هوية التشيع

هوية التشيع0%

هوية التشيع مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 237

هوية التشيع

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور أحمد الوائلي
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 237
المشاهدات: 33783
تحميل: 5266

توضيحات:

هوية التشيع
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 33783 / تحميل: 5266
الحجم الحجم الحجم
هوية التشيع

هوية التشيع

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مهجورة، فماذا تكون نِسبة مِثل هؤلاءِ إلى الأُمّة حتّى يُسمّون فِرقة. هذا مِن ناحية، ومِن ناحية أُخرى إذا كانت كلّ فِرقة تؤاخَذ برأي فرد شاذٍّ مِنها، ويُسمّى ذلك الشاذُّ فِرقة، فإنّ كلّ فرد أُمّة برأسه، فلا يوجد شخص ليس له ما يمتاز به عن غيره في بعض الآراء السليمة، أمّا الآراء الشاذّة فما دامت لا تُعدُّ مِن الآراء السائدة، والمتعارف عليها عِند الفِرقة فلا تُعتَبَر مِن آرائها، وقد بادت بعضُ الفِرَق، ومع ذلك فلا تزال آراؤهم تُلقى على بَعض مَن يعيش اليوم مع أنّه بريء مِنها.

3 - النُقطَةُ الثالثة:

يَتحتّم على كلّ كاتب إذا أراد أن يكون لرأيه وزن، أن يَشعُر بمسؤوليّة الكَلِمة؛ لما يترتَّبُ على الكلمة مِن آثار، ولوازم لها خطرها، وفعلها في المُجتَمَع، فلا بُدَّ حين الكتابة مِن أن يَعتمد على مصادر الفئة نفسها التي يكتب عنها، على أن يكون ذلك المصدر، أو الكتاب مِن الكُتُبِ المُعتَبَرَة عند الفئة، والمُتسالَم عليها أنّها تُمثّل الفئة، وتُشكّل مُحصَّل آرائهم، وإجماع مذهبهم، كالصِحاح عند السُنّة، والصِحاح عندَ الشيعة، فيما تَسالموا عليه مِن رواياتها، واعترفوا بِصحَّته، لا كلّ ما يَرِدُ فيها، فإنّ في كُتُب الصِحاح عند الفريقين ما لا يعترَفُ به (1) . كلّ ذلك مع اعتقاد الموضوعيّة، والبحث عن الحقيقة، فضلاً عن أن يَكتِب الباحث عن فِرقة، ويكون مَصدره في البحث عنها مِن مؤلَّفات خُصومها، وليت الخصوم الّذين يَستَند إليهم مِمَّن يُعرَف بالصدق والاستقامة، ولكنّهم يستندون إلى أقوال مَن عُرِفَ بالوضع والافتعال وعدم التحرُّج، فُيرسلون رأيه إرسال المُسلّمات، ويُرتِّبون على كلامه كلّ اللوازم لتلك الكلمات. وهذا وضعٌ مِن شأنه أن يُسقط كلّ أمثال هذه الكُتُب عن الاعتبار، فمتى كان الكَذب والوضع مَصدراً عن أحوال الناس، والله تعالى نهانا عن تصديق الفاسقين.

____________________

(1) دراسات في الكافي والصحيح لهاشم معروف، طبعة بيروت الأولى.

١٢١

4 - النُقطَةُ الرابِعة:

أن يكون الكتاب الذي يؤخذ مصدراً منِ الكُتُب ذات الاختصاص بموضوعه، فلا يُمكن أخذ رأي فقهيّ لبعض الفِرَق مِن كِتاب أدَب أو قصص، ولا تُؤخَذ عَقيدة فئة مِن ديوان شِعر، كما رأينا البعض يفعله، فإنّ لكلِّ فرع مِن فُروع المعرفة كُتُباً تَختصُّ به، فينبغي الرُجوع إليها إذا كنّا نتوخّى الدِقّة فيما نكتب، وإلاّ فإنّ ما نكتبه سوف لا يوصف بالعلميّة.

إنّ المُلاحَظ أنّ كُتُب الأدب عندنا تَحفَل بالآراء العقائديّة والفقهيّة، ويتّخذها كثير مِن الكُتّاب مصدراً عمّا يكتبه مِن عقائد وأحكام الفِرَق، ولستُ أُريد أن أقول: إن جميع كُتُبِ الأدب عندنا لا يُعتَمد عليها، كلاّ، وإنّما المقصود: أنّ الكُتُب ذات الاختصاص تكون ألصق بموضوعها، وأكثر إحاطة، وبذلك توفِّر مصدراً موثوقاً.

5 - النُقطَةُ الخامِسة:

إنّ مُعالجات كُتّاب الفِرَق فيما يَقومون به مِن تقييم للفِرَق هي مُعالجات غير عِلميّة؛ وذلك لأنّ المفروض أن تكون العقائد والأحكام عند الِفرَق مَصدرها واحداً مِن مصادر التشريع المُعتَرَف بها، والتي تقرُّها الشريعة، كالكتاب، والسُنّة، والإِجماع وغيرها، فإذا ذهب الشيعة مثلاً إلى نَظريّة التعيين في الخلافة، وأوردوا دليلاً مِن الكتاب أو السُنّة، فينبغي النظر إلى دليلهم، فإذا كان الدليل مُستوفِياً لشروط الصحَّة فَبِها، وإلاّ نوقش الدليل علميّاً. لا أن يقال: إنّ الفُرس يرون لملوكهم حقّاً إلهيّاً بالحكم، وبما أنّ الشيعة يقولون بالنصّ لا الشورى، فَهُم قد أخذوا ذلك مِن الفُرس. إنّ مِثل هذا المنطق لا يَصدر عن عقليّة ناضجة، فمتى كان مُجرَّد الالتقاء مع الآخرين بِنظريّة معناه الأخذ مِنهم.

إنّ الإِسلام مثلاً يذهب إلى التأميم في حالات معينة، إذا توقَّفت المصلحة العامَّة على ذلك، والشيوعيّة تَذهب إلى التأميم، فهل معنى ذلك أنّ الإِسلام شيوعيٌّ، أو الشيوعية إسلام؟؛ لأنّها التَقَت مع الإِسلام في موضوع مُعيَّن. إنّي أطلب مِن قارئ الكتاب أن يَعود إلى كُتُبِ الفِرَق، فإذا وَجَد

١٢٢

فيها مَنطقاً غير هذا المنطق فَليَقُل ما شاء. إنّ مُعظم أدلّة ابن حَزَم، والشهرستاني، وابن عَبد رَبّه الأندلسي، ومَن لَفَّ لَفَّهم مِن هذا النَمط، وبعضهم يُصدر فتاوى بدون دليل، وبدون شُبهة مِن دليل، وإنّما هي مُجرّد استحسان انقَدَح في نفسه، فأراد أن يُدوِّنه بدون مسؤوليّة. ودعني أضرب لك مثالاً واحداً: ذلك هو أنّ المُستَشرِق ولهوزن ذكر أنّ أصل الشيعة يهوديٌّ، واستند في ذلك إلى قول نُسِب للشعبي، وقد نقله أصحاب كُتُبِ الفِرَق: ابن حَزَم، والشهرستاني، وابن عَبد رَبّه الأندَلُسي. والقول المنسوب للشعبي هو:

قَولُ الشعبي

قال الشعبي: أُحذِّرك الأهواء المضلة، شرّها الرافضة، فإنّها يهودُ هذه الأُمّة، يبغضون الإِسلام كما يبغض اليهود النَصرانيّة، ولم يدخلوا الإِسلام رغبة، ولا رهبة مِن الله. إنّ محبَّة الرافضة محبَّة اليهود، قالت اليهود: لا يَكون المُلك إلا في آل داود، وقال الرافضة: لا يكون المُلك إلا في آل عليٍّ، وقالت اليهود: لا يكون جِهادٌ في سبيل الله حتّى يخرج المسيح، وقالت الرافضة: لا جهاد في سبيل الله حتّى يخرُج المهدي، واليهود يؤخِّرون صلاة المغرب حتّى تشتبِك النُجوم، وكذلك الرافضة. انتهى بتلخيص (1) .

تَعقيبان

هذه القصّة استعرضها الدكتور عرفان عبد الحميد في كتابه دراساتٌ في الفِرَق، وعقَّب عليها ناقِداً ومُزيِّفاً بالأُمور التالية:

أولاً: إنّ العقد الفريد، وتاريخ الطبري هي كُتُب أدَب وتاريخ، وليست كُتُب عقائد.

وثانياً: إنّ الطبري استند في هذه الرواية إلى سيف بن عُمَر، وهو كذّاب

____________________

(1) العُقد الفريد: 2/409.

١٢٣

مُتَّهم بالوضع، وقد نصَّت على كَذِبه كُتُب الجرح والتعديل، ولم تأخذ بأقواله في شيء.

ثالثاً: إنّ الشعبي نفسه مُتَّهم بالتشيّع، فلا يَصدر مِنه مثل هذا القول، وإنّما اختاروه فوضعوا على لسانه هذه القصّة، وقد عدَّه ابن سعد والشهرستابي شيعيّاً (1) .

وأنا أُضيف إلى مُلاحضات الدكتور عرفان ما يلي:

أ - سؤال عن أنّه هل لليهود صلاة يشترط فيها وقت الغروب؟ هذا مِن جانب، والجانب الآخر هذه كُتُب الشيعة كافَّة في الفِقه، وأنا أتحدّى مَن يجد فيها رأياً واحداً، يذهب إلى أنّ وقت صلاة المغرب عند اشتباك النجوم، وإنّما إجماعهم أنّه بعد غروب الشمس مُباشرة ويحتاطون، فيشترط بعضهم ذهاب الحُمرة المشرقيّة، فليراجع القارئ أيّ كِتاب فِقه مِن كُتُبهم.

ب - أمّا الجهاد: فإنّ باب الجهاد في كلّ كُتُب الشيعة كفيل بالردِّ على هذه الفِرية، فإنّ حُكم الجهاد عندهم: أنّه قائم في كلّ وقت بشروطه كما هو عند سائر الفِرَق الإسلاميّة.

ج - أمّا كون الخلافة عِندهم في آل عليٍّ فليس ذلك مِنهم، وإنّما هو استناد إلى أدلّة الكتاب والسُنّة، وقد تقدّم بعضها، وسَيَرد قِسم آخر مِنها، فينبغي النظر في أدلّتهم، والحكم عليها هل هي تامة أم لا؟، ثمّ ينبغي توجيه هذا الانتقاد للنبي (ص)؛ لأنّه قال: (الأئمّة مِن قريش)، كما يذهب لذلك جمهور المُسلِمينَ.

إنّ هذا النمط مِن الكلام يوقفك على عقليّة هؤلاءِ الكُتّاب الّذين يكتبون عن الشيعة، ومصدرهم قولٌ وهميٌّ يُنسَب إلى شخص قبل ألف سَنَة، وبين أيديهم مصادر الشيعة، ولا يرجعون إليها فَما تسمّي هذا؟، وبعد هذا الاستطراد نعود للهويّة العقائدية عند الشيعة، إنّها لا تختلف بشيءٍ عمّا عند باقي فِرق المُسلِمينَ، إلاّ إذا استثنينا موضوع الإِمامة، وما يتّصل به مِن صفات الإِمام.

أمّا باقي نقاط الخلاف

____________________

(1) انظر دراساتٌ في الفِرَق والعقائد: ص30.

١٢٤

التي يفترق بها الشيعة عن باقي فِرَق المُسلِمينَ، فإنّ ما بين المذاهب الأربعة أنفسهم مِن نقاط الخلاف أضعاف ما يوجد بين السُنّة والشيعة، بل إنّ عُلماء المذهب الواحد وفُقهائهم بينهم مِن الخلاف أكثر مِمّا بين الشيعة والسُنّة بدون مُبالغة، ورُبّما يرد علينا ما يؤيّد هذه الدعوى خلال البحث في فقرات قادمة.

عقائدهم بأقلامهم

سأذكر هُنا جُملاً قصيرة عمّا كَتَبه عُلماء الشيعة أنفسهم عن آرائهم الدينيّة وعقائدهم؛ لتكون مُجرد مؤشِّر لِمَن يريد التوسُّع، ويبحث عن الحقيقة بعيداً عن الأهواء والعواطف.

1 - ابن بابويه القُمّي:

وكِتابه (عقائد الشيعة) مِن الكُتُب الرائدة في هذا الميدان، وقد ضَمَّنه كلّ عقائد الشيعة بدون مواربة، لذا كان كتابه مِن المصادر التي يُرجَع إليها، بالإِضافة إلى أنّ الرجل مِن أساطين المذهب، وعمالِقة الطائفة. وهذه نُبذة عمّا كَتبَه عن عقيدة الإماميّة بالإلوهية قال:

اعتقادنا بالتوحيد: أنّ الله تعالى واحد ليس مثله شيء، قديم لم يزل ولا يزال، سميعاً بصيراً حكيماً حيّاً قيّوماً عزيزاً قدوساً عالماً قادراً. لا يُوصف بِجَوهر، ولا جسم، ولا صورة، ولا عَرَض، خارج عن الحدَّين حَدّ الإِبطال وحَدّ التشبيه.

واعتقادنا في القرآن: أنّه كلام الله ووحيه وتنزيله وكتابه، وأنّه لا يأتيه الباطل مِن بين يديه، ولا مِن خلفه، وأنّ القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه هو ما بين الدفّتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر مِن ذلك، ومَن نَسَب إلينا أنّا نَقول: إنّه أكثر مِن ذلك فهو كاذب. هذا ما كتبه ابن بابويه الذي عاش وسَطَ القرن الرابع، وتُوفّي سَنَة 381 هـ (1) .

____________________

(1) دراسات في عقائد والفِرَق الإسلاميّة، ص18.

١٢٥

2 - الشَيخ المُفيد مَحمّد بن النُعمان، قال في (أوائل المقالات):

إنّ الله عزّ وجلّ واحدٌ في الإِلهيّة والأزليّة، لا يشبهه شيء ولا يجوز أن يماثله شيء، وإنّه فَرد في المعبوديّة، لا ثاني له فيها على الوجوه كلّها والأسباب، على هذا إجماع أهل التوحيد إلا مَن شذَّ مِن أهل التشبيه، وإنّ الله عزَّ وجلّ حيّ لنفسه لا بحياة، وعالِم لنفسه لا كما ذهب إليه المشبِّهة، وقادر لنفسه.

وأقول: إنّ القرآن كلام الله ووحيه، وإنّه مُحدّث كما وصفه الله تعالى، وأمنع مِن إطلاق القول عليه بأنّه مَخلوق، وإنّ الله عالم بكلِّ ما يكون قبل كونه، وإنّه لا حادث إلاّ وِقد عَلِمَهُ قَبل حُدوثِه، ولا معلوم، وممكن أن يكون مَعلوماً إلاّ وهو عالم بحقيقته، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، لهذا اقتضت دلائل العُقول، والكتاب المسطور.

ثمّ تحدّث الشيخُ المُفيد، وأشار إلى قول مَن يدَّعي أنّ القرآن حُذِف مِنه شيء، فأوّل هذا القول، بأنّ المحذوف هو الشُروح والتفسيرات، ولا شيء مِن أصل القرآن محذوف، وذكر أنّه مِن الذاهبين إلى هذا الرأي، فقال في ذلك:

وقال جماعة مِن أهل الإِمامة: إنّه لم ينقص مِن آية، ولا مِن كلمة، ولا مِن سورة، ولكن حُذف ما كان في مِصحف عليٍّ مِن تأويله، وتفسير معانيه على حقيقة تنزليه، وذلك كان ثابتاً، وإن لم يكن مِن كلام الله تعالى، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً، قال الله تعالى: ( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه: 114، فقد سمّى تأويل القرآن قُرآناً، وعندي أنّ هذا القول أشبه مِن مَقال مَن ادّعى نُقصان كَلِم نَفس القرآن (1).

3 - السيد محسن الأمين العاملي قال:

وعقيدة الشيعة: أنّ كلّ مَن شَكّ في وجود الباري أو وحدانيّته، أو نبوَّة

____________________

(1) أوائل المقالات للمُفيد: ص53 إلى آخر الفصل.

١٢٦

النبيّ (ص)، أو جعل له شريكاً في النُبوّة، فهو خارج عن دين الإِسلام، وكلّ مَن غالى في أحد مِن الناس مِن أهل البيت، أو غيرهم، وأخرجه عن دَرَجَة العبوديّة لله تعالى، وأثبت له نُبوّة، أو مُشاركة فيها، أو شيئاً مِن الصفات الإِلهية، فهو خارج عن رِبقة الإِسلام، والشيعة يبرأون مِن جميع الغُلاة والمفوّضة وأمثالهم. انتهى بتلخيص (1) .

4 - محمّد رِضا المُظفّر قال:

نعتقد أنّ الله واحد ليس كَمثله شيء، قَديم لم يزل ولا يزال هو الأوّل والآخر، عليم حكيم عادل قادر حيّ غنيّ سميع بصير، لا يوصف بما تُوصَف به المخلوقات، ونعتقد بأنّه يجب توحيد الله تعالى مِن جميع الجهات، بأنّه واحد في ذلك، وصفاته عَينُ ذاته، وكذلك يجب توحيده في العبادة، ونعتقد أنّ النُبوّة وظيفة إلهيّة، وسفارة ربانيّة يجعلها الله لِمَن يختاره مِن عباده الصالحين، فيرسلهم إلى سائر الناس لإِرشادهم، ونعتقد أنّ الإِمامة أصلٌ مِن أُصول الدين لا يتمُّ الإِيمان إلاّ بالاعتقاد بها، ويجب النظر فيها كما يجب النَظر في التوحيد والنبوَّة، وهي كالنبوَّة لُطفٌ من الله تعالى. ونعتقد أنّ القرآن هو الوحي الإِلهي المنزل مِن الله تعالى على لسان نبيّه الأكرم، لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف، ومَن ادّعى فيه غير ذلك فهو مُخترق أو مُغالط، وكلُّهم على غير هُدى، فإنّه كلام الله تعالى، الذي لا يأتيه الباطل مِن بين يديه، ولا مِن خلفه (2) .

هذه أربع مُقتطفات أورِدتها بتَلخيص؛ لتكون مؤشِّراً لمَن يُريد التوسُّع في معرفة عقائد الشيعة، وليرجع إلى المؤلَّفات في ذلك، وراعيت فيها أن تكون ممتدَّة على أبعاد التاريخ الشيعي، فإنّ اثنين مِمَّن ذكرتهم وهُما الصدوق والمفيد عاشا في القرن الرابع، أمّا الآخران فقد عاشا في القرن الرابع عشر. ومِن المُضحِك حقّاً بأن نُسجِّل أنّنا قوم مسلمون، ولكنّ كثيراً مِن الأُمور المُضحكة قد يُرغم الإِنسان

____________________

(1) أعيان الشيعة للأمين: 1/91.

(2) عقائد الإماميّة للمُظفّر: ص43 فصاعداً.

١٢٧

على عَملها بحُكم الضرورة، فما نصنع ونحن ما زِلنا هدفاً للرُماة، وأيسر ما نرمى به هو ما يُخرِج عن الإِسلام، وما يؤدّي إلى الكفر. وقد أردّتُ بوضع هذه المقتطفات في صَدر البحث؛ لتكون مجرَّد مُذكِّر للقارئ، وهو يمشي معي بهذه المسيرة التي سأُطلِعه خلالها على ما يُنسَب للشيعة مِن دواهي، والقارئ الذي أقصدُه: هو القارئ السُنّي خاصّة مِن دون باقي القُرّاء؛ لأنّ في ذهنه عن الشيعة صور مِن العسير جدّاً انتزاعها، إلاّ أنّ أَمَلي بعون الله، وإخلاص قصدي في تخليص هذا الطريق مِن الشوائب، يفتح لي باب أمَل في وضع لَبِنَة بِصَرح وحدة المُسلِمينَ.

١٢٨

الفَصلُ الثاني

عبد الله بن سَبَأ

بالرغم مِن وفرة المصادر عن الشيعة، وبالرغم مِن خُطورة موضوع الكتابة عن العقائد، وبالرغم مِن الواقع المُجسّد للشيعة مِن مؤسّسات دينيّة، وفعاليّات عقائديّة، ومساجد تُردِّد كلمة التوحيد ليل نهار، برغم ذلك كُلّه فإنّنا ما زِلنا نَرى مَن يكتب عن الشيعة ويترك هذا الواقع القائم وراء ظهره، ويولي وجههُ شَطرَ كتابات صَدرت مِن قومٍ كَتبوا، ومِن خَلفهم دوافع غير سليمة لمُختَلف الأسباب، فبدلاً مِن أن يعودوا إلى مؤلّفات الشيعة أنفسهم، رأيناهم يرجعون إلى أقوالٍ صاغها الوهم، وافترضها الحقد، وخلقتها الخصومة، وقد يكون الجهل أحد عوامل وجودها. ومما افترضه هؤلاءِ الكُتّاب: أنّ عقائد الشيعة الأساسيّة وضعها يهوديٌّ حاقد اندسَّ في صُفوف المُسلِمينَ، اسمه عبد الله بن سَبَأ.

وهذا العبد المفترض موضوعه طريف جدّاً، فقد صنعه قوم، واخترعوه اختراعاً، وأعطوه مِن الصفات والنعوت ما هو مِن المُعجزات، وصنعوا له مِن القابليّات ما لا يمكن نِسبته إلا إلى عفاريت الأساطير، ومَرَدَة الجنِّ، وما تعجز عن تحقيقه أُمّة قويّة فضلاً عن فَرد، وإنّ مثل هذا الكلام يُجسِّد فجيعتنا بعقولنا قبل أن يُجسّد هذه الخُرافات في تاريخنا، وسَنَرى مَن الذي حاك عبد الله بن سَبَأ؟

ومَن هو؟

وما الذي عمله؟

ولماذا تُربَطُ الشيعة به؟.

١٢٩

مَنْ الَذي حَاكَ عَبدَ اللهِ بِن سَبَأ

إنّ الذي يُريد التعرُّف على مَصدر ولادة عبد الله بن سَبَأ، سَيَجد أنّه وُلِد مِن روايات الطبري، وروايات الطبري تستند في هذا الموضوع على ركيزتين هُما:

أ - الرَكيزَةُ الاُولى:

سيف بن عُمَر، وتقول عنه كُتُب التراجُم ما يلي بالحرف الواحد.

يقول ابن حيّان: كان سيف بن عُمَر يروي الموضوعات عن الأثبات، وقالوا إنّه كان يَضع الحديث، واتُهِمَ بالزندقة، كما يقول عنه الحاكم النيسابوري: اتُّهِم سيف بالزندقة، وهو بالرواية ساقط، ويقول عنه ابن عدي: بعض أحاديثه مشهورة، وعامّتها مُنكرة لم يُتابَع عليها، ويقول عنه ابن معين: ضعيف الحديث، فليس فيه خير، وقال ابن حاتم: متروك الحديث، يشبه حديثُه حديثَ الواقدي، وقال عنه أبو داود صاحب السنن: ليس بشيء، وقال عنه النسائي صاحب السنن: ضعيف، وقال عنه السيوطي: إنّه وضّاع، وقال عنه محمّد بن طاهر بن عليّ الهندي: سيف بن عُمَر متروك، اتُّهِم بالوضع والزندقة، وكان وضّاعاً (1) .

ب - الرَكيزَةُ الثانية:

السري بن يحيى كما يُسميه الطبري، وهو ليس بالسري بن يحيى الثِقة؛ لأنّ السري بن يحيى الثقة يكون زمانه أقدم مِن الطبري، فقد توفّي سَنَة 167 هـ. في حين وُلِد الطبري سَنَة 224، فالفَرْقُ بينهما سَبعة وخمسون عاماً، ولا يوجد عند الرواة سري بن يحيى غيره، ولذلك يَفترِض أهلُ الجرح والتعديل: أنّ السري الذي يَروي عنه الطبري يجب أن يكون واحداً مِن اثنين، كلّ منهما

____________________

(1) تهذيب التهذيب لابن حَجَر: 4/295، والغدير للأميني: 8/68.

١٣٠

كذّاب وهُما: السري بن إسماعيل الهَمداني الكوفي، وهو أوّلهما، وثانيهما: السري ابن عاصم الهمداني نزيل بغداد المُتوفّى سَنَة 258، والذي أدرَك ابن جرير الطبري وعاصره أكثر مِن ثلاثين عاماً. وكلّ مِن هذين قد كَذَّبه أهل الحديث، واتّهموه بالوضع، فقد كذّبهما صاحب تهذيب التهذيب، وصاحب ميزان الإِعتدال، وصاحب تذكرة الموضوعات، وصاحب لسان الميزان، وغيرهم، واتّهموا كلّ واحد مِنهما بالوضع، وبوسع القارئ مُراجعة المصادر التي ذَكرتُها في ترجمة المذكورين (1) .

وقد ذكر النُقّادُ للطبري سبعمائة حديث وحديثاً واحداً، وهذه الأحاديث تُغطّي زمن الخُلفاء الثلاثة، وأسانيد هذه الروايات كُلُّها عن السري الكذّاب، وعن شُعيب المجهول، وعن سيف الوضّاع المُتّهم بالزندقة.

ومِن تلك الروايات: رواياته في أحوال عبد الله بن سَبَأ، وسنده عن شعيب، وعن سيف بن عُمَر، وكُلُّ مَن كَتَب عن عبد الله بن سَبَأ فهو عيال على الطبري، وعنه أخذ، وإليه استند (2) .

ومِن ذلك تعرف مقدار ما في موضوع عبد الله بن سَبَأ مِن وثاقة وصدق، وفي رأيي أنّ مِن العَبَث أن نُلفت أنظار هؤلاءِ الّذين يُصرّون على وجوده، وما قام به مِن أعمال؛ لأنّهم يوجدونه حتّى لو لم يكن موجوداً؛ وذلك لأُمور في نفوسهم.

1 - مَن هو عبد الله بن سَبَأ:

للتعرُّف على هُويَّة عبد الله بن سَبَأ، سوف أبدأ بالمنبع الأساس، وهو تاريخ الطبري، وأُعقّبه بباقي المصادر عنه، وسأنقل قول الطبري مِن خلال ما نقله أبو زُهرة، قال: كان عبد الله بن سَبَأ يهوديّاً مِن أهل صَنعاء، أُمّه سوداء، أسلم أيّام عُثمان، ثمّ تَنقَّل في بُلدان المُسلِمينَ يحاول إضلالهم، فبدأ ببلاد الحِجاز، ثمّ البصرة، ثمّ الشام، فلم يقدر على ما يُريد عند أحد مِن أهل الشام، فأخرجوه حتّى أتى مِصر، فقال لهم فيما يقول: العجب مِمَّن يَزعم أنّ عيسى يَرجِع، ويُكَذِّبُ بأنّ محمداً

____________________

(1) لسان الميزان: 3/12، والغدير للأميني: 8/143.

(2) انظر الغدير للأميني: 9/218.

١٣١

يرجع، وقد قال الله تعالى: ( إِنّ الّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادّكَ إِلَى‏ مَعَادٍ ) القَصص: 85.

ثمّ إنّ محمداً أحقُّ بالرجعة مِن عيسى، ثمّ قال: ذلك إنّه كان ألف نبيّ، ولكلِّ نبيٍّ وصيٌّ، وعليّ وصيُّ محمّد، ومحمّد خاتم النبيّين، وعليٌّ خاتَم الأوصياء (1) .

وهنا نُقاط ذكرها، أُريد أن أُؤكِّد عليها للمقارنة مع غيرها، وهي:

أولاً: إنّه ابن السوداء، وثانياً: إنّه مِن أهل صنعاء، وثالثاً: إنّه يُؤكِّد رُجوع النبيّ (ص) للدنيا، ورابعاً: إنّه ذكر أنّ عليّاً وصيُّ النبيّ، وخامساً: إنّه أسلم أيّام عُثمان. وبعد ذلك نعود لأبي زُهرة، وفي نفس كتابه المذكور - تاريخ المذاهب الإسلاميّة - قال في مورد آخر: عبد الله بن سَبَأ كان يَهوديّاً مِن أهل الحيرة، أظهر الإِسلام، وأخَذَ ينشر بين الناس، أنّه وَجَدَ في التوراة: أنّ لكلِّ نبيٍّ وصيّاً، وأنّ عليّاً وصيُّ محمّد، وأنّ عليّاً أراد قَتلَه، ولكن نهاه عبد الله بن عبّاس، فنفاه للمدائن بَدَل قتله (2) .

وبين هذين المُقتطفتين الفُروق التالية، أُلفِت النظر إليها وهي:

أنّه في الأُولى مِن أهل صَنعاء، وفي الثانية مِن أهل الحيرة، وأنّه في الأُولى أسلم أيّام عُثمان، وفي الثانية أظهر الإِسلام ولم يُحدِّد وقت إسلامه، وأنّ الإِمام أراد قَتلَه كما ذَكَر في الثانية في حين لم يذكر ذلك في الأُولى، وأنّه مِن المُقتطفة الثانية قرأ فِكرَة الوصاية في التوراة في حين في الأُولى لم يَذكر مَصدَر فِكرة الوصاية، فلنحفظ هذا لنرى ما بين المقتطفات مِن فُروق وخصائص قد تتضارب.

2 - محمّد فريد وجدي في دائرة المعارف، قال:

السبائيّة أتباع عبد الله بن سَبَأ، الذي غلا في الانتصار لعليٍّ، وزَعم أنّه كان نبيّاً، ثمّ غلا فزعم أنّه الله، ودعا إلى ذلك قوماً مِن أهل الكوفة، فاتّصَل خبرهم بعليٍّ، فأمر بإحراق قوم مِنهم، ثمّ خاف مِن إحراق الباقين أن يَنتَقض عليه قوم، فنفى

____________________

(1) تاريخ المذاهب الإسلاميّة: 1/32.

(2) تاريخ المذاهب الإسلاميّة: 1/43.

١٣٢

ابن سَبَأ للمدائن، فلّما قُتِل عليٌّ زعم ابن سَبَأ أنّه ليس المقتول عليّاً، وإنّما هو شيطان صُوِّرَ على صورته، وهذه الطائفة تزعم أنّ المهدي المنتظر إنّما هو عليّ، وكان ابن السوداء في الأصل يهودياً مِن أهل الحيرة، فأظهر الإِسلام، وأراد أن يكون له عند أهل الكوفة سوق ورياسة، فذَكَر لهم أنّه وجد في التوراة: أنّ لكلِّ نبيٍّ وصيّاً، وأنّ عليّاً وصيُّ محمّد (ص)، فلّما سمعوا ذلك قالوا لعليٍّ إنّه مِن مُحبّيك، فرفع عليّ قدره، وأجلسه تحت دَرجَة مِنبره، ثمّ بَلَغه عنه غُلوُّه فيه فَهمَّ بقتله، فنهاه عبد الله بن عبّاس إلى المدائن (1) .

وفي هذه المُقتطفة: أنّه مِن أهل الحيرة لا صَنعاء، وأنّه ابن السوداء، وأنّ الإِمام عليّاً خُدِعَ به، وأنّه ادَّعى النُبوّة لعليٍّ، ثمّ ادَّعى له الإلوهيّة. وإلى هُنا يُمكن الجمع بين هذا الخلط العجيب، ولكن كيف يمكن بعد ذلك أن نجمع بين كونه يُنسِب له الإلوهيّة، ثمّ يَجعله وصيّاً لمحمّد؟! أترِكُ تَقدير هذا إلى العقول الجبّارة كمحمد فريد وجودي، ونظائره مِمَّن يقود خُطى الجماهير في دُروب الثقافة، والحمد لله الذي لا يُحمَد على مكروه سواه، ولا تَستعجل أيها القارئ، فَسَتَسمع أُموراً أُخرى مِن المقتطفات القادمة تَصطدم مع ما مَرَّ.

3 - أحمد عطيّة الله، قال حفظه الله:

ابن سَبَأ رأس الفِرقة السبائيّة مِن الشيعة، وهو عبد الله بن سَبَأ، كان مِن يهود صنعاء، وأظهر إسلامه في خلافة عُثمان، يُعرَف بابن السوداء، انتقل إلى المدينة، وبَثَّ فيها أقوالاً وآراء مُنافيةً لِروح الإِسلام ونابعة مِن يَهوديَّته، ومِن مُعتقداتٍ فارسيّة كانت شايعة في اليمن، بَرز في صورة المُنتصر لحقِّ عليٍّ، وادّعى أنّ لكلِّ نبيٍّ وصيّاً، وأنّ عليّاً وصيُّ محمّد، كما ادّعى أنّ في عليٍّ جُزءً إلهيّاً، طاف بأنحاء العراق ناشراً دعوته، فطرده عبد الله بن عامر مِن البصرة، فَنَزَل الكوفة، وأوغر صُدور الناس على عُثمان، وانتقل إلى دِمشق في ولاية مُعاوية، وفيها التقى بأبي ذر الغِفاري، وحَرَّضه على الثورة مُدّعياً أنّه ليس مِن حقِّ الأغنياء أن يقتنوا مالاً، وأُخرِج مِن الشام، فَنَزَل مِصر، فالتفَّ حوله الناقِمون على عُثمان، وفيهم محمّد بن أبي

____________________

(1) دائرة معارف القرن العشرين: 5/17 فصاعداً.

١٣٣

بكر وأبو حذيفة، ووضع على لسان عليٍّ أقوالاً لم يَقُلها كادِّعاء عِلم الغيب، وبعد استشهاد عليٍّ أنّه قال: إنّه لم يُقتَل، وسَيَرجع، وبذلك وضع فكرة الرجعة بين الشيعة (1) .

وفي هذه المُقتَطفة التي رواها عَطيّة الله أُمور:

مِنها: أنّ ابن سَبَأ جَمَع إلى عقائده اليهوديّة مُعتقدات أُخرى، فَنَقَلها للتشيُّع، ومِنها الرجعة، ولكنّ الرجعة هُنا لعليٍّ، وليست لمحمّد كما هي عند أبي زُهرة، ومنها أنّه أعطى لعليٍّ جُزءً مِن الإلوهيّة لا كُلّها، حتّى يُمكن الجمع بين كونه جُزء إلهٍ، وبين كونه وصيّاً للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها: الكشفُ عن هذه الطاقات الهائلة عند ابن سَبَأ، بحيث إنّ كلّ الثورات على عُثمان ومعاوية كانت مِن فِعله.

4 - وبِنفس هذا المضمون المُتضارب كتب كلٌّ مِن: أحمد أمين في فجر الإِسلام، ومحمّد بن يحيى في التمهيد والبيان في مَقتل عُثمان، والزركلي في الأعلام (2) .

ولا أُريد أن أُطيل عليك، فإنّ كلّ خَلَف يأخذ عن سلفه بدون تمحيص؛ مِمّا أدّى إلى هذا الخلط والاضطراب في الروايات، فهو في هذه الأخبار تارةً مِن أهل الحيرة، وأُخرى مِن أهل صنعاء، وهو عند ابن حَزم والشهرستاني وغيرهما ابن السوداء، بينما يذهب ابن طاهر البغدادي في الفَرقُ بينَ الفِرَق والأسفرايني في كتابه التبصرة في الدين: أنّ ابن السوداء شَخص آخر ليس عبد الله بن سَبَأ (3) .

وهو في بَعض هذه الروايات يَدَّعي الرجعة للنبيّ، وفي بعضها الآخر يدَّعي الرجعة لعليٍّ، وهو تارة يدَّعي بأنّ في عليٍّ جُزءاً مِن الإلوهيّة، وأُخرى أنّه إله كامل، وفي هذه الروايات نجد عليّاً مَرَّة يَحرِق الغُلاة ولا يخاف، وأُخرى يَخاف أن يَحرق ابن السوداء مع أنّه يهوديٌّ بسيط لا يأبه له أحد، وهكذا نَقع في هذا الخليط المضطرب، وأهمُّ هذه الأُمور في نظرنا هو أنّه: مرَّة يكون داعياً لفضل عليّ

____________________

(1) القاموس الإِسلامي: 3/222.

(2) انظر فجر الإِسلام: ص276، والتمهيد والبيان: ص96، والأعلام للزركلي: 4/220.

(3) انظر هامش منهاج السُنّة لابن تيميّة: ص220.

١٣٤

فقط، وأُخرى يكون مُحرِّضاً على عُثمان، وواضعاً لأهمِّ عقائد الشيعة مِن وصيّة، وعِلمِ غيب للأئمة، وقول بالرجعة. وهذان الأمران هُما روح الموضوع، فإنّ مِن صَنَعَ فِرية عبد الله بن سَبَأ، رمى فيها عُصفورين بِحَجر واحد، وأراد هذين الأمرين:

الأوّل: أنّ عُثمان قُتِل بتحريض مِن السبائيّة، لا أنّه صَنع أشياء نَقِمَ فيها عليه المسلمون، واشتركوا في قَتلِه، وفيهم صحابة النبيّ، مِمّا ذكره التاريخ مُفصَّلاً، بل كلّ ما في الأمر أنّ يَهوديّاً حاقداً حَرَّك المُسلِمينَ، فانساقوا مَعَه بِغَباء، وبِدون تفكير حتّى ارتكبوا هذه الجناية، وقتلوا الخليفة بدون أن يَصدُر منه ذَنب.

والثاني: أنّ عقائد الشيعة لا سَنَد لها مِن الإِسلام، وإنّما هي مِن هذا اليهوديّ العبقري، عبد الله بن سَبَأ، فالشيعة إذاً: يهود لا صِلَة لهُم بالمسلمين.

وعلى كلّ حال، إنّ هذا الاضطراب في الصورة المرسومة لعبد الله بن سَبَأ أيقظ الباحثين، ودَفَعَهم لإِلقاء الضوء على هذه الشَخصيّة الأسطوريّة، فأصحروا بآرائهم، وكَسروا الطوق، وأعلنوا للناس زَيف هذه الفِرية التي لا سبيل للجمع بين أبعادها وأجزائها، وبدأ الواقع يتَّضح رُويداً رُويداً، والأهداف مِن وراء أُسطورة ابن سَبَأ كَشَفت عن وجهها، وسأذكُر لك آراء كثير مِن النُقّاد، بعدَ أن أذكر ما عندي في هذه المسألة؛ لِنَصل إلى صورة واضحة في هذا الموضوع.

رأينا في عبد الله بن سَبَأ

إنّنا نرى أنّ عبد الله بن سَبَأ شخصيّة وهميّة مُختَرَعة، ونُدلّل على وهميّتها بالأُمور التالية:

1 - الاختلاف في أنّه هو ابن السوداء أم لا، مع أنّ الذي قام بكلِّ المصائب هو ابن السوداء، وابن طاهر والأسفرايني يقولان: إنّ ابن السوداء شخصٌ آخر شارك عبد الله بن سَبَأ بمقالته.

2 - الاختلاف في وقت ظُهوره، فالطبري وجماعة يُصرِّحون بأنّه ظَهر أيّام عُثمان، بينما يَذهب جماعة آخرون إلى أنّه ظَهر أيّام عليٍّ (ع)، أو بعد موته، ومِن هؤلاءِ:

١٣٥

سعد بن عبد الله الأشعري في كتابه المقالات (1) ، وابن طاهر في الفَرقُ بينَ الفِرَق (2) وغيرهما كثير.

3 - الاضطراب في الروايات في أصل دعوته، فبينما رأينا الطبري وجماعة معه يقولون: إنّ دعوته اقتصرت على الغُلوِّ في عليٍّ، والانتصار لِحقِّه، وكلّ ما يدور حول عليٍّ فقط، نَجِد جماعة مِن المتأخّرين يذهبون - ومعهم أسانيدهم طبعاً - إلى أنّه كان في كلّ بَلد له دعوة خاصّة، يقول محبّ الدين الخطيب بأسانيده التي ذكرها:

ومِن دَهاء ابن سَبَأ ومكره: أنّه كان يبثُّ في جماعة الفسطاط الدعوة لعليٍّ، وفي جماعة الكوفة الدعوة لطلحة، وفي جماعة البصرة الدعوة للزبير (3) .

4 - إنّ بَعض الروايات ذكرت أنّه: كان مُقتصِراً على الإِشادة بفضل عليٍّ (ع) فقط، في حين ذهب آخرون إلى أنّه كان يُحرِّض على عُثمان، ويدسّ الدسائس، وهو الذي دَفع أبا ذر للثورة، إمّا على معاوية، أو على عُثمان بروايات أُخرى.

5 - لم يُعلِّل لنا واضعوا خُرافة ابن سَبَأ، لماذا سَكَت عنه عُثمان وولاته مع أنّهم ضربوا المعارضين بمنتهى الشدّة والقسوة؟ وهُم مِن خيرة الصحابة كعمّار وابن مسعود وغيرهم.

6 - لماذا تَخلوا المصادر الصحيحة مِن ذكر قصَّة ابن سَبَأ كالبلاذري وابن سعد وغيرهما مِمَّن يُعتدُّ بتاريخهم.

7 - إنّ رواية عبد الله بن سَبَأ رواها الوضّاعون الكذّابون كما أسلفنا فيما مَرَّ.

8 - يساعد على أنّ الرواية موضوعة، أنّها ليست الوحيدة التي وُضِعَت ضدّ الشيعة؛ وإنّما هي جُزء مِن كلٍّ، مِمّا سنذكره لك فيما يأتي، ونُبرهِن على كَذِبِه؛ حتّى تَعرف أنّ قصَّة عبد الله بن سَبَأ خََرَجت مِن نَفس المَقلع، ولنفس الهدف.

____________________

(1) المقالات والفِرَق: ص15.

(2) انظر هامش منهاج السُنّة لابن تيميّة: ص15.

(3) الإِمام الصادق لأسد حيدر: 6/237.

١٣٦

والآن لنستعرض آراء النُقّاد والباحثين في هذه القُصّة؛ لنصل إلى الحقيقة.

رأي طه حسين

استعرض الدكتور طه حسين الصورة التي رُسِمت لابن سَبَأ، ومزَّقها بعد تَحليل دَقيق، وانتهى إلى أنّ ابن سَبَأ شخصيّة وهميّة خَلَقها خُصوم الشيعة، ودَعم رأيه بالأُمور التالية:

أولاً: إنّ كلّ المؤرِّخين الثُقاة لم يُشيروا إلى قُصّة عبد الله بن سَبَأ، ولم يذكروا عنها شيئاً.

ثانياً: إنّ المصدر الوحيد عنه سيف بن عُمَر، وهو رجل معلوم الكذب، ومقطوع بأنّه وَضّاع.

ثالثاً: إنّ الأُمور التي أُسندت إلى عبد الله بن سَبَأ تستلزم مُعجزات خارقة لفرد عادّي، كما تَستلزم أن يكون المسلمون الّذين خدعهم عبد الله بن سَبَأ، وسخَّرهم لمآربه، وهم يُنفِّذون أهدافه بدون اعتراض في مُنتهى البلاهة والسُخف.

رابعاً: عدم وجود تفسير مُقنع لسكوت عُثمان وعُمّاله عنه مع ضربهم لغيره مِن المعارضين كمحمد بن أبي حذيفة، ومحمّد بن أبي بكر، وعمّار وغيرهم.

خامساً: قِصة الإحراق، وتعيين السَنة التي عُرِض فيها ابن سَبَأ للإِحراق تخلو مِنها كُتُب التاريخ الصحيحة، ولا يوجد لها في هذه الكُتُب أثَر.

سادساً: عَدم وجود أثر لابن سَبَأ ولجماعته في واقعة صِفّين، وفي حرب النّهروان، وقد انتهى طه حسين إلى القول: إنّ ابن سَبَأ شخص ادَّخره خُصوم الشيعة للشيعة، ولا وجود له في الخارج (1) ، ويَشترك مع طه حسين كثير مِن

____________________

(1) طه حسين الفتنة الكبرى: فصل ابن سَبَأ.

١٣٧

المُستشرقين في وَهميّة وجود عبد الله بن سَبَأ ومنهم:

آراء المُستَشرِقين

1 - الدكتور برناد لويس

قال: ولكن التحقيق قد أظهر أنّ هذا استباق للحوادث، وأنّه - أيّ ابن سَبَأ - صورة مُثِّل بها في الماضي، وتخيَّلها مُحدِّثوا القرن الثاني للهجرة مِن أحوالهم وأفكارهم السائدة حينئذٍ.

2 - فلهوزن:

ذهب إلى أنّ المؤامرة والدعوة والفعاليات المنسوبة لابن سَبَأ مِن اختلاق المُتأخِّرين، وقد مَحَّص النُصوص، ودرس الموضوع، وقام بتحليل دقيق.

3 - فريدليندر:

اشترك مع فلهوزن، وانتهى لنفس النتيجة معه.

4 - كايتاني:

شكّ في وجود عبد الله بن سَبَأ، وقال عمّا يُنسب له مِن أعمال ضخمة ومؤامرة مثل هذه: بهذا التفكير، وهذا التَنظيم لا يمكن أن يتصوَّرها العالَم العربيّ المعروف عام خمسة وثلاثين بنظامه القائم على سلطان الأبوّة، إنّها تَعكس أحوال العصر العبّاسي الأوّل بجلاء (1) .

آراءٌ إسلاميّة أُخرى بابن سَبَأ

هناك آراء أُخرى في عبد الله بن سَبَأ، تتراوح بين وجوده، وعدم صِلته بالشيعة، وبين عدم التصديق بما يُنسب إليه؛ لأنّه مِن غير المُمكن صُدور تلك الأعمال مِن شخص عادّي، وبين نِسبة هذه الأعمال لشخص آخر سُمّي بابن السوداء، فلِنَستمع لهذه الآراء.

أ - محمّد كرد علي قال في خطط الشام:

أمّا ما ذهب إليه بعض الكتّاب مِن أنّ مَذهب التَشَيُّع مِن بدعة عبد الله بن

____________________

(1) انظر آراء المستشرقين المذكورة في نَظريّة الإِمامة لأحمد محمود: ص37.

١٣٨

سَبَأ، المعروف بابن السوداء، فهو وهمٌ، وقلَّة عِلمٍ بتحقيق مذهبهم، ومِن علم منزلة هذا الرجل عند الشيعة وبراءتهم منه ومِن أقواله وأعماله، وكلام علمائهم في الطعن فيه بلا خلاف بينهم في ذلك علم مبلغ هذا القول مِن الصواب (1) .

ب - الدكتور أحمد محمود صبحي في نَظريّة الإِمامة قال:

وليس ما يَمنع أن يستغلَّ يهوديٌّ الأحداث التي جَرت في عهد عُثمان؛ ليُحدث فتنة، وليزيدها اشتعالاً؛ وليؤلّب الناس على عُثمان، بل أن ينادي بأفكار غريبة، ولكنّ السابق لأوانه أن يكون لابن سَبَأ هذا الأثر الفِكري العَميق، فيُحدث هذا الانشقاق العقائدي بين طائفة كبيرة مِن المُسلِمينَ (2) .

ج - الدكتوران علي الوردي، وكامل الشيبي التقيا في الآتي:

إنّ المقصود بابن السوداء عمّار بن ياسر، وقد رَمَزت له قُريش بابن السوداء، ولم تُصرِّح باسمه؛ لأنّ له ثقلاً ومركزاً بين الصحابة، وكان على رأس الثائرين على عُثمان، فلم ترد قريش أن تضعه مُقابل عُثمان، وبجانب عليٍّ؛ لأنّه يُرجّح كفَّة عليٍّ، ويهبط بكفة عُثمان، فرمزوا له، وسموه بابن السوداء؛ لأنّ أُمّه أمَة سوداء، ولا وجود لابن سوداء غيره.

إنّ رأي الدكتورين يَلتقي مع رأي الأسفرايني، وابن طاهر البغدادي الذي أشرنا إليه، فيما مضى عند ذكرنا لتعيين هُويَّة ابن سَبَأ.

وبعد هذه الجولة مِن الآراء اتّضح أنّه لا وجود لابن سَبَأ؛ لأنّ تسليمنا بوجوده يُفضي إلى إلغاء عُقولنا. ولأنّ منهج البحث العلمي يأبى وجوده، لأنّ مصادره مختلفة. ولأنّ مَن خَلقوا عبد الله بن سَبَأ خلقوا له أُخوة مِن الإِدعاءات، سنوقِفُك عليها قريباً، وإن كانت سَتَهز مشاعرك، وتُدمِّر ثِقتك بمَن قد تعتبرهم مِن القِمم في دُنيا الإِسلام. ولأن الخوارق التي تنسب لابن سَبَأ لا يمكن تصديقها، ولأنّ سُكوت عُثمان عنه عجيب مع أنّه نفى أبا ذر للرَبَذَة - مع أنّ أبا ذر مِن كبار

____________________

(1) خطط الشام: 6/251.

(2) نَظريّة الإِمامة: ص37، وُعّاظ السلاطين: ص279، والصلة بين التصوُّف والتَشَيُّع: ص84.

١٣٩

الصحابة - لأنّ أبا ذرٍّ كان له رأي في البَذَخ في أموال المُسلِمينَ أيّام عُثمان، فلماذا هذا الحُلم عن ابن سَبَأ؟

ولأنّ عليّاً - وهو الخشن في ذات الله - لماذا سَكت عن ابن سَبَأ، ولم يحرقه كغيره؟

ولأنّ مُعاوية وهو الذي يَقتِل على التُهمة والظِنَّة، كيف سَكت عن ابن سَبَأ؟

والحال هو الذي دفع بِسر للغارة على خُصومه، وأدّت الغارة إلى قَتل ثلاثين ألفاً مِن الناس (1) .

إنّ كلّ هذه الأُمور تَجعل حديث ابن سَبَأ حديثَ خُرافة، وإنّما اختُرع لما ذكرنا سابقاً؛ ليُصنَع مِنه مَصدراً لِعقائد الشيعة كُلّها كما جعله مصدراً لعقائد الشيعة كُلٌّ مِن: مُحيي الدين عبد الحميد في تعليقته على كِتاب مقالات الإِسلاميّين، وعلي سامي النشّار في كتابه نشأة الفِكر الفلسفي (2) ، وما كان كلٌّ مِن النشّار، ومحيي الدين عبد الحميد بالذي يَجهل عقائد الشيعة، أو لا يهتدي إلى مَصادرها، وبين أيديهما مِن المصادر ما ينهض بالمطلوب، وأمام بَصَرهما مِن المُمارسات العقائديّة ما هو واضح في تَجسيد عقائد الشيعة، ومع ذلك كُلّه كَتَبا عن الشيعة ما لا يجتمع وأمانة التاريخ، وروح الإِسلام، ولا ينبغي أن يَفتَّ في عضُد المُصلحين أمثال هؤلاءِ مِمَّن هُم على أحسن الفُروض أصداء بلهاء لِغيرهِم، وإلاّ فعلامات الاستفهام موجودة إزاء ما كتباه، في حين يؤكِّد الكُتَّاب الموضوعيّين: أنّ حديث ابن سَبَأ خُرافة.

يقول أحمد عبّاس الصالح: عبد الله بن سَبَأ، رَجُلٌ خرافيٌّ بغير شكّ، فأنّى هو مِن هذه الأحداث جميعاً، وساذجٌ - بغير شكّ - الذي يَتّجه إلى خلق شخصيّة كهذه؛ ليعطيها أثراً، أيُّ أثرٍ فيما حدث مِن الأحداث.

إنّ كلّ ما حيك مِن قصص حول عبد الله بن سَبَأ مِن وضع المتأخِّرين، فلا دليل على وجوده في المراجع (3) .

____________________

(1) مُروج الذهب للمسعودي: 3/30.

(2) نشأة الفكر الفلسفي: ص28.

(3) مجلة الكاتب: عدد آذار/ 1965.

١٤٠