هوية التشيع

هوية التشيع0%

هوية التشيع مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 237

هوية التشيع

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور أحمد الوائلي
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 237
المشاهدات: 33811
تحميل: 5270

توضيحات:

هوية التشيع
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 33811 / تحميل: 5270
الحجم الحجم الحجم
هوية التشيع

هوية التشيع

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الفصلُ الثالث

لِماذا تُنْسَبُ الشِيعةُ لابنِ سَبَأ؟

في الإِجابة على هذا السؤال يكمُن مركز الثقل في قصة عبد الله بن سَبَأ كلّها؛ فإنّ الفكر الشيعي في الإِمامة، وما يَلحَق بها، والمواقف المُتساجِلة بين فِرَق المُسلِمينَ مِن الشيعة وغيرهم، إذا شُدَّت إلى جَذرها مِن أدلّتها مِن الكتاب والسُنّة، فقد يَختلُّ الميزان؛ لأنّ فكرة الوصيَّة والعِصمة وغيرهما تُبعِد عن الحُكم - في نَظَر الشيعة - مَن لا تتوفَّر فيه هذه الشُروط، وتلك هي الطامَّة الكُبرى، وأيُّ فِكر أخطر مِن هذا الفكر؟

فَلِمَ لا يُربَط فِكر الشيعة بجذر يهوديٍّ، وتُختَرع له شخصيّة تكون كبش الفداء، فَيُلقى اللومُ عليها، وعلى الّذين أخذوا عنها، ويُشارُ إليهم بأنّهم: مارقون ألغَموا تاريخ الأُمّة، ودسّوا في عقائدها عقائد غريبة عن الإِسلام، وهكذا صَنع عبد الله بن سَبَأ، ولو كان صُنعه على حساب الحقيقة، وعلى رَغْمِ أنف العُقول والمقاييس.

وبالإِضافة لِما ذكرنا، هُناك سَبَب آخر، دفع إلى خلق عبد الله بن سَبَأ، أشار إليه الدكتور أحمد محمود صُبحي، وذلك بعد أن استعرض آراء الدكتور طه حسين في وهميّة وجود عبد الله بن سَبَأ، قال الدكتور أحمد صبحي:

ويبدو أنّ مُبالغة المؤرِّخين، وكُتّاب الفِرق في حقيقة الدور الذي قام به ابن سَبَأ يرجع إلى سَبَب آخر غير ما ذكره الدكتور طه حسين، فَلَقَد حَدَثَت في الإِسلام أحداث سياسيّة ضخمة كمقتل عُثمان، ثمّ حرب الجمل، وقد شارك فيها

١٤١

كِبار الصحابة وزوجة الرسول، وكلُّهم يتفرَّقون ويتحاربون، وكلّ هذه الأحداث تَصدِم وجدان المُسلِم المتتبِّع لتاريخه السياسي، أن يبتلي تاريخ الإِسلام هذه الابتلاءات، ويشارك فيها كِبار الصحابة الّذين حاربوا مع رسول الله (ص)، وشاركوا في وضع أُسس الإِسلام، كان لا بُدَّ أن تلقى مسؤوليّة هذه الأحداث الجِسام على كاهل أحَد، ولم يكن مِن المعقول أن يَتحمَّل وزر ذلك كُلّه صحابةٌ أجِلاّء أبلوا مع رسول الله (ص) بلاءً حسناً، فكان لا بُدَّ أن َيقع عبء ذلك كُلّه على ابن سَبَأ، فهو الذي أثار الفِتنة التي أدت لقتل عُثمان، وهو الذي حَرَّض الجيشين يوم الجَمَل على الالتحام على حين غفلة مِن عليٍّ وطلحة والزُبير، أمّا في التاريخ الفكري، فعلى عاتقه يَقع أكبر انشقاق عقائديّ في الإِسلام بظهور الشيعة، هذا هو تفسير مُبالغة كُتّاب الفِرق، وأصحاب المذاهب لا سيَّما السلفيين والمؤرِّخين في حقيقة الدور الذي قام به ابن سَبَأ. ولكن أليس عجيباً أيضاً أن يعبث دَخيل في الإِسلام كلّ هذا العَبث، فيحرِّك تاريخ الإِسلام السياسي والعقائدي على النحو الذي تمَّ عليه، وكبارُ الصحابة شُهود؟! (1) .

وبعد هذه الإلمامة بمُلابسات موضوع عبد الله بن سَبَأ التي انتهينا مِنها إلى مَسكِ طَرَف الخيط فيما نظنُّ، ألا وهو رَبط عقائد الشيعة بعبد الله بن سَبَأ، وما أسندوه إليه مِن عقائد الشيعة، ولنتبيّن مصدرها الإِسلامي. وبذلك نكتفي عن الإِصرار على وجود ابن سَبَأ أو عدم وجوده؛ لأنّه قد ثَبَت أنّ هذه العقائد مصدرها الإِسلام، فلا يبقى بعد ذلك قيمة لِعدم وجود ابن سَبَأ أو لوجوده، لنبدأ مِن ذلك بموضوع الوصية.

1 - الإِمامُ عليّ وصيّ النبيّ (ص):

قُلنا فيما سَبق، إنّ مِن أحكام الإِسلام: ضرورة أن يوصي الإِنسان قَبلَ موته بما يُريد التصرُّف به بعد موته فيها يملك مِن أُمور ماديَّة، وذكرنا أنّ سيرة النبيّ (ص) أنّه كان لا يَخرج مِن المدينة في سَفَرٍ - ولو ليوم واحد - حتّى يَستخلِف على

____________________

(1) نَظريّة الإِمامة: ص39.

١٤٢

المدينة، فكيف يترك أمر هذه الأُمّة مِن بعده سدى، ويُعرِّضها إلى الفِتن دون أن يوصي أو يُرشِّح للأمر شخصاً مِن بعده؟!

وبما أنّ هذه المسألة قد أشبعتها أقلام الباحثين مِن مُختَلَف الفِرق الإسلاميّة، فلا أُريد العودة إلى ما دار حولها، وكلّ ما يعنيني هُنا أن أُبيّن: أنّ مسألة الوصيّة مصدرها القرآن والسُنّة، أمّا القرآن: فَقد أشرك عليّاً بالولاية العامَّة، وجعل إمامته امتداداً للنُبوَّة حين تُختَم النُبوّة بموت الرسول، فقال تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، وقد ذكرنا نُزول هذه الآية في عليٍّ (ع)، وما يترتَّب عليها مِن لَوازم في مكان آخر مِن هذا الكِتاب. وأمّا السُنّة الشريفة: فإنّ الروايات المُعتبرة متظافرة بأنّ رسول الله (ص) نصَّ على عليٍّ بالوصيّة في أكثر مِن مَورد، ومِن تلك الموارد:

لَمّا نَزل عليه قوله تعالى: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) الشُعراء: 214، فجمع أقاربه، وعَدَدُهم أربعون على فَخِذ شاة، وطلب مِنهم أن يؤازروه على الدعوة، فلم يَقُم إليه إلاّ عليّ، فأخذ برقبته وقال: ( هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكُم، فاسمِعوا له وأطيعوا ) (1) ، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تَسمع لابنك وتطيع.

هذا، وقد ذكر ابن أبي الحديد في كتابه شرح نهج البلاغة فصلاً مُمتِعاً في موضوع وصاية الإِمام عليّ (ع) للنبي، وأشبَع الموضوع، وبوسع القارئ الرُجوع إليه.

وها أنت قد سمعت أن الوصية جاءت على لسان النبيّ (ص) لفظاً ومعنى، ومع ذلك تَرى هؤلاءِ يَقولون: إنّ موضوع الوصيّة اخترعه عبد الله بن سَبَأ، وسَتَسمع لو قلت لهم: إنّ الوصيّة لها مصادرها مِن السُنّة، مَن يقول لك هذه أحاديث دسّها الشيعة على لِسان السُنّة.

2 - العِصمَة:

موضوع العصمة، موضوع مُهمّ في الفكر الشيعي خاصّة، والإِسلامي عامّة

____________________

(1) انظر تاريخ الطبري: 2/216، وتاريخ ابن الأثير: 2/28، وتفسير الدرّ المنثور للسيوطي: 45/97 طبعة أوفست.

١٤٣

وسأضطرّ للإِطالة فيه؛ لأنّه يرتبط بأُمور هامّة، لا بُدَّ مِن التَعرُّف عليها.

فالعصمة لُغة: هي المَنع، ومنه قوله تعالى: ( قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء ) سورة هود: 43.

أمّا في الإِصلاح الكلامي، فالعصمة: لطفٌ يفعله الله تعالى بالمكلّف لا يكون مَعه داعٍ إلى ترك الطاعة، وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك (1) .

وواضح مِن هذا التعريف أنّ العصمة لا إلجاء فيها، وإنّما هي مُجرّد مدد مِن الله تعالى، واستعداد مِن العبد، فهي أشبه شيءٍ بأُستاذ يُقبِل على تِلميذه؛ لأنّه وجد عند التلميذ استعداداً أكثر مِن غيره لتلقّي العِلم.

وقد أجمعت الأُمّة الإسلاميّة على عِصمة الأنبياء عن تَعمُّد الكَذب فيما يُبلِّغونه عن الله تعالى، واختلفوا بعد ذلك في صدور ما يُنافي العِصمة مِنهم على سبيل السَهو أو النسيان، سواء كانت أدلتهم في ذلك سمعيّة أو عقليّة على صُدور أو عدم صُدور ما يُنافي العِصمة، ذهب بعض أئمَّة السُنّة إلى جواز وقوع كلّ ذَنب مِنهم، صغيراً كان أو كبيراً حتّى الكُفر.

وبوسع القارئ الرجوع إلى آراء الباقلاّني، والرازي، والغزالي مُفصَّلاً في نَظريّة الإِمامة (2) ، بينما البعض الآخر فَصَّل في ذلك، ولم يصل إلى هذا الحدّ في تجريدهم مِن العصمة.

أمّا الشيعة، فقد ذهبوا إلى عصمة الأنبياء مُطلقاً، قبل البعثة وبعدها (3) ، وقد ساقوا لذلك أدلّة كثيرة.

وقد تَعرّض الفخر الرازي في كتابه عصمة الأنبياء، وكذلك الشيخ المجلسي في البحار مُفصِّلاً لذلك.

والذي يهمّني هُنا عصمة الأئمّة؛ لأنّها موضع البحث.

إنّ عصمة الأئمّة أمرٌ مفروغ عند الشيعة، وقد أثبتها الشيعة للإِمام بأدلّة مِن العقل والنقل، أقتصر على ذكر بعضها، وبوسع طالب المزيد أن يَرجع إلى الكتب والبحوث المطوّلة في ذلك.

____________________

(1) توفيق التطبيق للكيلاني: ص16.

(2) نَظريّة الإِمامة: ص111 و112.

(3) معالم الفلسفة لمُغنيّة: ص193.

١٤٤

عِصمّة الأئمّة وأدِلَّتِها العَقْلِيّة

1 - الدليل الأوّل:

يقول العَلاّمة الحلّي في كتابه الألفين: المُمكنات تحتاج في وجودها وعدمها إلى عِلّة ليست مِن جنسها، إذ لو كانت مِن جِنسها لاحتاجت إلى عِلّة أُخرى واجبة غير مُمكنة، كذلك الخطأ مِن البشر مُمكن، فإذا أردنا رَفع الخطأ الممكن، يجبُ أن نرجع إلى المُجرَّد مِن الخطأ، وهو المعصوم. ولا يمكن افتراض عدم عِصمته؛ لأدائه إلى التسلسُل أو الدور.

أمّا التَسلسُل: فإنّ الإِمام إذا لم يكن مَعصوماً، احتاج إلى إمام آخر؛ لأنّ العلّة المحوجة إلى نَصبه هي جواز الخطأ على الرعيّة، فلو جاز عليه الخطأ لاحتاج إلى إمام آخر، فإن كان معصوماً، وإلاّ لَزم التسلسل.

وأمّا الدور: فلِحاجَة الإِمام - إذا لم يكن معصوماً - للرعيّة؛ لتردَّه إلى الصواب مع حاجة الرعية للإِقتداء به (1) .

2 - الدليل الثاني:

يقول الشيعة: إنّ مفهوم الإِمام يتضمَّن معنى العِصمة؛ لأنّ الإِمام لُغة: هو المُؤتّم به كالرداء اسم لِما يُرتَدى به. فلو جاز عليه الذنب، فَحال إقدامه على الذنب إمّا أن يُقتدى به أو لا، فإن كان الأوّل: كان الله تعالى قد أمرَ بالذنب، وهذا مُحال، وإن كان الثاني: خرج الإِمام عن كونه إماماً، فيستحيل رفع التناقض بين وجوب كونه مُؤتّماً به، وبين وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، إلا بتصوّر أنّ العِصمة مُتَضَمَنة في مَفهوم الإِمام، ولازِمَة لوجوده (2) .

____________________

(1) الألفين للعلاّمة الحلّي: ص54.

(2) الأربعين للرازي: ص434.

١٤٥

3 - الدليل الثالث:

الإِمام حُجّة الله في تبليغ الشرع للعباد، وهو لا يُقرّب العباد مِن الطاعة، ويُبعّدهم عن المعصية مِن حيث كونه إنساناً، ولا مِن حيث سلطته، فإنّ بعض الرُؤساء الّذين ادّعوا الإِمامة كانوا فَجَرَة لا يصحُّ الإِقتداء بهم، فإذا أمَروا بطاعة الله كانوا مصداق قوله تعالى: ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ) البقرة: 44.

وفي مثل هذه الحالات لا يثق المُكلّف بقولهم، وله عذره.

فثبت أنّ تقريب الناس مِن طاعة الله لا مِن حيث كون الإِمام إماماً، وإنّما مِن حيث كونه مَعصوماً حيث لا يكون للناس عُذر في عصيانه تصديقاً لقوله تعالى: ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء: 165، والأئمة حُجج الله كالرُسُل، سواء بسواء؛ لأنّ الإِمام منصوب مِن قِبَلِ الله تعالى لهداية البشر (1) .

هذه ثلاثة أدلّة مِن كثير مِن الأدلّة العقليّة التي اعتمدوها في التدليل على العِصمة.

الأدِلَّةُ النَقليَّة على عِصمة الإِمام

أ - قال الله تعالى في سورة البقرة، الآية: 124 لنبيه إبراهيم: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) دَلّت هذه الآية على العصمة؛ لأنّ المُذنب ظالم ولو لنفسه لقوله تعالى: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ) فاطر: 32.

ب - قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) النساء: 49، والدليل فيها: أنّ أُولي الأمر الواجب طاعتهم يجب أن تكون أوامرهم موافقة لأحكام الله تعالى؛ لتجب لهم هذه الطاعة، ولا يتسنّى هذا إلاّ بعصمتهم؛ إذ لو وقع الخطأ مِنهم لوجب الإِنكار عليهم، وذلك يُنافي أمر الله بالطاعة لهم (2) .

____________________

(1) نهاية الإِقدام للشهرستاني: ص85.

(2) كشف المُراد للعلاّمة الحلّي: ص124.

١٤٦

ج - ذَهَبت الآية الثانية والثلاثين مِن سورة الأحزاب إلى عصمة أهل البيت الّذين نَزلت فيهم، وهي قوله تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، فبعد إثبات نُزولها في أهل البيت، الذي نصَّ عليه كلٌّ مِن الإِمام أحمد في مُسنده، ومستدرك الصحيحين، والدر المنثور، وكَنز العُمّال، وسُنن الترمذي، وتفسير الطبري، وخصائص النِسائي، وتاريخ بغداد، والاستيعاب لابن عبد البر، والرياض النَضِرة للمحب الطبري، ومُسند أبي داود وأُسد الغابة، جميع هؤلاءِ قالوا إنّها نَزلت في النبيّ (ص) وعليّ (ع) وفاطمة والحسن والحسين (ع) (1) .

ويتساءل العلماء عن معنى ذهاب الرجس؛ لينتهوا إلى أنّه نَفيُ كلّ ذنب وخطأ عنهم، والإِرادة هُنا تكوينيّة لا تشريعيّة؛ لوضوح أنّ التشريعيّة مُرادة لكلّ الناس. ولا يَلزم منه الإِلجاء؛ لما سبق أن ذكرناه مِن أنّ العصمة مَدَدٌ مِن الله تعالى، واستعداد مِن العبد.

هذه بعض أدلّة الشيعة في العِصمة، وهي كما ترى مُنتَزعة مِن الكتاب والسُنّة والعقل، فما وجه نِسبتها إلى عبد الله بن سَبَأ؟ وأين موضع الصدق مِن تلك النسبة؟

إنّ القارئ مِن حقِّه أن يسأل هؤلاءِ الكُتّاب: هل اطّلَعوا على مَصادر الفِكر الشيعي عندما كَتبوا عن الشيعة أو لا؟

فإن كان الأوّل، فما معنى هذا الخبط، وهذه النِسب الباطلة؟ وإن كان الثاني، فما هو المُبرِّر لَهُم للخوض في أُمور لم يَطَّلعوا عليها؟ أليس لهم رادع مِن مقاييس الأدب الإِسلامي، الذي رسمه الله تعالى بقوله: ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) الإسراء: 36، وفي الوقت ذاته إنّ المنهج العِلمي يأبى عليهم هذه التَخرُّصات، ونسبة الأشياء إلى غير مصادرها.

إذاً ففكرة العصمة حتّى ولو كانت أدلّتها غير ناهضة، فلا يَجوز أن تُنحى عن مصدرها، وتُنسب إلى شخصيَّة وهميّة خلقها الحِقد، وافتعلها الهوى.

____________________

(1) انظر فضائل الخمسة مِن الصحاح السِتّة: 5/ 219 فصاعداً.

١٤٧

مَوقِفُ السُنّة مِن العِصمَة

قَبل الدُخول بالموضوع، أُلفت النَظَر إلى قصّة تُحكى، ولها دلالتها في موضوعنا وهي: إنّ شخصاً مَدينَاً جُلِب إلى الحاكم، فسأله الحاكم: هل أنت مَدين لهذا المُدّعي؟ قال: نعم، أنا مَدين ولكنّي مُنكر للدَّين.

إنّ هذه القُصّة تشبه تماماً موقِف مَن يُنكر علينا القول بالعصمة، وفي الوقت ذاته يقول بها. على أننا إنّما نَشتَرط العِصمة في الإِمام؛ لضمان وصول أحكام وعقائد صحيحة، ولضمان اجتناب المُفارقات التي قد تنشأ مِن كون الإِمام غير معصوم، ولا نريد مِن العصمة أن تكون وِساماً نَضعه على صُدور الأئمّة، فإنّ لهُم مِن فَضائلهم ما يَكفيهم، كما إنّنا لا نَسبح في بحر مِن الطوبائيّة؛ لأننا نعيش دُنيا الواقع بكلّ مُفارقاتها.

إنّنا مِن وراء القول بالعصمة نربأ بالإِمام أن يكون مِن سِنخ مَن نراهم مِن الناس؛ لأنّه لو كان مِن نفس السِنخ والسلوكيّة، فما هي ميزته حتّى يَحكم الناس، وفي الناس مَن هو أكثر مِنه استقامة ومؤهّلات وقابليّة.

تلك هي الأُمور التي نريدها مِن وراء العصمة، لا أنّ المعصوم مِن نوع آخر غير نوع الإِنسان كما قد يَتصوّر البعض. فالعصمة في نظرنا: ضابط يُؤدّي إلى حِفظ شريعة الله تعالى نظريّاً، وصيانتها مِن البعث تطبيقيّاً، وأساطين السُنّة يذهبون لِمثل ذلك، ولكنّهم في الوقت نفسه يُنكرون علينا القول بها، وإليك نَماذج مِن أقوالهم؛ لتعرف صحّة ما نسبناه لهم:

1 - الرازي:

يذهب الرازي - في مَعرض ردِّه على عصمة الإِمام عند الشيعة - إلى أنْ لا حاجة إلى إمام مَعصوم، وذلك لأنّ الأُمّة حال إجماعها تكون مَعصومة؛ لاستحالة اجتماع الأُمّة على خطأ بمقتضى حديث رسول الله (ص): (لا تجتمع أُمّتي على

١٤٨

ضلالة) (1) .

ومع غضِّ النظر عن صحَّة وعدم صحَّة هذا الحديث، نسأل: هل مِثل هذا الإِجماع مُمكن بحيث يَضمُّ كلَّ مُسلِم في شرق الأرض وغربها؟.

قد يكون الجواب: إنّ المُسلِمينَ يُمثّلون في هذا الإِجماع بأهل الحلِّ والعقد.

وهنا نسأل: مَن هُم؟ وما عددهم؟ وهل هم محصورون في مكان مُعيّن؟ وما الدليل على ذلك؟

ثمّ نسأل: هل المجموع إلاّ ضَمُّ فَرد إلى فرد؟ فإذا جاز الخطأ على الأفراد، جاز على المجموع المُكوَّن مِن الأفراد.

إنّ الإِمام ابن تيميّة يُجيبُ على ذلك بأنّه: لا يَلزم أن يخطأ المجموع إذا أخطأ الأفراد؛ لأنّ للجمع خاصيّة لا توجد في الأفراد، ومَثَلُها مَثَلُ اللُقمة الواحدة لا تُشبع، ومجموع اللُقم يُشبع، والعصا الواحدة تُكسَر في حين مجموع العصيّ لا يُكسَر. إلى أن يقول، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: (الشيطان مع الواحد، وهو مع الاثنين أبعد) (2) .

وما أدري ما هو وجه الشبه بين كون اللُقَم تُشبع بعكس اللُقمة الواحدة، وبين كون المجموع يَعصِمُ، والأفراد لا تَعصِم؟ وذلك لأنّ اللُقمة تحمل قابليّة الإِشباع بِنسبة مُعيّنة، فإذا ضُمَّت إلى مِثلِها اجتمعت هذه الأفراد مِن قابلية الإِشباع فكوّنت إشباعاً كاملاً، وكذلك العصا تَحمل نِسبة مِن القوَّة، فإذا ضُمَّت لمثلها كوَّنت قوَّة كافية. وأين هذا مِن الفرد المُخطئ؟ فإنّه لا يكوِّن نسبة مِن الصِحّة إذا ضُمَّت لغيرها كَوَّنت مجموعاً صحيحاً، بل بالعكس فالفرد يُمثِّل هُنا نِسبة مِن الخطأ، إذا ضُمَّت لمثلها تَضاعَف الخطأ وكوّن خطأً كبيراً.

إنّ هذا القياس مع الفارق، هذا مِن ناحية، ومِن ناحية أُخرى فإنّ ابن تيميّة لم يَنفِ فِكرة العِصمة، وإنّما نفى أن يكون لواحد ليس إلاّ، فكأنّ العُقدة أن تكون لواحد، أمّا لو نُسِبَت لجماعة فلا إشكال، ومِن ناحية ثالثة: إنّه إنّما اشترط العصمة للأُمّة مِن أجل الثقة وضمان سلامة الأحكام، وهو عين الهَدف الذي تذهب إليه الشيعة، وأنا أنقل لك رأيه مُفصّلاً:

____________________

(1) المُستصفى، مبحث أركان الإِجماع.

(2) نَظريّة الإِمامة: 117.

١٤٩

رأي ابن تيميّة في العِصمة

قال ابن تيميّة عند رده على الشيعة، عند قولهم: إنّ وجود الإِمام المعصوم لا بُدَّ منه بعد موت النبيّ؛ وذلك لأنّ الأحكام تتجدّد تبعاً للموضوعات، والأحوال تتغيَّر، وللقضاء على الاختلاف في تفاسير القرآن، وفي فَهم الأحاديث وغير ذلك. ولو كانت عِصمة النبيّ (ص) وكمال الدين كافيين لَما حَدث الاختلاف، فثبت أنّه لا بدَّ مِن إمام مَعصوم يُبيّن لنا معاني القرآن، ويُعيّن لنا مَقاصد الشَرع كما هو مُراده إلى آخر ما ذكروه في المقام، فقال ابن تيميّة: لا يُسلّم أهل السُنّة أن يكون الإِمام حافظاً للشَرع بعد انقطاع الوحي؛ لأنّ ذلك حاصل للمجموع، والشَرع إذا نَقله أهلُ التواتُر كان ذلك خيراً مِن نقل الواحد، فالقُرّاء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه، والمحدثون معصومون في حفظ الأحاديث وتبليغها، والفُقهاء مَعصومون في الكلام والاستدلال (1) .

ويختلف هُنا ابن تيميّة عن الرازي، فإذا كانت العِصمة عند الرازي لمجموع الأُمّة، فهي عند ابن تيميّة لجماعة مِن الناس كالقرّاء والفقهاء والمُحدّثين. وهنا يَشترط ابن تيميّة العصمة؛ لضمان حِفظ مضمون الشريعة كما هو الحال عند الآخرين مِن الشيعة وغيرهم، فما الذي أجازها لمجموعة ومنعها عن فرد؟

إنّ عدد المعصومين عند الشيعة لا يَتجاوز الأربعة عَشَر، وهُم مجموعة مُنتَخبة خَصّها الله تعالى بكثير مِن الفضائل بإجماع فِرَق المُسلِمينَ، فلماذا نَستكثر عليهم العِصمة، ونجيزها لغيرهم؟ مجرد سؤال.

رأي جُمهورِ السُنّةِ في العِصمَة

يمكن القول أنّ جُمهور السُنّة يُصحّحون الحديث المرويَّ عن النبيّ (ص)، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلّم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) (2) ، ولازم هذا الحديث عِصمة الصحابة كما سَيرِد به التصريح مِن بعضهم؛ لأنّ صحَّة الإِقتداء

____________________

(1) نَظريّة الإِمامة: 120.

(2) طبقات الفُقهاء للشيرازي: ص3.

١٥٠

بأيٍّ مِنهم ومتابعته في الظُلم لو حصلت حال كونه مُرتكباً للذنب - وهو الحاصل مِن كونه غير معصوم - فمعناه الأمر مِن الله تعالى باتّباع العاصي والظالم ولو لنفسه، وإذا لم يُتابع ويعمل بما أراده النبيّ، فإنّ معناه تركُ أمر القرآن؛ لأنّه قال: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) (1) ، والصحابيُّ هُنا ينقل أمرَ الرسول.

فإن قُلت: إنّ الله تعالى أمَرَنا بأن نأخذ الحديث مِن العادل الثِقة لقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ ) الحجرات: 6 التي دلَّت بمفهومها على حُجيّة خَبر العادل، ونحن لا نأخذ الأمر إلاّ مِن العادل مِنهم.

قُلت: إنّ ذلك يدلُّ بالمفهوم على أنّ فيهم غيرُ العادل حينئذ وهو المطلوب.

وعلى العموم، إنّ لازم الحديث المذكور عصمة الصحابة، وما سَمعنا مَن يُنكر على هؤلاءِ، فلماذا إذا قال الشيعة بعصمة أئمّتهم يُنتَقدون؟

التفتازاني والعصمة

يقول التفتازاني - وهو مِن أجلاء علماء السُنّة - في كِتابه شرح المقاصد: احتجَّ أصحابنا على عدم وجوب العصمة بالإِجماع على إمامة أبي بَكر وعُمر وعُثمان (رض) مع الإِجماع على أنّهم لم تَجب عِصمتهم، وإن كانوا مَعصومين بمعنى أنّهم مُنذ آمنوا كان لهم مَلَكة اجتناب المعاصي مع التَمكّن مِنها (2) ، وفي هذا النصّ أُمور:

1 - إنّ التفتازاني هُنا يُصرِّح بعصمة الخُلفاء الثلاثة.

2 - يقول: إنّ عِصمتهم غير واجبة. بمعنى أنّهم لا يقسرون عليها، وإلاّ فلا يُتصور تَعلّق الأحكام بالأُمور التكوينيّة، وإنّما مجال الأحكام السُلوك الاختياري، والاستعداد لقبول العِصمة أمرٌ مخلوق فيهم.

3 - مفاد كلامه: أنّ العصمة ملَكَةٌ تمنع صاحبها مِن مُقارفة الذنب لا على

____________________

(1) الحشر: 7.

(2) شرح المقاصد بِتوسّط الغدير للأميني: 9/375.

١٥١

نحو سَلب الاختيار، وهذا عين ما يقوله الشيعة في أئمتهم، وليرجع مَن شاء إلى بحث العصمة في كُتُب الكلام الشيعيّة، وعلى هذا، فلماذا هذه الجعجعة يا مسلمون؟!

شَمسُ الدين الأصفهاني ونور محمّد والعصمة

يذهب الحافظ نور محمّد وشمس الدين الأصفهاني، الأوّل في تاريخ مزار شريف، والثاني كما نَقله عنه الغدير إلى أنّ الخليفة عُثمان معصوم (1) ، وقد نَقله عن كتابه مطالع الأنظار. والرجُلان مِن علماء أهل السُنّة.

الإِيجي والعصمة

يذهب عبد الرحمان الإِيجي صاحِب كتاب المواقف في نفس الكتاب إلى عِصمة الخُلفاء، وعلى النحو الذي قال به التفتازاني فيما ذكرناه عنه، أي أنّها مَلَكة فيهم لا توجب سلب الاختيار (2) ، وهو مِن عُلماء السُنّة، وقد كَشَفت لنا هذه الجولة، أنّ الشيعة لا ينفردون بالقول بالعِصمة، بل عُلماء السُنّة يذهبون لذلك.

إذاً فما هو وجه نِسبتها إلى عبد الله بن سَبَأ؟ وما هو وجه نقد الشيعة على القول بها؟

أنا لا أُريد أن أحُشِّد للقارئ نَقد كُتُب السُنّة ومؤلَّفيهم حول موضوع العِصمة، فإنّ كُتبهم طافحة بذلك، ولكن سأستعرض لك رأي كاتب يعيش في القرن العشرين، وفي عصر الذرَّة بالذات، وهو وأَيم الحق مِن أكثر أهل السُنّة الّذين قرأتُ لهُم اعتدالاً في الكتابة عن الشيعة، ولكن مع ذلك كُلّه تبقى الرواسب في النُفوس تعمل عَملها.

إنّي أعتقد أنّ هذا الرجل قد بحث في كُتُب الشيعة وغيرهم قبل أن يَكتُب كِتابه؛ وذلك لِما رأيت له مِن كَثرة المصادر مع افتراض أنّه اطّلع على آراء أهل السُنّة في هذه المواضيع، فلماذا الإِنكار على الشيعة دون الآخرين، وإذا كان لم يطَّلِع - وهو ما أَستبعده - فلماذا يكتب؟

____________________

(1) الغدير نفس: 9/375.

(2) الغدير لأميني: 7/140. المواقف: ص399.

١٥٢

موقفنا مِن الغُلوِّ والغُلاة

وبعد شرح مناشئ الغُلوّ أو أهمّها نقول: إنّ الشيعة تبعاً لمواقف أئمّتهم وقفوا موقِفاً حازماً مِن الغلُوّ والغُلاة؛ فسلّطوا عليهم الأضواء وتبرّأوا مِنهم، وكافحوهم، وشهَّروا بهم، وهُم بذلك لا يتعدَّون موقف أمير المؤمنين (ع) حينما يقول: (هلك فيَّ اثنان: مُحبٌّ غالٍ، وعدوٌّ قال)، وموقف الإِمام الصادق (ع) حينما يقول: (ما نحن إلاّ عَبيد الذي خَلقنا واصطفانا، والله مالنا على الله مِن حُجّة، ولا مَعَنا مِن الله براءة، وإنّا لميّتون وموقوفون، ومسؤولون، مَن أحبَّ الغُلاة فقد أبغضنا، ومَن أبغضهم فقد أحبّنا، الغُلاة كُفّار، والمُفوّضة مُشركون، لعنَ الله الغُلاة ألا كانوا نصارى، ألا كانوا قدريّة ألا كانوا مُرجّئة، ألا كانوا حروريّة) (1) .

والإِماميّة لا يورثون الغُلاة، وإليك نَصّ عبارتهم في ذلك: يَرث المُحقُّ مِن المُسلِمينَ مِن مُبطِلهم، ومُبطلهم مِن مُحقِّهم ومبطلهم، إلاّ الغُلاة يرث مِنهم المسلمون، وهم لا يرثون المُسلِمينَ، كما أنّ الإماميّة لا يُغسِّلون موتى الغُلاة ولا يدفنونهم، ويُحرِّمون تزويجهم وإعطائهم الزكاة.

وتجد هذه الأحكام موزّعة في كُتُب فقه الإماميّة في أبواب الطهارة والزكاة والإِرث.

إنّ الإماميّة لا يعتبرون الغُلاة مُسلمين:

يقول الشهيدان الأوّل والثاني في اللُمعة وشرحها في باب الوقف! عنه تعريف المُسلِمينَ: والمسلمون مَن صلّى إلى القبلة، أي اعتقد الصلاة إليها، وإن لم يصلِّ لا مستحلاً، إلاّ الخوارج والغُلاة، فلا يدخلون في مََفهوم المُسلِمينَ، وإن صلّوا إليها للحُكم بكُفرهم (2) وألحقا بهم المشبهة والمجسمة في الحكم، بل إنّ

____________________

(1) بحار الأنوار للمجلسي: 3/51.

(2) اللُمعة الدِمشقيّة: 1/288 طبع إيران.

١٥٣

الإِمام الصادق (ع) يعتبر الجُلوس إلى المُغالي، وتصديقه بحديثه مُخرجاً مِن الإِيمان كما روى ذلك المُفَضّل بن يزيد قال: قال لي أبو عبد الله الصادق، وقد ذكر أصحاب أبي الخطّاب والغُلاة: (لا تُقاعدوهم، ولا تؤاكلوهم، ولا تشاربوهم، ولا تصافحوهم، ولا تورثوهم)، وقال الصادق لمرازم - أحد أصحابه -: (قل للغالية توبوا إلى الله فإنّكم فُسّاقٌ مشركون) (1) .

آراء بعض الباحثين

وانطلاقاً مِن ذلك يقول الشيخ المُفيد: الغُلاة مِن المتظاهرين بالإِسلام، وهم الّذين نَسبوا أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب وذريته إلى الإلوهيّة، والنبوّة، ووصفوهم مِن الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحدَّ، وخرجوا عن القصد، فهُم ضُلاّل كُفّار (2) .

ولا أحتاج إلى حَشد النُصوص والأدلة على براءة الشيعة مِن الغُلاة، وأي موقف أشدُّ صراحةً مِن هذه المواقف التي ذكرتها.

ولا يسع مؤمناً يؤمن بالله ورسوله، ويصدر عن تعاليم الإِسلام في سلوكه، ثمّ يَنزع إلى الغلو في عقيدة أو بَشر، إلاّ مَن ضَرب الله على بصيرته.

ولأجل وضوح موقف الشيعة مِن الغُلاة انطلقت الأصوات الموضوعيّة تَشهد ببراءتهم مِن ذلك، ومِن هذه الأصوات: مؤلفو دائرة المعارف الإسلاميّة، فقد جاء في دائرة المعارف:

الزيديّة والإِماميّة الّذين يؤلّفون المذهب الوسط يحاربون الشيعة الحلوليين حرباً شعواء - الحلولي لا نعتبره مِن الشيعة كما مرَّ - ويعتبرونهم غُلاة يُسيئون إلى المَذهب، بل يعتبرونهم مارقين عن الإِسلام (3) .

ويقول الدكتور أحمد محمود في نَظريّة الإِمامة عند ذكره للبابيّة والبهائيّة:

____________________

(1) الإِمام الصادق لأسد حيدر: 4/150.

(2) شرح عقائد الصدوق للشيخ المفيد: باب الغُلاة.

(3) دائرة المعارف الإسلاميّة: 14/63.

١٥٤

وفي البابيّة آراء غالية جعلت مِنها مذهباً منشقاً تماماً عن الإِسلام، واتّفق عُلماء الأزهر في مصر، وعُلماء الشيعة في العراق وإيران على تكفير البابيّة والبهائيّة، وأُغلق المَحفل البهائي في مصر (1) .

وقد استعرض الدكتور أحمد أمين حَرَكة الغُلاة فقال: إنّ أفراداً بُسطاء هُم الغُلاة الّذين يؤلِّهون عليّاً، وإنّ الشيعة تبرأ مِنهم، ولا يجوز عندهم الصلاة عليهم (2) .

هذه أمثلة بسيطة في موضوع الغلوّ والغُلاة، أضعها أمام الّذين دأبوا على رمي الشيعة بالغلو، ولست أنفي أن يكون بعضَ مَن شمِله اسم الشيعة بمعنى انتمائه إلى الفِئة التي تُفضِّل عليّاً، أو قل: للتشيُّع بمعناه اللغوي قد نسبت له آراء وأقوال تُفيد الغُلوّ، وقد بادوا، وبادت معهم آراؤهم، ولا يوجد اليوم مِنهم أحد إلاّ في بُطون الكُتُب.

ومِن ذلك ما ذكره البغدادي في الفَرقُ بينَ الفِرَق حيث قال: الإماميّة مِن الرافضة، هم خمس عشرة فِرقة هي: الكامليّة، والمحمديّة، والباقريّة، والناووسيّة، والشمطيّة، والعماريّة، والإِسماعيليّة، والمُباركيّة، والموسويّة، والقطعيّة، والاثنا عشريّة، والهشاميّة، والزراريّة، واليونسيّة، والشيطانيّة (3) .

وتعقيباً على قول البغدادي نَذكر: أن الإماميّة هُم الاثنا عشريّة، وهم جمهور الشيعة اليوم، ولا يوجد مِن الشيعة غيرهم، وغير الزيديّة والإسماعيليّة في هذه الآونة، ثمّ إنّ الاثني عشريّة الّذين هُم مدار بحثنا يمتازون عن غيرهم بعقائدهم، ولا يصحُّ أن تُنسب إليهم آراء غيرهم؛ لأنّه يجمعه معهم الاسم، وشيء آخر هو أنّ مَن ذكرهم البغدادي قد يُمثِّلون لكلِّ فرقة ذكرها بضعة أفراد ليس إلاّ، وهذا اللون مِن الخبط والتساهُل تعلّمنا أن نرى مِثله كثيراً في كِتاب الفِرَق لابن طاهر، وغيره، خذ مثلاً ما يقول ابن طاهر في كتابه الفَرقُ بينَ الفِرَق عن جابر بن يزيد الجُعفي يقول:

جابر بن يزيد الجعفي مِن المحمديّة، وهم أصحاب محمّد بن عبد الله بن الحسن ينتظرون ظهوره، وكان يقول برجعة الأموات إلى الدنيا قبل القيامة (4) .

____________________

(1) نَظريّة الإِمامة: ص436 هامش.

(2) فجر الإِسلام: ص2371.

(3) الفَرقُ بينَ الفِرَق: ص53.

(4) الفَرقُ بينَ الفِرَق: ص44.

١٥٥

ولم يكن جابر مِن أتباع محمّد بن عبد الله بن الحسن، ولا كان يقول برجعة مُطلق الأموات، وإنّما كان يقول برجعة بعض أهل البيت؛ لروايات سمِعها ليس إلاّ، وهكذا يكون التحقيق عند أمثال ابن طاهر مِن الكُتّاب، كأنّ مسألة العقائد أمرٌ بهذه السُهولة بحيث ينسب للناس ما لم يقولوه، ويرجعهم إلى فئة ليسوا مِنها.

وأعود لموضوع الغُلاة فأقول: قد اتّضح للقارئ موقف الشيعة مِن الغُلاة، ولكن مع ذلك تجد باحثاً كالزبيدي صاحب تاج العروس يُعرِّف الإماميّة في كتابه التاج فيقول: الإماميّة هُم فرقة مِن غُلاة الشيعة (1) .

وتجد الدكتور محمود حِلمي في كتابه تَطوّر المُجتمع الإِسلامي العربي يقول: وقد سُمّوا بالشيعة؛ لأنّهم شايعوا عليّاً، وقدّموه على سائر أصحاب رسول الله (ص)، واستشهد أهل الشيعة بنُصوص مِن القرآن الكريم، فسروها على حسب نظريّتهم، وغالى بعضُ الشيعة في تبرير أحقيّة عليِّ بن أبي طالب، وأضفى عليه بعض صِفات التقديس والإلوهيّة (2) .

إنّك لَتستغرب لهجة هؤلاءِ الكُتّاب، خُصوصاً بعض كُتّاب مصر، فإنّهم يُصوّرون الشيعة كأنّهم أُناس لا إيمان لهم ولا دين، يتلاعبون بالنصوص مِن دون رقيب مِن الله تعالى، ولا ضوابط مِن عِلم وخُلُق، وإنّهم واللهِ أولى بذلك، وإلاّ فما الدليل على ما ذكره محمود حلمي، وهذه كُتُب الإماميّة بين يديه، فليدلّنا على مكان تَنسب فيه الشيعة الحلول والإلوهيّة إلى عليٍّ، وسوف لا يجد ذلك قطعاً.

إنّهم يَصدُرون فيما يقولون عن عدم شعورٍ بالمسؤوليّة: ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً ) الكهف: 5 والأنكى مِن ذلك أن تجد مَن تأثّر بهؤلاء الكُتّاب مِن قريب أو بعيد، وهو مِن الشيعة وتراه يكتب بنفس الأُسلوب، ورحم الله مَن يقول:

وظلمُ ذوي القُربى أشدُّ مضاضة

على المرءِ مِن وقع الحُسام المُهنّدِ

يقول الدكتور كامل مصطفى في كتابه: وبذلك يتبيّن أنّ الغُلاة - وإن كانوا مغضوباً عليهم - مِن الشيعة المعتدلين، وأئمّتهم قد أسّسوا العقائد الأصليّة للتشيُّع

____________________

(1) تاج العروس: 8/194.

(2) تَطوّر المُجتمع الإِسلامي: ص48.

١٥٦

في بداء، ورجعة، وعِصمة، وعِلم لَدُنّي بحيث صارت مبادئ رسميّة للتشيُّع فيما بعد، ولكن على صورة مُلطّفة، انتهى.

وظهر لي أنّ الدكتور كامل أخذ ذلك مِن تصريح ابن نوف - وهو أحد أصحاب المُختار - وهو قد أخذها مِن المُختار (1) ، وأُعيد إلى الذاكرة أنّ العقائد قد أخذها الشيعة مِن القرآن والسُنّة كما بَرهنّا عليه فيما مرَّ، ثمّ لو قُدِّرَ أنّ ابن نَوف هذا أو المُختار قد قالا قولاً خاصّاً بهما، فما ذنب الشيعة، ومَن هو ابن نوف حتّى يُمثِّل الشيعة؟!

وإذا كان الدكتور كامل يَعترف بأنّ الغُلاة مَغضوب عليهم مِن الشيعة وأئمّتهم، فكيف تأخذ الشيعة مِنهم؟! وهي إنّما غضبت عليهم لغلوِّهم. إذا كانت هذه العقائد مِن الغلوّ، وهو ليس منه في شيء، أليس هذا هو التناقض بِعينه؟ وإذا كنّا نعذر حلمي وأمثاله؛ لأنّهم لم يأخذونا مِن مصادرنا، فما عُذر مثل كامل الشيبي، وهو مِن الشيعة، ويعيش بين مصادرهم.

وليس هذا بالاستنتاج الوحيد مِن الدكتور كامل الذي لا نقرّه عليه، بل له استنتاجات كثيرة مِن هذا النوع، ومنها:

أنّه عندما استعرض مصادر القول بالرجعة عنه الشيعة ذكر أنّ مِن مصادرها كلمات للإِمام عليٍّ (ع) - وَرَدَت في نهج البلاغة - عندما أظفره الله تعالى بأصحاب الجمل، وقال له بعض أصحابه: وددّتُ أن أخي فلاناً كان شاهدنا؛ ليرى ما نصرك الله به على أعدائك، فقال له أمير المؤمنين (ع): (أَهَوى أخيك معنا؟) قال: نعم، قال: (فقد شَهِدَنا) ولعلّ الإِمام يشير إلى الآية: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) آل عمران: 169. ولكنّ الخَبَر يتوجّه إلى الرجعة بكلّ ما فيها مِن عِبرة وعمق، بل إنّ بقيّة الخبر تنفذ إلى أغوار بعيدة مِن فلسفة الرجعة وحكمتها، فإنّ الإِمام يقول:

(ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال، وأرحام النساء سَيَرعف بهم الزمن، ويقوى بهم الإِيمان)

ومِن ذلك يبدو أنّ عليّاً لا يكتفي بتقرير عودة الماضين في الجهاد ليقطفوا ثمرة جهادهم، بل يُقرّر أنّ المجاهدين الآتين يحضرون هذا النصر؛ ليزيد ذلك مَن أيدهم، ويربط على قلوبهم، وتلك أُمور فيها مِن

____________________

(1) الصِلَة بين التصوّف والتَشَيُّع، فصل الغُلاة.

١٥٧

الأفلاطونيّة القديمة والحديثة مدخل كبير انتهى كلامه (1) .

وأنا أضع هذا النصّ بين يدي القارئ؛ ليرى ما هو مقدار الصواب مِن هذه الاستنتاجات التي أوردها الدكتور، والآثار التي رَتّبها عليها، والاكتشافات الأفلاطونيّة التي ذكرها، وأُعقِّب على ذلك بما يلي:

أولاً: إذا كان هذا النصّ وارداً في الرجعة، فمعنى هذا أنّ الإِمام عليّاً (ع) هو الذي وضع عقيدة الرجعة، وليس الغُلاة كما يقول الدكتور كامل.

ثانياً: إنّ هذا النصّ - وبكل بساطة - أجنبي كما ذكره الدكتور، ولا صِلة له بالمَرّة بالمعاني التي ذكرها، وكلّ ما في الأمر أنّ هذا النصّ يُفيد معنى الرواية (مَن أحبَّ عمل قوم حُشر معهم، وشاركهم في عملهم)، ولذلك سأل الإِمام عليّ (ع) الرجل عن هوى أخيه، هل هو مع أمير المؤمنين (ع) وأصحابه؟ فلّما أجابه بنعم قال: (لقد شهدنا) أي شاركنا بمشاعره، ثمّ قال له الإِمام: إنّ جميع مَن سيرعف بهم الزمان، وهُم على رأينا سيشاركوننا بعد ذلك بحصول الثواب والفرح بالنصر، وكم لهذا الموضوع مِن نظائر، ومِن ذلك ما رواه مؤرّخوا واقعة الطفِّ حيث قالوا: إنّ جابر بن عبد الله زار الحسين (ع) بعد قَتله، فقال في زيارته: (أشهدُ أنّا شاركناكم فيما أنتم فيه)، فقال له رفيقه الأعمش: إن القوم قُطعت رؤوسهم، وجاهدوا حتّى قُتلوا، فكيف شاركناهم نحن فيما هُم فيه؟! فقال له جابر: إنّ نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحاب الحسين.

ذكر ذلك أصحاب المزارات كافّة.

هذا هو معنى كلام الإِمام عليّ (ع)، لا كما ذهب إليه الدكتور.

أينَ مَوضِعُ الغُلوِّ

أعود بعد ذلك لأضع بين يدي الأستاذ فرغل بضع روايات مِن مئات مِن نوعها تدله على موضع الغُلوِّ؛ ليعلم أنّ الغُلوَّ عند غير الشيعة، وعلى أسوأ

____________________

(1) الصِلة بين التَصوّف والتَشَيُّع: ص114.

١٥٨

الفروض، فإنّ عند السُنّة أضعاف ما عند الشيعة، وسأبدأ معه مِن الخلافة وأتسلسل معه.

1 - الشاهدُ الأوّل:

ذكر الشيخ إبراهيم العبيدي المالكي في كتابه عُمدة التحقيق في بشائر آل الصِدّيق، قال رويَ أنّ النبيّ (ص) قال يوماً لعائشة: (إنّ الله لمّا خَلق الشمس، خَلقها مِن لؤلؤة بيضاء بِقَدر الدُنيا مائة مَرّة وأربعين مَرّة - مع مُلاحظة أنّ حجم الشمس كما يقول الفلكيّون مليون وثلثمائة ألف مَرّة تقريباً - وجعلها على عَجَلَة، وخلق للعجلة ثمانمائة عُروة وستين عُروة، وجعل في كلّ عُروة سلسلة مِن الياقوت الأحمر، وأمر ستّين ألفاً مِن الملائكة المُقرَّبين أن يَجرّوها بتلك السلاسل مع قوتهم التي اختصَّهم الله بها، والشمس مِثل الفلك على تلك العَجَلَة، وهي تجول في القُبّة الخَضراء، وتجلو جَمالها على أهل الغبراء، وفي كلّ يوم تقف على خط الاستواء فوق الكعبة؛ لأنّها مركز الأرض - ملاحظة: خط الاستواء ليس فوق الكعبة - وتقول: يا ملائكة ربّي، إنّي لأستحيي مِن الله عزّ وجل إذا وصلت إلى مُحاذاة الكعبة التي هي قِبلة المُسلِمينَ أن أجوز عليها، والملائكة تَجرُّ الشمس؛ لتعبر على الكعبة بكلِّ قوّتها، فلا تَقبل مِنهم، وتعجز الملائكة عنها فالله تعالى يوحي إلى الملائكة، ومِن الإِلهام فَيُنادون: أيتها الشمس بحرمة الرجل الذي اسمه منقوش على وجهك المنير إلاّ رجعت إلى ما كُنت فيه مِن السير، فإذا سمعت ذلك تَحرّكت بقُدرة المالك.) فقالت عائشة:

يا رسول الله مَن الرجل الذي اسمه منقوش عليها؟

قال: (هو أبو بكر الصِدّيق، يا عائشة قَبلَ أن يخلق الله العالم، عَلِمَ بعلمه القديم أنّه يَخلق الهواء، ويخلق على الهواء هذه السماء، ويخلق بحراً مِن الماء، ويخلق عليه عَجَلَة مركباً للشمس المُشرقة على الدنيا، وإنّ الشمس تَتمرَّد على الملائكة إذا وصلت الاستواء، وإنّ الله قدَّر أن يخلق في آخر الزمان نبيّاً مُفضَّلاً على الأنبياء، وهو بعلك يا عائشة على رغم الأعداء، ونقش على وجه الشمس اسم وزيره أعني أبا بكر صِدّيق

١٥٩

المصطفى، فإذا أقسَمَتْ الملائكة عليها به زالت الشمس، وعادت إلى سيرها بقدرة المولى، وكذلك إذا مرَّ العاصي مِن أُمتي على نار جهنَّم، وأرادت النار أن تَهجم على المؤمن، فلحُرمة مَحبّة الله في قَلبه، ونقش اسمه على لسانه ترجع النار إلى ورائها هاربة) (1) .

2 - الشاهد الثاني:

ذكر محمّد بن عبد الله الجرداني في مصباح الظلام قال: روي عن ابن عبّاس جاء جبرئيل وقال: (يا محمّد اقرأ عُمَر السلام، وأخبره أنّ رضاه عِزٌّ، وغضبه حِلمٌ، وليبكِ الإِسلام بعد موتك على موت عُمَر.)

فقال: (يا جبرئيل أخبرني عن فضائل عُمَر، وما له عند الله تعالى؟) فقال: (يا محمّد لو جلستُ معك قدر ما لبث نوح لم أستطع أن أُخبرك بفضائل عُمَر، وما له عند الله تعالى) (2) .

3 - الشاهد الثالث:

ذكر الإِمام أحمد في مسنده بإسناده عن عائشة: أنّ أبا بكر استأذن على رسول الله (ص)، وكان مُضطجعاً في بيته كاشفاً عن فَخذيه وساقيه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحال فتَحدّث، ثمّ استأذن عُمَر فأذن له وهو كذلك فتحدّث، ثمّ استأذن عُثمان، فجلس رسول الله (ص) وسوّى ثيابه، فلّما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهش له ولم تُباله، ثمّ دخل عُمَر فلم تهش له ولم تُباله، ثمّ دخل عُثمان فجلس، فجلست وسوّيت ثيابك!

فقال: (ألا أستحي مِن رجل تستحي منه الملائكة) (3) .

هذا ثلاثة نماذج مِن عشرات مِن الروايات: التي يأباها الخُلفاء أنفسهم، فإنّ لهم مِن مواقفهم ومَناقبهم ما يكفيهم. إنّهم ليسوا بحاجة إلى أن تُشاد لهم صُروح مِن خيال أبله، كما أّنّ تاريخنا الإِسلامي أعزَّ علينا مِن أن نرضى بأن تكون

____________________

(1) عُمدة التحقيق: ص184.

(2) مصباح الظلام: 2/216.

(3) مصباح الظلام: 2/16.

١٦٠