هوية التشيع

هوية التشيع0%

هوية التشيع مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 237

هوية التشيع

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور أحمد الوائلي
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 237
المشاهدات: 33809
تحميل: 5270

توضيحات:

هوية التشيع
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 33809 / تحميل: 5270
الحجم الحجم الحجم
هوية التشيع

هوية التشيع

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

شيعيا،ً ولكن لأنّه يَميل للعلوييّن كما يقول محمّد نبيه، وإذا عَرف السبب بَطَلَ العَجَب (1) .

هـ - عبد الله بن المقفع:

عدّه الباحثون مِن الشعوبييّن، ولكن الأستاذ محمّد كُرد علي في كتابه أُمراء البيان تَصدّى للدفاع عنه، واعتبره مِمَّن أَسلم وحَسُن إسلامة في حين يذهب جماعة مِن قُدامى المؤرّخين كأبي الفرج الأصبهاني، والمسعودي، والجهشياري إلى أنّه زِنديق، أمّا الدكتور محمّد نبيه حجاب فيرى أنّه مجوسيُّ الدين، ثنويّ العقيدة، وأنّه لم يتخلَّ عن الطُقوس المجوسيّة، ومع آراء المؤرّخين القُدامى فيه، ومع رأي محمّد نبيه نفسه في أنّه مجوسي مع كلّ ذلك يقول نبيه حجاب: إنّه علويّ السياسة. وذلك استناداً إلى رأيٍ رآه حَنّا فاخوري في كتابه تاريخ الأدب، وما أدري اين هي عَلويّته مع ما ذكروه عنه (2) .

و - سهل بن هارون بن رهبون الفارسي:

كان مِن صنائع البرامكة، ورئيس بيت الحكمة للمأمون، تَرجم له أكثر مِن واحد، ومنهم: ياقوت الحموي في مُعجم الأُدباء، وابن النديم في الفَهرست، وفريد وجدي في دائرة معارفه وغيرهم.

وعلى هؤلاءِ اعتمدد محمّد نبيه حجاب في ترجمته، ولم ينص أحَد مِن هؤلاءِ الّذين ذكرنا أنّهم ترجموا له على أنّه مِن الشيعة، ولكن نبيه حجاب يقول: كان سهل علويُّ المذهب ميّالاً إلى الإِعتزال كغيره مِن شيعة العراق في عصره، وكان فارسيّ النزعة، في حين يذهب محمّد كُرد علي في كتابه أُمراء البيان للدفاع عنه، ويُبرّئه مِن الشُعوبيّة (3) .

ز - بَشّار بن برد:

كان زنديقاً يُكفّر الناس كُلّها بما فيهم الهاشمييّن، ويُكفّر الأُمّة كُلّها؛ لأنّها

____________________

(1) مظاهر الشُعوبيّة: ص422.

(2) المَصدر السابق: ص397.

(3) دائرة معارف وجدي: 20/505.

٢٠١

حادت عن الجادّة في نَظره، فقيل له: وعليّ بن أبي طالب؟

فقال متمثّلاً:

وما شرّ الثلاثة أُم عمرو

بصاحبك الذي لا تصحبينا

وله مدحٌ لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن لمّا خَرج على المَنصور، وذلك بأبياته التي يقول فيها:

أَقولُ لِبَسّامٍ عَلَيهِ جَلالَةٌ

غَدا أَريَحِيّاً عاشِقاً لِلمَكارِمِ

مِن الفاطمييّن الدُعاة إلى الهُدى

جِهاراً ومَن يَهديكَ مِثل ابن فاطمِ

سِراجاً لِعَينِ المُستضيء وتارةً

يكون ظلاماً للعدوِّ المزاحمِ

فاستدلّ نبيه حجاب مِن هذه الأبيات على أنّه مِن الشيعة، مع أنّه مدح العباسييّن بقصائد أكثر، وأبيات أكثر حرارة، وذلك كقوله:

أَنصَفتُمونا فَعابوا حُكمَكُم حَسَداً

وَاللَهُ يَعصِمُكُم مِن غِلِّ حُسّادِ

لَولا الخَليفَةُ أَنّا لا نُخالِفُهُ

لَقَد دَلَفنا لأَروادٍ بِأَروادِ

ومَدَحَ غيرهم وغيرهم، وذلك واضح في ديوانه، ولكنّه لم يُنسَب لِمَن مدحهم، ولكن بمدحه لإبراهيم صار شيعيّاً؛ والغرض مِن ذلك، أن يكون شيعيّاً وهو في نفس الوقت شعوبيّ حتّى تُنسَب بعد ذلك الشُعوبيّة للشيعة.

فاستمع إلى ما يقول محمّد نبيه حجاب، يقول في آخر ترجمته: هذا هو بَشّار، الزنديق، المارق، الماجن، المُستَهتِر، الزرادشتي العقيدة، الشيعي المذهب، الشعوبي المُتعصّب (1) .

وتُذكّرني هذه العبقريّات المُتوثّبة مِن نبيه حجاب بحكاية مِثلها أذكرها لك، وقد رواها عبد الحي الكتابي في كِتابه التراتيب الإِدارية قال:

كان عند أولاد تميم الدراي كتاب النبيّ (ص) في قِطعة أديم: بسم الله الرحمان الرحيم، هذا ما أنطى محمّد رسول الله تميماً الداري، أقطعه قريتي جبرون، وبيت عينون بِبَلد الخليل، فبقي ذلك في يده، ويشاهد الناس كتابه إلى

____________________

(1) مظاهر الشُعوبيّة: ص274.

٢٠٢

أن غَلَب الإِفرنج على القدس والخليل سنة 492 هـ قال: ولقد اعترض بعضُ الوُلاة على آل تميم أيّام كنت بالشام - الحديث لأبي بكر القاضي - وأراد انتزاعها مِنهم، فحضر القاضي حامد الهروي، وكان حنفيّاً في الظاهر، مُعتزليّاً في الباطن، ملحداً شيعيّاً، فاحتجّ أولاد تَميم بالكِتاب، فقال القاضي هذا الكتاب ليس بلازم إلى آخر القصّة (1) .

أرأيت كيف يتفق مَنطق المُهرّجين في كلّ عصر؟ قاضي مِن الأحناف، يُريد أن يدفعه عن الأحناف، فيجعله تارة مُعتزليّاً، وفي نفس الوقت حَنفيّاً، ومُلحداً وشيعيّاً وهكذا، إنّه نَفس مَنطق نَبيه حجاب.

إنّ أمثال هذه الأقوال يَجِب أن تُرمى في الكناسة؛ لنُخلّص أجيالنا مِن هذه الجيَف.

ح - يزيد بن ضبّة مولى ثَقيف:

كان مع الأُموييّن، ويُرمى بالمانويّة والشعوبيّة، وانقطع للوليد بن يزيد، وعدّه أكثر مِن مؤلفٍ مِن الشعوبييّن (2) .

ط - حَمّاد بن سابور:

ابن المبارك المعروف بِحمّاد الراوية، ديلميّ الأصل، بكري الولاء، وهو مِن أكابر الشُعوبيّة (3) .

ي - إسماعيل بن يسار:

كان منقطعاً لآل الزُبير، ثمّ مالَ لبني مَروان، وعدّه بعضهم انتهازيّاً، وكان يُعدُّ مِن أبرز الشعوبييّن، وأشدّهم تعصّباً على العَرَب (4) .

ك - إسحاق بن حَسّان الحريمي:

لم يرد نصٌّ على أنّه مِن النِحلة الفُلانيّة أو غيرها، وكان مِن كِبار الشعوبييّن،

____________________

(1) التراتيب الإِداريّة: 1/150.

(2) مظاهر الشُعوبيّة: ص161.

(3) مظاهر الشُعوبيّة: ص153.

(4) مظاهر الشُعوبيّة: 2/159.

٢٠٣

ولكنّ الخطيب البغدادي يقول عنه: كان يتألّه ويتديّن، فهو عنده مؤمن (1) .

ل - إبراهيم بن حمشاذ المُتوكّلي:

وقد كان مِن نُدماء المُتوكّل الخليفة العبّاسي (مُحيي السُنّة)، وكان يُنادمه على الشراب حتّى نُسب إليه، ولم يَذكروا له عقيدة خاصّة، ولكنّ انتمائه إلى المُتوكل قد يَقوم قرينة على الإِتّحاد في الميول، وكان مِن كبار الشُعوبيّة (2) .

م - الحسن بن هاني أبو نواس:

مولى الجرّاح بن الحَكَم، اعتبره بعضهم مُجرّد مُتهتّك، واعتبره البعض الآخر زِنديقاً، واعتبره آخرون مانويّاً، ورموه بالشعوبيّة، واعتبره نبيه حجاب كافراً مُلحداً لا دين له (3) .

ن - ابن الرومي عليّ بن العبّاس بن جريح:

يقول عنه نبيه حجاب: ولم يشر أحد مِن رواة الأدب ومؤرخيه إلى ما كان عنده مِن عصبيّة لقومه، ولكنّ أشعاره لا تخلو مِن هذه النَزعة، وإن بدت في أبيات قليلة، ومِن هذه الأبيات قوله:

ونحن بنو اليونان قومٌ لنا حِجى

ومجدٌ وعيدان صلاب المعاجم

ومنها قوله:

وإذا ما حكيت والروم أهلي

في كلام معرب كنت أهلا

أمّا البيت الوحيد الذي قطع فيه نبيه حجاب على شعوبيّة ابن الرومي فهو البيت الآتي:

آبائي الروم توفيل وتوفلس

ولم يلدني ربعيٌ ولا شبث

____________________

(1) تاريخ الخطيب: 6/326.

(2) مظاهر الشُعوبيّة: ص307.

(3) مظاهر الشُعوبيّة: ص286.

٢٠٤

مع أنّ ابن الرومي لم يقصد بربعي وشبث الكُلّي الطبيعي، وإنّما أراد به شبثاً وربعيّاً أباه، الذي ثبت أنّه أحدُ قَتَلَة الحسين (ع)، وكأن ابن الرومي يريد أن يقول مع أنّي ابن توفيل، ولكنّي مُحبٌ لآل رسول الله، ومع أن شبثاً وربعيّاً مِن العَرَب، وممَّن رفعتهم رسالة النبيّ، ولكنّهم أعداء لآله.

وعلى العموم فابن الرومي شيعيٌّ مَشهور، وهذا هو السرُّ في أنّ نبيه حجاب يعتبره مِن الشعوبييّن، وإلاّ فقد سمعت شهادة نبيه حجاب نفسه على أنّه لم ينص أحدُ المؤرّخين وكُتّاب الأدب على عصبيّته لقومه (1) .

س - عبد السلام بن رغبان:

اعتبروه مِن الشعوبييّن، ويقول نبيه حجاب: لم نَجد به بيتاً واحداً يُشير إلى شعوبيّته.

ومع ذلك فقد نصّ ابن خلكان على عصبيّته لقومه بقوله: ما لهم - يعني العَرَب - فضلٌ علينا أسلمنا وأسلموا، وبالوقت الذي يقول فيه نبيه حجاب: ما سمعته لكنّه في الأخير يقول، وإذا علمنا أنّه كان متشيّعاً، وأنّه كان ماجناً خليعاً عاكفاً على اللهو والقصف كما يقول ابن خلكان، وهذان مِن مظاهر الشُعوبيّة، فقد حَقّ لنا بعد هذا أن نَنظِمه في سمط الشُعوبيّة كما فعل الأُستاذ السباعي بيومي مع الخريمي، وبشّار وغيرهما (2) .

وأنا أُريد أن أسأل القارئ: هل لاحظ هذه الأدلّة القويّة على الشُعوبيّة التي يوزّعها هؤلاءِ العباقرة يميناً وشمالاً بأدلّة كهذه الأدلّة؟

اللهمّ إنّك تعلم أنّنا نأسى على الجيل الذي يُربّيه أمثال هؤلاءِ، فإنّ بَليّة العِلم والأدب والفِكر بهؤلاء عظيمة، وأروع مِن ذلك ما سأُقدّمه لك في المَثل الأخير، وهو منطقه في الإِستدلال على شُعوبيّة دِعبل بن علي فاستمع إليه:

ع - دِعبل بن علي الخُزاعي:

وهو خُزاعي صُلبي، وليس مِن الموالي كما حاول البعض أن يُصوّره، وكُتُب

____________________

(1) مظاهر الشُعوبيّة: ص309.

(2) مظاهر الشُعوبيّة: ص313.

٢٠٥

الأنساب قد أكّدت ذلك.

وكان مِن مشاهير الشيعة وأُدبائهم وحَملة المبادئ فيهم، وهو صاحب القصائد الرائعة في مَدح أهل البيت ورثائهم والتَفجّع لهم.

وقد صورته كُتُب الأدب بأنّه: هَجّاءٌ خبيث اللسان، لم يَسلم أحدٌ مِن لسانه، وقد استدلّ نَبيه حجاب على أنّه مِن الشُعوبيّة؛ لأنه هجا المأمون، وفي ذلك يقول نبيه: وفي هجائه المأمون، وتطاوله عليه تتجلّى عَصبيّته وشعوبيتّه، حيث فَخر بقومه وبلائهم في الحُروب، وأياديهم عليه في ارتقاء عرش الخلافة.

استمع إليه يقول:

أيسومني المأمون خطة عاجز

أوَ ما رأى بالأمسِ رأسَ مُحمّد

إنّي مِن القوم الّذين سيوفهم

قَتَلت أخاكَ وشَرّفتك بِمَقعَد

رفعوا مَحلّك بعد طول خُموله

واستنقذوك مِن الحضيض الأوهد

ويقول في آخر ترجمته: هذا هو دِعبل الخزاعي، وهذا هو لِسانه السليط الذي جرّده على العَرَب وخُلفائهم (1) .

وهذه هي الأدلّة المُثبتة التي تُساق لنسبة الشُعوبيّة إلى الشيعة، فاعطفها على ما سَبَقها مِن التُهم.

وبعد هذه الجولة، نعود ثانية لنسائل الدكتور أحمد أمين: ما هو دليله لنسبة الشُعوبيّة للشيعة؟ فإنّه عندما نَطق بالعبارة التي أثبتناها في صدر هذا العُنوان وَعَدَ بأنّه سَيبحث موضوع الشُعوبيّة عند ذكره للمذاهب في فصل الشيعة، لكنّه لم يُنفِّذ وعده؛ لأنّه لم يجد، ولن يجد أيّ دليل على قوله، وقد ذكرنا لك في هذا الفصل أسماء أبرز الشعوبييّن كما يَنصُّ عليهم المؤرّخون والكُتّاب، وعرفت أين هُم مِن الشيعة.

وأختم هذا الفصل بصورة أضعها أمامك، فهي قويّة في تعبيرها:

يقول شكري الآلوسي في كتابه بلوغ الإِرَب في معرفة أحوال العَرَب ما يلي:

قال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي: كِتاب مَثالب العَرَب أصله

____________________

(1) مظاهر الشُعوبيّة: ص301.

٢٠٦

لزياد بن أبيه، فإنّه لمّا ادّعى أبا سُفيان أباً له، عَلِمَ أنّ العَرَب لا تقرّ له بذلك مع علمهم بنَسَبِه، فعمل كِتاب المثالب، والصقَ بالعَرَب كلّ عيب وعار وباطل وإفك وبُهت، ثمّ ثنّى على ذلك الهيثم بن عدي، وكان دعيّاً فأراد أن يُعيّر أهل الشرف تشفّياً مِنهم، ثمّ جدّد ذلك أبو عبيدة محمّد بن المثنّى، وزاد فيه؛ لأن أصله كان يهوديّاً أسلم جدّه على يدِ بعض آل أبي بَكر، فانتمى إلى ولاء تيم.

انتهى النصّ كما ذكره الألوسي في فصل الشُعوبيّة مِن كتابه المذكور.

إنّ زياداً يَعتبر مؤرّخوا السُنّة وكُتّابهم مِن أسرة تُمثّل نَموذجاً للحُكم العربي وتطلعاته القوميّةّ وكان موقفه مِن العَرَب كما سمعت موقف مُشوِّه لتاريخهم، طاعنٌ في أنسابهم، باحث في مثالبهم، رائد مِن روّاد الشُعوبيّة بأقذر صورها.

وبعد هذا سأُقدّم لك موقفُ شيعيٍّ مِن الشيعة، وإن كان مِن أصلٍ غير عربي حتّى تتخذ مِن الموقفين مؤشّراً يَدلّ على اتّجاه كلّ مِن الفريقين إزاء الشُعوبيّة؛ لتعلم أين مكان الشُعوبيّة مِن الفريقين.

يقول بديع الزمان الهمداني: كنت عند الصاحب إسماعيل بن عبّاد يوماً، وقد دخل عليه شاعرٌ مِن شُعراء العَجم فأنشده قصيدة يُفضّل فيها قومه على العَرَب، ويذمّ العَرَب وهي:

غنينا بالطُّبُول عن الطلول

وعن عَنْس عُذافرة ذَمُولِ

وأذهلني عُقَاري عن عَقَارى

ففي استِ أُمّ القضاة مع العُدُولِ

فلست بتاركٍ إيوانَ كسرَى

لتوضِحَ أَو لحوْملَ فالدَّخُولِ

وضبٍّ بالفلا ساع وذئبٍ

بها يَعْوي وليثٍ وَسْطَ غِيلِ

يسُلُّونَ السّيوفَ برأس ضبٍّ

هرَاشا بالغداةِ وبالأَصيلِ

إذا ذبحوا فذلكَ يومُ عيدٍ

وإنْ نَحروا ففي عُرسٍ جليلِ

أما لو لم يَكن للفُرسِ إلاّ

نَجارُ الصاحب القَرم النبيلِ

لكانَ لهُم بذلكَ خيرُ فَخرٍ

وجيلهمُ بذلكَ خَيرُ جيلِ

فلمّا وصل إلى هذا الموضع مِن الإنشاد، قال له الصاحب: فذاك، ثمّ اشرأبَّ ينظر إلى الزوايا والى أهل المجلس، وكنتُ جالساً في زاوية مِن البهو، فلم يرني، فقال:

٢٠٧

أين أبو الفضل؟ فقمت وقَبّلت الأرض وقلت: أمرك، فقال: أجب عن ثلاثتك. قلت: وما هي؟ قال: أدَبك ونَسَبك ومذهبك. فقلت: لا فسحة للقول، ولا راحة للطبع إلاّ السرد تسمع، ثمّ أنشدّت أقول:

أراكَ على شفا خَطَر مَهولُ

بما أودعتَ لَفظك مِن فُضولِ

تُريد على مَكارمنا دليلاً

متى احتاجَ النهارُ إلى دليلِ

ألسنا الضاربينَ جُزىً عَليكم

وإنّ الجُزيَ أولى بالذليلِ

متى قرعَ المنابِرَ فارسيٌّ

متى عرفَ الأغرّ مِن الحُجولِ

متى عرفتْ وأنتَ بها زَعيم

أكفُّ الفُرسِ أعرافَ الخُيولِ

فخرتَ بملءِ ماضِغَتَيك هَجراً

على قحطانَ والبيتِ الأصيلِ

وتَفخرُ أنَّ ماكولا ولِبساً

وذلك فخرُ ربّات الحُجولِ

ففاخرهُنَّ في خدٍّ أسيلٍ

وفَرّعٍ في مفارِقِها رسيلِ

فَأمجدْ مِن أبيك إذا تَزيّا

عُراةً كالليوثِ على الخُيولِ

قال: فلمّا أتممت إنشادي، التفت إليه الصاحب وقال: كيف رأيت؟ قال: لو سمعتُ به ما صدّقت. قال: فإذاً جائزَتك جوازك، إن رأيتُك بعد هذا ضربت عُنقك، ثمّ قال: لا أدري أحداً يُفضّل العجم إلاّ وفيه عِرق مِن المَجوسيّة ينزع إليه (1) .

وأظنّك تلمح معي نَظرة الشيعي الإيجابيّة، التي ترى في العَرَب موئل أمجاد، وموضع تشريف؛ لحملهم رسالة الإِسلام، وهي رسالة الخُلود، ولا أُريد الإِطالة؛ لأترك لك أن تَتمتّع بأصداء هذا الموقف المُشرّف، وتجيل ذهنك في أجوائه.

أمّا بعد: فإنّي في خِتام هذا البحث أرجو أن أكون قد وضعت بين يَدَي القارئ بطاقة واضحة عن هُويَّة التَشَيُّع، ولم يكن رائدي - والله يَعلم - حبَّ التهجُّم أو الإِنتقام، وممَّن ينتقم المُسلِم؟ أمِن أخيه المُسلِم؟ وذلك تفاهة، وأيُّ تفاهة، وإنّما كان رائدي لذلك رغبة مُلحّة في جلاء الضَباب، الذي حَجَبَ الرؤية الواضحة زماناً طويلاً لشيعة أهل البيت عن أنظار الباحثين؛ مِمّا سبّب كثيراً مِن الخلط والتجديف، والله تعالى

____________________

(1) انظر انحلال الأُمّة العربيّة: ص29 لمحمّد سعيد العوفي.

٢٠٨

هو المسؤول أن يجمعَ كَلمة المُسلِمينَ، ويلمَّ شَعَثَهم، والحمد لله أوّلاً وآخراً.

وآخر دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

٢٠٩

٢١٠

البابُ الرابِع

مِن الافتراءاتِ على الشيعةِ

٢١١

استهدفت فيما قدّمتُه مِن بُحوث توضيح هُويّة التَشيُّع عِرقيّاً وفكريّاً، وكُنتُُ قد ذكرت سابقاً: أنّ قصة عبد الله بن سَبَأ تؤلِّف جُزءً مِن كلٍّ يُراد مِن ورائه مَسخ صورة التَشيُّع، ولئلاّ يقول القارئ: إنّ مسألة ابن سَبَأ لا يُمكن أن تكون أمراً وهميّاً، فإنّي أُقدّم له هُنا نَماذج مِن المُفتَريات على الشيعة، مقطوعة الكذب حتّى يرى بأُمِّ عينه صِدق دعوانا.

إنّ هذه الأُمور التي سَيرد ذكرها وغيرها تُحتِّم إعادة النَظر في مُحتوى تاريخنا وعقائدنا، ومُحاولة تصحيح هذا المُحتوى؛ لأنّ بقاء هذه الذخيرة الفاسدة في تاريخنا سيظل يَعمل عَمل السوس في أُسس البِناء حتّى ينهار البناء فجأة، ولا يكون ضحيّة هذا الإِنهيار إلاّ المسلمون أنفسهم، أمّا مَن كَتَب بهذه الأُمور وسطّرها، فقد مضى إلى ربّه، وسَيَقِف أمام حَكَمٍ عَدل، ولكنّنا نحن مُلزَمون في تصحيح أوضاعنا، فلا يجوز بحال مِن الأحوال أن نُلقّح أنفسنا وأبنائنا ضدَّ مَرَض الحصبة مثلاً وهو لا يمكث إلاّ بضعة أيّام، ولا نُلقِّح أنفسنا ضدَّ الفُرقة والتناحر، وضدَّ الأوبِئة الفكريّة التي تبقى، ويبقى أثرها طويلاً، وقد آن الأوان لأُقدِّم لك نماذج مِن هذه المُفتريات.

النموذجُ الأوّل: في الجمعِ بينَ النساءِ

الجمعُ بين النساء وعددهنّ، وجمهور المُسلمين على أنّه لا يجوز للحُرِّ أن يجمع زيادة على أربع زوجات؛ لقوله تعالى: ( فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ) النساء: 3، وللسُنّة الشريفة التي حدّدت الزوجات بأربع كما سيأتي، والشيعة في ذلك كسائر فِرَق المُسلمين لا يُبيحون الجمع بين أكثر مِن أربع زوجات، وعندهم حتّى لو طَلّق الرجل زوجةً واحدة مِن الأربع فلا يجوز له

٢١٢

أن يكمل العدد برابعة حتّى تنتهي عِدّة المُطلّقة، وقد أجمعوا على ذلك، وإليك نموذجين مِن أقوالهم:

أولاً: يقول الشيهد الأوّل في اللُمعة: لا يجوز للحُر أن يَجمع زيادة على أربع حَرائر، أو حُرّتين وأمتين، أو ثلاث حرائر وأمة، ولا للعبد أن يَجمع أكثر مِن أربع إماء، أو حُرّتين أو حُرّة وأمتين، ولا يُباح له ثلاث إماء وحُرّة (1) .

ثانياً: يقول المقداد السيوري في كنز العِرفان: الحصر في الأربع، وعدم جواز الزائد في النِكاح الدائم إجماعي، وحتّى المُنقطع عند كثير مِن فُقهائنا؛ لقول النبيّ (ص) لغيلان لمّا أسلم وعنده عشر نسوة: (أمسك أربعاً، وفارق سائرهنّ) - أي باقيهنّ - ولقول الإِمام الصادق (ع): (لا يحلُّ لماء الرجل أن يجري في أكثر مِن أربعة أرحام مِن الحرائر) (2) .

وبوسع القارئ أن يرجع لأيّ كِتاب فقهي مِن كُتُب الإماميّة في باب النِكاح؛ ليرى أنّ هذه المسألة إجماعيّة عندهم، ومع ذلك استمِع إلى بَعض فُقهاء المُسلمينَ مِن أهل السَنَّة، الّذين يجب أن يكونوا قُدوة في الأمانة والصدق:

أ -: يقول ابن حَزم في المُحلّى: لم يختلف في أنّه لا يَحلّ لأحد زواج أكثر مِن أربع نُسوة، أحد مِن أهل الإِسلام، وخالف في ذلك قوم مِن الروافض لا يحلُّ لهم عقد الإِسلام (3) .

ب - قال محمّد بن عبد الواحد، المعروف بابن الهمام الحنفي: وأجاز الروافض تسعاً مِن الحرائر، ونقل عن النخعي وابن أبي ليلى - أي جوازالتسع - وأجاز الخوارج ثماني عشرة، وحُكي عن بعض الناس إباحة أيِّ عدد شاء بلا حصر.

وجه الأوّل: أنّه بين العدد المُحَلل ( مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ) بحرف الجَمع

____________________

(1) شرح اللُمعة: 2/73.

(2) كنز العرفان: 2/141.

(3) المُحلّى لابن حَزم: 6/441.

٢١٣

والحاصل مِن ذلك تسع.

ووجه الثاني: ذلك أنّ مثنى وثلاث ورباع مَعدول عن عدد مُكرّر على ما عُرِف في العربيّة، فيصير ثمانية عشر.

ووجه الثالث: العُمومات مِن نحو فانكحوا ما طاب لكم مِن النساء، ولفظ (مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ) تعداد عُرفي لا قيد، كما يقال: خذ مِن البحر ما شئت قِربة أو قِربتين أو ثلاثاً.

ويخصّ الأولين تَزوّجه تِسعاً - أي النبي -، والأصل عدم الخُصوصيّة إلاّ بدليل، إلى آخر ما أورده، ثمّ شَرَع يُقدّم أدّلته على الحصر بأربع (1) .

وقد اتّضح مِن قول ابن الهمام أمران:

أولهما: نسبة إباحة التِسع للإِماميّة، وهو مَحض اختلاق، ونَتحدّى مَن يذكر لنا مَصدراً واحداً يقول بذلك مِن الشيعة.

وثانيهما: أنّ هُناك مِن أهل السُنّة مِن يقول بإباحة التِسع والأكثر مِن التسع كما نصَّ عليه، ابن الهمام نفسه.

ج - يقول محمّد أبو زهرة في الأحوال الشَخصيّة: إنّ بعض الشيعة يُجوّز الزواج بتسع حرائر؛ لأنّ معنى قوله تعالى: ( مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ) يعني اثنين وثلاثة وأربعة (2) ، وهذا مِن أبي زهرة كأمثال له كثيرة، إنّ الرجل فيما أعرفه مِن مؤلّفاته كثير التساهُل فيما ينسبه للغير، ولا يحتاط بالنقل، وللمناقشة مكان غير هذا؛ لأنّ موارد تساهله كثيرة تحتاج إلى جُهد ومكان.

وبعد ما ذكرته سأُقدّم لك الأدلّة على أنّ هذا الرأي عند أهل السُنّة، وليس عند الشيعة كما مرَّ عليك:

1- يقول الكاساني علاء الدين في البدائع: لا يجوز للحُرِّ أن يتزوج أكثر مِن أربع زوجات مِن الحرائر والإِماء عند عامّة العُلماء، وقال بعضهم: يُباح له الجمع بين التسع، وقال بعضهم: يباح له الجمع بين ثمانية عشر، واحتجّوا بظاهر قوله تعالى: ( فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء... ) فالأولون قالوا: إنّه ذَكرَ هذه الأعداد بحرف الجمع وهو الواو، وجملتها تسعة، واستدلّوا أيضاً بفِعل

____________________

(1) شرح فتح القدير: 2/379.

(2) الأحوال الشَخصيّة: ص83.

٢١٤

رسول الله، وأنّه تزوّج تسع نسوة، وهو قدوة الأمة.

والآخرون قالوا: إنّ المَثنى ضِعفُ الإِثنين، والثلاث ضِعفُ الثلاثة، والرُباع ضِعفُ الأربعة وجملتها ثمانية عشرة، إلى آخر ما ذكره.

وظاهر قوله: إنّ هذه الآراء عند أهل السُنّة؛ لأنّه لو كان للشيعة رأيٌ هُنا لنصّ عليه كعادته (1) .

2 - يقول إبراهيم بن موسى الغرناطي الشاطبي - صاحب الموافقات - في كتابه الإِعتصام: ثمّ إنّ بعض مَن نُسب إلى الفِرَق مِمَّن حَرِف - مِن الحرفة - التأويل في كتاب الله تعالى أجاز نكاح أكثر مِن أربع نسوة، إمّا اقتداءً في زعمه بالنبي حيث أُحلّ له أكثر مِن ذلك، ولم يلتفت إلى إجماع المُسلِمينَ أنّ ذلك خاصٌّ به.

وإمّا تحريفاً لقوله تعالى: ( فَانكِحُواْ مَا طَابَ... ) فأجاز الجمعُ بين تسع نسوة في ذلك، فأتى ببدعة أجراها في هذه الأُمّة (2) .

وما ذكره الشاطبي هو عند السُنّة، ولو كان عند الشيعة لنصّ عليه أوّلاً، وثانياً: لتغيّرت لهجته، فإنّ لهجة هذا الرجل مع الشيعة أتركُ نعتها بعد أن تسمعها فاسمع قوله.

قال: يُحكى عن الشيعة أنّ النبيّ أسقط عن أهل بيته، ومَن دان بحبّهم جميع الأعمال، وأنّهم غير مُكلّفين إلاّ بما تطوّعوا به، وأنّ المحظورات مُباحة لهم كالخنزير والزنا والخمر وسائر الفواحش، وعندهم نساء يُسمَين النوّابات يتصدقن بفروجهنّ على المُحتاجين رغبة في الأجر، ويَنكحون ما شاؤوا مِن الأخوات والبنات والأُمّهات لا حرج عليهم، ولا في تكثير النساء، ومِن هؤلاءِ العبيديّة الّذين ملكوا مصر وإفريقيا، وممّا يُحكى عنهم في ذلك: أن يكون للمرأة ثلاثة أزواج وأكثر في بيت واحد يستولدونها، وتُنسَب الوُلدُ لكلِّ واحد مِنهم إنتهى.

وقد عقّب عليه الناشر بالحاشية بقوله: إنّما يُريد بعض فِرق الشيعة الباطنيّة المارقين عن الإِسلام (3) .

إنّي أدعو القارئ، ليضع يده على أنفه؛ لئلاّ يَشمّ هذه الجِيَف، وبعد ذلك أُعقّب على قوله بما يلي:

____________________

(1) بدائع الصنائع: 7/65.

(2) الاعتصام: 2/44.

(3) الاعتصام: 2/44.

٢١٥

أولاً -: إنّ العَبديين وغيرهم ليسوا مِن الشيعة الإماميّة، وإن كُنتُ أعتقد جازماً عدم صحّة ما نَسبهُ إليهم قياساً على ما نَسبه لغيرهم وهو غير صحيح.

ثانيا -: لسنا الّذين نُبيح نكاح المحارم، وحكم مَن يقع على إحدى محارمه عندنا القَتل، فراجع أيّ كِتاب مِن كُتُب فِقه الشيعة باب الحُدود، وإنّما يقول الإِمام أبو حنيفة: مَن عَقد على أُمّه أوأُخته أو بنته، عالماً عامداً ودخل بها، فلا يُقام عليه الحدّ، وإنّما يُعزّر؛ لأنّ العقد أورث شُبهة (1) .

إذاً فَلَسنا نحن الّذين نتساهل في الإِعتداء على المَحارم كما أنّنا لا نُريد التهريج على أبي حَنيفة، بل رأيه هُنا خطأً في تطبيق معنى الشُبهة هُنا على هذا العقد؛ لأنّ المحارم ليست محلاًّ للعقد.

ثالثاً -: أنا أسأل الله تعالى أن يجعل حصيلة هذا القول في ميزان الشاطبي يوم يلقاه، وسوف يسأله عن ذلك؛ لأنّه تعالى يقول: ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) الزلزال: 7و8.

وأنا إنّما أطلت الكلام في هذه المسألة وهي مِن البديهيات تقريباً حتّى أُوقفك على مَدى أمانة بعض الناس، ولست أدري بماذا يتعلّل هؤلاءِ؟ وحولهم كُتُب الشيعة تملأ المكتبات، فهل ذكروا لنا كِتاباً واحداً يُفتي بإباحة لَحم الخنزير، أو شُرب الخمر؟

إنّ الذي يقول بذلك غيرُنا، إذا أحببت فراجع تفسير قوله تعالى: ( وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) النحل:67 في تفاسير أهل السُنّة؛ لترى رأي الإِمام أبي حنيفة حول النبيذ، فرأيه معروف، ودعني أذكر لك فتوى واحدة مِن فتاواه توضِّح لك رأيه في هذا الموضوع.

يقول أبو زهرة في كتابه فَلسفة العقوبة:

والسَبَب في تَساهُل أبي حنيفة في موضوع بعض المُسكرات، هو أنّه ثَبت بالرواية عنده أنّ بعض الصحابة تناول بعضّ هذه الأشربة، فامتنع عن تحريمها؛ حتّى لا يُتّهم الصحابة بالمعصية، وقال في ذلك: لو غرّقوني في الفُرات لأقول إنّها

____________________

(1) بدائع الصنائع: 7/35.

٢١٦

حرام ما فعلت، حتّى لا أُفسِّق بعض الصحابة، ولو غرّقوني في الفُرات على أن أتناول قطرة مِنها ما فعلت.

فالأمر بالنسبة لأبي حنيفة احتياط لكرامة الصحابة، واحتياط لدينه (1) .

ولستُ أفهم الإِحتياط هُنا، فإنّ الحرامَ حرامٌ على الصحابة وغيرهم، إنّ استنتاج أبي زُهرة لا يُقبل بحال مِن الأحوال، وصَدق في تسمية كتابه فلسفة العقوبة، فهو فلسفة غير ذات معنى أحياناً.

3 - الرأي الثالث الذي يدلّ على أنّ الجمع بين أكثر مِن أربع عند غير الشيعة: ما ذكره ابن قُدامة في المُغني مُعلقاً على قول المتن:

وليس للحُر أن يجمع بين أكثر مِن أربع زوجات. أجمع أهل العلم على هذا، ولا نعلم أحداً خالفه، إلا شيئاً يُحكى عن ابن القاسم بن ابراهيم أنّه أباح تسعاً؛ لقوله تعالى: ( فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم... ) والواو للجمع، ولأنّ النبيّ (ص) مات عن تسع.

وهذا ليس بشيء؛ لأنّه خَرق وترك للسُنّة، فإنّ رسول الله قال لغيلان بن سلمة حين أسلم وتحته عشرة نسوة: (أمسك أربعاً وفارق سائرهنَّ) (2) .

ومِن ذلك يظهر أن لا قول للشيعة في المسألة، فما أدري مِن أين جاء مَن يَنسب هذا القول للشيعة بهذا القول.

لقد أصبح هذا الخلط مِن الشاطبي وغيره زاداً دَسماً للمُستشرقين، الّذين أخذوا يؤكّدون على أنّ الشيعة والصوفيّة يسقطون الشريعة، ويُحلّون المحارم عند وصول الحقيقة، إلخ (3) .

النَموذجُ الثاني: الشّكُ بالنُبوّة

وإذا كانت بعض الإفتراءات على الشيعة قيلت، ثمّ ماتت واندثرت، وبعضها قيلت ولكنّها لم تشتهر كما هو الحال في النموذج الأوّل الذي ذكرناه، فإنّ

____________________

(1) فلسفة العُقوبة لأبي زهرة: ص183.

(2) المُغني لابن قُدامة: 6/439.

(3) الحضارة الإسلاميّة لآدم متز: 2/30.

٢١٧

هذه الفِرية التي سأذكرها تعيش فِعلاً، وقد سُئلت عنها حيثما ذهبت، وبالرغم مِمّا شرحته لمن سألني في أنّها كاذبة، فإنّي أعتقد أنّها لم تُمسح مِن أذهانهم، فإنّ ما يَشبُّ عليه الإِنسان، ليس مِن السهل الخلاص منه.

إنّ هذه المسألة هي: أنّ الشيعة يعتقدون أنّ الوحي أراده الله تعالى لعليِّ بن أبي طالب، ولكن جبرئيل خان أو أخطأ فذهب بالوحي إلى النبيّ.

هذا مُلخّص الفِرية المنسوبة للشيعة، ولقد وضعت هذه الفِرية على لسان الشعبي عامر بن شراحيل في مقالة، سبقَ أن ذكرت مقطعاً مِنها، وبينت كذب مضمونها، والآن أذكر لك صدر الكَلمة وما يَتّصل بموضوعنا مِنها، فقد ذكر ابن شاهين عمر بن أحمد في كتابه اللطف في السُنّة، كما ذكره ابن تيميّة في منهاج السُنّة، قال: حَدّثنا محمّد بن أبي القاسم بن هارون، حَدّثنا أحمد بن الوليد الواسطي، حدثني جعفر بن نصير الطوسي، عن عبد الرحمان بن مالك بن مغول، عن أبيه قال، قال لي الشعبي: أحذّركم أهل هذه الأهواء المُضلّة وشرّها الرافضة، لم يدخلوا في الإِسلام رغبة ولا رهبة، إلى أن قال: واليهود تبغض جبرئيل، ويقولون هو عدونا مِن الملائكة، وكذلك الرافضة يقولون: غَلَط جبرئيل بالوحي على محمّد إلخ (1) .

إنّ هذه الصورة التي وُضِعت على لسان الشعبي، أخذها ابن حَزم في كتابه الفصل في المِلَل والنِحَل، فنسبها لفرقةٍ مِن الغُلاة سمّاهم الغرابيّة؛ لأنّهم قالوا: إنّ عليّاً أشبه بمحمد مِن الغراب بالغراب، ولذلك غَلَط جبرئيل بالوحي؛ فذهب به لمحمّد وهو مبعوث لعليٍّ، ولا لوم عليه لأنّه اشتبه، وبعضهم شتمه وقال: بل تعمّد ذلك، هكذا رواه ابن حزم (2) .

في حين ذهب الرازي في كتابه اعتقادات فِرَق المُسلِمينَ إلى أنّهم قالوا: غَلَط ولم يتعمّد (3) .

وقد عرفت أنّ منشأ الرواية الشعبي، ونظراً لأهميّة الموضوع فسأُناقش هذه الرواية، وأذكر لك سُخفها وأنّ الّذين وضعوها لم يتفطّنوا إلى ما فيها مِن ثَغرات:

أ - أول ما يُقال في هذه الرواية: أنّ الشعبي عندما كان يُقارن بين اليهود

____________________

(1) منهاج السُنّة: 1/16.

(2) الفصل بين المِلَل والنِحَل: 4/183.

(3) اعتقادات فِرَق المُسلِمينَ: ص59.

٢١٨

والشيعة يُسمّي الشيعة بالرافضة، وهذا اللقب الذي نبز به الشيعه وفنّدناه سابقاً، ذكر مؤرّخوا السُنّة: أنّه عُرف في آخر أيّام زيد بن عليٍّ عندما طَلَب منه أفرادُ جيشه البراءة مِن الخليفتين فأبى، فرفضه قومٌ مِنهم سُمّوا بالرافضة. هذه هي رواية هذا اللقب، وهذه الواقعة كانت سَنَة مَقتل زيد، أي 124 هجريّة في حين أنّ الشعبي ولد سَنَة عشرين أو ثلاثين على رواية أُخرى مِن الهجرة، فالفَرقُ بين وجوده والرواية سبعة عشر سنة؛ لأنّه مات سَنَة مائة وخمس مِن الهجرة، فإمّا أن يكون لفظ الرافض ورد قبل هذا، وهو ما لا تقول به رواياتهم، أو أنّ القصّة مُخترعة وهو الأصح (1) .

ب - إنّ رجال سَنَد هذه الرواية بين مُتّهم مثل عبد الرحمان بن مالك بن مغول، فقد قالت عنه كُتُب التَراجم بأنّه ضعيف، وكذّاب، ووضّاع، ويقول عنه الدارقطني: مَتروك، ويقول عنه أبو داود: كذّاب وضّاع، ويقول عنه النسائي: ليس بثقة (2) .

وبين مَجهول: كمحمّد الباهلي، ولم أجد لمحمّد هذا أيَّ ذِكر في لسان الميزان، وتاريخ بغداد وغيرهما.

ج - سَبَق أن ذكرنا أنّ الشعبي يُرمى بالتشيُّع، وقد نَصّ على تشيعه كلٌّ مِن: ابن سعد والشهرستاني، ولا يُعقل أن يقول شيعيٌّ هذا القول.

د - وعلى فرض صحّة جميع هذه المقدّمات، فمَن هُم هؤلاءِ الغرابيّة؟ وكم عددهم؟ وأين مكانهم؟ وهل لهم مِن وجود خارجي؟

أغلب الظنِّ أنّهم مِن المقلَع الذي نُحِت منه عبد الله بن سَبَأ، خلقتهم نفس الأهداف التي خلقته.

هـ - إنّ الذي يدّعي نبوّة شخص فلا بُدَّ أن يكون هذا النبيّ مَنصوباً مِن ربٍّ، وهُنا يقال: هل أنّ هذا الربّ الذي أرسل رسوله لنبيه كان يَعلم أنّ هذا الرسول مُغفَّل لا يُفرِّق بين مَن أُرسل إليه وغيره أم لا؟ فإذا كان لا يعلم، فهو لا

____________________

(1) راجع ترجمة الشعبي وَفَيَات الأعيان: 1/266.

(2) لسان الميزان: /427.

٢١٩

يصلح للإلوهيّة، وإذا كان يَعلم وأرسله مع عِلمه، فأي ربٍّ هذا الذي يُرسل مَن لا ينفِّذ أوامره، أو أنّه مُتواطئ مع جبرئيل، فلا اشكال حينئذ.

و - أوليس القرآن الكريم يقول عن جبرئيل: ( مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) التكوير:21، ويقول عن النبيّ (ص): ( وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) الأحزاب:40. والشيعة مُسلمون يقرأون القرآن آناء الليل وأطراف النهار، فكيف لا يفهمون ذلك؟!

اللهم إلا أن يقال كما قيل: إنّهم يرون القرآن مُحرّفاً، وقد فنّدنا هذا القول بما أوردناه مِن نُصوص، أنّ مِن الثابت عند المُسلِمينَ قول النبيّ (ص): (لا نبي بعدي)، والمسلمون سمعوا منه ذلك.

ز - كلُّ مَن له إلمام بالتاريخ يَعلم مدى طاعة الإِمام عليٍّ (ع) للنبي (ص)، وجهاده بين يَديه، فكيف يجتمع ذلك مع عِلمه بأنّه أخذ مِنه الرسالة؟

إلاّ أن يقال: إنّه لا يَعلم أنّ الرسالة هي له.

حـ - إنّ مَصدر التشريع الأوّل والأساس هو القرآن الكريم عند كلّ فِرق المُسلِمينَ، ومنهم الشيعة، فإذا نزل القرآن على مُغفّل وبِيَدِ خائن، فأيُّ ثقة تبقى به بعد ذلك؟

ط - ألا تكفي آلاف المنائر والمساجد عند الشيعة، والتي تَصرخ ليل نهار: أشهدُ أنّ محمداً رسول الله للتدليل على أنّ هذه القصّة فِريَةٌ مُفتَعَلة كأخَواتها.

ي - إنّ كُتُب عقائد وفِقه الشيعة تملأ الدُنيا، فهل يوجدُ في كِتاب واحد مِنها ما يُشير إلى هذه الفِرية؟ ونرضى بأن يكون حتّى مِن المُخرفين مِمَّن نراهم عند فئة أُخرى.

إننّا نُطالب بمصدر واحد اعتمد عليه هؤلاءِ في نقل ما نقلوه. وإذا كان العوام يتلقّون أقوال رجال فكرهم بالقبول مهما كانت، فما بالُ المُثقّفين يعيشون نَفس العقليّة؟ وما فائدة العلم إذا لم يُقوّم تفكير الإِنسان؟ وإلى كم يبقى المُسلمون يجترّون ما أُدخل إلى أمعائهم يوماً ما؟

ليت هؤلاءِ يصارحوننا بأنّ لهُم مصالح في بقاء هذه المَهازل؛ إذاً لأراحوا الأجيال، ولكانوا صادقين مع أنفسهم كما صنع مروان ابن الحَكَم في لَحظةٍ مِن لَحَظاتِ استيقاظ ضميره، وقد سُئل عن موقف الإِمام عليٍّ (ع)

٢٢٠