الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية0%

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 135

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 135
المشاهدات: 55590
تحميل: 6027

توضيحات:

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 135 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55590 / تحميل: 6027
الحجم الحجم الحجم
الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ويبدو الإيمان بوجود الاقتصاد الإسلامي ، على هذا الضوء أمراً معقولاً ، ولا غرابة فيه .

وسوف لن نبدأ في هذه الحلَقة بدراسة تفاصيل الاقتصاد الإسلامي ، وحين نأخذ التفاصيل بالبحث والدرس في الحلَقات المقبلة ، سوف نقدّم لك مِن الكتاب والسنّة الدليل المادّي المحسوس ، على وجود المذهب الاقتصادي في الإسلام فإنّه لا أدلّ على وجود الشيء مِن إبرازه للحسّ وهذا ما تقوم به الحلَقات المقبلة ، بإذن الله تعالى .

والآن وقبل أن نستدلّ على وجود المذهب الاقتصادي في الإسلام بإبرازه ، والتعرّف على مَواطِن استخلاصه مِن الكتاب والسنّة ، نريد أن نُقيم الدليل على وجوده ، مِن طبيعة الشريعة الإسلامية ، ومفاهيمنا المسبَقة عنها ، كما سنرى .

شمول الشريعة واستيعابها :

إنّ شمول الشريعة واستيعابها لجميع مجالات الحياة ، مِن الخصائص الثابتة لها ، لا عن طريق تتبّع أحكامها ، في كلّ تلك المجالات فحسب ، بل عن طريق التأكيد على ذلك ، في مصادرها العامّة أيضاً فنحن نستطيع أن نجد في هذه المصادر نصوصاً تؤكّد بوضوحٍ على استيعاب الشريعـة ، وامتدادها إلى جميع الحقول ، التي يعيشها الإنسان ، واغتنائها بالحلول لجميع المشاكل التي تعترضه في شتّى المجالات .

١٢١

لاحظوا على سبيل المثال ، النصوص التالية :

١ - روى أبو بصير ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه تحدّث عن الشريعة الإسلامية واستيعابها وإحاطة أئمّة أهل البيت بكلّ تفاصيلها فقال: فيها كلّ حلالٍ وحرامٍ ، وكلّ شيءٍ يحتاج الناس إليه ، حتّى الأرش في الخدْش ، وضرَب بيده إلى أبي بصير ، فقال: أتأذن لي يا أبا محمّد ؟ فقال له أبو بصير : جعلت فداك ، إنّما أنا لك ، فاصنع ما شئت ، فغمَزه الإمام بيده وقال: حتّى أرش هذا !

٢ - وعن الإمام الصادقعليه‌السلام ، في نصٍّ آخَر ، أنّه قال: فيها كلّ ما يحتاج الناس إليه ، وليس مِن قضية ، إلاّ وهي فيها ، حتّى أرش الخدْش . ( أي الغرامة التي يدفعها الشخص إلى آخر إذا خدَشه ) .

٣ - وفي نهج البلاغة ، أنّ أمير المؤمنين عليّاًعليه‌السلام قال يصف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والقرآن الكريم :

أرسله على حين فترةٍ مِن الرُسُل ، وطول هجْعةٍ مِن الأمم ، وانتقاضٍ مِن المبرم فجاءهم بتصديق الذي بين يديه ، والنور المقتدى به ، ذلك القرآن ، فاستنطقوه ، ولن ينطق ، ولكن أُخبركم عنه ، ألا إنّ فيه ما يأتي ، والحديث عن الماضي ، ودواء دائكم ، ونَظم ما بينكم .

إنّ هذه النصوص ، تؤكّد بوضوحٍ ، استيعاب الشريعة لمختلف مجالات الحياة .

وإذا كانت الشريعة تضمن الحلول حتّى لأتفَه المشاكل ، وحتّى لأرش الخدْش - أي الغرامة التي يجب على الإنسان دفْعها إلى الآخَر ، إذا خدَشه - فمِن الضروري حتماً ، بمنطق تلك النصوص ، أن تكون في الشريعة حلول للمشاكل الاقتصادية ، وطريقة لتنظيم الحياة في الحقل الاقتصادي وإلاّ فأيّ معنىً لاستيعاب الشريعة وشمولها ، إذا كانت تغفل جانباً مِن أهمّ جوانب الحياة ، وأوسعها وأكثرها أهمّيةً وتعقيداً.

١٢٢

هل تتصوّر أنّ الشريعة تحدّد الغرامة التي مِن حقّك الحصول عليها ، إذا خدَشك شخصٌ خدْشاً بسيطاً ، ولا تحدّد حقّك في الثروة المنتجة ، ولا تنظّم طريقة اتّفاقك مع عمّالك ، أو مع الرأسماليين في مختلف ألوان العمل ، التي تحتاج فيها إلى عاملٍ ، أو رأسمالي .

وهل مِن المعقول ، أن تحدّد الشريعة حقّك حين تُخدَش ، ولا تحدّد حقّك حين تُحيي أرضاً ، أو تستخرج معدناً ، أو تستنبط عين ماءٍ ، أو تستولي على غابة .

وهكذا نعرف أنّ مَن يؤمن بالشريعة ومصادرها ونصوصها ، يستنتج مِن تلك النصوص علاج الشريعة للمشاكل الاقتصادية ، وتنظيمها للحقل الاقتصادي ، وبالتالي وجود اقتصادٍ إسلاميٍّ يمكن استخلاصه مِن الكتاب والسُنّة .

وفي ضوء تلك النصوص ، يعرف القارئ خطأ القول الشائع عند البعض ، بأنّ الشريعة تنظّم سلوك الفرد لا المجتمع ، والمذهب الاقتصادي تنظيم اجتماعي ، فهو خارج عن نطاق الشريعة ، التي تقتصر في تشريعها على تنظيم سلوك الفرد فحسـب.

إنّ النصوص السابقة ، تبرهن على خطأ هذا القول ؛ لأنّها تكشف عن امتداد الشريعة إلى كلّ ميادين الحياة ، وتنظيمها للمجتمع والفرد على السواء .

والحقيقة ، أنّ القول بأنّ الشريعة تنظّم سلوك الفرد لا المجتمع ، يتناقض مع نفْسه ، إضافةً إلى اصطدامه بتلك النصوص ؛ لأنّه حين يفصل سلوك الفرد وتنظيمه عن تنظيم المجتمع ، يقع في خطأ كبير مِن ناحية أنّ النظام الاجتماعي لأيّ جانبٍ مِن الجوانب العامّة في المجتمع ، سواء كان اقتصادياً ، أمْ سياسياً ، أمْ غير ذلك ، يتجسّد في سلوك الفرد ، فلا يمكن تنظيم سلوك الفرد بصورةٍ منعزلةٍ عن تنظيم المجتمع .

١٢٣

خذْ إليك النظام الرأسمالي ، بوَصفه تنظيماً اجتماعياً ، فإنّه ينظّم الحياة الاقتصادية ، على أساس مبدأ الحرّية الاقتصادية ، وهذا المبدأ يتجسّد في سلوك الرأسمالي مع العامل ، وطريقة إبرامه معه عقْد العمل ، وفي سلوك المُرابي مع زبائنه ، الذين يقرضهم بفائدة ، وطريقة إبرامه معهم عقْد القرض وهكذا كلّ تنظيمٍ اجتماعيٍّ ، فإنّه يتّصل بسلوك الفرد ، وينعكس عليه ويتجسّد فيه .

فإذا كانت الشريعة تنظّم سلوك الفرد ، فلها طريقتها إذن في تنظيم سلوكه ، حين يقترض مالاً ، أو حين يستأجر عاملاً ، أو حين يؤجّر نفْسه ، وهذا يرتبط حتماً بالتنظيم الاجتماعي .

فكلّ فصْلٍ بين سلوك الفرد والمجتمع في التنظيم ، يحتوي على تناقض .

فما دُمنا نعترف ، بأنّ الشريعة تنظّم سلوك الفرد ، وأنّ كلّ فعْلٍ مِن أفعال الإنسان له حُكمه الخاصّ في الشريعة - ما دُمنا نعترف بذلك - فلا بدّ أن ننساق مع اعترافنا إلى النهاية ، ونؤمن بوجود التنظيم الاجتماعي في الشريعة .

التطبيق دليلٌ آخَر :

ولا أدري ماذا يقول هؤلاء الذين يشكّون في وجود اقتصادٍ إسلاميٍّ ، أو علاجٍ للمشاكل الاقتصادية في الإسلام ؟ ماذا يقولون عن عصْر التطبيق في صدْر الإسلام ؟

أفلمْ يكن المسلمون يعيشون في صدْر الإسلام ، بوَصفهم مجتمعاً له حياته الاقتصادية ، وحياته في كلّ الميادين الاجتماعية ؟ .

أفلمْ تكن قيادة هذا المجتمع الإسلامي بيد النبيّ والإسلام ؟ .

أفلمْ تكن هناك حلول محدّدة لدى هذه القيادة يعالج بها المجتمع ، قضايا الإنتاج والتوزيع ، ومختلف مشاكله الاقتصادية ؟ .

فماذا لو ادّعَينا : أنّ هذه الحلول تعبّر عن طريقة الإسلام في تنظيم الحياة الاقتصادية ، وبالتالي عن مذهبٍ اقتصاديٍّ في الإسلام ؟ .

١٢٤

نحن إذا تصوّرنا المجتمع الإسلامي على عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يمكن أن نتصوّره بدون نظامٍ اقتصاديٍّ ، إذ لا يمكن أن يوجد مجتمع بدون طريقةٍ يتبنّاها ، في تنظيم حياته الاقتصادية ، وتوزيع الثروة بين أفراده .

ولا يمكن أن نتصوّر النظام الاقتصادي في مجتمعِ عصْر النبوّة منفصلاً عن الإسلام ، وعن النبيّ بوَصفه صاحب الرسالة الذي يتولّى تطبيقها فلا بدّ أن يكون النظام الاقتصادي مأخوذاً منه قولاً أو فعلاً أو تقريراً ، أي مأخوذاً مِن نصوصه وأقواله ، أو مِن أفعاله ، وطريقته للعمل الاجتماعي بوَصفه رئيساً للدولة ، أو مِن تقريره لعُرْفٍ سائدٍ وقبوله به وكلّ ذلك يسبغ على النظام الطابع الإسلامي.

المذهب يحتاج إلى صياغة :

ونحن حين نقول بوجود اقتصادٍ إسلاميٍّ ، أو مذهبٍ اقتصاديٍّ في الإسلام ، لا نريد بذلك أنّنا سوف نجد في النصوص بصورةٍ مباشرةٍ نفْس النظريات الأساسية ، في المذهب الاقتصادي الإسلامي بصيَغها العامّة ، بل إنّ النصوص ومصادر التشريع تُتحفنا بمجموعةٍ كبيرةٍ مِن التشريعات ، التي تنظّم الحياة الاقتصادية وعلاقات الإنسان بأخيه الإنسان ، في مجالات إنتاج الثروة وتوزيعها وتداولها ، كأحكام الإسلام في إحياء الأراضي والمعادن ، وأحكامه في الإجارة والمضاربة والربا ، وأحكامه في الزكاة والخمس ، والخراج وبيت المال .

وهذه المجموعة مِن الأحكام والتشريعات ، إذا نُسقت ودُرست دراسةً مقارنةً بعضها ببعض ، أمكن الوصول إلى أصولها والنظريات العامّة التي تعبّر عنها ، ومِن تلك النظريات نستخلص المذهب الاقتصادي في الإسلام .

فليس مِن الضروري - مثلاً - أن نجد في النصوص ومصادر الشريعة صيغةً عامّةً ؛ لتحديد مبدأ يقابل مبدأ الحرّية الاقتصادية في المذهب الرأسمالي أو يماثله .

١٢٥

ولكنّنا نجد في تلك النصوص والمصادر ، عدداً مِن التشريعات ، التي يستنتج منها موقف الإسلام مِن مبدأ الحرّية الاقتصادية ، ويعرف عن طريقها : ما هو المبدأ البديل له ، مِن وجْهة النظر الإسلامية.

فتحريم الإسلام للاستثمار الرأسمالي الربَوي ، وتحريمه تمَلّك الأرض بدون إحياءٍ وعمل ، وإعطاء وليِّ الأمْر صلاحية الإشراف على أثمان السِلَع - مثلاً - كلّ ذلك يكون فِكْرتنا عن موقف الإسلام ، مِن الحرّية الاقتصادية ، ويعكس المبدأ الإسلامي العامّ .

أخلاقية الاقتصاد الإسلامي :

قد يقال : إنّ الاقتصاد الذي تزعمون وجوده في الإسلام ليس مذهباً اقتصادياً ، وإنّما هو في الحقيقة تعاليم أخلاقية مِن شأن الدِين أن يتقدّم بها إلى الناس ، ويرغّبهم في اتّباعها فالإسلام كما أمَر بالصِدق والأمانة ، وحثّ على الصبر وحُسن الخُلُق ، ونهى عن الغشّ والنميمة ، كذلك أمَر بمعونة الفقراء ونهى عن الظلم ، ورغّب الأغنياء في مواساة البائسين ، ونهاهم عن سلْب حقوق الآخَرين ، وحذّرهم مِن اكتساب الثروة بطُرُقٍ غير مشروعة ، وفرَض عبادةً ماليةً في جُملة ما فرض مِن عبادات وهي الزكاة ، إذ شرّعها إلى صفّ الصلاة والحجّ والصيام ؛ تنويعاً لأساليب العبادة ، وتأكيداً على ضرورة إعانة الفقير والإحسان إليه .

كلّ ذلك قام به الإسلام ، وفْقاً لمنهجٍ أخلاقيٍّ عامّ ، ولا تعدو تلك الأوامر والنصائح والإرشادات عن كَونها تعاليم أخلاقية ، تستهدف تنمية الطاقات الخيِّرة في نفْس الفرد المسلم ، والمزيد مِن شدِّه إلى ربِّه ، وإلى أخيه الإنسان ، ولا يعني ذلك مذهباً اقتصادياً ، على مستوى تنظيمٍ شاملٍ للمجتمع .

١٢٦

وبكلمةٍ أخرى ، أنّ التعاليم السابقة ذات طابعٍ فرديٍّ أخلاقيٍّ ، هدفها إصلاح الفرد وتنمية الخير فيه ، وليست ذات طابعٍ اجتماعيٍّ تنظيميٍّ ، فالفرْق بين تلك التعاليم والمذهب الاقتصادي ، هو الفرْق بين واعظٍ يعتلي المنبر ، فينصح الناس بالتراحم والتعاطف ، ويحذّرهم مِن الظلم والإساءة ، والاعتداء على حقوق الآخَرين ، وبين مصلحٍ اجتماعيٍّ يضع تخطيطاً لنوع العلاقات ، التي يجب أن تقام بين الناس ، ويحدّد الحقوق والواجبات .

وجوابنا على هذا كلّه : أنّ واقع الإسلام ، وواقع الاقتصاد الإسلامي لا يتّفق إطلاقاً مع هذا التفسير ، الذي ينزل بالاقتصاد الإسلامي عن مستوى مذهبٍ إلى مستوى نصائح وأوامر أخلاقية .

صحيح أنّ الاتّجاه الأخلاقي واضح ، في كلّ التعاليم الإسلامية .

وصحيح أنّ الإسلام يحتوي على مجموعةٍ ضخمةٍ مِن التعاليم والأوامر الأخلاقية ، في كلّ مجالات الحياة والسلوك البشـري ، وفي المجال الاقتصادي خاصّة .

وصحيح أنّ الإسلام حشّد أروع الأساليب ؛ لتنشئة الفرد المسلم على القيَم الخُلُقية ، وتنمية طاقاته الخيِّرة ، وتحقيق المثل الكامل فيه .

ولكن هذا لا يعني : أنّ الإسلام اقتصر على تربية الفرد خُلُقياً ، وترك تنظيم المجتمع ولا أنّ الإسلام كان واعظاً للفرد فحسب ، ولم يكن إلى جانب ذلك مذهباً ونظاماً للمجتمع في مختلف مجالات حياته ، بما فيها حياته الاقتصادية .

إنّ الإسلام لمْ ينهَ عن الظلم ، ولمْ ينصح الناس بالعدْل ، ولم يحذّرهم مِن التجاوز على حقوق الآخَرين ، بدون أن يحدّد مفاهيم الظلم والعدْل مِن وجْهة نظره ، ويحدّد تلك الحقوق التي نهى عن تجاوزها .

١٢٧

إنّ الإسلام لمْ يترك تلك المفاهيم - مفاهيم العدل والظلم والحقّ - غائمةً غامضةً ، ولمْ يدَع تفسيرها لغيره ، كما يصنع الوعّاظ الأخلاقيون ، بل إنّه جاء بصورةٍ محدّدةٍ للعدالة ، وقواعد عامّة للتعايش بين الناس في مجالات إنتاج الثروة وتوزيعها وتداولها ، واعتبر كلّ شذوذ وانحراف عن هذه القواعد ، وتلك الصورة التي حدّدها للعدالة ظلماً وتجاوزاً على حقوق الآخَرين .

وهذا هو الفارق بين موقف الواعظ ، وموقف المذهب الاقتصادي فإنّ الواعظ ينصح بالعدل ، ويحذّر مِن الظلم ، ولكنّه لا يضع مقاييس العدل والظلم ، وإنّما يدَع هذه المقاييس إلى العُرف العامّ المتّبع لدى الواعظ وسامعيه وأمّا المذهب الاقتصادي ، فهو يحاول أن يضع هذه المقاييس ، ويجسّدها في نظامٍ اقتصاديٍّ مخطّط ، ينظّم مختلف الحقول الاقتصادية .

فلو أنّ الإسلام جاء ليقول للناس : اتركوا الظلم ، وطبّقوا العدْل ، ولا تعتدوا على الآخَرين وترَك للناس أن يحدّدوا معنى الظلم ، ويضعوا الصورة التي تُجسّد العدْل ، ويتّفقوا على نوع الحقوق التي يتطلّبها العدل ، وفْقاً لظروفهم وثقافتهم وما يؤمنون به مِن قيَم ، وما يدركونه مِن مصالح وحاجات .

لو أنّ الإسلام ترَك كلّ هذا للناس ، واقتصر على الأمْر بالعدْل والترغيب فيه ، والنهي عن الظلم والتحذير منه ، بالأساليب التي يملكها الدِين للإغراء والتخويف ، لكان واعظاً فحسب .

ولكن الإسلام حين قال للناس ، اتركوا الظلم ، وطبّقوا العدل ، قدّم لهم في نفْس الوقت مفاهيمه عن العدل والظلم ، ومَيّز بنفْسه الطريقة العادلة ، في التوزيع والتداول والإنتاج عن الطريقة الظالمة فذكَر - مثلاً - أنّ تملّك الأرض بالقوّة ، وبدون إحياء ، ظلمٌ وأنّ الاختصاص بها على أساس العمل والإحياء ، حقٌّ وأنّ حصول رأس المال على نصيبٍ مِن الثروة المنتجة باسم فائدةٍ ، ظلمٌ وحصوله على ربحٍ ، عدلٌ إلى كثيرٍ مِن ألوان العلاقات والسلوك ، التي ميّز فيها الإسلام بين الظلم والعدل .

١٢٨

وأمّا حثّ الإسلام للأغنياء على مساعدة إخوانهم وجيرانهم مِن الفقراء ، فهو صحيح ، ولكنّ الإسلام لمْ يكتفِ بهذا الحثّ وهذه التربية الخُلُقية للأغنياء ، بل فرَض على الدولة ضمان المعوزين ، وتوفير الحياة الكريمة لهم ، فرضاً يدخل في صُلب النظام ، الذي ينظّم العلاقات بين الراعي والرعية .

ففي الحديث عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام أنّه ذكَر ، وهو يحدّد مسؤولية الوالي في أموال الزكاة: أنّ الوالي يأخذ المال ، فيوجّهه الوجْه الذي وجّه الله على ثمانية أسهم : للفقراء والمساكين... يقسّمها بينهم بقدَر ما يستغنون في سنَتِهم ، بلا ضيقٍ ولا تقيّة فإن فضُل مِن ذلك شيء رُدّ إلى الوالي ، وإن نقُصَ مِن ذلك شيء ، ولمْ يكتفوا به ، كان على الوالي أن يموّنهم مِن عنده بقدَر سعَتِهم ، حتّى يستغنوا .

وواضحٌ في هذا النصّ ، أنّ فكرة الضمان وضرورة توفير الحياة الكريمة للجميع ، ليست هنا فكرةً وعْظيّة ، وإنّما هي مِن مسؤوليات الوالي في الإسلام وبذلك ، تدخل في صُلب تنظيم المجتمع ، وتعبّر عن جانبٍ مِن جوانب التصميم الإسلامي للحياة الاقتصادية .

إنّ هناك فرْقاً كبيراً بين النصّ المأثور القائل: ما آمَن بالله واليوم الآخِر مَن بات شبعاناً وجاره جائع . وهذا النصّ الذي يقول: كان على الوالي أن يموّنهم مِن عنده ، بقدَر سِعَتهم حتّى يستغنوا فالأوّل ذو طابعٍ وعظيٍّ ، وهو يُبرز الجانب الأخلاقي مِن التعاليم الإسلامية وأمّا الثاني ، فطابعه تنظيميّ ، ويعكس لأجل ذلك جانباً مِن النظام الإسلامي ، ولا يمكن أن يفسّر ، إلاّ بوَصفه جزءاً مِن منهجٍ إسلاميٍّ عامٍّ للمجتمع .

والزكاة هي عبادة مِن أهمّ العبادات ، إلى صفّ الصلاة والصيام ، لا شكّ في ذلك ولكن إطارها العبادي لا يكفي للبرهنة على أنّها ليست ذات مضمونٍ اقتصاديٍّ ، وأنّها لا تعبّر عن وجود تنظيمٍ اجتماعيٍّ للحياة الاقتصادية في الإسلام .

١٢٩

إنّ ربْط الزكاة بوليّ الأمر ، واعتبارها أداةً يستعين بها على تحقيق الضمان الاجتماعي ، في المجتمع الإسلامي - كما رأينا في النصّ السابق - هو وحده يكفي لتمييز الزكاة عن سائر العبادات الشخصية ، والتدليل على أنّها ليست مجرّد عبادةٍ فردية ، وتمرينٍ خُلُقيٍّ للغنيِّ على الإحسان إلى الفقير ، وإنّما هي على مستوى تنظيمٍ اجتماعيٍّ لحياة الناس .

أضف إلى ذلك ، أنّ نفْس التصميم التشريعي لفريضة الزكاة ، يعبّر عن وجْهةٍ مذهبيةٍ عامّةٍ للإسلام فإنّ نصوص الزكاة دلّت على أنّها تُعطى للمعوزين ، حتّى يلتحقوا بالمستوى العامّ للمعيشة وهذا يدلّ على أنّ الزكاة جزءٌ مِن مخطّطٍ إسلاميٍّ عامٍّ ؛ لإيجاد التوازن ، وتحقيق مستوىً عامٍّ موحّدٍ مِن المعيشة في المجتمع الإسلامي ومِن الواضح أنّ التخطيط المتوازن ليس وعظاً ، وإنّما هو فكر تنظيميّ على مستوى مذهبٍ اقتصادي .

ماذا ينقص الاقتصاد الإسلامي عن غيره ؟

وأنا لا أدري لماذا يسخوا المنكِرون للاقتصاد الإسلامي بلقب المذهب الاقتصادي ، على الرأسمالية والاشتراكية ، ثمّ لا يمنحون هذا اللقب للاقتصاد الإسلامي ، بل يجعلونه مجموعةً مِن التعاليم الأخلاقية .

فمِن حقّنا أن نتساءل : بمَ استحقّت الرأسمالية أو الاشتراكية أن تكون مذهباً اقتصادياً ، دون الاقتصاد الإسلامي ؟ .

إنّنا نلاحظ أنّ الإسلام ، عالَج نفْس الموضوعات التي عالجتها الرأسمالية - مثلاً - وعلى نفْس المستوى ، وأعطى فيها أحكاماً مِن وجْهة نظره الخاصّة ، تختلف عن وجْهة النظر الرأسمالية ، فلا مبرّر للتفرقة بينهما ، أو للقول : بأنّ الرأسمالية مذهبٌ ، وليس في الإسلام إلاّ المواعظ والأخلاق .

ولنوضّح ذلك في مثالين ؛ لنبرهن على أنّ الإسلام أعطى آراءه على نفْس المستوى الذي عالجته المذاهب الاقتصادية .

١٣٠

والمثال الأوّل : يتعلّق بالمِلكية ، وهي المحور الرئيسي للاختلاف بين المذاهب الاقتصادية فإنّ الرأسمالية ترى أنّ الملكية الخاصّة هي المبدأ ، وليست الملكية العامّة إلاّ استثناء ، بمعنى أنّ كلّ نوعٍ مِن أنواع الثروة ، ومرافق الطبيعة يسمح بتملّكه مِلكيةً خاصّةً ، ما لمْ تحتّم ضرورة معيّنة تأميمه وإخراجه عن حقل الملكية الخاصّة .

والماركسية ترى أنّ الملكية العامّة هي الأصل والمبدأ ، ولا يسمح بالملكية الخاصّة لأيّ نوعٍ مِن أنواع الثروة الطبيعية ، والمصادر المنتجة ، ما لمْ توجد ضرورة معيّنة تفرض ذلك ، فيسمح بالملكية الخاصّة عندئذٍ في حدود تلك الضرورة ، وما دامت قائمة .

والإسلام يختلف عن كلٍّ مِن المذهبين ، في طريقة علاجه للموضوع ، فهو ينادي بمبدأ الملكية المزدوجة ، أي ذات الأشكال المتنوّعة ويرى أنّ الملكية العامّة والملكية الخاصّة ، شكلان أصيلان للملكية في مستوىً واحد ، ولكلٍّ مِن الشكلين حقْله الخاصّ .

أفليس هذا الموقف الإسلامي يعبّر عن وجْهة نظَرٍ إسلاميةٍ ، على مستوى المدلول المذهبي للموقف الرأسمالي والموقف الاشتراكي ؟ فلماذا يكون مبدأ الملكية الخاصّة ركناً مِن أركان المذهب الرأسمالي ، ويكون مبدأ الملكية العامّة ركناً في المذهب الاشتراكي الماركسي ، ولا يكون مبدأ المِلكية المزدوجة - أي ذات الشكل العامّ والخاصّ - ركناً في مذهبٍ اقتصاديٍّ إسلامي ؟ .

والمثال الثاني : يتعلّق بالكسْب القائم على أساس مِلكية مصادر الإنتاج ، فإنّ الرأسمالية تُجيز هذا الكسْب بمختلف ألوانه ، فكلّ مَن يملك مصدراً مِن مصادر الإنتاج له أن يؤجره ويحصل على كسْب ، عن طريق الأجور التي يتقاضاها بدون عمل والاشتراكية الماركسية ، تحرّم كلّ لونٍ مِن ألوان الكسْب القائم على أساس ملكية مصادر الإنتاج ؛ لأنّه كسْبٌ بدون عمل .

١٣١

فالأجرة التي يتقاضاها صاحب الطاحونة ، ممّن يستأجر طاحونته ، والأجرة التي يتقاضاها الرأسمالي باسم فائدةٍ ممّن يقترض منه ، غير مشروعة في الاشتراكية الماركسية ، بينما هي مشروعة في الرأسمالية .

والإسلام يعالج نفْس الموضوع مِن وجْهة نظَرٍ ثالثةٍ ، فيميّز بين بعض ألوان الكسْب القائم على أساس ملكية مصادر الإنتاج ، وبعضها الآخر فيحرّم الفائدة - مثلاً - ويسمح بأجرة الطاحونة .

فالرأسمالية - إذن - تسمح بالفائدة ، وبأجرة الطاحونة معاً ؛ تجاوباً مع مبدأ الحرّية الاقتصادية .

والاشتراكية الماركسية لا تسمح للرأسمالي بأخْذ الفائدة على القرْض ، ولا لصاحب الطاحونة بالحصول على أجور ؛ لأنّ العمل هو المبرّر الوحيد للكسْب ، والرأسمالي حين يُقرض مالاً ، وصاحب الطاحونة حين يؤجر طاحونته لا يعمل شيئاً .

والإسلام لا يأذن للرأسمالي بتقاضي الفائدة ، ويسمح لصاحب الطاحونة بالاكتساب عن إيجارها ؛ وفقاً لنظريته العامّة في التوزيع ، التي سوف نشرحها في الأعداد المقبلة ، بإذن الله تعالى .

مواقف ثلاثة مختلفة ؛ تبَعاً لاختلاف وجْهات النظر العامّة في التوزيع .

فلماذا يوصَف الموقف الرأسمالي والماركسي بالطابع المذهبي ، ولا يقال ذلك عن الموقف الإسلامي ؟! مع أنّه يعبّر عن وجْهة نظر مذهبٍ اقتصاديٍّ ثالثٍ ، يختلف عن كلٍّ مِن المذهبَين .

١٣٢

الفهرست

كلمة المؤلّف.. ٣

مشكلة الإنسانيّة اليوم : ٧

الإنسانيّة ومعالجتها للمشكلة ٩

رأي الماركسيّة ١٠

رأي المفكّرين غير الماركسيّين : ١٤

الفَرق بين التجربة الطبيعيّة والاجتماعيّة : ١٥

أهمّ المذاهب الاجتماعية : ٢٤

الحرّيات الأربع في النظام الرأسماليّ : ٢٧

ويُستخلَص مِن هذا العَرض : ٣٠

الاتّجاه المادّي في الرأسماليّة ٣١

موضع الأخلاق مِن الرأسماليّة ٣٤

مآسي النظام الرأسماليّ : ٣٥

النظريّة الماركسيّة : ٤١

الانحراف عن العمليّة الشيوعيّة : ٤٤

المؤاخذات على الشيوعيّة : ٤٧

التعليل الصحيح للمشكلة : ٥٢

كيف تعالَج المشكلة ؟ ٥٦

رسالة الدِين. ٦٢

فالدولة الإسلاميّة لها وظيفتان : ٦٨

الحرّية في الرأسماليّة والإسلام : ٧٠

الحرّية في الحضارة الرأسماليّة : ٧٢

[موقف الإسلام مِن الحرّية :] ٧٦

[أقسام الحرّية :] ٧٨

١٣٣

الحرّية في المجال الشخصيّ : ٧٩

الحرّية في المجال الاجتماعيّ. ٨٤

[ المدلول الغربيّ للحرّيّة السياسيّة : ] ٨٦

[ الحرّيّة الاقتصاديّة بمفهومها الرأسماليّ : ] ٨٨

الضمان في الإسلام والماركسية ٩١

ماذا تعرف عن الاقتصاد الإسلامي ؟ ٩٤

[ مقدّمة ] ٩٤

توضيح السؤال : ٩٥

حاجتنا إلى هذا السؤال : ٩٥

الخطأ في فَهْم السؤال : ٩٥

تصحيح الخطأ بالتمييز بين المذهب والعِلم : ٩٥

مثال على الفرْق بين المذهب والعِلم : ٩٦

التأكيد على أنّ الاقتصاد الإسلامي مذهب : ٩٦

وجْهة النظَر في الجواب : ٩٦

هَل يُوجَد في الإسلام اقتِصَاد ٩٧

مَا هُوَ نوع الاقتصاد الإسلامي ؟ ١٠٠

المذهب الاقتصادي وعِلم الاقتصاد : ١٠١

استخلاص مِن الأمثلة السابقة : ١٠٩

عِلم الاقتصاد والمذهب كالتاريخ والأخلاق : ١٠٩

عِلم الاقتصاد والمذهب كالتاريخ والأخلاق : ١١٠

عِلم الاقتصاد كسائر العلوم : ١١٢

الفارق في المهمّة لا الموضوع : ١١٣

المذهب قد يكون إطاراً للعِلم : ١١٤

النتائج المستخلَصة : ١١٥

١٣٤

المذهب لا يستعمل الوسائل العلمية : ١١٦

الاقتصاد الإسلامي كما نؤمِن به ١١٩

ما هي أكبر العقَبات : ١٢٠

شمول الشريعة واستيعابها : ١٢١

التطبيق دليلٌ آخَر : ١٢٤

المذهب يحتاج إلى صياغة : ١٢٥

أخلاقية الاقتصاد الإسلامي : ١٢٦

ماذا ينقص الاقتصاد الإسلامي عن غيره ؟ ١٣٠

١٣٥