ من عظيم الفخرِ أنّكُمُ من لا يصلّي عليكم لا صلاةَ لَهُ

[دفاع الالوسي]

وأمّا ما ذكره ابن الالوسي البغدادي فيما رّوج به أمر الوهابيين من «تاريخ نجد» - في صفحة ٤٨ - قال:

والذي اعتقدوه في النبيّ أنّ رتبته أعلى مراتب المخلوقين على الاطلاق،

٤٤

وأنّه حيّ مرزوق في قبره حياة مستقرّة أبلغ من ]حياة [الشهداء المنصوص عليها في التنزيل ; إذ هو أفضل منهم، وأنّه يسمع سلام من يسلّم عليه، وأنّه تسنّ زيارته غير أنّه لا تُشدّ إليه الرحال.

ففيه أوّلاً: أنّ صراحة الايات الُمحكمة في التنزيل، كما تراها ممّا تعمّ النبيّ وغيره من الشهداء والاولياء ممّن قُتل في سبيل الله، فلا اختصاص لها بالنبيّ، وإلاّ لافرده الله بالذكر دونهم.

وإذا كان كذلك فيتبعها لا محالة آثارها ولوازمها، من السلام والدعاء والتوسّل، كما في حياتهم.

وثانياً: أنّ المراد من الحياة الثابتة لهم بقوله تعالى:( بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) إنّما هو الاكمل والابلغ من الحياة البرزخيّة الثابتة لعموم الموتى، وذلك لوجهين:

الاوّل: تخصيص الشهداء بالذكر هنا دونهم.

والثاني: إفراد سائر الموتى بالذكر في آية أُخرى، لقوله تعالى فيهم:( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ) .

وقال في حياة الكفّار منهم:( أَلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ) ; وذلك لانّ حياة القيامة ليس فيها بُكرة ولا عشيّ. هذا مع رعاية الافضليّة.

وفي المعتبرة أنّه لما سُئل النبيّ عن تكلّم الموتى، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) (نعم إنّهم يتزاورون).

وشواهد المقام لا تُحصى.

فقد ظهر فساد قوله في رسالته: ونحن أنكرنا الاستغاثة التي يفعلونها عند قبور الاولياء، التي لا يقدر عليها إلاّ الله.

٤٥

فإنّك بعدما عرفت النصوص الصريحة من القرآن، مع تصريح هؤلاء الوهّابيين واعترافهم للاولياء والصالحين بحياتهم المستقرّة، وأنّهم فيها مرزوقون منعّمون، فرحون مستبشرون، متزاورون، ولمن حيّاهم بتحيّة، أو سألهم مسألة سامعون، وبهم عارفون، وإلى الله متضرّعون سائلون، فقد اعترفوا بالمقدور.

وأمّا رفع الحاجة والسؤال في كلّ حال من الاحوال إلى الله القادر على كلّ شىء فممّا ليس فيه إشكال.

[السنة والسيرة في زيارة القبور]

وأما شدّة إنكارهم لزيارة القبور والوقوف عليها والدعاء لديها.

فالجواب عنه فضلاً عمّا عرفت: هو البيان بدليل القرآن وجميع المأثور في زيارة القبور وما ورد في فضلها، وأنها من السُّنّة، وما ورد من الاعمال والادعية هناك.

فضلاً عن سيرة رسول الله في زيارته شهداء أُحد، وحضوره لزيارة مقابر البقيع، ووقوفه عليها في الترحيم والتسليم، وأمره وحثّه وترغيبه وتقريره عليها.

كما ورد قوله: (كنتُ قد نهيتُكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، فإنّها تذكّركم الاخرة)(١) .

____________________

(١) سنن النسائي ٤/٩٠ و ٧/٢٣٥، وفي مسلم ٣/٦٥ وفيه: تذكّر الموت، وكذا ابن ماجة ١/٥٠١، ومستدرك الحاكم ١/٣٧٥، والسنن الكبرى للبيهقي ٤/٧٦، وعقد البيهقي باباً لخصوص زيارة القبور في البقيع فلاحظ ٥/٢٤٩، ولاحظ مجمع الزوائد ٣/٥٨ و ٤/٢٦، وكنز العمال ٥/١٠٨ و ٣٧٧ و ٨٥٩، وانظر ١٥/٦٤٦ وما بعدها.

٤٦

وفي المروي عن الحاكم عن أبي ذر قوله: (زر القبور تذكر بها الاخرة)، ومثله المرويّ عن أبي هريرة فيما سيأتي بيانه.

وقد روى حجّة الاسلام الغزالي في الاحياء عن ابن أبي مليكة، قال: «أقبلت عائشة يوماً من المقابر، فقلت: يا أُمّ المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبدالرحمن. فقلت: أليس كان رسول الله نهى عنها؟ قالت: نعم، ثمّ أمر بها».

والسرّ في النهي الاوّل: أنه كان ذلك بدوَ الاسلام، وفي زيارة القبور وتذكار الموتى كان باعثاً على الجبن عن الجهاد، حتّى إذا قوي الاسلام أمرهم بها.

ومثله غير عزيز.

وقد سُئل عليّ(عليه السلام) في الخضاب عن قول النبيّ (غيّروا الشيب، ولا تشبّهوا باليهود) فقال: (إنّما قال(صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك والدين قلّ، فأما الان وقد اتّسع نطاقه، وضرب بجرانه، فامرؤ وما اختار).

وفي الاحياء عن ابن أبي مليكة قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) (زوروا موتاكم، وسلّموا عليهم، فإن لكم فيهم عبرة).

وفيه عن نافع، عن ابن عمر: أنّه كان لا يمرّ بقبر أحد إلاّ وقف عليه، وسلّم عليه.

وكانت فاطمة بنت النبيّ تزور قبر عمّها حمزة في الايّام، فتصلّي وتبكي عنده.

وفيه: قال قال النبيّ: (من زار قبر أبويه أو أحدهما في كلّ جمعة غُفر له وكُتب بَرّاً).

٤٧

وقال: قال رسول الله: (ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلاّ استأنس به وردّ عليه روحه حتى يقوم).

وقال: قال سليمان بن سحيم: «رأيت رسول الله في النوم قلنا: يا رسول الله هؤلاء الذين يأتونك يُسلّمون عليك أتفقه سلامهم؟ قال: نعم وأردّ عليهم».

وقد تواترت الاحاديث الصحيحة الواردة عن آل محمد وحثّهم على زيارة الحسين بن عليّ بن أبي طالب(عليهم السلام).

[ابن تيمية يعترف بمشروعية الزيارة]

وقال أحمد بن تيميّة في رسالته التي عملها في «مناسك الحج»(١) : «فالزيارة الشرعية المقصود بها السلام على الميّت والدعاء له، كما يقصد بالصلاة على جنازته، فزيارته بعد موته من جنس الصلاة عليه، فالسنّة أن يسلّم على الميّت، ويدعو له ; سواء كان نبيّاً أو غير نبيّ، وكما كان النبيّ يأمر أصحابه إذا زار القبور أن يقول أحدهم: السلام عليكم أهل الديار... إلى آخر الزيارة.

قال: وهكذا يقول إذا زار أهل البقيع ومن به من الصحابة.

وفي المنقول عن كتاب له في فتاواه (مسألة ٢٢)(٢) قال: «لو سافر إلى المسجد النبوي، ثم ذهب معه إلى قبا، فهذا يستحبّ، كما يستحبّ زيارة أهل البقيع

____________________

(١) صفحة ٣٩٢.

(٢) ص١٨٦.

٤٨

وشهداء أُحد» انتهى كلامه.

وأما الدعاء عندها فلقو له تعالى:( وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ) .

حيث ذكر المفسّرون - كأبي السعود والامام الرازي وغيرهم من أعاظم المفسّرين -: أنّ النبيّ كان من عادته إذا دُفن الميّت، وقف على قبره ساعة، ودعا له.

ففي الاية دلالة على أنّ القيام على القبور للدعاء عبادة مشروعة، ولولا ذلك لم يخصّ بالنهي عن الكافر.

[إسلام السلفية والوهابية]

وبها استدلّ أيضاً شيخ الوهّابية ومؤسّس ديانتهم أحمد بن تيمية فيما نقل عنه من كتاب له في فتاواه (في جواب مسألة ٥١٨)(١) قال:

«فأمّا الزيارة الشرعية فهي من جنس الصلاة على الميّت ; يقصد بها الدعاء للميّت، كما يقصد بالصلاة عليه، كما قال الله في حقّ المنافقين( وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ) فلمّا نهى عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم، دلّ ذلك بطريق مفهوم الخطاب وعلّة الحكم على أنّ ذلك مشروع في حقّ المؤمنين.

والقيام على قبره بعد الدفن هو من جنس الصلاة عليه قبل الدفن ; يُراد به الدعاء له.

وهذا هو الذي نطقت به السُّنّة، واستحبّه السلف عند زيارة قبور الانبياء

____________________

(١) مجلد ٤ ص٣٠٦.

٤٩

والصالحين».

انتهى كلامه على غلوّهم فيه وغلوّه في تحريم إتيان القبور والوقوف عليها والدعاء لديها وقراءة القرآن عندها.

وقد أورد الغزالي أيضا في «الاحياء» عن محمد بن أحمد المروزي، قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا دخلتم المقابر فاقرؤوا بفاتحة الكتاب والمعوذتين وقل هو الله أحد، واجعلوا ثواب ذلك لاهل المقابر، فإنه يصل إليهم...

إلى غير ذلك.

وبالجملة: فإذا كان الامر كذلك.

فما معنى تخصيص جواز زيارة القبور بالنبيّ خاصّة دون غيره.

وما خصوصية الحاضر دون السفر إليه وشدّ الرحل نحوه؟!

أليس هذا هو التقوّل بالغيب والفتوى في دين الله بالريب؟!

هذا، وأصالة الجواز فيما لم يرد فيه النهي كما تراها في الكّل محكّمة، وليست بمخصّصة، وعلى مدّعيه الاثبات، ودونه خرط القتاد.

أوليس قد صحّ ما ورد عن الغزالي عن النبي أنه قال: (من وجد سعة ولم يغدُ إليّ فقد جفاني).

فإنّ وجدان السعة إنما هو يصح للمسافر الذي يشدّ الرحل إليه.

[حديث لا تشدّ الرحال...]

ومن العجب تمسّكهم في ذلك بحديث: (لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد) المروي عن أبي هريرة.

مع أنّ ذكر المساجد في المستثنى بعد تسليم الحديث وصحّته، دليل على أنّ المستثنى منه هو خصوص المساجد، لا مطلق السفر ; أي لا تُشدّ الرحال إلى

٥٠

مسجد من المساجد، فيكون الحديث ناظراً إلى الامر بشدّ الرحال إلى المساجد المعظّمة لادراك جمعتها وجماعتها، وليس المراد النهي عن مطلق شدّ الرحل، وإلاّ لزم تخصيص الاكثر إذ لو أُخذ بعمومه لانتقض بمطلق الاسفار المباحة والمندوبة والواجبة، مع وجوب شدّ الرحل إليها، فليكن منها شدّ الرحال إلى المشاهد المشرّفة والبيوت التي أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسم الله، ولتعظيم شعائر الله.

فإن قالوا هناك بالتخصيص قلنا فيها أيضاً، وإن قالوا بالتخصّص فكذلك قلنا فيها.

[المؤلّفات في جواز الزيارات]

هذا مع ما روى بعض أجلّة الاعلام بما شاهد ممّا أُلّف وصُنِّف في هذا المقام.

فمنها: كتاب «شفاء السقام في زيارة خير الانام»، «شنّ الغارة على من أنكر فضل الزيارة) تأليف قاضي قضاة المسلمين في القرن الثامن، الشيخ الحافظ تقي الدين أبي الحسن السبكي، المطبوع بمصر - القاهرة، المرتّب على أبواب في إثبات حياة الانبياء والشفاعة وفضل الزيارة والسفر إليها ومسنونيتها، وأنها من القربة، وأبواب في الاستغاثات والتوسّلات.

ومنها: «الجوهر المنظّم في زيارة قبر النبي المكرّم» تأليف أحمد بن حجر الشافعي كذلك...

إلى غير ذلك من المؤلفات.

[تناقض التصرّفات]

وأما قوله فيما اعترف به من حياة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّه يسمع سلام من يسلّم

٥١

عليه»، فهذا كلام من ينقض فعلُهُ قولَهُ، ولا يعتقد بشيء مما يتفوّه به.

وإلاّ، فلِمَ لم يُراعوا بالامس حرمته في حرمه وضريحه، وقاتلوا وقتلوا من المسلمين حول حرمه وحماه ; ممّن يستغيث برسول الله ; وذلك بمراءىً منه ومسمع فيسمعه إغاثته بقوله: وا محمّداه!(١)

والناس إلى اليوم يُضربون على قول: «يا رسول الله»!؟

[لا فرق بين حياة الرسول وموته في تعظيمه]

وأيضاً ما يرون هؤلاء في قول الله( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ) ، وكذا قوله تعالى:( لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) الاية.

هل هي من الاحكام الباقية إلى القيامة أم لا؟

فإن قالوا: لا، فقد كذبوا وخالفوا كتاب الله والسيرة المستمّرة وإجماع الاُمّة.

وإلاّ فليخبرونا ما الوجه في ذلك؟

ولْيذعنوا أنها ليس إلاّ لحياته ولمعاملة الاُمّة معه معاملة الاحياء.

والعجب ممّن يظهر التحاشي، وينكر إنكار السلف على من قصد دعاء الله عند القبر، وقد شاع ما ورد في الكتب المعتبرة من فعل أعاظم الصحابة، من الشيخين وغيرهما إلى زمان التابعين والخلفاء.

ولم يزالوا خلفاً عن سلف يتشرّفون بزيارة قبر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويتبرّكون بحرمه وتقبيل قبره ومنبره من خارج الحرم، بعدما كانوايدخلون عليه في بُرهة من

____________________

(١) لقد انتشر نبأ قتل الوهابية للمسلمين اللاجئين بحرم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع كتب التاريخ، فراجع.

٥٢

الزمان، وفي الحجرة عائشة ليس بينها وبين القبر إلاّ حائل من ستر أو بناء من جدار.

ثمّ بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حول القبر، وبقي كذلك إلى أن بنوا جدارين من ركني القبر الشماليّين، وحرّفوهما حتّى التقيا ; لئلاّ يتمكّن أحد من استقبال القبر.

هذا ولم تزل الحجرة مزاراً للمؤمنين معاذاً للاّئذين.

ومن أحاط خبراً بتاريخ السلف وترجمة أحوال مهاجري الصحابة علم أنّهم كانوا كثيراً ما يقصدون المدينة لادراك زيارة الحجرة المنوّرة.

ولولا خوف الاطالة لاتيتُ على ذكرهم ولملاتُ هذا الكرّاس من تراجمهم.

هذا، ولم ينكر عليهم لا الشيخان ولا كبار الصحابة بشيء.

وهذا أمير المؤمنين علي(عليه السلام) أتى بعد موت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ووقف على قبره الشريف، وخاطبه بقوله: (طبت حيّاً، وطبت ميّتاً... إلى قوله: بأبي أنت وأُمّي اذكرنا عند ربك، واجعلنا من بالك وهمّك...) إلى آخر كلماته.

ووقف أيضاً يوم دفنه فاطمةَ (عليها السلام) على قبره، وخاطبه بقوله: (السلام عليك يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النازلة بفنائك، البائتة في الثرى ببقعتك. قلّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري، وعفا عن سيّدة نساء العالمين تجلّدي...) إلى آخر كلماته.

وهذا الحسين بن علي(عليهما السلام) سبطه وفرخه ; لما أراد المسير إلى العراق، أتى قبر جدّه وضريحه ثلاثة أيّام، زائراً مودّعاً داعياً مصلّياً، سائلاً منه التكليف لامره وحرمه وصحبه ; مخاطباً إيّاه بقوله: (يا جدّاه أنا الحسين بن فاطمة، فرخك وابن فرختك، وسبطك الذي خلّفته في أُمّتك).

٥٣

هل ترون أنّه كان بذلك مخاطباً للاموات؟

أم كان يسأله من أمره وتكليفه؟

ولم يزل حتّى أجابه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: (اُخرج إلى العراق، فإنّ الله شاء أن يراك قتيلاً...) إلى آخر ما أجابه من أمر حرمه وعيالاته.

وبالجملة: فإن كان المراد من النكير مجرّد الزيارة للقبور والتبرّك بها والصلوات والدعاء عندها، فقد عرفت أنه أمر راجح مسنون، وستعرف الامر بها في العمومات من الايات والقرآن العظيم، فانتظر المقام الثالث.

وإن أراد من ذلك عبادتها واتّخاذها - معاذ الله - آلهة تُعبد من دون الله، فحاشا، ثمّ حاشا من ذلك.

حيث لم نَرَ ولم نشهد ولم نسمع أنّ أحداً من المسلمين اعتقد بشيء من ذلك، أو خطر بباله، فكيف بالشيعة الاماميّة، وهم أوّل الموحّدين، وأحوطهم في تقديس الله ربّ العالمين، وأدقّهم في تقديسه ومعرفته(صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ ورثوا وأخذوا علومهم ومعارفهم عن مهابط الوحي والتنزيل؟!

فما معنى إنكار التبرّك بالقبور وزيارتها وتعاهدها، وبناء القِباب عليها والوقوف عندها؟!

وأيّ وجه للرمي بأنّها وسيلة للشرك؟!

وقد علمت أنّه ليس ذلك إلاّ للغايات الدينية، حفظاً لاثارهم وقبورهم الكريمة، وصيانة عن الاندراس والانطماس وفوات انتفاع المؤمنين بزيارتهم، والاسراج بها لتلاوة القرآن وذكر الله عندها.

أو ما تقدّم أنّ العبادة ليست مطلق الخضوع، وإلاّ لكان الوهّابيّون الخاضعون لشهواتهم العابدون لاهوائهم في معاصيهم كفّاراً.

وإنّما العبادة هي الخضوع الخاصّ المقرون بالاخلاص عند أمر الله الواجب العظيم لذاته.

٥٤

[تعظيم ما أمر الله، هو من عبادة الله وطاعته]

على أنّ تعظيم المأمور به لتعظيم أمر الله - عزّ وجلّ - إنّما هو في الحقيقة عبادة الله وتعظيمه تعالى ; من غير فرق بين أن يكون ذلك المأمور به إنساناً أو حجراً أو مدراً أو غيرها، كالامر بالسجود لادم فإنّه كان تعظيماً لامر الله تعالى وعبادة له، كما أنّه كان للملائكة امتحاناً، ولادم تشريفاً، فإنّ الغايات تتعدّد بالاعتبارات.

وكذلك أمر الشارع بفرض الطواف على أحجار البيت، وتقبيل الحجر الاسود واستلام الاركان والتزام المستجار.

وإلاّ لكان الامر بجميع ذلك أمراً بالشرك.

فمن تبّرك بشيء لامر الله، كان في الحقيقة عبادة الامر به.

وهذا عبدالله بن أحمد بن حنبل - كما هو المروي عن كتاب «العلل والسؤالات» - قال: سألتُ أبي عن الرجل يمسّ منبر رسول الله، ويتبّرك بمسّه وتقبيله، ويفعل بالقبر ذلك رجاء ثواب الله.

فقال: لا بأس به.

فالتواضع والتبرّك والاكرام والاحترام لما هو معظَّم عند الله، إنّما هو من تعظيم الله.

كما أنّ تعظيم بيوته ومساجده وقرآنه، بل والجلد والغلاف منه، إنّما هو لانتسابها إلى الله.

فمن قبّل الحجر الاسود أو عظّم البيت أو استلم الاركان أو وجد شيئاً من آيات القرآن وكلماته ملقىً مهاناً، فبادر إليها برفعها وتعظيمها وتقبيلها، فإنّما قبّل

٥٥

آيات الله وعظّم شعائر الله وتبّرك بآثار ربّه أينما وجدها وحيثما رآها.

فلها منزل على كلّ أرض وعلى كلّ دِمْنةِ آثارُ

ونعم ما قال العامري:

أمرّ على الديارِ ديارِ ليلى أُقبِّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا

وما حبُّ الديارِ شَغفْنَ قلبي ولكنْ حبُّ مَنْ سَكَن الديارا

كلا، وليس استلام الحجر إلاّ لاستحضار ]معنى[ المبايعة لله على طاعته، والتصميم من المكلف لعزيمته على الوفاء ببيعته( وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) .

ولذلك قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (الحجر الاسود يمين الله في الارض ; يصافح بها خلقه، كما يصافح الرجل أخاه).

ولما قبّله عمر، قال: «لاعلم إنّك حجر ; لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أنّي رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقبّلك لما قبّلتك»(١) .

فقال عليّ: (يا عمرُ مَهْ بل يضرّ وينفع، فإنّ الله سبحانه أخذالميثاق على بني آدم حيث يقول:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) الاية، القمه هذا الحجر ليكون شاهداً عليهم بأداء أمانتهم، وذلك معنى قول الانسان عند استلامه: (أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته ;لتشهد لي عند ربّك بالموافاة)(٢)

____________________

(١) الحديث إلى هنا في صحيح البخاري ٢/١٦٠، ومسلم ٤/٦٦، سنن النسائي ٥/٢٢٧، ولاحظ التخريج التالي.

(٢) أورد جواب علي(عليه السلام) لعمر، الحاكم في المستدرك على الصحيحين ١/٤٥٨ وفي آخره:

فقال عمر: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لستَ فيهم، يا أبا حسن.وأورده في كنزالعمّال (٥/١٧٧) رقم ١٢٥٢١ عن ابن الجنديّ في فضائل مكة وأبي الحسن القطّان في الطوالات والمستدرك وعبد الرزّاق في الجامع.

أقول: ونقله الاميني فى الغدير (٦/١٠٣) وفى الطبعة الحديثة (٦/١٤٨-١٤٩) عن الجامع الكبير للسيوطي كما في ترتيبه (٣/٣٥) وأضاف: تاريخ عمر لابن الجوزي(١٠٦) وفي طبعة (١١٥) وإرشاد الساري للقسطلاني(٣/١٩٥) وفي طبعة (٤/١٣٥)ح ١٥٩٧ وعمدة القاري للعيني (٤/٦٠٦) وفي طبعة (٩/٢٤٠) والازرقي في أخبار مكّة (١/٣٢٣) والاحسان في تقريب صحيح ابن حبّان (٩/١٣٠) ح ٣٨٢١ و٣٨٢٢ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد(٣/١٢٢) وفي طبعة (١٢/١٠٠)الخطبة ٢٢٣ والفتوحات الاسلاميّة لاحمد زيني دحلان (٢/٤٨٦) وفي طبعة (٢/٣١٨).

٥٦

وكذلك التعلّق بأستار الكعبة والالتصاق بالملتزم، إنّما هو لاستحضار طلب القرب من الله حبّاً لله، وشوقاً إلى لقائه، وتبرّكاً بالمماسّة، والالحاح في طلب الرحمة.

وهكذا أسرار السعي والهرولة بين الصفا والمروة والوقوفين والرمي والهدي...

إلى غير ذلك من الاحكام الشرعية، فإنّ لكلٍّ منها أسراراً إلهيّة وحكماً ومصالح روحية، كما هي المروية عن أهل بيت العصمة.

والمسكين المحروم منها هو الجامد على الظواهر، القاصر عن إدراكها.

٥٧

[زيارة القبور سنّة نبويّة وغايتها]

وكما أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) المشرّع لزيارة قبور المؤمنين المُسِنّ لها ; بتعاهدها والوقوف لديها والدعاء عندها، فقد أشار إلى بعض غاياتها ومصالحها فيما تقدّم من الصحيح بقوله: (ألا فزوروها، فإنها تذكّركم الاخرة).

وفي حديث آخر المروي عن الحاكم عن أبي ذر: (زر القبور تذكر بها الاخرة).

وما رواه الغزالي عن ابن أبي مليكة قال: (زوروا موتاكم وسلّموا عليهم، فإنّ لكم فيهم عبرة).

إلى غير ذلك من الغايات.

وذلك لان الحضور عند المزور إنّما يمثّل للزائر شخصيات المزور بجوامع مآثره ومجامع صفاته وآثاره، ولا سيّما إذا كان المزور من أكابر الاولياء والشهداء ; ممّن له في الاسلام - لهمّته وسابقته وعلمه وزهده وفتاواه - مقامات تاريخية ومواقف كريمة ومزايا عظيمة.

فتُلقي الزيارة على الزائرين - حينئذ - أبحاثاً جليّة، علميّة مبدئيّة مَعاديّة أخلاقيّة اجتماعيّة، يعتبر بها حسبما يتجلّى له من الحكم والمصالح العائدة إلى النفس التي لا ينبغي تفويتها، ويجب على الشارع الرؤوف الرحيم الحريص على تربية الاُمّة التنبيه عليها.

فالظاهريّة بجمودهم غَلَوا وأفرطوا فقتلوا حقائق الديانة، كغُلُوّ الباطنية في تفريطهم واعتبارهم القشريّة لظواهر الكتاب والسُّنّة.

فكأنّ الفريقين تظاهرا على قتل الشريعة ظهراً وبطناً.

مع أنّ الاحرى لهم التحرّي إلى التوسّط والاعتدال، وسلوكهم في الدين مسلك النبيّ محمّد والال.

٥٨

[بناء المشاهد والمزارات عمل شرعيّ]

ثمّ بعدما عرفت الغايات الدينية لبناء القباب وزيارتها وتعاهدها، فلا يخفى عليك أنه ليس في بناء القباب وتعليتها تجديداً للقبر، وإنّما هو وضع علامة عليها بعيدة عنها ; لتكون كما عرفت دلالة وعَلَماً على المزور، وحفظاً لبقاء الاثار، وتوصّلاً لزيارة الاطهار، وإرغاماً لغير المسلمين من الكفّار، وتعظيماً لشعائر الله المندوب إليها بالرفع والتشييد، ومعاونة على البّر لزوّارهم، واستكثاراً لتلاوة القرآن وذكر الله لديهم، وإهداء ثوابها لهم وإليهم.

كلّ هذا تقرّباً بالمسنونات، وأداء لحقّ سابقتهم في الاسلام، ووقاية للزائرين من الحرّ والبرد.

أو ليسوا من كبار الصحابة والتابعين ودعائم الدين وأئمّة المسلمين؟؟

ومن الواضح غير الخفيّ أنّ التعظيم ليس لقبورهم بما هي حفرة وتراب، بل إنّما هو لذلك الشأن العظيم لهم في الاسلام.

أو ليس عمر أوّل من بنى قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)وسوّاه باللبن؟!

واقتدى به بعده الخلفاء خلفاً عن سلف من تسقيفه وعمارة ما حوله؟!

كما بنى عثمان المسجد بعد ذلك بالحجارة المنقوشة إلى أن بنوه بأحسن بناء.

أو ما كان قصد عمر والخلفاء من بعده هو التعظيم لشعائر الله.

أو هل قصد عمر بفعله هذا عبادة قبره(صلى الله عليه وآله وسلم) وجعله وسيلة للشرك بربّه، حاشاه؟!

هذا، ولم يكن وضع القباب على القبور حادثاً في هذه القرون، بل كان ثابتاً في القرون السالفة من قبل الهجرة إلى أعصار الصحابة والتابعين والخلفاء الراشدين.

كما يظهر من تراجم الماضين وأحوالهم في الكتب المعتبرة، وأنّ للمعتبر بها

٥٩

وبالاثار الباقية منها لعبرة.

فمنها قبر إبراهيم الخليل بفلسطين، وقبور سائر الانبياء السالفين ببيت المقدس.

وبمكّة في الحجر قبر إسماعيل وأُمّه هاجر، وفي تستر قبر دانيال... إلى غيرها من القبور وقبابها في أقطار العالم.

وكذلك تعلية القبور في الاسلام، فهذا «صحيح البخاري» فيما رواه عن خارجة بن زيد قال رأيتني ونحن شبّان في زمن عثمان، وإنّ أشدّنا وثبةً الذي يثب قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه.

وقال: قال عثمان بن حكيم: أخذ بيدي خارجة فأجلسني على قبر، وأخبرني عن عمّه يزيد بن ثابت قال: إنّما كره ذلك لمن أحدث عليه.

وقال نافع: كان ابن عمر يجلس على القبر. وفيه أيضاً بإسناده إلى أبي بكر بن عباس عن سفيان التمار: أنه حدّثه: أنه رأى قبر النبيّ مسنَّماً.

وهذا التاريخ يعلن بقبر العباس بن عبد المطلب عمّ النبيّ وبناء القبّة عليه، الباقية إلى أواخر القرن الاول، كما عن ابن خلّكان.

وقد كان ينبغي لهم الاُسوة بإمضاء الشيخين وبقيّة الخلفاء.

أو ليس إبقاء هذه الاثار في عصرهم - مع قدرتهم وسلطنتهم على تلك الاقطار والديار - إمضاءً منهم وتقريراً لهم، وهي السُّنّة الباقية منهم؟!

أو ليس النكير عليهم ومخالفتهم وترك سنّتهم بدعة وضلالة؟!

والحاصل: أنّ حرمة موتى المؤمنين وقبورهم مما ثبت شرعاً.

وقد صحّ عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (حرمة المؤمن ميّتاً كحرمته حيّاً).

وضرورة المسلمين بل الملّيّين، بل وجبلّة البشر على زيارة قبور موتاهم وتعاهدها.

٦٠