هوية التشيع

هوية التشيع0%

هوية التشيع مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 237

هوية التشيع

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور أحمد الوائلي
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 237
المشاهدات: 33494
تحميل: 5170

توضيحات:

هوية التشيع
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 33494 / تحميل: 5170
الحجم الحجم الحجم
هوية التشيع

هوية التشيع

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

هُويَّةُ التَشَيُّع

الدكتور أحمد الوائلي

الطبعة الجديدة مُنَقّحَة ومَزيدة

مؤسَسَة دارِ الكتاب الإسلامي

١

٢

مُقدّمة الطَبعَة الثانية ‌

بِسمِ الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمّد وآله الأطهار، وصحبه الأبرار، ومَن تبعهم بإحسان وبعد:

لقد كان لهذا الكُتيِّب على وجازته، صدى استحسان في نفوس القُرّاء، وذلك للمنهج الذي اختطّه هذا الكتاب أكثر مِنه للكتاب نفسه، لوضوح أنّ مضمون الكتاب ليس مِن الضخامة بحيث يُشكّل رقماً فريداً، بل هو بضعة وُريقات ربما أُحسن فيها التعبير، وحُسن الاختيار، والالتفات لمواطن ذات وقع خاصٍّ بالنفوس، ذلك مضافاً للمنهج، وكان مِن المؤشّرات على إقبال القرّاء عليه نفاذ نُسَخ الطبعة سريعاً، مع أنّنا لم ننوّه عَنه في صحيفة أو دعاية، بل طُرِحَ في السوق بصورة عاديّة.

إنّ هذه الظاهرة تشجّعنا على الكتابة في أمثال هذا الموضوع، مِمّا هو مَحلّ أخذ وردّ بين فِرَق المُسلِمينَ، لا لزيادة الركام بل لصهره حتّى يذوب، على أن يكون مِن وراء الكتابة في هذه المواضيع روح مؤمن يَنشد وجه الله تعالى، ويتوخّى إزالة الضباب عن طريق المعالِم المُشتركة بين المُسلِمينَ، في مُختلف أبعاد الحضارة الإسلاميّة، مِمّا هو في حُكمٍ شرعيٍّ، أو عقيدة إسلاميّة، أو تاريخ مُسَلَّم، ولعلَّ مِن نافلة القول أن نُنوّه بأنّ ثمرات الأقلام النظيفة، مِن الوسائل الناجعة لخدمة المُسلِمينَ، ومِن الطُرق الصحيحة لتِفاهُم المُسلِمينَ.

هذا بالإضافة إلى أنّ ذلك يقطع الطريق على الأقلام المأجورة، التي ترتزق

٣

بإشعال النار وبثِّ الألغام في المجتمع المُسلِم، مِمّا نراه عند كثير مِن المأجورين بين آونة وأُخرى، حيث يزيد ذلك مِن قناعتنا بأنّ وراء ذلك أصابع تقليديّة ما برحت تُمارس لُعبتها الخبيثة كلّما سنحت لها الفرص.

وأُكرّر ما سبق أن أشرت إليه في الطبعة الأولى، عن وجود شيء مِن التشنُّج في التعبير، مِمّا قد يُعتبر كاشفاً عن ضغنٍ، أو حقدٍ - معاذ الله - في حين لا يعدو أن يكون غًضبة إيمانيّة مِن روح حسّاس، إزاء كلّ ما يمسُّ وحدة المُسلِمينَ، وقد يُبَرِّره تصوّر بفاعليّة هذا الأسلوب مِن غيره.

ولمّا كان الكمال لله وحده، والإِنسان محلُّ النقص، كانت محاولة الازدياد في التكامُل مِن الأُمور المحبوبة. ومِن هذا المنطق قُمتُ بشيء مِن التهذيب والإضافات التي أراها مُتَمِّمة لمواضيع الكتاب. وأمَلي بالقارئ الكريم أن يرى في الكتاب صورة مِن صور النقد الموضوعي البنّاء. وصرخةً في وجه بعض هواة الشتائِم، الّذين ينبزون غيرهم بأمرٍ هو عندهم، قبل كونه عند خصومهم، ولكنّ الهَوى يُعمي ويصمّ.

وما أروع ما قيل مِن أنّ شخصاً قيل له: لماذا تبدّلون حَرفُ الذال بالزاي، والقاف بالغين في نُطقكم؟. فقال: كلاّ (نحن لا نغول زلك).

وفي نهاية هذه السطور أدعو القارئ الكريم أن يوجّهني بالتنبيه على ما في الكتاب مِن عيب، أو شطحات، فالمؤمن مرآة المؤمن.

هدانا الله لِما يحبُّ ويرضى والحمد لله أوّلاً وآخِراً.

المؤلّف

٤

مُقدّمةُ الطَبعَةِ الأُولى ‌

بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيم

والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين، وصحبه المُنتَجَبين وبعد:

هناك أُمورٌ لا غنىً لقارئ هذا الكتاب عن الإلمام بها، قبل الدّخول في صُلب الموضوع؛ لأنّها تتضمّن الإجابة لِما قد يَعنّ للقارئ مِن سؤال خلال قراءته للكتاب، كما أنّها ستجعل القارئ يفهم الكتاب في حدود عناوينه؛ لئلاّ يكبر العنوان على المعنون أو العكس. وتتلخّص هذه الأُمور في الآتي:

1 - قد يتبادر إلى ذهن القارئ مِن عنوان الكتاب - هُويّة التَشَيُّع - أنّ الكتاب سيبحث كلّ ما للتشيُّع مِن سِمات وخَواصٍّ، سواء كانت مِن المقوّمات، أو مِن السِمات التي أُضيفت إليه.

ولكي أُبعِد القارئ عن هذا التصوّر، أُلفِتُ نظره إلى أنّي لم أستوعبْ كلّ ما للتشيُّع مِن نُعوت وصفات، إنّما تعرَّضتُ هُنا لأُمور تكفي لإيضاح هُويّة التَشَيُّع، وفي الوقت ذاته يدور حولها نزاع بين مُختلف الفِرَق الإسلاميّة مِن جانب، وبين الإماميّة مِن فِرق المُسلِمينَ. وما يزال الجَدَل يَحتدم حولها بِرغم ما كُتِبَ حولها، وبرغم إشباعها بالبحث مُنذ أزمنة طويلة، وهي تتناول مِن التَشَيُّع جوانب عِرقيّة وجوانب فكريّة.

2 - وعلى وجه القطع هُناك كثيرون كتبوا في موضوع الشيعة والتَشَيُّع كُتُباً أكثر عُمقاً، وأوفى استيعاباً، وأطول نفساً مِمّا كُتِب هُنا، ولكنّي أتصوَّر أنّي عالجتها هُنا بنمط وأسلوب يختلف عن الأنماط الأُخرى، ولستُ أُريد أن أُفضّل هذا النَمط

٥

الذي اخترته على الأنماط الأُخرى، ولكنّي أعتقد أنّه أوصل إلى نفس القارئ مِن غيره، فإن كان ذلك هو الواقع فَهو المطلوب، وإلاّ فلَستُ بأوّل مَن اجتهد وأخطأ، وما أكثرهم على امتداد تاريخنا.

3 - وسَيَجِدُ القارئ في ثنايا هذا الكتاب بعض الالتهابات التي سبّبتها الجروح المُزمنة في تاريخ المُسلِمينَ، وسَيَجد ما يتبع الالتهابات مِن ألَمٍ وتشنُّج، مِمّا هو ظاهرةٌ طبعيّةٌ لا طبيعيّة يسبِّبها إفلات الزمام أحياناً، بالرغم مِن ترويض الأعصاب وقسرها على التَحمّل، وكلّ مَن مارس الكِتابة في أمثال هذه المواضيع يعلم مقدار الحَرَج والمشقَّة في ضبط الأعصاب هُنا، لِما يَرى - ومع الأسف الشديد - مِن مُناولات بين فِرَق المُسلِمينَ، فيها كثير مِن عدم الموضوعيّة، وفُقدان الشُعور بمسؤوليّة الكلمة وأهميّتها، الأمر الذي تكوّنَ معه على مرِّ الأّيام خَزين وركام مِن التَرِكة الخَطِرة، والوباء الأسود، الذي يَعمد بين الآونة والأخرى جَماعة مِمَّن هُم ليسوا ببعيدين عن الشُبهات إلى إثارته، والاصطياد خلال أجوائه المُظلمة، وسوف يَبقى هذا الوضع خَطِراً ما دام هذا الرُكام موجوداً بمُتناول أيدينا، دون أن نعمل على تصفيته، وتسليط الأضواء عليه، وتَعريتهِ تَعريةً كاملةً؛ لنصل إلى رأيٍ في وجوده وآثاره.

وأعود لأقول: إنّ ضبط الأعصاب في مِثل هذا الموقف أمرٌ ليس بالهيِّن؛ بداهة أنّ الإِنسان مُسيّر بأموره النفسيّة، أكثر مِمّا هو مُسيّر بأموره العقليّة، إلاّ مَن عَصِمه الْخُلُق، وهذَّبه الدين، والله المسؤول أن يجعلنا مِنهم.

4 - وقد يقول قائل: إنّه مع ما ذكرتَ آنفاً، فما هي جدوى الكتابة في أمثال هذه المواضيع؟ ونحن نجد إصراراً عَجيباً على طرحها كلّ مرّة، كما هي كأنّها لم تُعالَج، ولم يَكثُر حولها الأخذ والردُّ، ولم تُحصَل الإجابة على مضامينها في أكثر مِن مورد ومورد.

إنّ هذه الوضعيّة تكادُ تَجعلُ الإِنسان يقتنع بعدم جدوى علاج أمثال هذه الأُمور، ويحرص على الوقت مِن أن يُهدر في أمثال هذه الميادين.

وللإجابة على ذلك أقول: إنّ افتراض أنّ الباب موصدٌ في وجه

٦

الإصلاح، هو انهزاميّة أمام التحدّي، وما كانت الفتوح في أيّ ميدان، إلاّ مُقابلة التحدّي بِمِثله.

إنّ الباحثين عن الواقع لم يَخلُ مِنهم عصر مِن العصور، وإنّ الّذين غلبت عليهم شُبهاتٍ تاهوا فيها ليسوا بالقليلين، وتركُ أمثال هذين بدون التعاون معهما، أمرٌ ليس مِمّا يَستَسيغُهُ مَن يحمل رسالة في دفع الحياة إلى الأفضل، كما أنّه ليس مِن الدين في شيء.

إنّ تمكين الأقلام المشبوهة مِن نُفوس المُسلِمينَ وأفكارهم لِتَتَّخذ مِنها فَرائس، هو إسهام بشكل وآخر مع تلك الأقلام فيما تَجتَرِحَه مِن إثمّ.

إنّنا مدعوّون لكنس هذا الرُكام عن طريق المُسلِمينَ؛ حتّى يكون الدرب سَمِحاً لاحِباً أمام خُطاهُم. وكلّ نتائج تُحرز في هذا الميدان هي فَتح، وانسجام مع دعوة الإِسلام للجهاد بالقَلَم والفِكر، وليس من المنطق في شيء أن نترك المَريض يُصارع الداء، بدون أن نُعطيه جُرعة دواء، ونحن نملك القُدرة فيما نظنُّ على ذلك.

وكم مِن إِنسان عاش دهراً طويلاً فريسةً لِعجزٍ أو عصبيّةٍ، ثمّ رجع إلى الموضوعيّة نتيجة إلحاح الأقلام على تنقية الأجواء، خصوصاً إذا استطاعت الأقلام أن تُسافر بِنا عَبر دُنيانا إلى فَجرنا الأصيل، الذي شعَّ بالتسامح، ورفَّت فيه نَسائم مِن نقاء الروح، وطَهر الضمير، وطُبِعَت الحياة فيه على مِزاج الإِسلام الطَهور.

5 - وما يُهوّن الخطب أنّ مَوَاطِن الخلاف بين فِرَقِ المُسلِمينَ، مُنذ كانت لم تصل إلى الأُصول، وإنّما هي في نِطاق الفُروع، وإن حاول كثير مِنهم أن يوصلها إلى الأُصول، عن طريق عناوين ثانويّة، ولوازم تُحاول الدُخول مِن أبواب خلفيّة. لكنّها وبشيءٍ مِن التأمُّل والتحليل، تَرتَدُّ عن الأُصول إلى الفُروع، وما دام الإِسلام في روحه الكريمة، يفترض الصحّة في فِعل المُسلِم ابتداءً، فعلينا مُعالجة هذه الأُمور بوحيٍ مِن هذه الروح.

وما دامت العقولُ متفاوتة، والمداركُ مُختلفة، فَمِن المنطق أن نقول: إنّ الاختلاف في مَسائل الفِكر سُنَةُ الكَون، وسجيّة النُفوس، وخاصّة العقول، وإنّما يَحمِل على نسيان هذه الحقائق الأُفُق الضيِّق، والعصبيّة الرَعناء، والتسرّع في الاندفاع، وما أجدرنا بالابتعاد عنها.

٧

6 - ولمّا كانت مواضيع الكِتاب ومَسائله مُختَلِفَة، فسوف لا يَجد القارئ وَحدة في الموضوع، وتَبعاً لذلك فَسَيَختَلف أُسلوب المُعالجة، ونَمَط التناول، والمزاج الذي يُمليه الموقف. مع إدراكنا أنّ هذه المسائل يَجمعها عُنوان العقائد، ولكنّ أجزاء هذا العنوان متنوِّعة. ونحن نُدرِك أنّ تسمية كثير مِمّا يَحمله الإِنسان المُسلِم ويَنتحِله عقيدة فيه كثير مِن التَجوّز، فقد لا يَعتقد ولا يُدين بما يَحمله مِن أفكار أحياناً، وإنّما هو مُجرّد شِعار تُمليه مَصلحة، أو تُحَتِّمه عصبيّة، أو تَفرضه تَقاليد دُرج عليها الإِنسان.

وهذا هو سرُّ تَمسُّك بعض الناسِ بأفكارٍ يَعلمُ بُطلانها سَلَفَاً، ولكنّه التَمَذهُب الإيديولوجي الناتج مِن مُختلفِ الأسباب، والذي هو مِن مصائبنا التي نرجو أن يُعافينا الله مِنها.

7 - وكلّ الذي أرجوه مِن القارئ، أن لا يُسَمّي بعضَ معالجاتِ هذا الكتابِ دعوةً للطائفيّةِ، عن طريقِ الدعوةِ إلى تَركِ الطائفيّةِ مِمّا هو مِن قبيل المُصادرة على المطلوب؛ وذلك لأنّ منطقَ المُقارعةِ أحياناً مِن طرقِ تصحيحِ المسارِ، فإنّ مِبضَعَ الجَرّاح لا يُريدُ الانتقامَ وإن سَبَّبَ ألَماً، وإنّ وضعَ السيفِ أمامَ السيفِ، قد لا يكونُ دعوةً إلى القتالِ، بل دعوةً إلى تركِه، وإنّ الحَمل على باب شرب الدواء ليس عن بُغض وإن كان الدواء مُرّاً.

وستبقى الأهداف دائماً وراء الأعمال، تُحَدِّدُ هُويّاتها، وتُشكِّل مُبَرِّراً لِما قد يكون في وسائلها مِن قسوة، شريطةَ أن لا تنزل الوسائل إلى المُستويات المُلوَّثة، وما دام الهدف كبيراً فسوف تُستَساغُ بعضُ الوسائل في حالات كثيرة، كما يُمليها العقلُ ويُقرُّها الواقع.

8 - وبعدَ ذلكَ كُلّه، فإنّي ومِن منطلق كوني إماميّاً، أدعو كلَّ قارئٍ أن يَتَلبّس الأدوار التي مرَّت بالشيعة، والظُروف والمُلابسات التي اكتنفتهم، وجوداً، واستمراراً، ثمّ يَتَصوّر ما تُفرِزه تلك الحالات مِن مظاهر سلوكيّة؛ حتّى تكونَ مِعياراً بين يديه، يُفسِّر خلال أجوائها المُعاشة كثيراً مِن مظاهر السُلوك الفكري والاجتماعي عند الشيعة، وبذلك يبتعد عن الشَطَط في الحُكم عليهم. فإذا رآهم يُشَدِّدون على فِكرَة التَقيّة، فَليَعلَم أنَّهم لم يَخرجوا بها عن نطاق واقع مُرٍّ

٨

تكيّفوا مَعَه ضِمن مقاييس الشَرع، وإذا رأى أنّ رُدودَ الفعلِ عن بَعضِهم في بعض المواقف عَنيفة، فلا يَنسى عُنف الفِعل ذاته وهكذا.

ليكن الإِنسان نفسه مقياساً للآخرين، وميزاناً يَزِن به سلوك غيره.

9 - أُضَمِّن هذه الوُريقات دعوة إلى كلّ فِرَقِ المُسلِمينَ، أن يدرسوا بعضهم البعض بِروح عَمليّة، وأن يتبيّنوا هذه الخَلفيّات المشبوهة، التي لَعِبت دوراً كبيراً وما زالت في تمزيق المُسلِمينَ، ثمّ ليُقَيِّموا نتائج هذا الوضع؛ ليروا مَن هو الذي يَقطف الثِمار مِن وراء هذا الوضع، وبعد ذلك كُلّه نحن مَدعوون إلى وضع التاريخ في ساحة الاتِّهام وبالحروف الكبيرة، لنُحاكِمَه ونَنتهي إلى التَخلُّصِ مِن كثير مِن مآسيه التي نعيشها، فالتاريخ فاعل في داخلنا وإن بَعُدَ العهد بيننا وبين موادّهِ ومُكوِّناته.

نسأل الله تعالى العون على مسيرتنا في درب الحياة الوَعِر، وإضاءة طريقنا بنور مِنه، والحمد لله أولاً وآخراً.

٩

١٠

تمهيد

التَشَيُّع لُغة:

هو المُشايَعة، أي: المُتابعة والمُناصرة والموالاة (1) .

فالشيعة بالمعنى اللُغوي: هُم الأتباع والأنصار، وقد غَلب هذا الاسم على أتباع عليٍّ (ع)، حتّى اختصّ بِهم، وأصبح إذا أُطلِق يَنصرف إليهم.

وبهذا المعنى اللُغوي استعمل القرآن الكريم لفظة الشيعة، كما في قوله تعالى: ( وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ ) الصافّات: 83.

وكقوله تعالى: ( هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ ) القصص: 15.

التَشَيُّع اصطلاحاً:

هو: الاعتقاد بآراء وأفكار مُعيّنة، وقد اختلف الباحثون في هذه الأفكار والآراء كثرةً وقلّةً، وسَيمرُّ علينا ذلك مُفصّلاً، فالتَشَيُّع بالمعنى الثاني أعمّ منه بالمعنى الأوّل. وبينهما مِن النِسَبِ عُموم وخُصوص مٌطلق، والعُموم في جانب التَشَيُّع بالمعنى الثاني؛ لشموله لكلٍّ مِنهما.

وانطلاقاً مِن كون التَشَيُّع اعتقاداً بآراء مُعيّنة، ذهب العلماء والباحثون تبعاً لذلك إلى تعريفه على اختلاف بَينهم في سِعة مدى هذه التعاريف وضيقها.

وإليك نَماذج مِن تَعريفاتهم:

____________________

(1) صحاح الجوهري: 3/156، وتاج العروس، ولسان الميزان مادّة شَيَعَ.

١١

1 - الشهيد الثاني في كتابه شرح اللُمعة قال:

والشيعة مِن شايعَ عليّاً - أي اتّبعه وقدّمه على غيره في الإِمامة، وإن لم يوافق على إمامة باقي الأئمّة، فيدخل فيهم الإماميّة، والجاروديّة مِن الزيديّة، والإِسماعيليّة غير الملاحِدة مِنهم، والواقفيّة، والفطحيّة (1) .

2 - الشيخ المُفيد في كتاب الموسوعة، كما نقله عنه المؤلّف قال:

الشيعة هُم مَن شايع عليّاً وقَدّمه على أصحاب رسول الله صلوات الله عليه وآله، واعتقد أنّه الإِمام بوصيّة مِن رسول الله، أو بإرادة مِن الله تعالى، نصّاً كما يرى الإماميّة، أو وصفاً كما يرى الجاروديّة.

وقد نَقل هذا المضمون نفسه كامل مصطفى الشيبي في كتابه الصِلة (2) .

3 - الشهرستاني في المِلَل والنِحَل قال:

الشيعة هم الّذين شايعوا عليّاً وقالوا بإمامته وخلافته نصّاً ووصاية، أمّا جليّاً وإمّا خفيّاً، واعتقدوا أنّ الإِمامة لا تخرج مِن أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون مِن غيره، أو بتقيّة مِن عنده (3) .

4 - النوبختي في كتابه الفِرَق قال:

الشيعة هُم فرقةُ عليِّ بن أبي طالب المُسَمون بشيعة عليٍّ في زمن النبيّ، ومَن وافق مودّته مودّة عليٍّ (4) .

5 - محمّد فريد وجدي في كتابه دائرة معارف القرن العشرين قال:

الشيعة هم الّذين شايعوا عليّاً في إمامته، واعتقدوا أنّ الإِمامة لا تخرج عن أولاده، ويقولون بعصمة الأئمّة مِن الكبائر والصغائر، والقول بالتَولِّي والتَبرِّي

____________________

(1) شرح اللُمعة: 2/228.

(2) موسوعة العتبات المُقدّسة، المدخل ص91.

(3) المِلَل والنِحَل ص107.

(4) فِرَق الشيعة.

١٢

قولاً وفعلاً إلاّ في حال التَقيّة، إذا خافوا بطش ظالم (1) .

هذه النماذج مِن التعريفات إنّما قدّمتُها لنعرف ما هي مُقوّمات التَشَيُّع في نظر الباحثين. وقد تبيّن مِن بعضها:

الاقتصار على وصف الشيعة بأنّهم يقدّمون عليّاً على غيره؛ لوجود نصوص في ذلك، أو وجود صفات اختصّ بها، ولم تتوفّر لغيره. والواضح مِن ذلك أنّ جوهر التَشَيُّع هو الالتزام بإمامة عليٍّ ووُلدهِ، وتقديمه على غيره؛ لوجود نصوص عندهم في ذلك، وينتج مِن ذلك الالتزام بأمرين:

الأوّل: بما أنّ الإِمامة وليدة النُصوص، فهي امتداد للنبوَّة، يترتّب عليها ما يترتّب على النُبوّة مِن لوازم، عدا الوحي، فإنّ نزوله مُختصٌّ بالأنبياء.

الثاني: أنّ الإِمامة لا تتمُّ بالانتخاب والاختيار، وإنّما بالتعيين مِن الله تعالى، فهو الذي ينصُّ على الإِمام عن طريق النبيّ، وإنّما يختاره لتوفر مؤهّلات عنده، لا توجد عند غيره.

أمّا الزيادة على ما ذكرناه، والتي وردت في التعريفات التي نقلناها، والتي قد توجد في كُتُب الشيعة الأُخرى، فهي مُستفادة مِن أخبارٍ، وهي أعمُّ مِن كونها مِن أصول المذهب، أو مِن أصول الإِسلام، كما سنرى ذلك فيما يأتي أنّ الغرض مِن هذه الإِشارة، هو إلقاء الضوء على نقطةٍ، يؤكّد عليها الباحثون عند استعراضهم لذكر الشيعة وعقائدهم: ألا وهي التأكيد على إدخال آراء أريد لها أن تكون خُيوطاً تصل بين التَشَيُّع واليهوديّة، أو النصرانيّة، أو الزندقة. ومحاولة إيصال التَشَيُّع لعرقيّات مُعينّة. وهي محاولة لا تخفى على أعيُن النُقّاد بأنّها غير موضوعيّة. إنّ هذه المحاولة تُريد تصوير التَشَيُّع بأنّه تَطوّر لا كما تتطوّر العقائد والمذاهب الأُخرى. وفي التوسع وقبول الإِضافات السليمة، نتيجة تبرّعم بعض الآراء، وإنّما هو تَطوّر غير سليم، وغير نظيف أفسد مضمون التَشَيُّع.

____________________

(1) دائرة المعارف 5/424.

١٣

وسأستعرض بعض هذه الأقوال؛ لتكون مُجرّد مؤشِّر على هذا الاتّجاه، وسأُعقّب عليها بما أراه:

تَطوّر التَشَيُّع

1 - رَسَم الدكتور عبد العزيز الدوري هذا التطوّر، عن طريق تقسيمه للتشيُّع إلى روحيّ بدأ أيّام النبيّ عليه الصلاة والسلام، وسياسيّ حدث بعد مقتل الإِمام عليٍّ، وقد استدلّ لذلك بأنّ التَشَيُّع بمعناه البسيط، دون باقي خواصّه الاصطلاحية، قد استعمل في صحيفة التحكيم التي نصّت على شيعة لعليٍّ وشيعة لمعاوية، مِمّا يعطي معنى المشايعة والمناصرة فقط، دون باقي الصفات والأبعاد السياسيّة التي حدثت بعد ذلك (1) .

2 - محمّد فريد وجدي في دائرة المعارف قال:

الشيعة هم الّذين شايعوا عليّاً في إمامته، واعتقدوا أنّ الإِمامة لا تخرج عن أولاده، ويقولون بعصمة الأئمّة مِن الصغائر والكبائر، والقول بالتولِّي والتبرّي قولاً وفعلاً، إلاّ في حال التَقيّة إذا خافوا بطش ظالم، وهُم خمس فِرَق: (كيسانيّة، وزيديّة، وإماميّة، وغُلاة، وإسماعيليّة) وبعضهم يميل في الأُصول إلى الاعتزال، وبعضهم إلى السُنّة، وبعضهم إلى التشبيه (2) .

إنّ هذه المقتطفة مِن فريد وجدي سبق أن ذَكرتُ قِسماً مِنها في التعريف بالتشيّع، وذكرت هُنا المقتطفة بكاملها؛ ليتّضح مِنها أنّ مضمونها يُغطّي التَشَيُّع منذ أيّامه الأولى حتّى الآن؛ لأنّ مِن الواضح أنّ هذه المضامين لم تولد دفعة واحدة، وإنّما دخلت لمضمون التَشَيُّع تدريجاً. وقد خلط فريد وجدي فيها بين السِّمات والمقوِّمات، وجعل مَن ليس مِن الشيعة مِنهم، ونَسَب لهم ما هم منه بُراء، ولا أريد أن أتعجَّل الرد عليه، فستمرُّ علينا أمثال هذه النسب الرد عليها في مكانها مِن الكتاب.

____________________

(1) مُقدّمة في تاريخ صدر الإِسلام: ص72.

(2) دائرة معارف فريد وجدي: 5/424.

١٤

3 - الدكتور كامل مصطفى في كتابه الصِّلة قال:

ويتّضح بعد ذلك أنّ التَشَيُّع قد عاصر بِدء الإِسلام باعتباره جوهراً له، وأنّه ظهر كحركة سياسيّة بعد أن نازع معاويةُ عليّاً على الإِمارة وتدبير شؤون المُسلِمينَ، ويتبيّن بعد ذلك أنّ تَبلور الحَركة السياسيّة تحت اسم الشيعة، كان بعد قتل الحسين (ع) مباشرة، وإن كانت الحَركة سَبقت الاصطلاح، وبذلك يُمكننا أن نلُخّص هذا الفصل في كلمة بيانها: أنّ التَشَيُّع كان تكتُّلاً إسلاميّاً ظهرت نَزعته أيّام النبيّ، وتبلور اتّجاهه السياسي بعد قتل عُثمان، واستقلّ الاصطلاح الدال عليه بعد قتل الحسين (1) .

وواضح مِن هذا النصّ أنّ التَشَيُّع مرّ بأدوارٍ تَطوّر فيها كما يَقول كامل.

4 - الدكتور أحمد أمين قال:

إنّ التَشَيُّع بدأ بمعنى ساذج، وهو أنّ عليّاً أولى مِن غيره مِن وجهتين: كفايته الشَخصيّة، وقرابته للنبي.

ولكنّ هذا التَشَيُّع أخذ صبغة جديدة بدُخول العناصر الأُخرى في الإِسلام مِن يهوديّة ونصرانيّة ومجوسيّة، وحيث أنّ أكبر عنصر دخل الإِسلام الفُرس فلَهم أكبر الأثر بالتَشيّع (2) .

وواضح هُنا مِمّا ذكره أحمد أمين أنّ التَشَيُّع تَطوّر لا بشيء مِن داخله، وإنّما بإضافات وإسباغ مِن عناصر أُخرى دخلت الإِسلام واختارت التَشَيُّع، فنَقلت ما عندها مِن أفكار وعقائد إليه، حتّى أصبحت جُزءاً منه، وإنّ الفُرس بالذّات تَركوا بَصَماتهم على المَذهب أكثر مِن غيرهم، كما يُريد أحمد أمين أن يُصوّره، وهو زعمٌ أخَذه أحمد أمين مِن غيره، وغيرُهُ أخذه مِن غيره، وهكذا حتّى أوشك أن يصبح مِن الأُمور المُتسالم عليها عند الباحثين، وقريباً سأُوقفك على زَيف هذه الدعوى، والهدف مِن الإِصرار على ربط التَشَيُّع بالفارسيّة شكلاً ومضموناً.

5 - الدكتور أحمد محمود صُبحي قال:

____________________

(1) الصِلة بين التصوّف والتَشَيُّع: ص23.

(2) فجر الإِسلام: ص276.

١٥

- بعد ذِكر الروّاد مِن الشيعة - والتَشَيُّع بالنسبة للشيعة المتأخّرين، مِثل الزُهد في عصر الرسول والخُلفاء الراشدين، والفَرْقُ بينه وبين التَصَوُّف الذي شابَتْهُ عناصر غنوصيّة، وتأثَّرَ بتيّاراتٍ فكريّةٍ مُتباينةٍ، كما عُرِفَ لدى محيي الدين بن عَربي والسهروردي مثلاً (1) .

وبعد أن استعرضنا هذه الأمثلة مِن أقوال الكُتّاب، التي فرَّقوا بها بين التَشَيُّع في الصدر الأوّل، وما تلا ذلك مِن عُصور أودُّ أن أُعقِّبَ على ذلك بما يلي:

1 - إنّ كميّة الأفكار والمُعتقدات في المضمون الشيعي، تتّسِع في الأزمنة المُتأخّرة عمّا كانت عليه في الصدر الأوّل دون شكٍّ في ذلك، ولكنّ هذه الزيادة ليست أكثر مِن المضمون الأصلي للتشيُّع، وإنّما هي تفصيل وبيان لمُجمله، إنّها ليست بإضافة أجزاء، وإنّما هي ظُهور جزئيّات انطبق عليها المَفهوم الكُلّي للتشيُّع، وقد ظهرت هذه الجُزيّئات بفعل تَطوّر الزمن.

وكمثال لذلك: موضوع النُصوص التي وردت على لسان النبيّ عليه الصلاة والسلام، هل هي مُجرّد إشارة لفضل الإِمام عليٍّ، أم أنّها على شكلٍ يُلزِم المُسلِمينَ بالقول بإمامته؟ وعلى نحو الوصيّة له بالخلافة.

وتبعاً لذلك، هل إنّ هذه الإِمامة تَقف عند حَدِّ المؤهّلات، أم إنّ الإِمام يَجب أن يكون النموذج المثالي؟ فيكون أشجع الناس، وأعلَم الناس، وأعدَل الناس. وهكذا تبرعم موضوع العصمة وغيره.

وكلّ هذه الأُمور داخلة في صُلب موضوع الإِمامة، وليست هي بأمور زائدة على الموضوع، بل اشتقاقات أولدها التطوّر الفِكري، وزيادة أعداد وأنواع مُعتنقيّ المذهب.

2 - إنّ مَثَل هذا التطوّر كَمِثلِ كلّ تَطوّر حَدَث، ومِن ذلك تَطوّر الإِسلام بصفته مَقْسَمَاً للمذاه

ب. فالمسلمون منذ وُجِدوا كان مِن عقيدتهم الاعتراف بالله عزّ وجل، ووجوده، ووحدانيّته، واتّصافه بصفات الكمال، وتَنَزّهه عن صفات النقص، وكلّ ذلك على نحو الإِجمال. وعندما اتّسعت مجالات التفكير، وانفتح العالم الإِسلامي على أممٍ وثقافاتٍ مُتنوِّعة تَبَرعمت أسئلة وَجَدَّتْ أفكار، فَرَجِع

____________________

(1) نَظريّة الإِمامة: ص35.

١٦

المسلمون إلى ما آمنوا به إجمالاً يُبيّنون مُجمله، ويُفصِّلون مُختصره، فنشأ مِن إيمانهم بأنّ الله خالق كلّ شيء: النزاع بإعطاء السَبب الطبيعي صِفة الخَلق، وذلك يُؤدّي إلى تَعدُّد الخالق كما تصوّروا، أم أنّ ذلك لا يقدح بانفراد الله تعالى بصفة الخالق، إذ أنّ لله تعالى جهة تأثير ليست مِن مقدورات المخلوقين، وكلّ ما للمخلوقين إنّما هو مِن جهة أُخرى، ولا يقدح ذلك في كون الله تعالى أحسن الخالقين. وتَبرعمت عن هذه المسألة، مسألة خَلق أفعال العباد، وربط ذلك كُلّه بالجبر والاختيار، وهكذا.

ومَثَل آخر: هو إيمان المُسلِمينَ منذ وُجِدوا بحجيّة ظواهر القرآن الكريم، فنشأ مِن ذلك النِزاع حول حُجيّة ظواهر بعض الآيات؛ لأنّ لاّزم ذلك نسبة ما لا يصحُّ إلى الله تعالى، وذلك مثل قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) القيامة: 22.

حيث ذهب أهل السُنّة إلى جواز رؤية الله تعالى يوم القيامة، استناداً إلى ظاهر الآية، بينما ذهب الإماميّة إلى استحالة رؤيته تعالى؛ لاستلزام الرؤية الجسميّة، وبالتالي التركيب، فالحاجة، فالحُدوث، وانتهاء كلّ ذلك إلى نفي الأُلوهيّة. وقد أوَّلوا النظر هُنا بأنّه انتظار الرحمة، كما يقول شخصٌ لآخر ينتظر منه الرحمة، أنا انظر: إليك وإلى عَطفك، وذلك شائع في لُغة العَرَب وحضارتهم، والقرآن نَزَلَ بِلُغَة العَرَب، وسَلك منهجهم في المحاورات.

هذا، بالإِضافة إلى أنّ الله تعالى نَسَب هُنا النظر إلى الوجوه، وهي ليست مِن أعضاء النظر، مِن قبيل قوله تعالى: ( مَا يَنظُرُونَ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ) يس: 49.

مثال آخر أذكره للتدليل على اتّساع المضمون الإِسلامي عمّا كان عليه في الصدر الأوّل، فقد آمن المسلمون مُنذُ وُجِدوا بأنّ الله تعالى لا يفعل العَبَث، وجاءت ظواهر الآيات تؤيِّد ذلك، فقد جاء في قوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ ) الملك: 2.

وجاء بقوله: ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ) الدخان: 38.

فتنازع المسلمون بعد ذلك في أنّ أفعال الله تعالى هل هي مُعَلَّلَة - ولازم ذلك نِسبَة النقص إلى الله؛ لأنّ كلّ فاعل لِلعلّة إنّما يحتاج لتِلك العلّة - أم أنّ أفعاله تعالى غير مُعَلَّلَة؟ ولازم ذلك أنّ فعله

١٧

عَبث، تعالى الله عن ذلك.

فذهب أهل السُنّة إلى أنّ أفعاله غير مُعَلَّلَة، وذهب الإماميّة إلى أنّها مُعَلَّلَة بدون حاجة منه تعالى لِلعلّة، وإنّما يعود نفع العِلّة للعباد أنفسهم، وبذلك يُجمَع بين الأمرين مِن كونه تعالى لا يفعل العَبَث، ومِن كونه غنيّاً عن الحاجة.

ومع جميع ما ذكرناه لا يُقال: إنّ المُسلِمينَ تَطورّت عقائدهم، وزاد مضمون الإِسلام عَمّا كان عليه في الصدر الأوّل، وإنّما الذي حَدَث أنّ المُسلِمينَ توسَّعوا في شَرح الأُمور المُجمَلَة، عندما اضطرّوا لذلك نتيجة تفاعُلِهم مع ثقافات مُختَلِفة، وأفكار متنوّعة، فالمسلم في صدر الإِسلام والمسلم في أيّامنا، مصدر تشريعه الكتاب والسُنّة، ولكنّه فيما مضى أخذهما مُجمَلَين، والآن احتاج إلى التفصيل؛ لوجود دواعي وُجِدَت ولم تكن موجودة في الصدر الأوّل، فإذا كان التَطوّر المنسوب إلى التَشَيُّع على هذا النحو الذي حَدث في الإِسلام نفسه، فهو واقع بهذا المعنى لا نزاع في ذلك، أمّا إذا كان استحداث آراء جديدة وبعيدة عن روح الإِسلام فلا؛ لأنّ كلّ ما يأباه الإِسلام يأباه التَشَيُّع بالضرورة.

إنّ التطوّر الذي حَدث في الإِسلام على الشِكل الذي ذكرناه، لم يُشكّل قدحاً في عقائد فِرَق المُسلِمينَ، وإذا كان ما حَدث في التَشَيُّع مِن تَطوّر مثل ما حَدث في الإِسلام كَكُل، فما له هُنا يُشكّل قدحاً في العقيدة، ويُثيرُ شُكوكاً لا مُبرِرَ لها؟.

3 - ومع التَنزّل وافتراض دُخول عُضو إضافيٍّ على جِسم التَشَيُّع - كما يُريد أن يُثبته البَعض اعتباطاً وهو منفيّ - فإنّ مثل هذا الفرض يأباه الفِكر الشيعي، إذا كان مِمّا لا يلتقي مع كتاب الله تعالى، وسُنّة نبيّه صلّى الله عليه وآله، والخطوط الإسلاميّة العامة.

إنّ مثل هذا الفرض هو رأي يَرِدُّ إلى نَحرِ قائله، فكلُّ ما هو ليس مِن الإِسلام فهو ليس مِن التَشَيُّع في شيءٍ؛ بداهة أنّ التَشَيُّع مِن عَطاء فِكر أهل البيت، وهُم عِدْلُ الكتاب، وهُم مَثلُ سفينة نوح، فعلى هذا يكون ما يُنسَبُ إلى التَشَيُّع مِن هذا القبيل إنّما هو خَلطٌ بين التَشَيُّع والشيعة، وكثير مِمَّن يُنعت بأنّه مِن الشيعة يرفضه الهيكل الشيعي فيما له مِن حدود، وهو ما سَنَمرُّ عليه ونذكر أدلّته، والشأن في ذلك شأن التفكير السُنّي الذي ينفي عنه بعض المنتسبين إليه مِمَّن تثبت انحرافهم عن خطوط الإِسلام، ولا يقدح وجود أمثالهم عند أهل السُنّة، ولا يُنتَزع مِن وجود

١٨

أمثال هؤلاءِ حُكم عامٌّ يُعَمَّمُ على أهل السُنّة.

وعلى أسوأ الفُروض لو وُجِدَت أفكار إضافيّة طارئة على جسم أيِّ مذهب مِن المذاهب، وزائدة على مُحتواه الأصلي كما هو الفرض، ولكنّها لا تُشكّل إنكار ضروريّة مِن ضروريّات الدين، ولا رِدَةً ولا انحرافاً، فإنّ أمثالها لا يُبَرِر رَمي مَن وُجِدت عنده بالمُروق عن الدين، والخروج عن الإِسلام، وربطهم باليهوديّة والنصرانيّة، وأمثال ذلك مِن النِسب التي لا يَتَفَوّه بها مُسلِم على أخيه، وله ضميرٌ وخُلُقُ مُسلِم يصدر في سلوكه عن تعاليم الإِسلام.

فمتى كان القول بالوصاية مثلاً، وأنّ لكلّ نبيّ وصيّاً، وأنّ الأوصياء يجب كونهم معصومين؛ حتّى يتحقق الغرض مِن نصبهم قادة للأمّة، والاعتقاد بأنّ المهديّ حيٌّ، وأمثال ذلك مِن العقائد موجِباً للخروج مِن الدين، ومِدعاة لشنِّ حَملات شعواء كانت وما تزال يَجترُّها الخَلف عن السَلف، دون أن يتبيّن ما هي مصادرها؟ ودون أن يُحَلِّلُها ويُناقشها.

إنّ صَرف هذه الطاقات في ميادين التهريج أقلُّ ما يُوصف به أنّه عملٌ غير مسؤول، بالإِضافة إلى إمكان توجيه هذه الطاقات إلى ميادين إيجابيّة في الخَلْقِ والإِبداع، وفي جَمعِ الشَمل، ولَمِّ الشَعَثِ، وتنظيف الأجواء الإسلاميّة مِن الحِقدِ والكراهية التي لا يستفيد مِنها إلاّ أعداء الإِسلام.

إنّ الّذين يَقفون وراء نَعرات التشويش والفِرقة قوم بعيدون عن روح الإِسلام وجوهره، وليسوا ببعيدين عن الشبهات خُصوصاً وأنّ أمثال هذه المواضيع يجب أن تبقى مَحصورة في نِطاق العُلَماء فقط، وأن لا تنزل إلى مستوى الأوساط مِن الناس، فضلاً عن العامّة؛ وذلك لأنّ للعُلماء مَناعَة تُبعِدُهُم عن النظرة المُرتجَلَة، والنَعرة الجاهليّة كما هو المفروض.

إنّ المفاعلات الطائفيّة في تصوّري أخطر على الإِنسانيّة مِن المفاعلات النَوويّة، وحَسْبَ تاريخ المُسلِمينَ خلافات كانت وما تزال غُصّةً في فَمِ كلّ مؤمن بالله تعالى وبدينه، وكلّ داعٍ لرسالات السماء التي مِن أوّل أهدافها تأصيل الروح الإِنسانيّة في كلّ أنماط السُلُوك عند البشر.

١٩

٢٠