هوية التشيع

هوية التشيع0%

هوية التشيع مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 237

هوية التشيع

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور أحمد الوائلي
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 237
المشاهدات: 33800
تحميل: 5269

توضيحات:

هوية التشيع
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 33800 / تحميل: 5269
الحجم الحجم الحجم
هوية التشيع

هوية التشيع

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يغلب أنّه استفاد في الدين (1) .

بينما يقول فقيه شيعي مُعاصر: وللتقيّة أحكام مِن حيث وجوبها وعدم وجوبها بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر، وليس هي بواجبة على كلّ حال، بل قد يجوز أو يجب خلافها في بَعض الأحوال كما إذا كان في إظهار الحقّ والتظاهر به نُصرة للدين، وخدمة للإِسلام، وجهاد في سبيله، فإنّه عند ذلك يُستهان بالأموال ولا تَعزُّ النُفوس، وقد تحرم التَقيّة في الأعمال التي تستوجب قتلَ النُفوس المُحتَرمة، أو رواجاً للباطل، أو فساداً في الدين، أو ضرراً بالغاً على المُسلمين بإضلالهم، أو إفشاء الظُلم والجور فيهم، إلى أن قال: إنّ عقيدتنا في التقيّة قد استغلّها مَن أراد التشنيع على الإماميّة، فجعلوها مِن جُملة المطاعن فيهم، وكأنّهم لا يَشفى غليلهم إلاّ أن تُقدّم رقابُهم - أي رقاب الشيعة - إلى السيوف لاستئصالهم (2) .

ومِن هذه المُقتَطفات التي ذكرتها يَتّضح أنّ التقيّة تتبع الحالات والظروف، وتكون محلاً للأحكام المذكورة تبعاً لاختلاف العناوين، وقد سبق أن ذكرنا استدلالات الشيعة للتَقيّة مِن الكتاب والسُنّة، ولذلك كان الإِمام الصادق (ع) يقول: (التقيّة ديني ودين آبائي)، وخصوصاً في عصره، حيث كانت السيوف هي اللُغة الوحيدة، وقد حاول بعضهم أن يُفَلسِف مِن موقف الإِمام الصادق، ومواقف الشيعة في التقيّة بأنّ التقيّة علاج لأمرين:

أ - هو أنّ سكوت أئمّة أهل البيت عن المُطالبة بِحقهم والتصدّي للظالمين مِن ناحية، ومِن ناحية أُخرى إنّ المفروض أنّهم الأئمّة المُفتَرضة طاعتهم، إنّ ذلك يُشكّل تناقضاً لا مَخرج منه إلاّ التقيّة، قال بذلك كلٌّ مِن: الرازي في كتابه مُحصّل آراء المتقدّمين والمتأخّرين، والملطي في كتابه التنبيه، والردّ على أهل الأهواء والبدع (3) .

____________________

(1) أوائل المقالات: 97.

(2) عقائد الإماميّة للمُظفّر: ص87.

(3) التنبيه والرد، بحث التَقيّة.

١٨١

ب - والأمر الثاني: هو ما يظهر مِن اختلاف في أقوال الأئمّة بعضهم مع بعض، وفي أقوال الإِمام الواحد في مقامات مُختَلفة مِمّا يُشكّل علامة استفهام، ودفعاً لذلك قالوا بالتَقيّة؛ حتّى لا يبقى إشكال في ذلك.

مُحصّل قولهم ذَكره صاحب كتاب دراساتٌ في الفِرََق والعقائد (1) .

إنّ هذا الباحث يَظهر من تَصويره لمسألة التَقيّة عند الأئمّة أنّه اختلط عليه المَقسَم بالقِسم، وذلك أنّ الموردين الّذين ذكرهما إنّما هُما مِن موارد تطبيق مبدأ التَقيّة لا أنّ التَقيّة أُنشئت مِن أجلهما، هذا مع أنّ هذا الباحث هو الدكتور عرفان مِن أكثر الناس إنصافاً للشيعة فيما كُتِب عنهم بالقياس إلى غيره، فانظر لِما كتبه حولهم (2) .

وقد اعتبر كثير مِن الكُتّاب أنّ موقف الإِمام الصادق (ع) مِن التشديد على التَقيّة فيه ضعف وتخاذل، بينما الواقع أنّ الإِمام بموقفه هذا حفظ أصحابه مِن هجمات شرسه، فقدت صوابها، ولم يعد لها مِن منطق غير المَخلَب والناب، وفي مثل هذه الحالات لا بُدَّ مِن الحكمة، وسأذكر لك صوراً مُصغّرة عمّا كان عليه الحال:

يقول الخطيب البغدادي بسنده عن أبي معاوية قال، دخلتُ على هارون الرشيد فقال لي: لقد هَممتُ أنّ مَن يُثبِت الخلافة لعليٍّ أن أفعل به وأفعل، قال أبو معاوية: فَسكتُّ، فقال لي: تَكلّم، قلت: إن أذنت لي، قال: تَكلّم، قلتُ: يا أمير المؤمنين قالت تيمٌ، منّا خليفة رسول الله، وقال عَدي: منّا خليفة رسول الله، وقالت بنو أُميّة: منّا خليفة الخُلفاء، فأين حظّكم يا بني هاشم؟ والله ما حظّكم إلاّ ابن أبي طالب، فسكت (3) .

لقد أحسن الرجل الدُخول، وعرف مِن أين يأتيه، وهنا نقول: إذا كان مَن يَذكر حقَّ عليٍّ بالخلافة يُصنع به ما يُصنع، فما رأي هؤلاءِ المُتفيقهين في أيّام الرخاء، الّذين لم تلفح وجوههم النار، ولم يعضهّم الحديد.

____________________

(1) دراساتٌ في الفِرَق والعقائد: ص53.

(2) دراساتٌ في الفِرَق والعقائد: ص42.

(3) الإِمام الصادق لأسد حيدر: 2/310.

١٨٢

على أنّ هناك شيئاً آخر، وهو أنّ أئمّة المُسلمينَ الآخرين اضطرّوا إلى استعمال التَقيّة فيما تعرّضوا له مِن مواقف.

ومِن ذلك ما ذكره أحمد بن أبي يعقوب، المَعروف باليعقوبي عند استعراضه لموقف الإِمام أحمد بن حَنبل أيّام المِحنة، والقول بخلق القرآن قال:

لمّا امتنع أحمد بن حَنبل مِن القول بِخلق القرآن، وضُرِب عدَّة سياط، قال إسحاق بن إبراهيم للمُغتصِم: وَلّني يا أمير المؤمنين مُناظرته.

فقال: شأنك به. فقال إسحاق للإِمام أحمد: ما تقول في خَلق القرآن؟ فقال الإِمام أحمد: أنا رجل عَلمت عِلماً، ولم أعلم فيه بهذا، فقال: هذا العِلم الذي علِمته نَزل به عليك مَلَك أم علمته مِن الرجال؟ فقال أحمد: بل علمته مِن الرجال. فقال إسحاق: علمته شيئاً بعد شيءٍ؟ قال نعم، قال إسحاق: فبقي عليك شيء لم تعلمه؟ فقال: نعم، قال: فهذا مِمّا لم تعلم، وعَلّمكه أمير المؤمنين. فقال أحمد: فإنّي أقول بقول أمير المؤمنين. فقال إسحاق: في خَلق القرآن؟ قال أحمد: في خلق القرآن. فأشهد عليه، وخلع عليه وأطلقه إلى منزله (1) .

ولهذا قال الجاحظ في حواره مع أهل الحديث بعد أن ذكر مِحنة الإِمام أحمد بن حنبل وامتحانه: قد كان صاحبكم هذا - يعني الإِمام - يقول: لا تَقيّة إلاّ في دار الشِرك، فلو كان ما أقرّ به مِن خَلق القرآن، كان منه على وجه التَقيّة، فلقد أعملها في دار الإِسلام وقد أكذب نفسه، ولو كان ما أقرّ به على الصِحّة والحقيقة، فلستم منه، وليس منكم على أنّه لم يرَ سيفاً مشهوراً، ولا ضُرِب ضَرباً كثيراً، ولا ضُرِب إلاّ الثلاثين سوطاً مقطوعة الثمار، مشبعة الأطراف حتّى أفصح بالإِقرار مِراراً، ولا كان في مجلس ضيق، ولا كانت حالته مؤيسة، ولا كان مُثقلاً بالحديد، ولا خُلع قلبه بشدّة الوعيد، ولقد كان يُنازَع بأليَن الكلام، ويُجيب بأغلظ الجواب، ويَزِنون ويخف، ويحلمون ويَطيش (2) .

على أنّ سيرة المُسلمين بالفعل قائمة على التَقيّة فهناك أُمور لا يقرّها بعض

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي: 3/198.

(2) الإِمام الصادق لأسد حيدر: 2/310.

١٨٣

المُسلمينَ، وهي قائمة عندهم.

خُذ مثلاً بقاء قَبر النبيّ (ص)، فإنّ الوهابيين لا يتركون قبراً قائماً، فقد رووا في الصحاح عن أبي الهياج الأسدي قال، قال لي عليّ ابن أبي طالب (ع): (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله (ص)، ألاّ أدع قبراً قائماً إلاّ سويته، ولا تمثالاً إلاّ طمسته).

وعلى هذه الرواية استند الوهابيّون، أو هي أحد مُستنداتهم في تهديم القُبور (1) ، ولكنّهم لم يتعرّضوا لِقبر النبيّ مع أنّ لِسان الرواية عامٌّ لم يستثنِ قبراً، وليس ذلك إلاّ تَقيّة مِن المُسلمينَ.

وقد كان خبر أبي الهياج سبباً للتهريج عند ابن تيميّة على الشيعة مع أنّ الرواية ما ثبتت عندهم مِن ناحية سندها.

لقد شَحَن ابن تيميّة كتابه بقوارص مِن الشَتم يأباها خُلُق الإِسلام، وأدب القرآن، ومِن ذلك أنّه: إذا مرّ بِذكر العلاّمة ابن المُطَهّر الحِلّي يُسمّيه بابن المُنجِّس (2) .

في حين كان العَلاّمة في خُصومته مع العُلماء في غاية التَهذيب، وبوسع القارئ أن يرجع إلى الكتابين الّذين طُبعا معاً، وأن يَحكم على الأُسلوبين؛ ليرى الفَرق بينهما.

وإلى هُنا أرجو أن أكون قد وضعت بين يَدَي القارئ فكرة عن التَقيّة كافية لأخذ صورة عن الموضوع، ولا يخلو الواقع المُعاصر مِن تَقيّة مُتجسِّدة عند مُختَلَف الشُعوب.

____________________

(1) منهاج السُنّة لابن تيميّة: 1/333.

(2) المصدر السابق: 1/13.

١٨٤

الفصل الخامس

مِن عقائدنا: المهدي

ما رأيت كتاباً كَتَبَ عن الشيعة إلاّ واتّخذ مِن عقيدتهم بالمهدي وسيلة للسُخرية والتهريج، ووضع للفكرة حواشي، ورتّب عليها لوازم وأشرع سلاحه، وتَفَيهق بكلامه، وصال وجال كأنّه اكتشف كشفاً ضخماً، وأنّه وحده العبقري، وأنّ الآخرين بُلَهاء.

ولِنَرَ مِن أين جاءت فِكرة المهدي؟ وهل أخذها الشيعة مِن مصدر ديني سليم أم لا؟

وهكذا نمشي مع الفكرة، إنّ الّذين كتبوا عن المهدي ربطوا مصدر هذه الفكرة بأمرين:

أحدهما: الفِكر الوضعي.

والآخر: العقيدة الدينيّة.

والذين ربطوا العقيدة بالفِكر الوضعي انقسموا أيضاً.

وسَنَذكر أقوالهم حَسَب الشقّ الذي مالوا إليه، ورجّحوا أنّه المصدر لهذه الفكرة:

1 - القسم الأوّل:

الّذين ربطوا فكرة الإِمام المهدي بالفكر الوضعي في بُعدِه النفسي يرون أنّ عقيدة المهدويّة ليست وقفاً على الفِكر الشيعي، ولا على المُسلِمينَ فقط، بل ولا على الديانات السماويّة كلّها، إنّما هي على مُستوى الشعوب؛ ذلك أنّ العامل المُشترك بين كلّ هذه الفئات هو عامل نفسي موحّد: وهو الشعور بوضعيّة غير عادلة مِن حُكم قائم بالفعل، وخزين مُتراكم مِن حُكّام سابقين، عاشوا مع شعوبهم على شِكلِ قاهر ومقهور، ومُتسلِّط ومسحوق، ورزحوا تحت نَيرِ الظُلم والطغيان. ولذا كانت هذه العقيدة عند الشعوب الشرقيّة ونظائرها مِمَّن يَشترك

١٨٥

مع الشعوب الشرقيّة بأنّه مَسحوق، وحيث أنّ بعضَ هذه الشعوب عنده عقيدة دينيّة تُبشِّر بالمهدي أيضاً، فإنّ هذا العقيدة مُهمّتها تدعيم هذا العامل النفسي، وخلق لون مِن المشروعيّة لهذه النزعة في نُفوس الناس، وهذا هو المعنى الذي عبَّر عنه برتراند راسل بقوله:

ليس السبب في تصديق كثير مِن المعتقدات الدينيّة الاستناد إلى دليل قائم على صِحّة واقع كما هو الحال في العِلم، ولكنّه الشعور بالراحة المُستمد مِن التصديق، فإذا كان الإِيمان بقضيّة مُعينّة يُحقّق رغباتي فأنا أتمنّى أن تكون هذه القضيّة صحيحة، وبالتالي فأعتقد بصحّتها (1) .

إذاً فالقدر الجامع بناءً على هذا: هو الأمل بظهور مُخلِّص مِن واقع سيّئ تعيشه الجماعة.

وفي ذلك يقول الدكتور أحمد محمود:

إنّ الاعتقاد بظهور مسيح أو انتظار رَجعة مُخلِّص وليد العقل الجمعي في مُجتمعات تُفكِّر تفكيراً ثيوقراطياً في شؤونها السياسيّة، وبين شعوب قاست الظُلم، ورزحت تحت نير الطغيان، سواء مِن حُكّامهم أم مِن غُزاة أجانب، فإزاء استبداد الحاكم، وفي ظلِّ التفكير الديني تتعلَّق الآمال بقيام مُخلّص أو مُحرِّر يملأ الأرض قِسطاً وعدلاً كما مُلِئت ظُلماً وجوراً (2) .

فهذه العقيدة بالرغم مِن وجود مصادر دينيّة لها عند المُسلِمينَ واليهود والمسيحيّين، إلاّ أنّ هذه المصادر ليست هي العامل الأساسي في نَظر هؤلاءِ بالاعتقاد بها، وإنّما تَعلب دوراً مُبرِّراً ثانويّاً، ويرى الدكتور أحمد محمود أنّ عقيدة السُنّة بالصبر على الظالم، وعدم الخُروج عليه عمَّقت نزعة المهدي، وتركت الوسط الديني السُنّي الذي يعتقد بموضوع المهدي يعيش بين عامل الألَم مِن الواقع الفاسد الذي عاشه أيّام الأُموييّن وما تلاها مِن عُصور، وبين ضرورة الخلاص، فمال إلى الخلاص في المدى الأبعد الذي وجده في عقيدة المهدي، وقد حاول إشراك

____________________

(1) نَظريّة الإِمامة: ص420.

(2) نفس المصدر السابق: ص399.

١٨٦

الشيعة في ذلك باعتبارهم صابرين على الظُلم حيث قال:

إنّ هذه العقيدة لا يؤمن بها إلاّ أُولئك الّذين يُعانون صِراعاً نفسيّاً نتيجة السَخط على تصرُّفات الحُكّام، وعدم استحقاقهم لقب الخلافة لفُسقهم، ونتيجة خضوعهم مِن ناحية ثانية للأمر الواقع إمّا خشية الفتنة كما هو عند السُنّة، الّذين لا يرون الخروج على أئمة الجور، استناداً إلى أدلّة عندهم، أو نتيجة للتخاذُل؛ بسبب فشل كثير مِن الحركات الثوريّة كما هو عند الشيعة الّذين يَرون الصبر على الخُلفاء تَقيّة، فعقيدة المهدي مَخرَج لهذا الصراع.

أمّا الفِرَق التي تَجعل مِن أُصول مبادئها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسيف كالخوارج والزيديّة، فإنّ هذه العقيدة عندهم غير ذات موضوع، إلى أن قال: ولذا لا تبلغ أهميّة المهدي عند فِرقَة مِن الفِرَق كما تبلغ عند الشيعة الإثني عشريّة الّذين يتطرَّف حكمهم على الخُلفاء مِن ناحية كما يَتطرّف تَحريمهم الخروج على الخلفاء مِن ناحية أُخرى (1) .

هذا مُلخّص ما قاله الدكتور أحمد محمود، ولنا على مضامين هذا الفصل المُلاحظات التالية:

1 - المُلاحظة الأولى:

أنّ هذا خلط بين السبب وبعض نتائجه؛ ذلك لأنّ الشُعوب المرتبطة بدين مُعيّن تُربط مظاهرها العقائديّة بدينها في الجملة، فإذا لم يوجد مصدر ديني لذلك المظهر يبحث عندئذ عن سببه الآخر، ولا شكّ أنّ الأديان الثلاثة بَشّرت بفكرة المُخلِّص، وهو إمّا واحد للجميع يوحِّد به اللهُ تعالى الأديانَ في الخلاص مِن الظُلم، أو مُتعدِّد لكلِّ أُمّة مِن الأُمم مَهديّها، والهدف منه ومِن التبشير به أن يوضَع أمام كلّ أُمّة مَثَلٌ أعلى يُجسّد فكرة العدل، ولتكون الشعوب على تماس مُباشر مع الفِكرة الخيّرة، والمَثَل الأعلى كما هو مُتصوَّر، فالأصل في فِكرة المَهدي النُصوص الدينيّة، وساعد على ترسيخها في النُفوس ارتياح النُفوس إليها، خُصوصاً إذا لم تَقوَ على تجسيد العدل لسبب ما. ولكنّها إذ تتّخذ مِن فكرة المهدي وسيلة تعويضيّة

____________________

(1) نَظريّة الإِمامة: ص127.

١٨٧

تمسخ الغرض الأصلي مِن فكرة المهدي، وهو أن تكون حافزاً يَدفع الناس إلى السعي إلى دفع الظُلم، وفكرة قيام الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، خصوصاً إذا كانت النُصوص الدينيّة قائمة في تَحميل الإِنسان مسؤوليّة الدفاع عن نفسه وعن مُقدّساته بغضِّ النظر عن قيام المهدي وعدمه كما هو واقع التعاليم الدينيّة، فلا ينبغي أن تتحوَّل فِكرة الإِمام المهدي مِن نَصبِ مَثَلٍ أعلى لاستشعار سُبُل ومناهج الحياة الكريمة إلى مُخدِّر يُميت في النفوس نَزَعات التَطلُّع ووثبات الرجولة، أو مِن مُحفِّز إلى مُنوِّم.

2 - الملاحظة الثانية:

إنّ إشراك الشيعة مع السُنّة بأنّهم لا ينهضون ضدَّ الظالم تقيَّة مُغالطةٌ صريحةٌ؛ وذلك لأنّ عامل صبر السُنّة على الظُلم عامل اختياريٌّ نتيجة تمسُّكهم بأحاديث يرون صحّتها في حين أنّ صبرَ الشيعة على الظُلم نتيجة عامل قهريٍّ؛ لعدم وجود قُدرة ووسيلة للنهضة، وهذا عامل عامٌّ عند كلّ الناس، أمّا لو وُجِدَت عوامل النهضة، فلا يَنتظر الشيعة خُروج المهديّ ليصلح لهم الأمر، بدليل أنّ حُكم الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكَر بشروطهما قائم عندهم فعلاً، وكذلك الجهاد بكلِّ أقسامه بوجود نائب الإِمام الخاص أو العام في رأي بَعضهم قائمٌ بالفعل، أمّا دفاع الظالم عن النفس والمُقدّسات فلا يُشترط فيه وجود إمام أو نائبه على رأي جُمهور فُقهاء الشيعة؛ لأنّه دفاع عن النفس، ويتعيّن القيام به في كلّ وقت مِن الأوقات (1) .

إنّ الرجوع إلى تاريخ الشيعة يُشكِّل أدلّة قائمة على ما ذكرناه؛ لكثرة ثوراتهم على الباطل في مُختلَف العُصور، والجهاد مع باقي فِرق المُسلِمينَ في ساحات الجهاد ضدَّ الكُفر والظُلم، ولست بحاجة للإِطالة في ذلك لوضوحه.

3 - الملاحظة الثالثة:

لا ينهض اشتراك الشعوب في عقيدة المهدي دليلاً على وحدة العامل؛ لأنّنا

____________________

(1) شرح اللُمعة للشهيد الثاني: 2/381، وكنز العرفان للمقداد: 1/342.

١٨٨

نرى كثيراً مِن المظاهر السلوكيّة سواء كانت مظاهر دينيّة أم لا، تَشترك بها شعوب دون أن تصدر عن عِلَّة واحدة.

خذ مثلاً: ظاهرة تقديم القرابين، فهي عند معتنقي الأديان السماويّة شَعيرةٌ أمرَ بها الدين بهدف التوسعة على الفُقراء والمعوزين في حين نجدها عند بعض الشعوب بهدف اتّقاء سَخط الآلهة، وعند البعض الآخر لطرد الأرواح الشِريرة، وعند البعض الآخر تُقدَّم الضحايا مِن البشر بهدف استدرار الخير كما هو عند قُدماء المصريّين، فلم تَكن العِلّة واحدة عند الشعوب كما ترى.

إذاً فمِن المُمكن أن تكون فكرة الإِمام المهدي ليست عمليّة تعويض أو تنفيس، وإنّما هي فِكرة تستهدف وضع نصب يظلُّ شاخصاً دائماً، يُذكِّر الناس بأنّ الظالم قد يُمهَل، ولكنّه لا يُهمَل؛ لأنّ الناس إذا تقاعسوا عن طلب حُقوقهم فإنّ السماء لا تسكت، بل لا بُدَّ مِن الانتقام على يَدَي مُخلص مع مُلاحظة أنّ الأصل في مِثل هذه الحالات، أن يَتصدّى الناس لتقويم الاعوجاج، ولذلك يقول الله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) الرعد:12، فإذا غَلَب عليهم التخاذل فإنّ الله تعالى لا يُهمل أمر عباده، ولذلك تشير الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) يوسف:110، وقد حام المفسرون حول هذا المعنى الذي ذكرناه عند تفسيرها للآية المذكورة (1) ، وذكروا أنّ السماء تتدخّل عندما يَطول البلاء، وتشتدُّ الحالة، ويهلع الناس إلى حدِّ اليأس.

2 - الشقُّ الثاني:

الّذين ربطوا فكرة الإِمام المهدي (ع) بالأخذ التقليدي، وقالوا: إنّها عبارة عن اقتباس أخذه المسلمون عن بعض الشُعوب مِن دون أن يكون هناك عامل شعوريٌّ مُشترك، وسواء أُخذت هذه العقيدة مِن هذا الشعب أو ذاك، فإنّ جولد تسيهر وفان فلوتن المستشرقان قالا: إنّها مُقتبسة مِن اليهود بشكل وبآخر، ويؤكِّد فان فلوتن أنّها جاءت مِن تنبؤات كَعب الأحبار، ووهب بن منبّه فهي مِن

____________________

(1) صفوة البيان لمخلوق: 1/397، ومجمع البيان للطبرسي: 3/271.

١٨٩

الأفكار الإِسرائيليّة التي نُشرت بين المُسلِمينَ (1) .

في حين يذهب أحمد الكسروي إلى أنّها مُقتبسة مِن الفُرس حيث يقول:

لا يخفى أنّ قُدماء الفُرس كانوا يعتقدون بإله خَيرٍ يُسمى يزدان، وإله شرٍّ يسمى أهريمن، ويزعمون أنّهما لا يزالان يَحكمان الأرض حتّى يقوم ساوشيانت ابن زرادشت النبيّ؛ فيغلب أهريمَن ويصير العالم مهداً للخير، وقد تأصّل عندهم هذا المُعتقد، فلّما ظهر الإِسلام وفَتح المسلمون العراق وإيران، واختلطوا بالإِيرانيين؛ سرى ذلك المُعتقد مِنهم إلى المُسلِمينَ، ونشأ بينهم بسُرعة غربية، ولسنا على بيّنة مِن أمر كَلمة المهدي مَن وضعها؟ ومتى وُضِعَت. انتهى بتلخيص (2) .

إنّ هذا الرأي لا يَستحقُّ المُناقشة في الواقع؛ لأسباب كثيرة مِنها: افتراضه تَساهل المُسلِمينَ بحيث يعتقدون بأُمور لا يَعرفون مصدرها، ومنها عدم وجود صِلة بين فِكرة إلهَي خير وشَر وفكرة مُخلِّص، ومنها أنّ حَجم مسألة المَهدويّة ليس بهذه البساطة، فالفكرة مِن الفِكَر كبيرة الحَجم بالعقيدة الدينيّة.

3 - الشُق الثالث:

ربط فكرة المَهدي بالفِكر الوضعي في بُعده السياسي، ويقول أصحاب هذه الفكرة: إنّ فِكرة المهدي اخترعها بعض الحُكّام الّذين حكموا، ولم تتوفَّر فيهم صِفات يفترضها المسلمون في الحاكم، فافترضوا أنّ هناك إماماً غائباً مُحَرِّراً سيظهر بعد ذلك، وقد عَهِد إليهم بالقيام بالحُكم إلى أن يَظهر، وقالوا: إنّ المُختار الثقفي مِمَّن سلك هذا الطريق، وادّعى أنّه مَنصوب مِن قِبَل المهدي مِن آل محمّد، وممَّن أكّدَ هذا الرأي المُستَشرِق وات (3) ، وهذا الرأي يَضع الأثرَ مكان المؤثِّر، فإنّ الّذين اتّخذوا مِن فِكرة المهدي سِناداً لهم على فرض وجودهم بهذه الكثرة: لابد أن تكون فكرة المهدي شائعة عند الناس قبل مجيئهم فاستفادوا مِنها وركبوا ظهر العقيدة، على أنّ نسبة هذا الرأي للمُختار باعتباره جُزءاً مِن العقيدة الكيسانيّة

____________________

(1) نَظريّة الإِمامة: ص399.

(2) التَشَيُّع والشيعة: ص35.

(3) تاريخ الإماميّة وأسلافهم: ص165.

١٩٠

فنّده كثير مِن المُحقّقين، وحَتّى مع فرض صِحّته يبقى مُتأخّراً عن وجود عقيدة المهدي كما ذكرنا.

وليس للمُختار تلك المكانة الكبيرة عند فِرَق المُسلِمينَ حتّى يأخذوا عنه، ويتأثّروا بآرائه مع التفات المُسلِمينَ لهدفه.

عَقيدَةُ المُسلِمينَ بالمَهديّ

إنّ فكرة الإِمام المهدي في نِطاق العقيدة الدينيّة بغضِّ النَظر عن تفاصيلها موضعُ اتّفاقِ جمهور المُسلِمينَ، فإنّ روايات المهدي، وانتظار الفَرَج على يديه، وظهوره ليملأ الأرض عدلاً ورَدَت عند كلٍّ مِن الشيعة والسُنّة، ومِمَّن رواها مِن أئمة السُنّة:

الإِمام أحمد في مسنده، والترمذي في سُننه، وأبو داود في سُننه، وابن ماجة في سُننه، الحاكم في مُستدرَكه، والكنجي الشافعي في كتابه البيان في أخبار صاحب الزمان، وابن حَجَر العسقلاني في القول المختصر في علامات المهدي المنتظر، ويوسف بن يحيى الدمشقي في عَقد الدُرر في أخبار الإِمام المنتظر، وأحمد بن عبد الله أبو نعيم صاحب الحِلية في نعت المهدي، ومحمّد بن إبراهيم الحموي في مِشكاة المصابيح، والسمهودي في جواهر العقدين، وعشرات مِن أعلام السُنّة وغيرهم (1) .

لا أُريد الإِطالة بِذِكرِهم.

وقد أخرجَ أئمّة السُنّة أحاديث المهدي عن طريق الإِمام عليٍّ (ع)، وابن عبّاس، وعبد الله بن عُمَر، وطَلحة، وابن مَسعود، وأبي هُريرة، وأبي سعيد الخدري، وأُم سَلَمة، وغيرهم.

ومِن تلك الأحاديث ما رواه ابن عُمَر بِسنده عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: (يَخرج في آخر الزمان رَجل مِن ولدي، اسمه كاسمي وكنيته كنيتي، يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً، ذلك هو المهدي)، وكقول النبيّ (ص): (المهدي مِن عترتي مِن ولد فاطمة)، وقد صحّح هذه الأحاديث وغيرها مِمّا ورد في الإِمام المهدي ابن تيميّة

____________________

(1) راجع أعيان الشيعة: 4/348.

١٩١

مُستنداً إلى مُسنَد الإِمام أحمد بن حنبل، وصحيح الترمذي، وسُنن أبي داود (1) .

وقد ذَهب ابن حَجَر تبعاً للنُصوص إلى تكفير مُنكِر المهدي، فقد أجاب في الفتاوى الحديثيّة حين سُئل عمّن ينكرون خُروج المهدي المنتظر.

فقال: فهؤلاء المنكرون للمهدي الموعود به آخر الزمان، وقد ورد في حديث عن أبي بكر الاسكافي أنّ النبيّ (ص) قال: (مَن كذَّب بالدجّال فقد كَفر، ومَن كذَّب بالمهدي فقد كَفر)، إلى أن قال: ونُملي عليك مِن الأحاديث المُصرّحة بتكذيب هؤلاءِ، وتضليلهم، وتفسيقهم ما فيه مقنع وكفاية لمن تَدبّره: أخرج أبو نعيم أنّه (ص) قال: (يخرج المهدي وعلى رأسه عمامة، ومعه مُنادٍ يُنادي هذا خليفة الله فاتّبعوه)، ثمّ أخذ يُورد الأحاديث الواردة في المهدي (2) .

هذه بعض المأثورات السُنيّة في الإِمام المهدي، أمّا الشيعة فرواياتهم في موضوع الإِمام المهدي بكلِّ جوانبه كثيرة، واردة عن النبيّ (ص) وأهل بيته، وقد ألّفوا في ذلك كُتُباً كثيرة استوفت وغطت كلّ التساؤلات حول موضوع الإِمام المهدي.

مثل كتاب الغيبة لمحمّد بن إبراهيم النُعماني، وكمال الدين وتمام النعمة لمحمّد عليِّ بن بابويه القُمّي، وكتاب الغَيبة لمحمّد بن الحسن الطوسي (3) وغيرهم كثير.

وقد تناولها فكَتَب بالمهدي كُلٌّ مِن: الصدوق في عِلل الشرائع، والمُرتضى في تنزيه الأنبياء، والمجلسي في البحار، والمُفيد في الفصول وفي الإرشاد.

ومِن المُتأخّرين كَتَب عشراتُ المؤلّفين بالمهدي، وأشبعوا الموضوع، وقد استعرضوا الأدلّة في موضوع المهدي، وأذكر مِن أدلتهم دليلين فقط:

1 - فمِن الأدلّة العقليّة التي أوردوها:

أ - دليل اللطف: ومفاد هذا الدليل، أنّ العقل يَحكم بوجوب اللُّطف على الله تعالى، وهو فِعل ما يُقرِّب إلى الطاعة، ويبعد عن المعصية، ويوجب إزاحة العلّة، وقطع العذر بما لا يصل حدَّ الإِلجاء؛ لئلا يكون للناس على الله حُجّة، فكما أنّ العقل حاكم بوجوب إرسال الرُسُل وبِعثة

____________________

(1) نَظريّة الإِمامة: ص405.

(2) الإِمام الصادق: 6/146.

(3) أعيان الشيعة: 4/388.

١٩٢

الأنبياء ليُبيّنوا للناس ما أراد الله مِنهم، وللحُكم بينهم بالعدل، كذلك يَجِب نصب الإِمام؛ ليقوم مقامهم تحقيقاً لنفس العلّة، فإنّ الله لا يُخلي الأرض مِن حُجّة، وليس زمان بأولى مِن زمان في ذلك، إلى آخر ما أوردوه.

2 - أمّا مِن الأدلة النقلية

فذكروا ما يلي: قال الله تعالى ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ) ، فقد فُسّرت هذه الآية كما عن الإِمام الصادق (ع) بخروج المهدي وتحقيق هذه الأشياء على يديه (1) .

وقد قيل: إنّ لسان هذه الآية عامٌّ يُشير إلى تحقيق هذه الأُمور على أيدي المُسلِمينَ.

فأجابوا: إنّ القرائن تُفيد أنّ هذه الأُمور لم تتحقَّق على النحو الذي ذكَرَته هذه الآية مِن مجيء الإِسلام حتّى يومنا هذا، ووعد الله لا بُدَّ من تحقيقه، وتلك قرينة على تحقُّقه في المستقبَل، يضاف لذلك أنّ مِن أساليب القرآن الكريم أن يُعبِّر عن الخاص بِصيغة العام، وعن المُفرد بالجمع في كثير مِن الموارد، ولذلك قال الفخر الرازي عند تفسير قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ) إلخ المائدة: 57.

قال: إنّها نزلت في أبي بكر بقرينه أنّه هو الذي قاتل المُرتدّين مع أنّ لسان الآية عامٌ (2) .

ومِن الأحاديث التي استدلّ بها الشيعة في موضوع المهدي، ما رواه الطوسي في الغَيبة عن النبيّ (ص): (لا تذهب الدُنيا حتّى يلي أُمّتي رجلٌ مِن أهل بيتي يقال له المهدي) (3) .

هذه فكرة موجزة أردّتُ بها الإِشارة إلى إجماع المُسلِمينَ على موضوع المهدي، وحينئذ لا يبقى قيمة لأقوال المُهرّجين الّذين يريدون إبعاد الفكرة عن الإِسلام غير عابئين بما ورد فيها مِن آثار ونصوص، وإذا كان البعض قد استغلَّ الفِكرة عِبر التاريخ، فما ذلك بموجب لنُكرانها ورمي مَن يَعتقد بها

____________________

(1) أعيان الشيعة: 4/389.

(2) تفسير الرازي: 3/416.

(3) أعيان الشيعة: 4/390.

١٩٣

بالتخريف، وما أسهل نفي فِكرةٍ إذا كانت لا تلتقي مع مَصلحة شخص، أو كان يَجهلُها.

على أنّني لا أُصحّح جميع ما أحاط بها مِن ذُيول بل لا بُدَّ مِن الاقتصار على ما تَثبت صحّته بالطُّرُق المُعتبرة، ويجدر بالبعض أن يبتعد عن التهريج الذي يصل إلى القول:

ما آن للسّرداب أن يلد الذي

صيّرتموه بزعمكم إنسانا

فعلى عقولكم العفاء لأنّكم

ثلّثتموا العنقاء والغيلانا

إنّ هؤلاءِ تسرّعوا؛ فقالوا بما لا يعرفون، وإنّنا نقول لأمثال هؤلاءِ: سلاماً كما أمرَ القرآن الكريم.

المَردودُ الإِيجابي في عقيدة المَهدي

بقي أن نعرف: ما هي حصيلة عقيدتنا بوجود المهدي؟ فإنّ تَقييم مِثل هذه الأُمور يُصحِّح كثيراً مِن التصوّرات الخاطئة مِن أمثال هذه العقائد، خُصوصاً إذا عَرفنا أنّ العقائد فواعل بالنُفوس.

المَردود الأوّل:

فأوَّل المردودات الإِيجابيّة بهذه العقيدة: حُصول الامتثال لأمر الله تعالى بهذه العقيدة كَكُلّ العقائد، فإنّ المفروض أنّ النُصوص تُحتِّم الإِيمان بها كما ذكرنا آراء العُلماء بذلك.

المَردود الثاني:

الشُعور بِقيام الحُجّة على العِباد لله تعالى بوجود الإِمام، إذ لو حَصلت الكفاية بِغيره لَمَا حَصل الخلاف بين المُسلِمينَ.

فإن قيل: إنّ الخلاف حاصلٌ بالفعل.

قيل: إنّ ذلك ناتج مِن عدم الالتزام بإمامته، بالإِضافة إلى الشُعور بالتسديد في آراء العُلماء بوجود الإِمام بين أظهرهم، وإن لم يعرفوه.

١٩٤

المَردود الثالث:

في وجود المهدي، لُطفٌ يقرِّب العباد إلى الله تعالى؛ لشعورهم بأنّ الله تعالى يهيّئ لإِقامة العدل ورفع الظلم.

فإن قيل: إنّ رفع الظلم يجب أن يحدث بالأسباب الطبيعيّة مِن قبل الناس.

قيل: إنّ ذلك صحيح، ولكن إذا تهاونوا بذلك، فلا بُدَّ أن يُدافع الله تعالى عن الّذين آمنوا.

فإن قيل: إنّ ذلك يحصل بالآخرة.

١٩٥

أعلامهم الّذين خَدموا في ميادين الثقافة:

فمِن الروّاد في علم السِيَر والتواريخ: عبد الله بن أبي رافع، صاحب كِتاب تسمية مَن شهد مِن الصحابة مع علي (ع)، ومحمّد ابن إسحاق صاحب السيرة النبويّة، وجابر بن يزيد الجُعفي.

ومِن الروّاد في علم النحو: أبو الأسود الدؤلي، والخليل بن أحمد إمام البصريّين، ومحمّد بن الحسين الرواسي إمام الكوفيّين وأستاذ الكسائي والفرّاء، وعطاء بن أبي الأسود الدؤلي، ويحيى المُبرّد بن يعمر العدواني، ويحيى بن زياد الفرّاء، وبكر بن محمّد أبو عُثمان المازني، ومحمّد بن يزيد أبو العبّاس المُبرّد، وثعلبة بن ميمون أبو إسحاق النحوي، ومحمّد بن يحيى أبو بكر الصولي، وأبو علي الفارسي الحسن بن علي، والأخفش الأوّل أحمد بن عمران، ومحمّد بن العبّاس أبو بكر الخوارزمي الذي يقول عنه الثعالبي في يتيمة الدهر: نابغة الدهر، وبحر الأدب، وعَيلَم النظم والنثر، وعالم الظرف والفضل، كان يجمع بين الفصاحة واللبلاغة، ويُحاضر بأخبار العَرَب وأيّامها، ويُدرّس كُتُب اللُغَة والنحو والشعر. والتنوخي علي بن محمّد، والمرزباني محمّد بن عمران صاحب التصانيف الرائعة في علوم العربيّة، وملك النحاة الحسن بن هاني، ومعاذ الهراء واضع عِلم التصريف، وعثمان بن جني أبو الفتح، وأبان بن عُثمان الأحمر، ويعقوب بن السِكّيت صاحب إصلاح المنطق، وأبو بكر بن دريد صاحب الجمهرة، ومحمّد بن عمران المرزباني صاحب المفصل في علم البيان، وصفيّ الدين الحلّي صاحب الكافية في البديع، والخالع النحوي الحسين بن محمّد صاحب كتاب صنعة الشعر، وإلخ (1) .

تَعقيب

هذه مجموعة بسيطة أردّت مِنها أن تكون مُجرّد مؤشِّر إلى سَبق الشيعة في خدمة الفِكر العربي والإِشادة به، وليرجع القارئ إلى المصادر؛ لأجل المزيد مِن ذلك.

____________________

(1) تأسيس الشيعة لعلوم الإِسلام: 46 إلى 182، والغدير للأميني: 3/330.

١٩٦

4 - شُعراءُ الشيعة:

مواقف شعراء الشيعة في الذود عن العَرَب والعروبة مشهورة، ودفاعهم عن كلّ ما له صلة بوجود العَرَب ومجدهم، والوقوف بوجه خُصوم العَرَب يُشكِّل سِفراً كبيراً لو جُمِع، وسأُورد لك نماذج مِن مواقفهم في ذلك مِنهم:

أ - أبو الأسد نُباتة بن عبد الله الحماني:

لقد سكت عن تعيين مذهبه كلٌّ مِن: أبي الفرج في الأغاني، والعبّاسي في معاهد التنصيص، وابن قُتيبة في الشِعر والشُعراء، ولكنّه شيعي لعدّة قرائن مِنها:

أولاً: ارتباطه بأهل البيت بشعره، وولادته في محلّة حمانا بالكوفة مَهد التَشَيُّع، وانقطاعه لأبي دلف القائد الشيعي.

وإليك قصيدته في هجاء الشُعوبيّة ضمن هجائه لعلي بن يحيى المُنجِّم، وسنرى إلمامه القوي بالمُصطلحات المحليّة:

صُنعٌ مِن اللهِ أنّي كُنتُ أعرفُكُم

قبل اليسار وأنتم في التبابينِ (1)

فما مَضَتْ سَنَةٌ حتّى رأيتُكُمُ

تَمشونَ في القزّ والقوهي وفي اللينِ

وفي المَشارِيقِ ما زالتْ نِساؤكُمُ

يَصحنَ تحتَ الدوالي بالوراشينِ

فَصِرنَ يرفلنَ في وشي العراقِ وفي

طرائف الخزّ مِن دكنٍ وطاروني

نَسينَ قَطع الحلاني مِن مَعادِنها

وحَملهُنَّ كُشوشاً في الشقابينِ

حتّى إذا أُيسروا قالوا وقَد كَذبوا

ونحنُ الشهاريجُ أولادُ الدَهاقينِ

لو سيل أوضعَهم قدراً أو أنذلُهم

لقال مِن فخره إنّي ابنُ شوبينِ

وقال أقطعَني كِسرى ووَرّثَني

فمَن يُفاخرني أم مَن يُناويني

فقُل لهم وهُمُ أهلٌ لتَربيةٍ

شرَّ الخليقة يا بُخر العثانين

ما الناسُ إلاّ نَزارٌ في أرومتِها

وهاشمٌ سرحةَ الشمِّ العرانينِ

والحي مِن سَلفي قحطان أنّهم

يزرون بالنبط اللُكنِ الملاعينِ

أما تراهم وقد حَطّوا براذعَهُم

عن أُتنِهِم واستَبدّوا بالبراذينِ

وأُخرجوا عن مشارات البُقول إلى

دور المُلوكِ وأبوابِ السلاطينِ

____________________

(1) الأغاني: 12/167 ط الساسي.

١٩٧

تغلي على العَرَب مِن غيظ مَراجلُهم

عداوةً لرسول الله والدينِ

يقول فون كريمر في كتابه الحضارة الإسلاميّة: إنّ هذه القصيدة تُمثّل مشاعر الحُزب العَرَبي تمثيلاً صادقاً (1) .

ب - الشريفُ الرضي محمّد بن الحُسين:

مَلأ ديوانه بالإِشادة بالعَرَب والعروبة، ومِن ذلك قوله في إحدى روائعه:

أثرها على ما بها مِن لَغب

يُقلقل أغراضها والحُقب

وإنّا نرى لجِوارِ الديار

حُقوقاً فكيف جِوار النَسَب

فإن ترعَ شركةَ أحسابِنا

جميعاً فذلك دِينُ العَرَب

إذا لبستْ بقواها قوىً

وإن طُنَبٌ مسنٌ مِنها طُنَبُ (2)

ويقول في رائعة ثانية:

لنا الدوحةُ العَليا التي نَزعت لها

إلى المجدِ أغصانُ الجدودِ الأطائبُ

عَلونا إلى أثباجها ولِغيرها

عن المَنكبِ العالي إذا رامَ ناكبُ

فإن تَرَ فينا صَولةً عجرفيّةً

فقد عرقت فينا الجُدود الأعاربُ (3)

والجدير بالذكر أنّ ديوان الشريف الرضي، وديوان أخيه المُرتضى وسائر مؤلّفاتهما تُعتبر مِن خمائل الفِكر العَربي المترفة، ومِن رياضه الأنيقة.

ج - أبو الطيِّب المُتنبّي أحمد بن الحُسين:

والمُتَنَبّي عُروبَةٌ مُتجسّدةٌ بالدم والفكر، وقد عاش عُمره يَتطلّع إلى تَحقيق الوجود العَربي على مُختلف المُستويات، ويرسم نهايات كلّ فضيلة على أنّها بداية مِن حالة عربيّة، وكم له في ثنايا شِعره مِن إشادة بالعَرب والعُروبة، وفَخر واعتزاز بهذا الدم وهذه الأرومة.

يقول في مَدح سَيف الدولة:

____________________

(1) انظر مظاهر الشُعوبيّة: ص317.

(2) ديوان الرضي: 1/128.

(3) ديوان الرضي: 1/145.

١٩٨

رَفعت بِكَ العَرَبُ العِماد وصَيَّرتْ

قِممَ المُلوكِ مَواقدَ النيرانِ

أنسابُ فَخرهِمُ إليك وإنّما

أنسابُ أصلِهمُ إلى عدنانِ

ويقول:

تُهابُ سُيوف الهندِ وهي حدائد

فكيف إذا كانت نزاريّةً عُرْبا

ونراه يَتطلّع إلى سيادة العَرَب وحُكم العَرَب، فلا خير في قوم يَحكمهم أجنبيٌّ فيقول:

وإنّما الناسُ بالمُلوكِ وما

تُفلح عُرْب ملوكُها عَجَمُ

لا أدبٌ عِندَهم ولا حَسَبٌ

ولا عُهودٌ لَهم ولا ذِمَمُ

بكُلّ أرضٍ وطئتها أُمَمٌ

تَرعى بعبدٍ كأنّها غَنَمُ (1)

د - الحارثُ الحَمَداني أبو فِراس:

مِن ألسِنةِ العُروبة الفِصاح، وممَّن أشاد بمجدِهم، وقد تألّم لِمنابِرهم إذ يَفترعها غيرهم.

يقول في قصيدته الشافية:

أَبلِغ لَدَيكَ بَني العَبّاسِ مَألُكَةٌ

لا تَدَّعوا مُلكَها مُلاّكُها العَجَمُ

أَيُّ المَفاخِرِ أَمسَت في مَنابِرِكُم

وَغَيرُكُم آمِرٌ فيهِنَّ مُحتَكِمُ (2)

هذه مُجرّد نماذج بسيطة مِن مواقف شُعراء الشيعة أزاء العَرَب والعروبة، وبوسع القارئ مُراجعة دواوين شُعراء الشيعة في مُختلف العُصور؛ ليرى مدى عُروبَة الشيعة.

هـ - الشُعوبيّون البارزون ليسوا بشيعة:

إنّ أبرز مَن عُرف بالشعوبيّة في مُختلف الأبعاد الفكريّة والإِجتماعيّة هُم مِن غير الشيعة، وسأذكر لك جُملاً قصيرةً مِن تراجمهم تنهض بالمطلوب:

____________________

(1) ديوان المُتنبي: 4/179 و261.

(2) شرح الشافية: ص219.

١٩٩

أ - مُعمّر بن المُثنى أبو عبيدة:

مِن أبرز المؤلّفين وممَّن عُرف بأنّه مِن أئمّة الشُعوبيّة، وهو مِن موالي بَني تيم بالبصرة، وكان يهوديَّ الأصل، أسلم جدّه على يَدِ بعض أولاد أبي بكر، وهو الذي جدّدَ كِتاب مثالب العَرَب وزاد فيه، كان خارجيّاً يَرى رأي الأباضيّة (1) .

ب - الهيثم بن عدي بن زيد:

كانت أمّه أمةً وأبوه عربيّاً، وكان مِن أبرز الشعوبييّن، وكان كذلك خارجيّاً في عقيدته، وقد وضّح ذلك في كلّ كُتُبه مِنها: كِتاب المَثالب الكبير، وكِتاب المثالب الصغير (2) .

ج - علاّن الشعوبي:

وهو علاّن بن الحسن الورّاق، كان مِن أبرز الشعوبييّن، وكان كما يقول الآلوسي: زنديقاً ثنويّاً عَمِل كتاباً لطاهر بن الحسين بدأ فيه بمثالب بني هاشم، ثمّ بُطون قُريش، ثمّ سائر العَرَب (3) .

د - عبد الله بن مُسلِم بن قُتيبة:

كان مِن أئمّة أهل السُنّة ومُبَرزيهم، كان مِن الشعوبييّن كما نصَّ على ذلك ابن عَبد رَبّه الأندلسي في العقد الفريد، ولكنّ الدكتور محمّد نبيه حجاب حاول تنزيهه عن الشُعوبيّة؛ لأنه كما يقول: ورد لهُ مَدحٌ للعَرَب، في حين وردَ لابن المقفع أكثر مِن نَصّ في مدح العَرَب، ومع ذلك كان الدكتور محمّد نبيه إذا مَرَّ بالنصوص التي لابن المقفع في مَدح العَرَب يقول: إنّه عَمِل ذلك للتَستُّر، والسبب في موقف محمّد نبيه هذا: أنّ عبد الله بن مُسلِم مِن أهل السُنّة في حين لم يكن ابن المقفع

____________________

(1) مُعجم الأُدباء: 19/156 وانظر سِرّ انحلال الأُمّة العربيّة.

(2) مُعجم الأُدباء: 19/310.

(3) مُعجم الأُدباء: 12/191.

٢٠٠