الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية0%

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 135

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 135
المشاهدات: 55575
تحميل: 6024

توضيحات:

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 135 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55575 / تحميل: 6024
الحجم الحجم الحجم
الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقد أَوْجد الإسلام بتلك القاعدة الفِكريّة النظرة الصحيحة للإنسان إلى حياته ، فجعَله يؤمِن : بأنّ حياته منبثقة عن مبدأ مطلَق الكمال ، وأنّها إعدادٌ للإنسان إلى عالَم لا عناء فيه ولا شقاء ، ونصَب له مقياساً خُلُقيّاً جديداً في كلّ خطواته وأدواره ، وهو : رضا الله تعالى .

فليس كلّ ما تفرضه المصلحة الشخصيّة ، فهو جائز ، وكلّ ما يؤدّي إلى خسارة شخصيّة ، فهو محرّم غير مُستساغ ، بل الهدف الذي رسَمَه الإسلام للإنسان في حياته هو الرضا الإلهيّ ، والمقياس الخُلُقيّ الذي تُوزَن به جميع الأعمال ، إنّما هو مقدار ما يحصل بها مِن هذا الهدف المقدّس .

والإنسان المستقيم : هو الإنسان الذي يحقّق هذا الهدف والشخصيّة الإسلاميّة الكاملة : هي الشخصيّة التي سارت في شتّى أشواطها على هدى هذا الهدف ، وضوء هذا المقياس ، وضمن إطاره العام .

وليس هذا التحويل في مفاهيم الإنسان الخُلُقيّة ، وموازينه وأغراضه يعني تغيير الطبيعة الإنسانيّة ، وإنشاءها إنشاءً جديداً ، كما كانت تعني الفكرة الشيوعيّة .

فحبّ الذات - أي حبّ الإنسان لذاته ، وتحقيق مشتهياتها الخاصّة - طبيعيّ في الإنسان ، ولا نعرف استقراءً في ميدانٍ تجريبيٍّ ، أوضح مِن استقراء الإنسانيّة في تاريخها الطويل ، الذي يبرهن على ذاتيّة حبّ الذات ، بل لو لمْ يكن حبّ الذات طبيعيّاً وذاتيّاً للإنسان ؛ لَما اندفع الإنسان الأوّل قبل كلّ تكوينةٍ اجتماعيّةٍ إلى تحقيق حاجاته ، ودفْع الأخطار عن ذاته ، والسعي وراء مشتهياته بالأساليب البدائية ، التي حفظ بها حياته وأبقى وجـوده ، وبالتالي خَوض الحياة الاجتماعيّة والاندماج في علاقات مع الآخَرين ؛ تحقيقاً لتلك الحاجات ، ودفعاً لتلك الأخطار .

ولمّا كان حبّ الذات يحتلّ هذا الموضع مِن طبيعة الإنسان ، فأيّ علاجٍ حاسمٍ للمشكلة الإنسانيّة الكبرى يجب أنْ يقوم على أساس الإيمان بهذه الحقيقة وإذا قام على فِكرةِ تطويرها أو التغلّب عليها ، فهو علاجٌ مثاليٌّ لا ميدان له في واقع الحياة العمليّة ، التي يعيشها الإنسان .

٦١

رسالة الدِين

ويقوم الدين هنا برسالته الكبرى ، التي لا يمكن أنْ يضطلع بأعبائها غيره ، ولا أنْ تحقّق أهدافها البنّاءة ، وأغراضها الرشيدة إلاّ على أُسُسه وقواعده ، فيربط بين المقياس الخُلُقيّ الذي يضعه للإنسان ، وحبّ الذات المرتكزة في فطرته .

وفي تعبيرٍ آخَر : أنّ الدِين يوحِّد بين المقياس الفطريّ للعمل والحياة - وهو حبّ الذات - والمقياس الذي ينبغي أنْ يقام للعمل والحياة ؛ ليضمن السعادة والرفاه والعدالة. إنّ المقياس الفطريّ يتطلّب مِن الإنسان : أنْ يقدّم مصالحه الذاتيّة على مصالح المجتمع ، ومقوّمات التماسك فيه والمقياس الذي ينبغي أنْ يحكم ويسود : هو المقياس الذي تتعادل في حسابه المصالح كلّها ، وتتوازن في مفاهيمـه القِيَم الفرديّة والاجتماعيّة .

فكيف يتمّ التوفيق بين المقياسَين وتوحيد الميزانَين ؛ لتعود الطبيعة الإنسانيّة في الفرد عاملاً مِن عوامل الخير والسعادة للمجموع ، بعد أنْ كانت مَثار المأساة والنزعة ، التي تتفنّن في الأنانيّة وأشكالها ؟ .

إنّ التوفيق والتوحيد يحصل بعمليّةٍ يضمنها الدِين للبشَريّة التائهة ، وتتّخذ العمليّة أسلوبَين :

الأسلوب الأوّل : هو تركيز التفسير الواقعيّ للحياة ، وإشاعة فَهْمها في لَونها الصحيح ، كمقدّمةٍ تمهيديّةٍ إلى حياةٍ أُخرويّة ، يكسب الإنسان فيها مِن السعادة على مقدار ما يسعى في حياته المحدودة هذه ، في سبيل تحصيل رضا الله .

فالمقياس الخُلُقيّ - أو رضا الله تعالى - : يضمن المصلحة الشخصيّة ، في نفس الوقت الذي يحقّق فيه أهدافه الاجتماعيّة الكبرى فالدِين يأخذ بيد الإنسان إلى المشاركة في إقامة المجتمع السعيد ، والمحافظة على قضايا العدالة فيه ، التي تحقّق رضا الله تعالى ؛ لأنّ ذلك يدخل في حساب رِبحه الشخصيّ ، ما دام كلّ عمَلٍ ونشاطٍ في هذا الميدان يعوّض عنه بأعظم العِوَض وأجلّه .

٦٢

فمسألة المجتمع هي مسألة الفرد أيضاً ، في مفاهيم الدِين عن الحياة وتفسيرها ، ولا يمكن أنْ يحصل هذا الأسلوب مِن التوفيق في ظِلّ فَهْمٍ مادّيٍّ للحياة ، فإنّ الفَهم المادّي للحياة يجعل الإنسان - بطبيعته - لا ينظر إلاّ إلى ميدانه الحاضر وحياته المحدودة ، على عكس التفسير الواقعيّ للحياة الذي يُقدّمه الإسلام ، فإنّه يوَسّع مِن ميدان الإنسان ، ويفرض عليه نظرةً أعمق إلى مصالحه ومنافعه ، ويجعل مِن الخسارة العاجلة رِبحاً حقيقيّاً في هذه النظرة العميقة ، ومِن الأرباح العاجلة خسارةً حقيقيّةً في نهاية المطاف :

( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ) (١) .

( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (٢) .

( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) (٣) .

( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٤) .

_________________

(١) فصِّلت : ٤٦ ، والجاثية : ١٥

(٢) غافر : ٤٠ .

(٣) الزلزلة : ٦ - ٨

(٤) التوبة : ١٢٠ - ١٢١

٦٣

هذه بعض الصوَر الرائعة التي يقدّمها الدِين مثالاً على الأسلوب الأوّل ، الذي يتّبعه للتوفيق بين المقياسَين ، وتوحيد الميزانَين ، فيربط بين الدوافع الذاتيّة وسُبُل الخير في الحياة ، ويطوّر مِن مصلحة الفرد تطويراً ، يجعله يؤمن : بأنّ مصالحه الخاصّة والمصالح الحقيقيّة العامّة للإنسانيّة - التي يحدّدها الإسلام - مترابطتان(١) .

وأمّا الأسلوب الثاني : الذي يتّخذه الدِين ، للتوفيق بين الدافع الذاتيّ ، والقِيَم أو المصالح الاجتماعيّة : فهو التعهّد بتربيةٍ أخلاقيّةٍ خاصّة ، تعني بتغذية الإنسان روحيّاً ، وتنمية العواطف الإنسانيّة والمشاعر الخُلُقيّة فيه ، فإنّ في طبيعة الإنسان - كما ألمعنا سابقاً - طاقات واستعدادات لميول متنوّعة ، بعضها ميول مادّية تتفتّح شهَواتها بصورة طبيعيّة ، كشهَوات الطعام والشراب والجنس ، وبعضها ميول معنويّة تتفتّح وتنمو بالتربية والتعاهد ؛ ولأجل ذلك كان مِن الطبيعي للإنسان - إذا تُرك لنفْسه - أنْ تسيطر عليه الميول المادّية ؛ لأنّها تتفتّح بصورة طبيعيّة ، وتظلّ الميول المعنويّة واستعداداتها الكامنة في النفْس مستترة .

والدِين باعتباره يؤمن بقيادةٍ معصومةٍ مسدّدة مِن الله ، فهو يوكِل أمْرَ تربية الإنسانيّة ، وتنمية الميول المعنويّة فيها إلى هذه القيادة وفروعها ، فتنشأ بسبب ذلك مجموعة مِن العواطف والمشاعر النبيلة ، ويصبح الإنسان يحبّ القِيَم الخُلُقيّة والمُثُل التي يُربّيه الدِين على احترامها ويستبسل في سبيلها ، ويُزيح عن طريقها ما يقف أمامها مِن مصالحه ومنافعه .

_________________

(١) انظر اقتصادنا ص ٣٠٧ .

٦٤

وليس معنى ذلك أنّ حبّ الذات يُمحى مِن الطبيعة الإنسانيّة ، بل إنّ العمل في سبيل تلك القِيَم والمُثُل تنفيذٌ كاملٌ لإرادة حبّ الذات ، فإنّ القِيَم بسبب التربية الدينيّة تصبح محبوبةً للإنسان ، ويكون تحقيق المحبوب بنفسه معبّراً عن لذّةٍ شخصيّةٍ خاصّة ، فتفرض طبيعة حبّ الذات بذاتها السعي لأجل القِيَم الخُلُقيّة المحبوبة ، تحقيقاً للّذّةِ الخاصّة بذلك .

فهذان هما الطريقان اللذان ينتج عنهما ربْط المسألة الخُلُقيّة بالمسألة الفرديّة ، ويتلخّص أحدهما في : إعطاء التفسير الواقعيّ لحياةٍ أبديّةٍ ، لا لأجل أنْ يزهد الإنسان في هذه الحياة ، ولا لأجل أنْ يخنع للظُلم ويقرّ على غير العدل ، بل لأجل ضبط الإنسان بالمقياس الخُلُقيّ الصحيح ، الذي يمدّه ذلك التفسير بالضمان الكافيّ .

ويتلخّص الآخر في : التربية الخُلُقيّة التي ينشأ عنها في نفْس الإنسان مختلف المشاعر والعواطف ، التي تضمن إجراء المقياس الخُلُقيّ بوحيٍ مِن الذات .

فالفَهْم المعنويّ للحياة والتربية الخُلُقيّة للنفْس في رسالة الإسلام ، هما السببان المجتمعان على معالجة السبب الأعمق للمأساة الإنسانيّة .

ولنعبّر دائماً عن فَهْم الحياة على أنّها تمهيد لحياةٍ أبديّةٍ : بالفَهْم المعنويّ للحياة ، ولنعبّر أيضاً عن المشاعر والأحاسيس ، التي تُغذّيها التربية الخُلُقيّة : بالإحساس الخُلُقيّ بالحياة .

فالفَهم المعنويّ للحياة والإحساس الخُلُقيّ بها ، هما الركيزتان اللتان يقوم على أساسهما المقياس الخُلُقيّ الجديد ، الذي يضعه الإسلام للإنسانيّة وهو : رضا الله تعالى ورضا الله - هذا الذي يقيمه الإسلام مقياساً عامّاً في الحياة - هو الذي يقود السفينة البشَريّة إلى ساحل الحقّ والخير والعدالة .

٦٥

فالمِيزة الأساسيّة للنظام الإسلاميّ تتمثّل : فيما يرتكز عليه مِن فَهْمٍ معنويٍّ للحياة ، وإحساسٍ خُلُقيٍّ بها ، والخطّ العريض في هذا النظام هو : اعتبار الفرد والمجتمع معاً ، وتأمين الحياة الفرديّة والاجتماعيّة بشكلٍ متوازن فليس الفرد هو القاعدة المركزيّة في التشريع والحُكم ، وليس الكائن الاجتماعيّ الكبير هو الشيء الوحيد الذي تنظر إليه الدولة ، وتُشرِّع لحسابه .

وكلّ نظامٍ اجتماعيٍّ لا ينبثق عن ذلك الفَهْم والإحساس ، فهو :

إمّا نظامٌ يجري مع الفرد في نزعته الذاتيّة ، فتتعرّض الحياة الاجتماعيّة لأقسى المضاعفات وأشدّ الأخطار .

وإمّا نظامٌ يحبس في الفرد نزعته ، ويشلّ فيه طبيعته لوقاية المجتمع ومصالحه فينشأ الكفاح المرير الدائم بين النظام وتشريعاته والأفراد ونزعاتهم ، بل يتعرّض الوجود الاجتماعيّ للنظام دائماً للانتكاس على يد مُنشئيه ، ما دام هؤلاء يحملون نزعات فرديّة أيضاً ، وما دامت هذه النزعات تجد لها - بكَبْت النزعات الفرديّة الأخرى ، وتسلّم القيادة الحاسمة - مجالاً واسعاً ، وميداناً لا نظير له للانطلاق والاستغلال .

وكلّ فَهْمٍ معنويٍّ للحياة وإحساسٍ خُلُقيٍّ بها لا ينبثق عنهما نظام كامل للحياة ، يُحسَب فيه لكلِّ جزءٍ مِن المجتمع حسابه ، وتُعطى لكلّ فردٍ حرّيّته التي هذّبها ذلك الفَهْم والإحساس ، والتي تقوم الدولة بتحديدها في ظروف الشذوذ عنهما .

أقول : إنّ كلّ عقيدةٍ لا تلِد للإنسانيّة هذا النظام ، فهي لا تخرج عن كَونها تلطيفاً للجوّ وتخفيفاً مِن الوَيلات ، وليست علاجاً محدوداً وقضاءً حاسماً على أمراض المجتمع ومساوِئه ، وإنّما يُشاد البناء الاجتماعيّ المتماسك على فَهْمٍ معنويٍّ للحياة ، وإحساسٍ خُلُقيٍّ بها ، ينبثق عنهما نظام يملأ الحياة بروحِ هذا الإحساس ، وجوهر ذلك الفَهْم .

٦٦

وهذا هو الإسلام في أخصر عبارةٍ وأروَعها : فهو عقيدةٌ معنويّةٌ وخُلُقيّةٌ ، ينبثق عنها نظام كامل للإنسانيّة ، يرسم لها شوطها الواضح المحدّد ، ويضع لها هدفاً أعلى في ذلك الشوط ، ويعرِّفها على مكاسبها منه .

وأمّا أنْ يقضي على الفَهْم المعنويّ للحياة ، ويُجرّد الإنسان عن إحساسه الخُلُقيّ بها ، وتعتبر المفاهيم الخُلُقيّة أوهاماً خالصة خلقَتها المصالح المادّية ، والعامل الاقتصاديّ هو الخلاّق لكلِّ القِيَم والمعنويات ، وتُرجى بعد ذلك سعادة للإنسانيّة ، واستقرار اجتماعيّ لها ، فهذا الرجاء الذي لا يتحقّق إلاّ إذا تبدّل البشَر إلى أجهزةٍ ميكانيكيّةٍ ، يقوم على تنظيمها عدّة مِن المهندسين الفنيّين .

وليست إقامة الإنسان على قاعدة ذلك الفَهْم المعنويّ للحياة ، والإحساس الخُلُقيّ بها عملاً شاقّاً وعسيراً ، فإنّ الأديان في تاريخ البشَريّة قد قامت بأداء رسالتها الكبيرة في هذا المضمار ، وليس لجميع ما يحفل به العالَم اليوم مِن مفاهيم معنويّةٍ ، وأحاسيس خُلُقيّةٍ ، ومشاعر وعواطف نبيلة.. تعليل أَوضح وأكثر منطقيّة مِن تعليل ركائزها ، وأُسُسها بالجهود الجبّارة ، التي قامت بها الأديان ؛ لتهذيب الإنسانيّة والدافع الطبيعي في الإنسان ، وما ينبغي له مِن حياة وعمل .

وقد حمل الإسلام المشعل المتفجّر بالنور ، بعد أنْ بلَغ البشَر درجةً خاصّةً مِن الوعي ، فبشَّر بالقاعدة المعنويّة والخُلُقيّة على أوسع نطاقٍ وأبعد مدى ، ورفع على أساسها رايةً إنسانيّةً ، وأقام دولةً فِكريّةً ، أخذت بزِمام العالَم رُبع قرْن ، واستهدفت إلى توحيد البشَر كلّه ، وجمْعه على قاعدةٍ فكريّةٍ واحدةٍ ترسم أسلوب الحياة ونظامها .

٦٧

فالدولة الإسلاميّة لها وظيفتان :

إحداهما : تربية الإنسان على القاعدة الفكريّة ، وطَبْعه في اتّجاهه وأحاسيسه بطابعها .

والأخرى : مراقبته مِن خارج وإرجاعه إلى القاعدة الفكريّة ، إذا انحرف عنها عمليّاً .

ولذلك فليس الوعي السياسيّ للإسلام وعْياً للناحية الشكليّةمِن الحياة الاجتماعيّة فحسب ، بل هو وعيٌ سياسيٌّ عميق مردّه إلى نظرةٍ كلّيةٍ كاملةٍ نحو : الحياة ، والكون ، والاجتماع ، والسياسة ، والاقتصاد ، والأخلاق ، فهذه النظرة الشاملة هي الوعي الإسلاميّ الكامل .

وكلّ وعيٍ سياسيٍّ آخَر ، فهو : إمّا أنْ يكون وعياً سياسيّاً سطحيّاً ، لا ينظر إلى العالَم إلاّ مِن زاويةٍ معيّنة ، ولا يُقيم مفاهيمه على نقطة ارتكازٍ خاصّة أو يكون وعياً سياسيّاً يدرس العالَم مِن زاوية المادّة البحتة ، التي تموّن البشَريّة بالصراع والشقاء ، في مختلف أشكاله وألوانه .

٦٨

مَوقفُ الإسلام مِنَ الحُرّية وَالضمان

* الحرّية في الرأسماليّة والإسلام .

* الضمان في الإسلام والماركسيّة .

٦٩

الحرّية في الرأسماليّة والإسلام :

عرفنا - فيما سبق - أنّ الحرّية هي النقطة المركزيّة في التفكير الرأسماليّ ، كما أنّ فِكرة الضمان هي المحور الرئيس في النظام الاشتراكيّ والشيوعيّ .

ولأجْل ذلك سندرس - بصورةٍ مقارنة - موقف الإسلام والرأسماليّة مِن الحرّية ، ونقارن بعد ذلك بين الضمان في الإسلام والضمان في المذهب الماركسيّ .

ونحن حين نُطلِق كلمة ( الحرّية ) ، نقصد بها معناها العامّ وهو : نفي سيطرة الغير ، فإنّ هذا المفهوم هو الذي نستطيع أنْ نجده في كلّ مِن الحضارتَين ، وإنْ اختلف إطاره وقاعدته الفكريّة في كلٍّ منهما(١) .

ومنذ نبدأ بالمقارنة بين الحرّية في الإسلام ، والحرّية في الديمقراطيّة الرأسماليّة.. تبدو لدينا بوضوح الفروق الجوهريّة بين الحرّية ، التي عاشها المجتمع الرأسماليّ ونادت بها الرأسماليّة ، وبين الحرّية التي حمَل لواءها الإسلام ، وكفلها للمجتمع الذي صنعه ، وقدّم فيه تجربته على مسرح التاريخ .

_________________

(١) ولأجْل ذلك ورَدت كلمة ( الحرّية ) بمفهومها العامّ في نصوصٍ إسلاميّةٍ أصيلة ، لا يمكن أنْ تتّهم بالتأثّر بمفاهيم الحضارة الغربيّة فقد جاء عن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام : ( لا تكنْ عبداً لغيرك وقد خلقك الله حرّاً ) وورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام أنّه قال : ( خمس خِصال مَن لمْ يكن فيه شيءٌ منها ، لمْ يكن فيه كثير مستمتَع : أُولاها الوفاء، والثانية التدبير ، والثالثة الحياء ، والرابعة حُسن الخُلُق ، والخامسة وهي تجمع هذه الخصال (الحرّية)) .

٧٠

فكلٌّ مِن الحرّيتَين تحمل طابع الحضارة التي تنتمي إليها ، وتلتقي مع مفاهيمها عن الكون والحياة ، وتعبّر عن الحالة العقليّة والنفسيّة ، التي خلَقتها تلك الحضارة في التاريخ .

فالحرّية في الحضارة الرأسماليّة : بدأت شكّاً مريراً طاغياً ، واستحال هذا الشكّ في امتداده الثوريّ إلى إيمانٍ مذهبيٍّ بالحرّيـة ، وعلى العكس مِن ذلك الحرّية في الحضارة الإسلاميّة : فإنّها تعبيرٌ عن يقينٍ مركزيٍّ ثابت ( الإيمان بالله ) ، تستمدّ منه الحرّية ثوريّتها ، وبقدر ارتكاز هذا اليقيـن ، وعُمق مدلوله في حياة الإنسان ، تتضاعف الطاقات الثوريّة في تلك الحرّية .

والحرّية الرأسماليّة ذات مدلولٍ ايجابيِّ ، فهي تعتبِر : أنّ كلّ إنسانٍ هو الذي يملك بحقّ نفْسه ، ويستطيع أنْ يتصرّف فيها كما يحلو له ، دون أنْ يخضع في ذلك لأيِّ سلطةٍ خارجيّة ؛ ولأجْل ذلك كانت جميع المؤسّسات الاجتماعيّة - ذات النفوذ في حياة الإنسان - تستمدّ حقّها المشروع في السيطرة على كلّ فردٍ مِن الأفراد أنفسهم .

وأمّا الحرّية في الإسلام ، فهي : تحتفظ بالجانب الثوريّ مِن الحرّية ، وتعمل لتحرير الإنسان مِن سيطرة الأصنام ، كلّ الأصنام التي رزحتْ الإنسانيّة في قيودها عِبر التاريخ ، ولكنّها تُقيم عمليّة التحرير الكبرى هذه على أساس الإيمان بالعبوديّة المخلصة لله وحده .

فعبوديّة الإنسان لله في الإسلام - بدلاً عن امتلاكه لنفسه في الرأسماليّة - هي الأداة التي يُحطِّم بها الإنسان كلّ سيطرةٍ ، وكلّ عبوديّةٍ أخرى ؛ لأنّ هذه العبوديّة في معناها الرفيع ، تُشعِره بأنّه يقف وسائر القوى الأخرى ، التي يعايشها على صعيدٍ واحد ، أمامَ ربٍّ واحدٍ ، فليس مِن حقّ أيّ قوّةٍ في الكَون أنْ تتصرّف في مصيره ، وتتحكّم في وجوده وحياته .

٧١

والحرّية في مفاهيم الحضارة الرأسماليّة حقٌّ طبيعيٌّ للإنسان ، وللإنسان أنْ يتنازل عن حقِّه متى شاء ، وليست كذلك في مفهومها الإسلاميّ ؛ لأنّ الحرّية في الإسلام ترتبط ارتباطاً أساسيّاً بالعبوديّة لله ، فلا يَسمح الإسلام للإنسان أنْ يستذلّ ويستكين ويتنازل عن حرّيته :( لا تكن عبداً لغيرك ، وقد خلقك الله حرّاً ) فالإنسان مسؤولٌ عن حرّيته في الإسلام ، وليست الحرّية حالة مِن حالات انعدام المسؤوليّة .

هذا هو الفَرْق بين الحرّيتَين في ملامحهما العامّة ، وسنبدأ الآن بشيءٍ مِن التوضيح:

الحرّية في الحضارة الرأسماليّة :

نشأت الحرّية في الحضارة الرأسماليّة تحت ظلال الشكّ الجارف المرير ، الذي سيطر على تيّارات التفكير الأوروبيّ كافّة ؛ نتيجةً للثورات الفكريّة التي تعاقبت في فجْر تاريخ أوروبا الحديثة ، وزلزلت دعائم العقليّة الغربيّة كلّها .

فقد بدأت أصنام التفكير الأوروبيّ تتهاوى الواحد تلْوِ الآخَر ؛ بسبب الفتوحات الثوريّة في دنيا العِلم ، التي طلعت على الإنسان الغربي بمفاهيم جديدةٍ عن الكَون والحياة ، ونظريّات تناقض كلّ المناقضة بديهيّاته بالأمس ، التي كانت تشكّل حجَر الزاوية في كيانه الفِكريّ ، وحياته العقليّة والدينيّة .

وأخذ الإنسان الغربي عِبر تلك الثورات الفِكريّة المتعاقبة ينظر إلى الكون بمنظارٍ جديد ، وإلى التراث الفِكريّ - الذي خلّفتْه له الإنسانيّة منذ فجْر التاريخ - نظرات شكٍّ وارتياب ؛ لأنّه بدأ يحسّ أنّ عالَم ( كوبرنيكوس ) ، الذي برهن على أنّ الأرض ليست إلاّ أحد توابع الشمس ، يختلف كلّ الاختلاف عن العالَم التقليدي الذي كان يحدّثنا عنه ( بطليموس ) ، وأنّ الطبيعة التي بدأت تكشف عن أسرارها لجاليليو وأمثاله مِن العلماء ، شيءٌ جديدٌ بالنسبة إلى الصورة التي ورِثها عن القدّيسين والمفكّرين السابقين أمثال القدّيس ( توماس الاكويني ) و ( دانتي ) وغيرهما وهكذا ألقى فجأةً وبيَدٍ مرعوبةٍ كلّ بديهيّاته بالأمس ، وأخَذ يحاول الخلاص مِن الإطار الذي عاش فيه آلاف السنين .

٧٢

ولم يقف الشكّ في مَوجه الثوريّ الصاعد عند حدٍّ ، بل اكتسح في ثورته كلَّ القِيَم والمفاهيم التي تواضعت عليها الإنسانيّة ، وكانت تعتمد عليها في ضبْط السلوك وتنظيم الصِلات .

فما دام الكَون الجديد يناقض المفهوم القديم عن العالَم ، وما دام الإنسان ينظر إلى واقعه ومحيطه مِن زاوية العِلم لا الأساطير ، فلا بدّ أنْ يُعاد النظر مِن جديد في المفهوم الدِينيّ ، الذي يحدّد صِلة الإنسان والكون بما وراء الغيب ، وبالتالي في كلّ الأهداف والمُثُل التي عاشها الإنسان ، قبل أنْ تتبلوَر نظرته الجديدة إلى نفْسه وكَونه .

وعلى هذا الأساس واجَه دِين الإنسان الغربي مِحنة الشكّ الحديث ، وهو لا يرتكز إلاّ على رصيدٍ عاطفيٍّ ، بدأ ينضُب ؛ بسببٍ مِن طُغيان الكنيسة وجبروتها ، فكان مِن الطبيعيّ أيضاً أنْ تذوب في أعقاب هذه الهزيمة كلّ القواعد الخُلُقيّة ، والقِيَم والمُثُل التي كانت تحدِّد مِن سلـوك الإنسـان ، وتخفِّف مِن غلوائه ؛ لأنّ الأخلاق مرتبطةٌ بالدِين في حياة الإنسانيّة كلّها ، فإذا فقدَت رصيدها الدينيّ الذي يمدّها بالقِيمة الحقيقيّة ، ويربطها بعالَم الغَيب وعالَم الجزاء ، أصبحت خواءً وضريبةً لا مبرّر لها .

والتاريخ يبرز هذه الحقيقة دائماً ، فقد كفَر السفسطائيّون الإغريق بالآلهة على أساسٍ مِن الشكّ السفسطيّ ، فرفضوا القيود الخُلُقيّة وتمرّدوا عليهـا ، وأعاد الإنسان الغربي القصّة مِن جديد ، حين التَهمَ الشكّ الحديث عقيدتَه الدينيّة ، فثار على كلّ مقرّرات السلوك والاعتبارات الخُلُقيّة ، وأصبحت هذه المقرّرات والسلوك مرتبطة في نظره بمرحلةٍ غابرةٍ مِن تاريخ الإنسانيّة .

وانطلق الإنسان الغربي كما يحلو له يتصرّف وِفقاً لهواه ، ويملأ رئتَيه بالهواء الطلْق ، الذي احتلّ الشكّ الحديث فيه موضع القِيَم والقواعد ، حين كانت تقيِّد الإنسان في سلوكه الداخليّ وتصرّفاته .

٧٣

ومِن هنا وُلِدت فِكرة الحرّية الفِكريّة والحرّية الشخصيّة ، فقد جاءت فِكرة الحرّية الفكريّة ؛ نتيجةً للشكّ الثوريّ والقلـق العقليّ ، الذي عصَف بكلّ المسلّمات الفكريّة ، فلمْ تعُد هناك حقائق عُليا لا يُباح إنكارها ، ما دام الشكّ يمتدّ إلى كلّ المجالات .

وجاءت فِكرة الحرّية الشخصيّة تعبيراً عن النتائج السلبيّة ، التي انتهى إليها الشكّ الحديث في معركته الفكريّة مع الإيمان والأخلاق ، فقد كان طبيعيّاً للإنسان ، الذي انتصر على إيمانه وأخلاقه ، أنْ يؤمن بحرّيته الشخصيّة ، ويرفض أيّ قوّة تحدّد سلوكه وتملك إرادته .

بهذا التسلسل انتقل الإنسان الحديث مِن الشكّ ، إلى الحرّية الفكريّة ، وبالتالي إلى الحرّية الشخصيّة .

وهنا جاء دَور الحرّية الاقتصاديّة ؛ لتشكّل حلقةً جديدةً مِن هذا التسلسل الحضاري ، فإنّ الإنسان الحديث بعد أنْ آمَن بحرّيته الشخصيّة ، وبدأ يضع أهدافه وقِيَمه على هذا الأساس ، وبعد أنْ كفَر عمليّاً بالنظرة الدينيّة إلى الحياة والكون ، وصِلتها الروحيّة بالخالق ، وما ينتظر الإنسان مِن ثوابٍ وعقاب.. عادت الحياة في نظره فرصةً للظفر بأكبر نصيبٍ ممكن ، مِن اللذّة والمُتعة المادّية ، التي لا يمكن أنْ تحصل إلاّ عن طريق المال .

وهكذا عاد المال المفتاح السحريّ والهدف ، الذي يعمل لأجله الإنسان الحديث ، الذي يتمتّع بالحرّية الكاملة في سلوكه .

وكان ضروريّاً لأجْل ذلك أنْ تُوَطّد دعائم الحرّية الاقتصاديّة ، وتُفتح كلّ المجالات بين يدَي هذا الكائن الحرّ ؛ للعمل في سبيل هذا الهدف الجديد ( المال ) ، الذي أقامته الحضارة الغربيّة صنَماً جديداً للإنسانيّة ، وأصبحت كلُّ تضحيَةٍ يقدّمها الإنسان في هذا المضمار عملاً شريفاً وقُرباناً مقبولاً .

٧٤

وطغى الدافع الاقتصاديّ ، كلّما ابتعد ركْب الحضارة الحديثة عن المقولات الروحيّة والفكريّة ، التي رفضها في بداية الطريـق ، واستفحلتْ شهوة المال ، فأصبح سيّد الموقف ، واختفتْ مفاهيم الخير والفضيلة والدِين ، حتّى خُيِّل للماركسيّة في أزمةٍ مِن أزَمات الحضارة الغربيّة : أنّ الدافع الاقتصاديّ هو المحرِّك ، الذي يوجّه تاريخ الإنسان في كلّ العصور .

ولمْ يكن مِن الممكن أنْ تنفصل فِكرة الحرّية الاقتصاديّة عن فِكرةٍ أخرى ، وهي فِكرة الحرّية السياسيّة ؛ لأنّ الشرط الضروريّ لممارسة النشاط الحُرّ على المسرح الاقتصاديّ : إزاحة العقَبات السياسيّة ، والتغلّب على الصعاب التي تضعها السلطة الحاكمة أمامه ؛ وذلك بامتلاك أداة الحُكم وتأميمها ، ليطمئنّ الفرد إلى عدم وجود قوّةً تَحول بينه وبين مكاسبه وأهدافه ، التي يسعى إليها .

وبذلك اكتملت المعالِم الرئيسيّة أو الحلقات الأساسيّة ، التي ألّف الإنسان الغربي منها حضارته ، وعمل مخلِصاً لإقامة حياته على أساسها ، وتبنّى دعوة العالَم إليها .

وعلى هذا الضوء نتبيّن الحرّية في هذه الحضارة بملامحها ، التي ألمعنا إليها في مستهلّ هذا الفصل ، فهي ظاهرةٌ حضاريّة بدأت شكّاً مُرّاً قلِقـاً ، وانتهت إلى إيمانٍ مذهبيٍّ بالحرّية ، وهي تعبيرٌ عن : إيمان الإنسان الغربي بسيطرته على نفْسه ، وامتلاكه لإرادته ، بعد أنْ رفض خضوعه لكلِّ قوّة .

فلا تعني الحرّية في الديمقراطيّة الرأسماليّة : رفْض سيطرة الآخَرين فحَسْب ، بل تعني أكثر مِن هذا ، سيطرة الإنسان على نفْسه ، وانقطاع صِلته عمليّاً بخالقِه وآخرته .

٧٥

[موقف الإسلام مِن الحرّية :]

وأمّا الإسلام ، فموقفه مِن الحرّية يختلف بصورةٍ أساسيّة عن موقف الحضارة الغربيّة ، فهو يعني بالحرّية بمدلولها السَلبيّ ، أو بالأحرى معطاها الثوريّ ، الذي يحرّر الإنسان مِن سيطرة الآخَرين ، ويكسر القيود والأغلال التي تكبّل يدَيه .

ويعتبَر تحقيق هذا المدلول السلبيّ للحرّية ، هدَفاً مِن الأهداف الكبرى للرسالة السماويّة بالذات :( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) (١) .

ولكنّه لا يربط بين هذا ، وبين مدلولها الايجابيّ في مفاهيم الحضارة الغربيّة ؛ لأنّه لا يعتبِر حقّ الإنسان في التحرّر مِن سيطرة الآخَرين ، والوقوف معهم على صعيدٍ واحد ؛ نتيجةً لسيطرة الإنسان على نفْسه ، وحقّه في تقرير سلوكه ومنهجه في الحياة - الأمر الذي نُطلِق عليه : المدلول الايجابيّ للحرّية في مفهوم الحضارة الغربيّة - وإنّما يربط بين الحرّية والتحرّر مِن كلّ الأصنام والقيود المصطنعة ، وبين العبوديّة المخلِصة لله .

فالإنسان عبدٌ لله قبل كلّ شيءٍ ، وهو بوَصفه عبداً لله ، لا يمكن أنْ يقرّ سيطرةً لسواه عليه ، أو يخضع لعلاقةٍ صنميّةٍ مهما كان لَونها وشكلهـا ، بل إنّه يقف على صعيد العبوديّة المخلِصة لله ، مع المجموعة الكَونية كلّها على قدَم المساواة .

فالقاعدة الأساسيّة للحرّية في الإسلام هي : التوحيد والإيمان بالعبوديّة المخلِصة لله ، الذي تتحطّم بين يدَيه كلّ القوى الوَثنيّة، التي هدَرَت كرامة الإنسان على مَرّ التاريخ .

_________________

(١) الأعراف : ١٥٧ .

٧٦

( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْأَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (١) .

( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (٢) .

( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) (٣) .

( أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (٤) .

وهكذا يُقيم الإسلام التحرّر مِن كلّ العبوديّات ، على أساس الإقرار بالعبوديّة المخلِصة لله تعالى ، ويجعل مِن علاقة الإنسان بربِّه الأساس المتين الثابت ، لتحرّره في علاقاته مع سائر الناس ، ومع كلّ أشياء الكون الطبيعيّة .

فالإسلام والحضارة الغربيّة ، وإنْ مارَسا معاً عمليّة تحرير الإنسان ، ولكنّهما يختلفان في القاعدة الفكريّة ، التي يقوم عليها هذا التحرير ، فالإسلام يُقيمها على أساس العبوديّة لله والإيمان به ، والحضارة الغربيّة تُقيمها على أساس الإيمان بالإنسان وحـدَه ، وسيطرته على نفْسه ، بعد أنْ شكَّت في كلِّ القِيَم والحقائق ، وراء الأبعاد المادّية لوجود الإنسان .

_________________

(١) آل عمران : ٦٤ .

(٢) الصافّات : ٩٥ - ٩٦

(٣) الأعراف : ١٩٤

(٤) يوسف : ٣٩ .

٧٧

ولأجْل ذلك كان مرَدّ فِكرة الحرّية في الإسلام إلى عقيدةٍ إيمانيّةٍ موحّدة بالله ، ويقينٍ ثابتٍ بسيطرته على الكون ، وكلّما تأصّل هذا اليقين في نفْس المسلم ، وتركّزت نظرته التوحيديّة إلى الله تسامَت نفْسه ، وتعمّق إحساسه بكرامته وحرّيته ، وتصلّبت إرادته في وَجه الطغيان والبغي واستعباد الآخَرين :( وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ) (١) .

وعلى العكس مِن ذلك فِكرة الحرّية في الحضارة الغربيّة : فإنّها كانت وليدة الشكّ لا اليقين ، ونتيجة القلَق والثورة لا اليقين والاستقرار ، كما عرفنا سابقاً .

[أقسام الحرّية :]

ويمكننا أنْ نُقسِّم الحرّيات الديمقراطيّة الرأسماليّة ، للمقارنة بينها وبين الإسلام إلى قسمَين :

أحدهما : الحرّية في المجال الشخصيّ للإنسان ، وهي : ما تُطلِق عليه الديمقراطيّة اسم : الحرّية الشخصيّة .

والآخَر : الحرّية في المجال الاجتماعيّ ، وهي تشمل الحرّيات : الفكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة .

فإنّ الحرّية الشخصيّة تعالج سلوك الإنسان بوَصفه فرداً ، سواءً كان يعيش بصورةٍ مستقلّةٍ ، أو جزءاً مِن مجتمع .

وأمّا الحرّيات الثلاث الأخرى ، فهي تعالج الإنسان بوَصفه فرداً يعيش في ضمن جماعة ، فتسمح له بالإعلان عن أفكاره للآخَرين كما يحلـو له ، وتمنحه الحقّ في تقرير نوع السلطة الحاكمة ، وتفتح أمامه السبيل لمختلف ألوان النشاط الاقتصاديّ ، تبَعاً لقُدرته وهَواه .

_________________

(١) الشورى : ٣٩

٧٨

الحرّية في المجال الشخصيّ :

حرصت الحضارة الغربيّة الحديثة على توفير أكبر نصيبٍ ممكن مِن الحرّية لكلّ فردٍ ، في سلوكه الخاصّ ، وهو القدَر الذي لا يتعارض مع حرّيّات الآخَرين ، فلا تنتهي حرّية كلّ فردٍ إلاّ حيث تبدأ حرّيات الأفراد الآخَرين .

وليس مِن المهمّ لدَيها - بعد توفير هذه الحرّية لجميع الأفراد - طريقة استعمالهم لها ، والنتائج التي تتمخّض عنها ، وردود الفعل النفسيّة والفكريّة لها ، ما دام كلّ فردٍ حرّاً في تصرّفاته وسلوكه ، وقادراً على تنفيذ إرادته في مجالاته الخاصّة فالمخمور مثلاً لا حرَج عليه أنْ يشرب ما شاء مِن الخمر ، ويُضحّي بآخِر ذرّة مِن وَعيِه وإدراكه ؛ لأنّ مِن حقّه أنْ يتمتّع بهذه الحرّية في سلوكه الخاصّ ، ما لم يعترِض هذا المخمور طريق الآخَرين ، أو يصبح خطراً على حياتهم بوَجهٍ مِن الوجوه .

وقد سكرَت الإنسانيّة على أنغام هذه الحرّية ، وأغفتْ في ظلالها برهةً مِن الزمن ، وهي تشعر لأوّل مرّة أنّها حطّمت كلّ القيود ، وأنّ هذا العملاق المكبوت في أعماقها آلاف السِنين قد انطلق لأوّل مرّة ، وأُتيح له أنْ يعمل كما يشاء في النور ، دون خوفٍ أو قلق .

ولكن لمْ يدُم هذا الحُلم اللذيذ طويلاً ، فقد بدأت الإنسانيّة تستيقظ ببطءٍ ، وتُدرِك بصورةٍ تدريجيّة ، ولكنّها مُرعبة : أنّ هذه الحرّية ربطتها بقيودٍ هائلة ، وقضَت على آمالها في الانطلاق الإنسانيّ الحرّ ؛ لأنّها وجدَت نفْسها مدفوعةً في عَرَبةٍ تسير باتّجاهٍ محدّد ، لا تملك له تغييراً ولا تطويراً ، وإنّما كلّ سلْوَتها وعزائها - وهي تطالِع مصيرها في طريقها المحدّد - أنّ هناك مَن قال لها : إنّ هذه العرَبة هي عرَبة الحرّية ، بالرغم مِن هذه الأغلال ، وهذه القيود التي وُضعت في يدَيها .

أمّا كيف عادت الحرّية قيداً ؟! وكيف أدّى الانطلاق إلى تلك الأغلال ، التي تجرّ العرَبة في اتّجاهٍ محتوم ، وأفاقَت الإنسانيّة على هذا الواقع المُرّ في نهاية المطاف ؟! .

٧٩

فهذا كلّه ما قدّره الإسلام قبل أربعة عشَر قَرناً ، حين لمْ يكتفِ بتوفير هذا المعنى السطحيّ مِن الحرّية للإنسان ، الذي مُنيَ بكلّ هذه التناقضات في التجربة الحياتيّة الحديثة للإنسان الغربيّ ، وإنّما ذهَب إلى أبعَد حدٍّ مِن ذلك ، وجاء بمفهومٍ أعمق للحرّيـة ، وأعلنها ثورة ، لا على الأغلال والقيود بشكلها الظاهريّ فحَسب ، بل على جذورها النفسيّة والفكريّة ، وبهذا كفَل للإنسان أرقى وأنزه أشكال الحرّية ، التي ذاقها الناس على مَرّ التاريخ .

ولئن كانت الحرّية في الحضارات الغربيّة تبدأ مِن التحرّر ؛ لتنتهي إلى ألوانٍ مِن العبوديّة والأغلال - كما سنوَضّح – فإنّ الحرّية الرَحيبة في الإسلام على العكس ؛ لأنّها تبدأ مِن العبوديّة المخلصة لله تعالى ؛ لتنتهي إلى التحرّر مِن كلّ أشكال العبوديّة المُهينة .

يبدأ الإسلام عمليّته في تحرير الإنسانيّة مِن المحتوى الداخليّ للإنسان نفْسه ؛ لأنّه يرى أنّ منْح الإنسان الحرّية ليس أنْ يُقال له : هذا هو الطريق قد أخْلَيناه لك فسِرْ بسلام ، وإنّما يصبح الإنسان حرّاً حقيقةً ، حين يستطيع أنْ يتحَكّم في طريقه ، ويحتفظ لإنسانيّته بالرأي في تحديد الطريق ، ورَسم معالِمه واتّجاهاته .

وهذا يتوقّف على تحرير الإنسان قبل كلّ شيءٍ مِن عبوديّة الشهَوات التي تعتلج في نفْسه ؛ لتصبح الشهَوات أداةَ تنبيهٍ للإنسان إلى ما يشتهيه ، لا قوّةً دافعةً تُسخِّر إرادة الإنسان دون أنْ يملِك بإزائها حَولاً أو طَولاً ؛ لأنّها إذا أصبحت كذلك خسر الإنسان حرّيّته منذ بداية الطريق .

ولا يُغيّر مِن الواقع شيئاً أنْ تكون يداه طليقتَين ، ما دام عقله وكلّ معانيه الإنسانيّة ، التي تميّزه عن مملكة الحيوان معتقلَةً ومجمّدةً عن العمل .

٨٠