الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية0%

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 135

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 135
المشاهدات: 55283
تحميل: 5951

توضيحات:

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 135 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55283 / تحميل: 5951
الحجم الحجم الحجم
الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعيّة

السيد محمد باقر الصدر

١

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعيّة

* كلمة المؤلّف .

* الإنسان المعاصر وقدرته على حلّ المشكلة الاجتماعيّة .

* الديمقراطيّة الرأسماليّة

* الاشتراكيّة والشيوعيّة .

* الإسلام والمشكلة الاجتماعيّة .

* موقف الإسلام مِن الحرّية والضمان

٢

كلمة المؤلّف

بسم الله الرحمن الرحيم

قبل ثلاث سنوات قُمنا بمحاولة متواضعة : لدراسة أعمَق الأُسُس ، التي تقوم عليها الماركسية والإسلام ، وكان كتاب فلسفتنا تعبيراً عن هذه المحاولة ، ونقطة انطلاق لتفكيرٍ متسلسِل يحاول أنْ يدرس الإسلام مِن القاعدة إلى القِمّة.

وهكذا صدر ( فلسفتنا ) ، وتلاه بعد سنتين تقريباً ( اقتصادنا ) ، ولا يزال الشقيقان الفِكريّان بانتظار أشقّاء آخَرين ؛ لتكتمل المجموعة الفِكرية ، التي نأمل تقديمها إلى المسلمين.

وقد لاحظنا منذ البَدء - بالرغم مِن الإقبال المنقطِع النظير الذي قوبلَت به هذه المجموعة ، حتّى نفَدَ كتاب فلسفتنا خلال عِدّة أسابيع تقريباً - أقول لاحظنا مدى التفاوت بين الفِكر الإسلامي في مستواه العالي ، وواقِع الفِكر الذي نعيشه في بلادنا بوَجهٍ عامّ ، حتّى صَعُب على كثير مواكبة ذلك المستوى العالي ، إلاّ بشيءٍ كثير مِن الجُهد ، فكان لا بدّ مِن حلَقات متوسّطة يتدرّج خلالها القارئ إلى المستوى الأعلى ، ويستعين بها على تَفهّم ذلك المستوى .

وهنا نشأت فِكرة : ( المدرسة الإسلامية ) ، أي محاولة إعطاء الفِكر الإسلاميّ في مستوىً مدرسيّ ، ضمن حلَقات متسلْسِلة تسير في اتّجاهٍ موازي للسلسلة الرئيسية : ( فلسفتنا ، واقتصادنا ) ، وتشترك معها في حَمْل الرسالة الفِكرية للإسلام ، وتتّفق وإيّاها في الطريقة والأهداف الرئيسية ، وإنْ اختلفت في الدرجة والمستوى .

وحدّدنا خلال التفكير في إصدار (المدرسة الإسلامية )خصائص الفِكر المدرسيّ ، التي يتكوّن منها الطابع العامّ ، والمِزاج الفِكري للمدرسة الإسلامية ، التي نحاول إصدارها .

٣

وتتلخّص هذه الخصائص فيما يلي :

١ _ إنّ الغرَض المباشر مِن ( المدرسة الإسلامية ) : الإقناع أكثر مِن الإبداع ؛ ولهذا فهي قد تستمدّ موادّها الفِكرية مِن ( فلسفتنا ) و( اقتصادنا ) وأشقّائهما الفِكرِيَّين ، وتُعرِضُها في مستواها المدرسيّ الخاصّ ، ولا تلتزم في أفكارها أنْ تكون معروضة لأوّل مرّة .

٢ _ لا تتقيّد ( المدرسة الإسلامية ) بالصيغة البُرهانية للفِكرة دائماً ، فالطابع البرهانيّ فيها أقلّ بروزاً منه في أفكار ( فلسفتنا ) وأشقّائها ، وِفقاً لدرجة السهولة والتبسيط ، المتوَخّاة في الحلَقات المدرسية .

٣ _ تُعالج ( المدرسة الإسلامية ) نطاقاً فِكريّاً أوسع مِن المجال الفِكري ، الذي تباشره ( فلسفتنا ) وأشقاؤها ؛ لأنّها لا تقتصر على الجوانب الرئيسية في الهيكل الإسلامي العامّ ، وإنّما تتناول أيضاً النواحي الجانبية مِن التفكير الإسلامي .

وتُعالج شتّى الموضوعات الفلسفية أو الاجتماعية أو التاريخية أو القرآنية ، التي تؤثّر في تنمية الوَعي الإسلامي ، وبناء وتكميل الشخصية الإسلامية ، مِن الناحية الفِكرية والروحية .

وقد قدّر الله تعالى أنْ تلتقي فِكرة ( المدرسة الإسلامية ) بفِكرةٍ أخرى عن تمهيد فلسفتنا ، فتمتزج الفِكرتان ، وتخرجان إلى النور في هذا الكتاب .

وكانت الفِكرة الأخرى مِن وحي الإلحاح المتزايد ، مِن قُرّائنا الأعزّاء على إعادة طبْع كتاب فلسفتنا ، وكنت استميحهم فرصةً لإنجاز الحلَقة الثالثة : (اقتصادنا )، والقيام بمحاولة توسعة وتبسيط البحوث ، التي عالجناها في (فلسفتنا )قبل أنْ نستأنف طبْعَه للمرّة الثانية ، الأمر الذي يتطلّب فراغاً لا أمْلِكُه الآن .

٤

وعلى هذا الأساس أخذَتْ رغبة القُرّاء الأعزّاء تتّجه نحو تمهيد كتاب ( فلسفتنا ) بالذات ؛ لأنّ إعادة طَبعِه لا تكلّف الجُهد الذي يتطلّبه استئناف طَبْع الكتاب كلّه وكانت الطلَبات التي ترِد ، لا تدَع مجالاً للشكّ في ضرورة استجابة الطلَب .

وهنا التقَتْ الفِكرتان ، فلماذا لا يكون تمهيد كتاب فلسفتنا ، هو الحلَقة الأُولى مِن سِلسلة المدرسة الإسلامية ؟.

وهكذا كان .

ولكنّا لم نكتفِ بطبع التمهيد فحَسْب ، بل أدخلنا عليه بعض التعديلات الضرورية ، وأعطينا بعض مفاهيمه شرحاً أوسع ، كمفهومه عن غريزة حبّ الذات ، وأضَفنا إليه فَصْلَين مهمَّين :

أحدهما : ( الإنسان المعاصر ، وقُدرته على حلِّ المشكلة الاجتماعية ) ، وهو الفصل الأوّل في الكتاب ، يتناول مدى إمكانات الإنسانية لوَضع النظام الاجتماعي الكفيل بسعادتها وكمالها .

والآخر : مَوقف الإسلام مِن الحرّية والضمان ، وهو الفصل الأخير مِن الكتاب ، قُمنا فيه بدراسةٍ مقارنة لموقف الإسلام والرأسمالية مِن الحرّية ، ومَوقف الإسلام والماركسية مِن الضمان .

وبهذا تضاعف التمهيد ، واكتسب اسمه الجديد ، ( الإنسان المعاصر ، والمشكلة الاجتماعية ) ، بوَصفه ( الحلَقة الأُولى ) مِن ( المدرسة الإسلامية ) والله وليّ التوفيق.

محمّد باقر الصدر

٥

الإنسان المعاصِر وَقُدرته عَلى حَلّ المشكلة الاجتماعيّة

* مشكلة الإنسانيّة اليوم .

* الإنسانيّة ومعالجتها للمشكلة .

* أهمّ المذاهب الاجتماعيّة .

٦

بسِم اللهِ الرحمَن الرحّيم

مشكلة الإنسانيّة اليوم :

إنّ مشكلة العالَم التي تملأ فِكر الإنسانيّة اليوم ، وتمسّ واقعها بالصميم ، هي مشكلة النظام الاجتماعي ، التي تتلخّص في إعطاء أصدَق إجابة عن السؤال الآتي :

ما هو النظام الذي يصلح للإنسانية ، وتسعَد به في حياتها الاجتماعية ؟ .

ومِن الطبيعي أنْ تحتلّ هذه المشكلة مقامها الخطير ، وأنْ تكون في تعقيدها ، وتنوّع ألوان الاجتهاد في حلّها مصدراً للخطر على الإنسانية ذاتها ؛ لأنّ النظام داخل في حساب الحياة الإنسانية ، ومؤثّر في كيانها الاجتماعي بالصميم .

وهذه المشكلة عميقة الجذور في الأغوار البعيدة مِن تاريخ البشرية ، وقد واجهها الإنسان منذ نشأتْ في واقعة الحياة الاجتماعية ، وانبثقت الإنسانية الجماعية تتمثّل في عدّة أفراد تجمَعُهم علاقات وروابط مشتركة .

فانّ هذه العلاقات في حاجة - بطبيعة الحال - إلى توجيه وتنظيم شامل ، وعلى مدى انسجام هذا التنظيم مع الواقع الإنساني ومصالحه ، يتوقّف استقرار المجتمع وسعادته .

وقد دفعت هذه المشكلة بالإنسانية في ميادينها الفِكرية والسياسية.. إلى خوض جهادٍ طويل ، وكفاحٍ حافل بمختلف ألوان الصراع ، وبشتّى مذاهب العقل البشري ، التي ترمي إلى إقامة الصرح الاجتماعي وهندسته ، ورسم خُطَطه ووَضع ركائزه .

وكان جهاداً مرهقاً يضجّ بالمآسي والمظالم ، ويزخر بالضِحكات والدموع ، وتقترن فيه السعادة بالشقاء كلّ ذلك لِما كان يتمثّل في تلك الألوان الاجتماعية ، مِن مظاهر الشذوذ والانحراف عن الوضع الاجتماعي الصحيح ولولا ومضات شعَّت في لحظات مِن تاريخ هذا الكوكب ، لكان المجتمع الإنساني يعيش في مأساة مستمرّة ، وسَبْحٍ دائمٍ في الأمواج الزاخرة .

٧

ولا نريد أنْ نستعرض الآن أشواط الجهاد الإنساني في الميدان الاجتماعي ؛ لأنّنا لا نقصد بهذه الدراسة أنْ نؤرِّخ للإنسانية المعذّبة ، وأجوائها التي تقلَّبتْ فيها منذ الآماد البعيدة ، وإنّما نريد أنْ نواكِب الإنسانية في واقعها الحاضر ، وفي أشواطها التي انتهت إليها ، لنعرف الغاية التي يجب أنْ ينتهي إليها الشوط والساحل الطبيعي ، الذي لا بدّ للسفينة أنْ تشقّ طريقها إليه وتَرسو عنده ؛ لتصل إلى السلام والخير وتؤوب إلى حياة مستقرّة ، يعمرها العَدْل والسعادة.. بعد جُهدٍ وعناءٍ طويلَين ، وبعد تطوافٍ عريض في شتّى النواحي ، ومختلَف الاتّجاهات .

والواقع أنّ إحساس الإنسان المعاصر بالمشكلة الاجتماعية ، أشدّ مِن إحساسه بها في أيّ وقتٍ مضى ، مِن أدوار التاريخ القديم فهو الآن أكثر وعياً لِمَوقفه مِن المشكلة ، وأقوى تحسّساً بتعقيداتها ؛ لأنّ الإنسان الحديث أصبح يَعِي أنّ المشلكة مِن صُنعِه ، وأنّ النظام الاجتماعي لا يُفرَض عليه مِن أعلى ، بالشِكل الذي تُفرَض عليه القوانين الطبيعية ، التي تتحكّم في علاقات الإنسان بالطبيعة .

على العكس مِن الإنسان القديم ، الذي كان ينظر في كثير مِن الأحايين إلى النظام الاجتماعي وكأنّه قانون طبيعيّ ، لا يملك في مقابله اختياراً ولا قُدرة فكما لا يستطيع أنْ يُطوِّر مِن قانون جاذبيّة الأرض ، كذلك لا يستطيع أنْ يُغيِّر العلاقات الاجتماعية القائمة .

ومِن الطبيعي أنّ الإنسان حين بدأ يؤمِن بأنّ هذه العلاقات مظهَر مِن مظاهر السلوك ، التي يختارها الإنسان نفْسه، ولا يفْقِد إرادته في مجالها.. أصبحتْ المشكلة الاجتماعية ، تعكس فيه - في الإنسان الذي يعيشها فِكرياً - مرارةً ثوريّةً ، بدَلاً مِن مرارة الاستسلام .

٨

والإنسان الحديث مِن ناحيةٍ أخرى أخَذ يعاصر تطوّراً هائلاً ، في سيطرة الإنسانية على الطبيعة لمْ يسبِقْ له نظير وهذه السيطرة المُتنامية بشكلٍ مرعِب وبقفزات العمالقة ، تُزيد في المشكلة الاجتماعية تعقيداً ، وتضاعف مِن أخطارها ؛ لأنّها تفتح بين يدي الإنسان مجالات جديدة وهائلة للاستغلال ، وتُضاعِف مِن أهمّية النظام الاجتماعي ، الذي يتوقّف عليه تحديد نصيب كلّ فَرد مِن تلك المكاسب الهائلة ، التي تُقدِّمها الطبيعة اليوم بسَخاءٍ للإنسان .

وهو بعد هذا يمْلِك مِن تجارب سلَفِه - على مَرّ الزمن - خِبرةً أوسع وأكثر شمولاً وعُمقاً ، مِن الخِبرات الاجتماعيّة ، التي كان الإنسان القديم يمتلِكُها ، ويدرس المشكلة الاجتماعيّة في ضَوئها ومِن الطبيعي أنْ يكون لهذه الخِبرة الجديدة أثَرُها الكبير في تعقيد المشكلة ، وتنوّع الآراء في حلِّها والجواب عليها .

الإنسانيّة ومعالجتها للمشكلة

نريد الآن - وقد عرفنا المشكلة ، أو السؤال الأساسي الذي واجَهته الإنسانيّة ، منذ مارسَتْ وجودها الاجتماعي الواعـي ، وتفنّنت في المحاولات التي قدّمتها للجواب عليه ، عِبر تاريخها المديد - نريد وقد عرفنا ذلك.. أنْ نُلقي نظرة على ما تملِكه الإنسانيّة اليوم ، وفي كلّ زمان ، مِن الإمكانات والشروط الضرورية ؛ لإعطاء الجواب الصحيح على ذلك السؤال الأساسيّ السالِف الذِكر : ما هو النظام الذي يصلح للإنسانية ، وتسعَد به في حياتها الاجتماعيّة ؟ .

فهل في مقدور الإنسانية أنْ تقدّم هذا الجواب ؟ .

وما هو القَدَر الذي يتوفّر - في تركيبها الفِكريّ والروحيّ - مِن الشروط اللازمة ، للنجاح في ذلك ؟ .

٩

وما هي نوعية الضمانات التي تَكفُل للإنسانيّة نجاحها في الامتحان ، وتوفيقها في الجواب ، الذي تُعطيه على السؤال ، وفي الطريقة التي تختارها لحلّ المشكلة الاجتماعيّة ، والتوصّل إلى النظام الأصلح ، الكفيل بسعادة الإنسانيّة وتصعيدها إلى أرفع المستويات ؟ .

وبتعبيرٍ أكثر وضوحاً : كيف تستطيع الإنسانيّة المعاصرة أنْ تُدرك مثلاً : أنّ النظام الديمقراطي الرأسمالي ، أو دكتاتوريّة البروليتاريا الاشتراكيّة ، أو غيرهما.. هو النظام الأصلـح ، وإذا أدركَتْ هذا أو ذاك ، فما هي الضمانات التي تضمن لها أنّها على حقّ وصواب في إدراكها ؟

ولو ضمنتْ هذا أيضاً ، فهل يكفي إدراك النظام الأصلَح ، ومعرفة الإنسان به ؛ لتطبيقه وحلّ المشكلة الاجتماعيّة على أساسه ، أو يتوقّف تطبيق النظام على عوامل أخرى ، قد لا تتوفّر بالرغم مِن معرفة صلاحه وجَدارته ؟.

وترتبط هذه النقاط التي أثَرناها الآن إلى حدٍّ كبير بالمفهوم العامّ عن المجتمع والكَون ؛ ولذلك تختلف طريقة معالجتها مِن قِبَل الباحثين ، تَبَعاً لاختلاف مفاهيمهم العامّة عن ذلك ، ولنبدأ بالماركسيّة .

رأي الماركسيّة

ترى الماركسية : أنّ الإنسان يتكيّف روحيّاً وفِكريّاً وِفقاً لطريقة الإنتاج ، ونوعية القوى المُنتِجة فهو بصورة مستقلّة عنها لا يُمكِنه أنْ يُفكّر تفكيراً اجتماعيّاً ، أو أنْ يعرف ما هو النظام الأصلح ؟ وإنّما القوى المُنتجة هي التي تُملي عليه هذه المعرفة ، وتُتيح له الجواب على السؤال الأساسي ، الذي طرحناه في فاتحة الحديث ، وهو بدَوره يُردِّد صَداها بدقّةٍ وأمانة .

١٠

فالطاحونة الهوائية مثلاً ، تبعَث في الإنسانيّة الشعور بأنّ النظام الإقطاعيّ هو النظام الأصلح ، والطاحونة البخارية التي خَلَفَتْها تُلقِّن الإنسان : أنّ النظام الرأسماليّ هو الأجْدَر بالتطبيق ، ووسائل الإنتاج الكهربائية والذرّية اليوم ، تُعطي المجتمع مضموناً فِكرياً جديداً ، يؤمِن بأنّ الأصلح هو النظام الاشتراكي .

فقُدرة الإنسانيّة على إدراك النظام الأصلح ، هي تماماً قُدرتها على ترجمة المدلول الاجتماعي للقوى المنتِجة ، وترديد صداها .

وأمّا الضمانات التي تكفُل للإنسانيّة صوابها ، وصحّة إدراكها ، ونجاحها في تصوّرها للنظام الأصلح.. فهي تتمثّل في حركة التاريخ السائرة إلى الأمام دَوماً فما دام التاريخ في رأي الماركسيّة يتسلّق الهرَم ، ويزحف بصورة تصاعديّة دائـماً ، فلابدّ أنْ يكون الإدراك الاجتماعي الجديد للنظام الأصلح ، هو الإدراك الصحيح .

وأمّا الإدراك التقليدي القديم فهو خاطئ ، ما دام قد تكوّن إدراكٌ اجتماعيّ أحدَث منه فالذي يضمَن للإنسان السوفياتي اليوم صحّة رأيه الاجتماعي ، هو أنّ هذا الرأي يُمثِّل الجانب الجديد مِن الوعي الاجتماعيّ ، ويُعبِّر عن مرحلة جديدة مِن التاريخ ، فيجب أنْ يكون صحيحاً ، دون غيره مِن الآراء القديمة .

صحيحٌ أنّ بعض الأفكار الاجتماعيّة قد تبدو جديدة - بالرغم مِن زَيفها - كالفِكر النازيّ في النِصف الأوّل مِن هذا القَرْن ، حيث بَدا وكأنّه تعبيرٌ عن تطوّر تاريخيّ جديد ولكن سُرعان ما تنكشِف أمثال هذه الأفكار المقنَّعة .

ويظهر خلال التجربة أنّها ليست إلاّ رجْعاً للأفكار القديمة ، وتعبيراً عن مراحل تاريخيّة بالِية ، وليست أفكاراً جديدة بمعنى الكلمة .

وهكذا تؤكّد الماركسية : على أنّ جِدَة الفِكر الاجتماعيّ ( بمعنى انبثاقه عن ظروف تاريخيّة جديدةِ التكوّن ) ، هي الكفيلة بصحّته ، ما دام التاريخ في تجدّدٍ ارتقائيّ.

١١

وهناك شيءٌ آخَر وهو : إدراك الإنسانيّة اليوم ، مثلاً للنظام الاشتراكي - بوَصفه النظام الأصلح - لا يكفي في رأي الماركسيّة ، لإمكان تطبيقه ، مالَمْ تخُضْ الطبَقة التي تنتفع بهذا النظام أكثر مِن سواها - وهي الطَبقة العامِلة في مثالنا - صراعاً طبَقيّاً عنيفاً ، ضدّ الطبَقة التي مِن مصلَحتِها الاحتفاظ بالنظام السابق .

وهذا الصراع الطبَقي المسعور يتفاعل مع إدراك النظام الأصلح ، فيشتدّ الصراع كلّما نَما هذا الإدراك وازداد وضوحاً ، وهو بدوره يُعمِّق الإدراك ويُنمِّيه كلّما اشتدّ واستفحل .

ووُجهة النظر الماركسيّة هذه تقوم على أساس مفاهيم المادّية التاريخية ، التي نقدْناها في دراستنا الموَسّعة للماركسية الاقتصادية(١) .

وما نضيفه الآن تعلِيَةً على ذلك هو : أنّ التاريخ نفسه يُبرهن على أنّ الأفكار الاجتماعيّة ، بشأن تحديد نوعية النظام الأصلح.. ليست مِن خَلْق القوى المُنتِجة ، بل للإنسان أصالته وإبداعه في هذا المجال ، بصورة مستقلّة عن وسـائل الإنتاج ، وإلاّ فكيف تفسِّر لنا الماركسيّة ظهور فِكرة التأميم ، والاشتراكيّة ومِلكيّة الدولة في فترات زمنيّة متباعِدة مِن التاريخ ؟!.

فلو كان الإيمان بفِكرة التأميم - بوَصفِه النظام الأصلح ، كما يؤمِن الإنسان السوفياتي اليوم - نتيجةً لنوعيّة القوى المنتِجة السائدة اليوم ، فما معنى ظهور الفِكرة نفْسها في أزمنةٍ سحيقة ، لم تكن تملك مِن هذه القوى المنتِجة شيئاً .

أفلَمْ يكن أفلاطون يؤمِن بالشيوعيّة ، ويتصوّر مدينته الفاضلة على أساسٍ شيوعيّ ؟! فهل كان إدراكه هذا مِن معطيات الوسائل الحديثة في الإنتاج ، التي لم يكن الإغريق يملك منها شيئاً ؟! .

ماذا أقول؟! بل إنّ الأفكار الاشتراكية بلغَت قبل ألفَين مِن السنين ، مِن النُضج والعُمق في ذِهنيّة بعض كُبّار المفكِّرين السياسيّين درجةً أتاحتْ لها مجالاً للتطبيق ، كما يطبّقها الإنسان السوفياتي اليوم ، مع بعض الفروق .

_________________

(١) راجع اقتصادنا ص ٣ - ١٩٦.

١٢

فهذا ( وو - دي ) أعظم الأباطرة ، الذين حكَموا الصين مِن أُسرة ( هان ) ، كان يؤمِن في ضوء خِبرته وتجارِبِه بالاشتراكيّة ، باعتبارها النظام الأصلح فقام بتطبيقها عام (١٤٠ - ١٨٧ ق.م ) : فجعل موارد الثروة الطبيعية مِلكاً للأُمّـة ، وأَمَّمَ صناعات استخراج المِلح والحديد وعَصْر الخَمْر.

وأراد أنْ يقضي على سُلطان الوُسَطاء ، والمُضاربين في جهاز التجارة : فأنشأ نظاماً خاصّاً للنَقْل والتبادل ، تُشرِف عليه الدولة ، وسَعى بذلك للسيطرة على التجارة ، حتّى يستطيع مَنْع تقلّب الأسعار الفُجائي ، فكان عمّال الدولة هُم الذين يتولّون شؤون نَقْل البضائع ، وتوصيلها إلى أصحابها في جميع أنحاء البلاد .

وكانت الدولة نفسها تخزن ما زاد مِن السلَع على حاجة الأهلين ، وتبيعها إذا أخذَت أثمانها في الارتفاع فوق ما يجـب ، كما تشتريها إذا انخفضت الأسعار وشَرع يُقيم المنشآت العامّة العظيمة ؛ لِيوجِد بذلك عمَلاً لملايين الناس ، الذين عجزت الصناعات الخاصّة عن استيعابهم .

وكذلك اعتلى العَرش في بداية التاريخ المسيحي ( وانج مانج ) ، فتحمّس بإيمان لفِكرة إلغاء الرقّ ، والقضاء على العبودية ، ونظام الإقطاع ، كما آمَن الأوروبيّون في بداية العصْر الرأسمالي ..

وألغى الرقّ ، وانتزع الأراضي مِن الطبَقة الإقطاعيّة ، وأمَّمَ الأرض الزراعية ، وقسَّمها قسماً متساوية ، ووزّعها على الزُرّاع ، وحرّم بَيع الأراضي وشراءها ؛ ليمنع بذلك مِن عَودة الأملاك الواسعة إلى ما كانت عليه مِن قَبْل ، وأمَّمَ المناجم وبعض الصناعات الكبرى .

فهل يمكن أنْ يكون ( وو - دي ) ، أو ( وانج مانج ).. قد استَوحَيا إدراكهما الاجتماعيّ ، ونهجهما السياسيّ هذا مِن قِوى البخار ، أو قوى الكهرباء أو الذرّة ، التي تعتبرها الماركسيّة أساساً للتفكير الاشتراكي .

١٣

وهكذا نستنتج : أنّ إدراك هذا النظام ، أو ذاك - بوصفه النظام الأصلح - ليس صنيعة لهذه الوسيلة ، من وسائل الإنتاج أو تلك .

كما أنّ الحركة التقدّمية للتاريخ ، التي تُبرهن الماركسيّة عن طريقها على : أنّ جِدَة الفِكر تضمن صحّته.. ليست إلاّ أسطورة أخرى مِن أساطير التاريخ ، فإنّ حركات الانتكاس ، وذَوَبان الحضارة كثيرة جدّاً .

رأي المفكّرين غير الماركسيّين :

وأمّا المفكّرون غير الماركسيّين ، فهُم يقرّرون عادةً : أنّ قُدرة الإنسان على إدراك النظام الأصلح.. تنمو عنده مِن خلال التجارب الاجتماعيّة التي يعيشها فحينما يُطبِّق الإنسان الاجتماعي نظاماً معيّناً ، ويجسّده في حياته.. يستطيع أنْ يُلاحظ - مِن خلال تجربته لذلك النظام - الأخطاء ونقاط الضَعف المُستترة فيها ، والتي تتكشَّف له على مَرّ الزمن ، فتمكّنه مِن تفكيرٍ اجتماعيٍّ ، أكثر بصيرة وخِبرة..

وهكذا يكون بإمكان الإنسان أنْ يُفكِّر في النظام الأصلح ، ويضع جوابه على السؤال الأساسي ، في ضَوء تجاربه وخِبرته وكلّما تكاملت وكَثُرت تجاربه ، أو الأنظمة التي جرّبها ، ازداد معرفةً وبصيرةً ، وصار أكثر قُدرة على تحديد النظام الأصلح ، وتصوّر معالِمه .

فسؤالنا الأساسي : ما هو النظام الأصلح ؟.. ليس إلاّ كسؤال : ما هي أصلح طريقة لتدفئة السكَن ؟.. هذا السؤال الذي واجَهَه الإنسان منذ أحسّ بالبَرْد ، وهو في كَهفِه أو مغارته ، فأخَذ يفكِّر في الجواب عليه ، حتّى اهتدى في ضَوء ملاحظاته ، أو تجاربه العديدة إلى طريقةٍ إيجاد النار وظلّ يُثابر ويجاهد في سبيل الحصول على جوابٍ أفضل ، عِبْر تجاربه المديدة ، حتّى انتهى أخيراً إلى اكتشاف الكهرباء ، واستخدامها في التدفئة .

١٤

وكذلك آلاف المشاكل التي كانت تعترض حياته ، فأدرَك طريقة حلِّها خلال التجربة ، وازداد إدراكه دقّةً كلّما كَثُرت التجربة : كمشكلة الحصول على أصلح دواء للسِلّ ، أو أسهل وسيلة لاستخراج النفط ، أو أسرع واسطة للنَقْل والسفر ، أو أفضل طريقة لحياكة الصوف... وما إلى ذلك مِن مشاكل وحلول .

فكما استطاع الإنسان أنْ يحلّ هذه المشاكل ، ويضع الجواب عن تلك الأسئلة ، مِن خلال تجاربه.. كذلك يستطيع أنْ يُجيب على سؤال : ما هو النظام الأصلح ؟! مِن خلال تجاربه الاجتماعيّة ، التي تكشِف له عن سيّئات ومحاسن النظام المجرَّب ، وتبرز ردود الفِعل له على الصعيد الاجتماعي .

الفَرق بين التجربة الطبيعيّة والاجتماعيّة :

وهذا صحيح إلى درجةٍ ما : فإنّ التجربة الاجتماعيّة تُتيح للإنسان ، أنْ يُقدِّم جوابه على سؤال : ما هو النظام الأصلـح ؟ كما أتاحتْ له تجارب الطبيعة ، أنْ يجيب على الأسئلة الأخرى العديدة ، التي اكتنفت حياته منذ البداية .

ولكنّنا يجب أنْ نفرِّق - إذا أردنا أنْ ندرس المسألة على مستوىً أعمَق - بين التجارب الاجتماعيّة ، التي يكون الإنسان خلالها إدراكه للنظام الأصلح ، وبين التجارب الطبيعيّة ، التي يكتسب الإنسان خلالها معرفته بأسرار الطبيعة وقوانينها ، وطريقة الاستفادة منها : كأنجح دواء ، أو أسرع واسطة للسَفر ، أو أفضل طريقه للحياكة ، أو أسهل وسيلة لاستخراج النفط ، أو أنجع طريقة لفَلْق الذرّة مثلاً .

فإنّ التجارب الاجتماعية ( أي تجارب الإنسان الاجتماعي ، للأنظمة الاجتماعية المختلفة ) لا تصِل في عطائها الفكريّ إلى درجة التجارب الطبيعية ( وهي تجارب الإنسان لظواهر الطبيعة ) ؛ لأنّها تختلف عنها في عدّة نقاط .

١٥

وهذا الاختلاف يؤدّي إلى تفاوت قُدرة الإنسان ، على الاستفادة مِن التجارب الطبيعيّة والاجتماعيّة فبينما يستطيع الإنسان أنْ يدرك أسرار الظواهر الطبيعيّة ، ويرتقي في إدراكه هذا إلى ذَروَة الكمال على مَرّ الزمن ، بفضْل التجارب الطبيعيّة والعِلميّة.. لا يسير في مجال إدراكه الاجتماعي للنظام الأصلح ، إلاّ سَيراً بطيئاً ، ولا يتَأتّى له بشكْلٍ قاطع أنْ يبلغ الكمال في إدراكه الاجتماعي هذا ، مهما توافرَت تجاربه الاجتماعية وتكاثَرت.

ويجب علينا - لمعرفة هذا - أنْ ندرس تلك الفروق المهمّة ، بين طبيعة التجربة الاجتماعيّة ، والتجربة الطبيعيّة ؛ لنصل إلى الحقيقة التي قرّرناها ، وهي :

أنّ التجربة الطبيعية : قد تكون قادرة على مَنْح الإنسان ، عِبر الزمن فِكرة كاملة عن الطبيعة ، يستخدمها في سبيل الاستفادة مِن ظواهر الطبيعة وقوانينها .

وأمّا التجربة الاجتماعيّة : فهي لا تستطيع أنْ تضمن للإنسان إيجاد هذه الفِكرة الكاملة ، عن المسألة الاجتماعية .

وتتلخّص أهمّ تلك الفروق فيما يلي :

أوّلاً : إنّ التجربة الطبيعيّة يمكن أنْ يباشرها ويمارسها فرد واحد ، فيستوعبها بالملاحظة والنظرة ، ويدرس بصورة مباشرة كلّ ما ينكشِف خلالها مِن حقائق وأخطاء ، فينتهي مِن ذلك إلى فِكرة معيّنة ترتكز على تلك التجربة .

وأمّا التجربة الاجتماعيّة : فهي عبارة عن تجسيد النظام المجرّب في مجتمع وتطبيقه عليه ، فتجربة النظام الإقطاعيّ أو الرأسماليّ مثلاً تعني : ممارسة المجتمع لهذا النظام فترة مِن تاريخه ، وهي لأجْل ذلك لا يمكن أنْ يقوم بها فردٌ واحد ويستوعبهـا ، وإنّما يقوم بالتجربة الاجتماعية المجتمع كلّه ، وتستوعب مرحلة تاريخية مِن حياة المجتمع أوسع كثيراً مِن هذا الفرد أو ذاك فالإنسان حين يريد أنْ يستفيد مِن تجربةٍ اجتماعيّة ، لا يستطيع أنْ يُعاصرها بكلّ أحداثها ، كما كان يعاصر التجربة الطبيعيّة حين يقوم بها ، إنّما يعاصر جانباً مِن أحداثها ، ويتحتّم عليه أنْ يعتمد في الاطّلاع على سائر ظواهر التجربة ومضاعفاتها.. على الحدَس والاستنتاج والتاريخ .

١٦

ثانياً : إنّ التفكير الذي تُبلْوِره التجربة الطبيعيّة ، أكثر موضوعيّة ونزاهة ، مِن التفكير الذي يستمدّه الإنسان مِن التجربة الاجتماعيّة .

وهذه النقطة مِن أهمّ النقاط الجوهريّة ، التي تمنع التجربة الاجتماعيّة مِن الارتفاع إلى مستوى التجربة الطبيعيّة والعلميّة ، فلا بدّ مِن جلائها بشِكلٍ كامل .

ففي التجربة الطبيعيّة ، ترتبط مصلحة الإنسان - الذي يصنع تلك التجربة - باكتشاف الحقيقة ، الحقيقة كاملة صريحة دون مُوارَبة ، وليس له - في الغالب - أدنى مصلحة بتزوير الحقيقة ، أو طَمْس معالِمها ، التي تتكشّف خلال التجربة .

فإذا أراد - مثلاً - أنْ يُجرِّب درجة تأثّر جراثيم السلّ بمادّة كيماويّة معيّنة ، حين إلقائها في محيط تلك الجراثيم ، فسوف لا يهمّه إلاّ معرفة درجة تأثّرها ، مهما كانت عالِية أو منخفضة ، ولن ينفعَه في علاج السلّ ومكافحته أنْ يزوِّر الحقيقة ، فيبالِغ في درجة تأثّرها ، أو يهوّن منها وعلى هذا الأساس يتّجه تفكير المجرِّب - في العادة - اتّجاهاً موضوعيّاً نزيهاً .

وأمّا في التجربة الاجتماعيّة ، فلا تتوقّف مصلحة المجرِّب دائماً على تجلِيَة الحقيقة ، واكتشاف النظام الاجتماعي الأصلح لمجموع الإنسانيّة ، بل قد يكون مِن مصلحته الخاصّة أنْ يستُر الحقيقة عن الأنظار :

فالشخص الذي ترتكز مصالحُه على نظام الرأسماليّة والاحتكار ، أو على النظام الربَويّ للمصارف مثلاً ، سوف يكون مِن مصلحته جدّاً أنْ تجيء الحقيقة ، مؤكّدة لنظام الرأسماليّة والاحتكار والربا المصرفيّ ، بوَصفه النظام الأصلح حتّى تستمرّ منافعه التي يدرّها عليه ذلك النظام .

فهو إذن ليس موضوعيّاً بطبيعته ، ما دام الدافع الذاتيّ يحثُّه على اكتشاف الحقيقة ، باللون الذي يتّفق مع مصالحه الخاصّة .

١٧

وكذلك الشخص الآخَر ، الذي تتعارض مصلحته الخاصّة مع الرِبا أو الاحتكار ، لا يهمّه شيءٌ ، كما يهمّه أنْ تثبُت الحقيقة بشِكلٍ يُدين الأنظمة الربَوِيّة والاحتكاريّة فهو حينما يريد أنْ يستنتج الجواب على المسألة الاجتماعيّة : ( ما هو النظام الأصلح ؟ ) مِن خلال دراسته الاجتماعيّة ، يقترن دائماً بقوّة داخلية تُحبِّذ له وجهة نظر معيّنة ، وليس شخصاً محايِداً بمعنى الكلمة .

وهكذا نعرف : أنّ تفكير الإنسان في المسألة الاجتماعيّة لا يمكن - عادةً - أنْ تضمن له الموضوعيّة ، والتجرّد عن الذاتيّة بالدرجة ، التي يمكن ضمانها في تفكير الإنسان حين يعالج تجربةً طبيعيّة ، ومسألة مِن مسائل الكَون .

ثالثاً : وهَب أنّ الإنسان استطاع أنْ يتحرّر فِكريّاً مِن دَوافعه الذاتيّة ، ويفكّر تفكيراً موضوعيّاً ، ويكشِف الحقيقـة وهي :

إنّ هذا النظام أو ذاك هو النظام الأصلح لمجموع الإنسانيّة ، ولكن مَن الذي يضمن اهتمامه بمصلحة مجموع الإنسانية ، إذا لم تلتقِ بمصلحته الخاصّة ؟! ومَن الذي يكفُل سعْيَه في سبيل تطبيق ذلك النظام الأصلح للإنسانيّة ، إذا تعارض مع مصالحه الخاصّة ؟! فهل يكفي - مثلاً - إيمان الرأسماليّين ، بأنّ النظام الاشتراكي أصلح سبباً لتطبيقهم للاشتراكيّة ورضاهم عنها ، بالرغم مِن تناقضها مع مصالحهم ؟! أو هل يكفي إيمان الإنسان المعاصر ( إنسان الحضارة الغربيّة ) - في ضَوء تجاربه التي عاشها - بالخطر الكامِن في نظام العلاقات بين الرجُل والمرأة ، القائم على أساس الخلاعة والإباحية.

هل يكفي إيمانه بما تشتمل عليه هذه العلاقات ، مِن خطر الميوعة والذَوَبان على مستقبل الإنسان وغَدِه ؛ لاندفاعه إلى تطوير تلك العلاقات بالشكل الذي يضمن للإنسانيّة مستقبلها ، ويحميها مِن الذَوَبان الجِنسيّ والشهَويّ ، ما دام لا يشعر بخطرٍ معاصر على واقِعه الذي يعيشه ، وما دامت تلك العلاقات توَفِّر له كثيراً مِن ألوان المُتعة واللذّة ؟؟!!

١٨

نحن إذن وفي هذا الضَوء ، نشعر بحاجة لا إلى اكتشاف النظام الأصلح لمجموع الإنسانيّة فحَسب ، بل إلى دافع يجعلنا نعنى بمصالح الإنسانية ككلّ ، ونسعى إلى تحقيقها ، وإنْ اختلفت مع مصالح الجزء الذي نمثّله مِن ذلك الكلّ .

رابعاً : إنّ النظام الذي يُنشِئُه الإنسان الاجتماعيّ ، ويؤمِن بصلاحه وكفاءته ، لا يمكن أنْ يكون جديراً بتربية هذا الإنسان ، وتصعيده في المجال الإنسانيّ إلى آفاقٍ أرحَب ؛ لأنّ النظام الذي يصنعه الإنسان الاجتماعيّ ، يعكس دائماً واقع الإنسان الذي صنعه ، ودرجته الروحيّة والنفسيّة .

فإذا كان المجتمع يتمتّع بدرجة منخفضة مِن قوّة الإرادة وصلابتها مثلاً ، لم يكن ميسوراً له أنْ يُربّي إرادته ويُنمّيها ، بإيجاد نظامٍ اجتماعيٍّ صارم ، يغذّي الإرادة ويزيد مِن صلابتها ؛ لأنّه ما دام لا يملِك إرادةً صلبة ، فهو لا يملك القدرة على إيجاد هذا النظام ، ووَضْعه موضع التنفيذ ، وإنّما يضع النظام الذي يعكس ميوعة إرادته وذَوَبانها .

وإلاّ فهل ننتظر مِن مجتمعٍ لا يملك إرادته إزاء إغواء الخمورة - مثلاً - وإغراءها ، ولا يتمتّع بقدرة الترفّع عن شهوةٍ رخيصةٍِ كهذه ، هل ننتظر مِن هذا المجتمع : أنْ يضع مَوضع التنفيذ نظاماً صارماً ، يحرِّم أمثال تلك الشهوات الرخيصة ، ويُربّي في الإنسان إرادته ، ويردّ إليه حرّيته ويُحرّره مِن عبودية الشهوة وإغرائها ؟!! كلاّ طبعاً فنحن لا نترقّب الصلابة مِن المجتمع الذائب ، وإنْ أدرك أضرار هذا الذَوبان ومضاعفاته ، ولا نأمل مِن المجتمع الذي تستعبده شهوة الخَمرة أنْ يحرّر نفسه بإرادته ، مهما أحسّ بشرور الخَمرة وآثارها ؛ لأنّ الإحساس إنّما يتعمّق ويتركّز لدى المجتمع ، إذا استرسل في ذَوبانه وعبوديّته للشهوة وإشباعها ، وهو كلّما استرسل في ذلك أصبح أشدّ عجْزاً عن معالجة المَوقف ، والقفز بإنسانيّته إلى درجاتٍ أعلى .

١٩

وهذا هو السبب الذي جعل الحضارات البشَريّة التي صنعها الإنسان ، تعجَز عادةً عن وَضع نظام يقاوِم في الإنسان عبوديّته لشهوته ، ويرتفع به إلى مستوىً إنسانيٍّ أعلى ، حتّى لقد أخفقت الولايات المتّحدة - وهي أعظم تعبير عن أضخم الحضارات التي صنعها الإنسان - في وَضع قانون تحريم الخَمرة موضع التنفيذ ؛ لأنّ مِن التناقض أنْ نترقّب مِن المجتمع الذي استسلم لشهوة الخمرة وعبوديّتها ، أنْ يسنّ القوانين التي ترتفع به مِن الحضيض الذي اختاره لنفسه .

بينما نجد أنّ النظام الاجتماعيّ الإسلاميّ الذي جاء به الوحي ، قد استطاع - بطريقته الخاصّة في تربية الإنسانيّة ، ورَفْعها إلى أعلى - أنْ يُحرِّم الخَمرة ، وغيرها مِن الشهَوات الشرّيرة ، ويخلق في الإنسان الإرادة الواعية الصلبة .

ولم يبقَ علينا - بعد أنْ أَوضحنا جانباً مِن الفروق الجَوهريّة بين التجربة الاجتماعيّة ، التي يمارسها المجتمع بأسْره ، والتجربة الطبيعيّة التي يمارسها المجرِّب نفسه - إلاّ أنْ نُثير السؤال الأخير ، في مجال المسألة التي ندرسها : ( مسألة مدى قدرة الإنسان في حقل التنظيم الاجتماعيّ ، واختيار النظام الأصلح ) .

وهذا هو السؤال : ما هي قيمة المعرفة العِلميّة في تنظيم حياة الجماعة ، وإرساء الحياة الاجتماعيّة ، والنظام الاجتماعيّ على أساسٍ عِلميٍّ مِن التجارب الطبيعيّة ، التي تملِك مِن الدقّة ما تتّسم به التجارب في مجال الفيزياء والكيمياء ، ونتخلّص بذلك مِن نقاط الضَعف ، التي درسناها في طبيعة التجربة الاجتماعيّة ؟؟ .

وبكلمةٍ أخرى : هل في الإمكان الاستغناء - لدى تنظيم الحياة الاجتماعيّة ، والتعرّف على النظام الأصلح - عن دراسة تاريخ البشَريّة ، والتجارب التي مارسَتْها المجتمعات الإنسانيّة عِبْر الزمن ، والتي لا نملِك تجاهها سوى الملاحظة عن بُعد ، ومِن وراء ستائر الزمن التي تفصلنا عنها..

هل في الإمكان الاستغناء عن ذلك كلِّه ، بإقامة حياتنا الاجتماعيّة في ضوء تجاربٍ عِلميّةٍ نعيشها، ونمارسها بأنفسنا على هذا أو ذاك مِن الأفراد ، حتّى نصل إلى معرفة النظام الأصلح ؟؟ .

٢٠