هوية التشيع

هوية التشيع0%

هوية التشيع مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 237

هوية التشيع

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور أحمد الوائلي
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 237
المشاهدات: 33785
تحميل: 5267

توضيحات:

هوية التشيع
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 33785 / تحميل: 5267
الحجم الحجم الحجم
هوية التشيع

هوية التشيع

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

3 - القاضي عياض

فَرَّقَ القاضي عياض - في كتابه ترتيب المدارك في أعلام مَذهب مالك - بين الشيعة والرافضة، وذلك حينما قارن مذهب الإِمام مالك بغيره فقال:

فلم نَرَ مذهباً مِن المذاهب غيره أسلم منه، فإنّ فيهم الجهميّة، والرافضة، والخوارج، والمرجِّئة، والشيعة، إلاّ مذهب مالك، فإنّا ما سمعنا أحداً مِن نقله مذهبه، قال بشيء مِن هذه البِدع (1) .

ومِن الواضح مِن هذه الجُملة أنّ الرافضة غير الشيعة؛ لمكان التغاير الناتج مِن العطف.

ومِن هذا ومِن غيره مِمّا نقله أصحاب المقالات، مِمّا لا يخرج عن نفس المضمون، يتّضح أنّ اصطلاح الروافض مأخوذ بمعناه اللغوي في أنّه لكلِّ جند رفضوا قائدهم، وتطبيقه على أصحاب زيدٍ، مِن باب تطبيق الكُلّي على أحد مصاديقه، وإلى هُنا فإنّ المسألة طبيعية. ولكن الذي يُلفت النَظَر أن يكون أصحاب زيد طلبوا منه البراءة مِن الشيخين، فإنّ ذلك محلُّ تأمّلٍ طويل؛ للأسباب التالية:

1 - إنّ هؤلاءِ الّذين طلبوا البراءة، لو كانوا شيعة فلا بدَّ أنّهم حريصون على نصر زيد وكسب المعركة؛ ضرورة أنّ مصيرهم مُرتبط بمصير زيد، فإذا هُزِم فمعنى ذلك القضاء عليهم قضاءً تامّاً، خصوصاً وأنّ خُصومهم الأُمويّون الّذين يَقتلون على الظِنّة والتُهمة كلّ مَن يَميل إلى آل أبي طالب، فما الذي دفعهم إلى خلق هذه البَلبلة التي أدَّت إلى انفضاض جُندِ زيدٍ عنه؟ وبالتالي إلى خسارته للمعركة، فموته شهيداً على أيدي الأُموييّن.

فلا بُدَّ أن يكون هؤلاءِ ليسوا مِن الشيعة، وإنّما هُم جماعة مُندسّة، أرادت إحداث البلبلة للقضاء على زيد واحتمال كسبه للمعركة.

2 - وعلى فرض التَنزُّل والقول بوجود فِرقة خاصّة مِن رأيها رفض الشيخين، فما معنى سحب هذا اللقب على كلّ شيعيٍّ يوالي أهل البيت؟ حتّى أصبح هذا الأمر مِن المُسَلَّمات، فوجدنا الإِمام الشافعي يقول في أبياته الشهيرة:

____________________

(1) ترتيب المدارك: 1/51.

٤١

يا راكباً قفْ بالمحصَّب مِن مِنى

واهتف بقاعدِ جَمعها والناهضِ

سَحَراً إذا فاض الحَجيج إلى مِنى

فيضاً كَمُلتَطَمِ الفُرات الفائضِ

أعلِمتُمُ أنّ التَشَيُّع مَذهبي

إنّي أقولُ بهِ ولستُ بناقضِ

إن كانَ رفضاً حبُّ آل محمّدٍ

فليشهد الثقلان أنّي رافضي

البيت الأخير مِن هذه الأبيات ذكره الزبيدي في تاج العورس في مادة رفض (1) ، وباقيها في ترجمة الشافعي بِمُختَلَف الكُتُب.

إنّ تعبير الإِمام الشافعي: إن كان رفضاً حبُّ آل محمّدٍ، يدلُّ على أنّ هناك إرادة لسحب اللقَب، هو رافضي على كلّ شيعي مُبالغة في التشهير بهم، وشحن المشاعر ضِدّهم مِمّا سنلمح كثيراً مِن الأمثلة له، وممّا يؤيّد على أنّها تتماشى مع تخطيط شامل يستهدف مُحاصرة التَشَيُّع والتشهير به، وبكلّ وسيلة سليمة كانت أم لا.

3 - قد يّقال: إنّه لا شكّ في وجود جماعة شتّامين للصحابة، فما هو السبب في كونهم مِن هذا الصِنف في حين تَدَّعون أنّ الشتم لا تُقرُّهُ الشيعة ولا أئمّتهم؟

وللجواب على هذا السؤال لا بدَّ مِن الرُجوع إلى مجموعة مِن الأسباب، تُشكِّل فِعلاً عنيفاً استوجب ردَّ الفعل، ومِن هذه الأسباب ما يلي:

أسبابُ الشَتمِ

أ - المُطاردة والتنكيل المُروِّع للشيعة وبالشيعة، وما تَعرّضوا له مِن قتل وإبادة على الظِنّة والتُهمة، وفي أحسن الحالات المُلاحقة لهم، والمُحاربة برزقهم، ومَنعهم عن عطائهم مِن بيت المال، وفرض الضرائب عليهم، وعزلهم اجتماعيّاً وسياسيّاً، وبوسع القارئ الرُجوع إلى التاريخ الأُموي في الكوفة، وغيرها مِن المُدن الشيعيّة؛ ليقف بنفسه على ما وصلت إليه الحالة، وما انتهى إليه وُلاة الأُموييّن مِن قسوة، ومِن هُبوط

____________________

(1) تاج العروس: 5/35.

٤٢

في الإِنسانيّة، إلى مستويات يتبرّأ مِنها الوحش في العهدين الأُموي والعبّاسي (1) .

إنّ مثل هذا الاضطهاد يستلزم التنفيس عن الكبت، فقد يكون هذا التنفيس في عمل إيجابيٍّ بشكل مِن الأشكال، وأحياناً قد يكون سلبيّاً فيلجأ إلى هذا الشتم.

ولسنا نُبرّر ذلك بحالٍ مِن الأحوال؛ لما سبق أن ذكرناه مِن أسباب.

ب - إنّ الذي أسس هذه الظاهرة هُم الأمويون أنفسهم؛ لأنّهم شتموا الإِمام عليّاً (ع) على المنابر، وشتموا أهل البيت لمدّة ثمانين سنة، واستمر هذا الوضع، حتّى أنّ محاولة الرجُل الطيٍّب عُمَر بن عبد العزيز لم تَنجَحْ في منع الشتم، وكانت كلمة الأُموييّن وبالذات معاوية، أنّهم إنّما أسّسوا شتمه، ليدرج عليه الصغير ويهرم عليه الكبير، فنشأت مقابل ذلك ردّة الفعلٍ. ومما عمّق هذه الظاهرة: هو الالتواء في مُعالجة هذه المشكلة مِن قِبَل بعض أعلام السُنّة. وعلى سبيل المثال نجد ابن تيميّة يؤلّف كتابه الصارم المسلول في كفر مَن شتم الرسول، أو أحد أصحاب الرسول، ويُحشِّد فيه الأدلّة على كُفر الشاتم، ولكنّه مع ذلك، ومع علمه بما قام به معاوية والأمويون، لا يقول بكُفر الأُموييّن، الّذين قاموا بشتم الإِمام (ع) وأهله.

إنّ عليّ بن أبي طالب أخو رسول الله (ص)، ومَن ضحّى بكلِّ ذرَّة مِن كيانه في خِدمة الإِسلام والمسلمين، فلِماذا لا يُكفَّرُ شاتمه؟! وسَتَسمع الجواب طبعاً بأنّه تابَ وغَفر الله له وانتهى الأمر.

وإليك مثالاً آخر: لقد تولّى يزيد بن معاوية الحُكم لمدّة ثلاث سنوات، قَتَل في سَنَة مِنها الحسين وأهل بيت رسول الله، وسبى عيالهم، وذبح أطفالهم، وعَمِل فيهم أعمالاً لا تصدر مِن كسرى وقيصر.

وفي سَنَةٍ ثانية قَتَلَ عشرة آلاف مِن المُسلِمينَ، وسبعمائة مِن الصحابة حَمَلَة القرآن، واستباح المدينة ثلاثة أيّام، وسَمح لِجُند أهل الشام أن يهتِكوا أعراض المسلمات، وذَبْحِ الأطفال، حتّى كان الجُندي الشامي يأخذ الرضيع مِن ضَرع أمِّه، ويقذف به الجدار حتّى يَنتَشِرَ مُخُّه على الجدار، وأجبر الناس على بيعة يزيد على

____________________

(1) اُنظر: مُروج الذهب للمسعودي: 3/12 و50، واُنظر: تاريخ الطبري: 6/344.

٤٣

أساس أنّهم عبيد له. أخافَ المدينة، وروَّع الناس، وأحال أرض المدينة المنوَّرة إلى بُرَكٍ مِن الدماء، وتِلالٍ مِن الأشلاء.

وفي سَنَةٍ ثالثة، سلَّط المَنجنيقاتِ على الكعبة وهَدَمَهَا وأحرقها وزعزع أركانها، وجعل القتال داخل المسجد الحرام، وسال الدم حتّى في قاع الكعبة. وقد استعرض ذلك مُفصّلاً كلٌّ مِن: تاريخ الخميس للديار بكري، والطبري، وابن الأثير، والمسعودي في مُروج الذهب، وغيرهم مِن المؤرّخين في أحداث سَنَةِ ستّين حتّى ثلاث وستّين مِن الهجرة. ومع ذلك كُلّه تجد كثيراً مِن أعلام السُنّة يُخطِّئون مَن يخرج لقتال يزيد، وأنّ الخارج عليه يُحدِث فتنةً، وَوَصَلَ الأمر إلى حدِّ تخطئه الحسين (ع) سيّد شباب أهل الجنّة، فكأنّ النبيُّ (ص) عندما قال: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة) ما كان يعلم بأنّه يُقاتِل يزيد، وحينما يقول النبيّ (ص): (إنّ الحسين وأصحابه يدخلون الجنّة بغير حساب) (1) لم يأخذ في حسابه أنّهم خارجون على يزيد!

اللهم اهدِ قومنا. وكأنّ ابن العربي المالكي أعرفُ بمصائر الأُمور مِن النبيّ نفسه، الذي يرسم للحسين مصيره، ويأمره بتنفيذ ذلك، أرأيت معي إلى أيّ مُستوى مِن المهازل تصلُ الدُنيا؟

وهذا الإِمام الغزالي - الذي سَنَقِفُ قريباً معهُ وقفةً قصيرةً - يقول، وأمام عينيه عشرات مِن كُتُبِ السِيَر والتاريخ، التي تؤكِّد بالطُرُق الموثوقة بشاعة الأحداث، التي تَمّت بأمرِ يزيد، وبفعله المُباشر لبعضها. يقول في باب اللَعْن مِن كتابه إحياء العلوم:

فإن قيل: هل يجوزُ لَعنُ يزيد لأنّه قاتل الحسين، أو أمر به؟. قُلنا: هذا لم يَثبُتْ أصلاً، فلا يجوز أن يُقالَ إنّه قتله، أو أمر به ما لم يثبت، فضلاً عن لَعنه؛ لأنّه لا يجوز نِسبة مُسلِم إلى كبيرة مِن غير تحقيق، إلى أن قال: فإن قيل: أن يُقال (قاتل الحسين لعنه الله، أو الآمر بقتله لعنه الله). قلنا، الصواب أنْ يُقال: قاتل الحسين إن مات قبل التوبة لعنه الله (2) .

____________________

(1) تهذيب التهذيب لابن حجر: 2/347.

(2) إحياء العلوم: 2/276.

٤٤

بِرَبِّك أيها القارئ، هل تملك أعصابك وأنت تسمع مِثل هذا الكلام يصدر مِن مثلِ هذا الشخص؟.

هل كلّ كُتُب السِيَر والتاريخ عند المُسلِمينَ، والتي نَصَّت على صُدورِ هذه الأحداث، أمراً ومباشرةً مِن يزيد، كُلّها لا تُثْبِت أفعال يزيد ولا تدينه؟! وعنده أنّ يزيد وأمثاله مِن قتلة الأنبياء وأبناء الأنبياء مِمَّن يوفَّقون للتوبة!.

إنّ كلّ وسائل الإِثبات لا تُثبِت إدانة يزيد عند الغزالي، ولكن يَثْبُت عنده مِن طَيفٍ رآه، أنّه رأى الله تعالى، واجتمع به، ووضع يده بيده، وحادثه، وأفاض عليه مِن نوره (1) .

يقول صاحب مفتاح السعادة: إنّ أبا بكر النسّاج ألحدَ الغزالي في قبره، وخرج مُتَغَيِّرَ اللّون، فسألوه عن ذلك، فقال: رأيتُ يداً يُمنى خرجت مِن تجاه القِبْلة، وسمعتُ منادياً ينادي: ضعْ يدَ محمّد الغزالي في يدِ سيِّد المُرسلين (2) .

إنّ أمثال هذه المواقف تَثبُت بوسائل إثبات مِن هذا النوع، ولكن كُتُب التاريخ كُلّها لا تُشكّل وسيلةَ إثباتٍ في إدانة يزيد!... ويصلُ الأمر إلى رمي آل البيت بالشذوذ، فضلاً عن عدم ترتيب الأثر على شتمهم، فيقول ابن خُلدون في المقدمة: وشذَّ أهلُ البيت بمذاهب ابتدعوها، وفِقهٍ انفردوا به، وبَنَوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح، وعلى قولهم بعصمة الأئمّة، ورفع الخلاف عن أقوالهم، وهي كُلُّها أصول واهية. يقول ذلك وَنَصْبَ عَيْنَيْهِ أحاديث النبيّ (ص) في أهل بيته، كما رواه ابن حَجَر في بصواعقه (3) (في كلّ خَلَفٍ مِن أمّتي عُدول مِن أهل بيتي، ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين، وانتحال المُبطلين، وتأويل الجاهلين، ألا وإنّ أئمّتَكُم وَفدُكُم إلى الله تعالى، فانظروا مَن توفدون)، وَنَصْبَ عَينه أيضاً ما قاله النبيّ (ص)، كما رواه الحاكم في المستدرك:

(ومَن أحبّ أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، ويدخل الجنّة التي وعدني بها ربّي

____________________

(1) انظر: الغدير للأميني: 11/161.

(2) المصدر السابق: نفس الصفحات.

(3) الصواعق المُحرقة لابن حجر: ص128.

٤٥

وهي جنّةُ الخُلد، فَليَتَوَلَّ عليّاً وذُريّته مِن بعدي، فإنّهم لم يُخرِجوكم مِن هدى، ولن يُدخِلوكُم باب ضلالة) (1) .

وَمَعَ ذلك كُلّه فأهلُ البيتِ شاذّون مُبتدِعون في نظرِ الشعوبي ابن خُلدون.

إنّي والله يعلم، إذ أوردُ أمثال هذه المقاطع، إنّما أُريد وضْعَ اليد على الدِمْلَة التي أهلَكَنا التِهابُها عِبْرَ السنين.

إنّ أمثال هذه المواقف إنّما تُعَمِّقُ جُذورَ الخلاف، فيكون التنفيس عنها سلبيّاً أحياناً.

إنّ كُتّاب المُسلِمينَ مسؤولون عن شجب هذه المواقف التي رحل واضعوها وبَقيَتْ مصدر بلاء على المُسلِمينَ.

إنّ مِمّا يبعثُ على الاستغراب، أن يسكُت علماء وكُتّابُ المُسلِمينَ على أقوال ابن خُلدون وأمثاله، مع قيام الأدلّة على أنّ آل محمّد هم الامتداد المضموني لمحمّد صلى الله عليه وآله.

بالإِضافة إلى ذلك كُلّه، إنّ السُنن التي تُروى عن طريق أهل البيت عليهم السلام، لا يُعمَلُ بها، بينما يُعمَلُ بِبِدَع واستحسانات، وردت عن طريق غيرهم، خُذْ مثلاً مسألة الأذان الذي حُذِفَ مِنه فقرة (حيّ على خير العمل) مِن ثبوتها، وأنّها جزء مِن الأذان بطرق مُختلََفَة.

يقول صاحب مبادئ الفقه في هذا الموضوع ما يلي:

كيفية الأذان هي: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهدُ أن لا إله إلاَّ الله، أشهدُ أن لا إله إلاَّ الله، أشهدُ أنَّ محمّداً رسول الله، أشهدُ أنَّ محمّداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاَّ الله.

هذا هو الأذان الذي اتّفقَ البصريّون والكوفيّون على كلماته، وتبعهما الشاميّون والمصريّون، ومذهب الحجازيين والزيدية والمالكية، إلى أنّ كلمة الله أكبر في أوّل الأذان مَرّتان لا أربع، وعليه عَمَلُ أهلُ المدينة، وأمّا (الصلاة خير مِن النوم) فليست مِن الأذان الشرعي: ففي تيسير الوصول، عن مالك أنّه بَلَغَهُ أنّ المؤذِّن جاء عُمَر يؤذِنه لصلاة الصبح، فوجده نائماً فقال: الصلاةُ خيرٌ مِن النوم، فأمره عُمَر أن يجعلها نداء الصبح. ولذلك قال أبو حنيفة: هذه الجُملة تُزادُ بعد إكمال

____________________

(1) مستدرك الحاكم: 3/148.

٤٦

الأذان؛ لأنّها ليست مِن السُنّة.

أمّا (حيَّ على خير العمل) فمذاهب العِترة، أنّها بين حيّ على الفلاح وبين الله أكبر.

دليلهم في ذلك مِن كُتُب السُنّة ما يلي: روى البيهقي في السُنّة، أنّ عليّ ابن الحسين زين العابدين كان يقول، إذا قال: (حيّ على الفلاح، حيّ على خير العمل - ويقول - هو الأذان الأوّل.)

وأورد في شرح التجريد مِثل هذه الرواية، عن ابن أبي شيبة، ثمّ قال: وليس يجوز أن يُحمَل قوله: (هو الأذان الأوّل) إلاّ على أنّه أذانُ رسول الله (ص)، وزاد رواية أُخرى عن ابن عُمَر: أنّه ربما زاد في أذانه حيّ على خير العمل. وأورد البيهقي هذه الرواية عن ابن عُمر أيضاً.

ونَقَلَ ابن الوزير عن المُحبّ الطبري الشافعي، في كتابه إحكام الأحكام ما نَصّهُ: ذكر الحيعلة بحيّ على خير العمل، عن صدقة بن يسار، عن ابن أُمامة سهل بن حنيف، أنّه كان إذا أذّن قال: (حيّ على خير العمل)، أخرجه سعيد بن منصور، وروى ابن حَزَم في كتاب الإِجماع عن ابن عمر: أنّه كان يقول (حيّ على خير العمل).

وقال علاء الدين مغلطاي الحنفي، في كتاب التلويح في شرح الجامع الصحيح، ما لفظه: وأمّا حيّ على خير العمل، فَذَكَر ابن حَزَم أنّه صَحَ عن عبد الله بن عمر، وأبي أُمامة سهل بن حنيف، أنّهما كانا يقولان في أذانهما: (حيّ على خير العمل)، وكان عليّ بن الحسين يفعله.

وذكر سعد الدين التفتازاني في حاشيته على شرح العضدي على مختصر الأُصول لابن الحاجب، أنّ حيّ على خير العمل كان ثابتاً على عهد رسول الله، وأنّ عمر هو الذي أصرّ أن يكفّ الناس عن ذلك، مخافة أن يثبّط الناس عن الجهاد، ويتّكلوا على الصلاة.

وقال ابن حميد في توضيحه: وقد ذكر الروياني أنّ للشافعي قولاً مشهوراً بالقول به، وقد قال كثير مِن علماء المالكيّة، وغيرهم مِن الحنفيّة والشافعيّة أنّ حيّ على خير العَمل كان مِن ألفاظ الأذان.

٤٧

قال الزركشي في البحر المحيط: ومنها ما الخلاف فيهِ موجودٌ كوجوده في غيرها، وكان ابن عُمَر عميد أهل المدينة، يرى إفراد الأذان، والقول فيه حيّ على خير العمل (1) .

وبعد كلّ ما ذكرناه، وما ورد في هذا الفصل المدعوم برواياتٍ صحيحة في طُرق أهل السُنّة، فلماذا يا تُرى لا يُعمل بما ورد عن آل محمّد، وبطريقهم مِن السنن الصحيحة؟! مع أنّهم محالُّ رحمة الله، وبيوتهم مَهابط وحيه، وصُدورهم عَيبَةُ عِلم النبيّ، ألا يبعث هذا على الدّهشة؟

في حين نرى مِن غيرهم أحكاماً لا تلتقي بحال مِن الأحوال مع المدارك السليمة، ومع ذلك يؤخذ بها، وتُعتَبر مدركاً مِن المدارك، فعلى ماذا تُحمَل هذه الأُمور، إن لم تُحمَل والعياذ بالله على البُعد عن آل محمّد؟ وهم عِدْلُ الكتاب بنصِّ النبيّ (ع)، خُذْ مثلاً: ما ذهب إليه بعض فقهاء السُنّة مِن أن الإِنسان إذا ترك الصلاة عمداً لا يجب عليه قضاؤها، أمّا إذا تَرَكَها نسياناً فيجب عليه قضاؤها (2) ، واعتَقِدُ أنّ ذلك يخرج على رأي مَن يقول: إنّ الكافر لا يُكَلَفُ بالفروع. وحيث إنّ التارك عمداً يمكن أن يكون تركه لها لعدم الإِيمان بها أساساً فهو كافر، ومهما يكن، فإنّ هذا مِن الفروع البعيدة عن روح الأحكام الصحيحة.

____________________

(1) نَقلتُ هذا الفصل مِن كتاب مبادئ الفقه لمحمّد سعيد العوفي: ص52 طبع دمشق الثالثة 1977

(2) نَيل الأوطار للشوكاني: 2/27، ط مصر 1952

٤٨

البابُ الثاني

وفيهِ فُصولٌ

٤٩

٥٠

الفَصلُ الأوّل

فارسيّة التَشَيُّع

هذا الموضوع مِن المواضيع التي كَثُر الحديث حولها، وهي في واقعها تُكَوّن جُزءاً مِن محاصرة التَشَيُّع، كما سبق أن ألمعت لذلك.

إنّ خصوم الشيعة، ومَن تَبِعَهُم مِن المستشرقين - وكلٌّ يضرب على وتر يستهدفه - جعلوا هذه القضيّة مِن الأُمور المُسَلَّمَة، وضلع تلامذتهم في ركابهم، وحشَّدوا كلّ وسائلهم لترسيخها في الأذهان، فما تركوا وسيلة لإِثبات أنّ التَشَيُّع فارسي شكلاً ومضموناً إلاّ وأخذوا بها، مع تفاهة هذا المُدّعى، كما سنرى، ومع أنّه مِن قبيل رمتني بدائها وانسَلّت، والغريب أنّ هذه الفِرية تعيش للآن، مع وضوح الرؤية، وانتشار المعارف، وانكشاف الحقائق.

وسأبحث هذا الموضوع مُفَصَلاً نظراً لأهميّته.

إنّ التَشَيُّع في معناه اللُغَوي: المُناصرة والموالاة، وبالمعنى الاصطلاحي: هو الاعتقاد بأفكار مُعيّنة يُشكّلُ مجموعها مضمون التَشَيُّع، فكيف والحالة هذه أن نتصوّر كَون التَشَيُّع فارسيّاً؟!

وحَتّى نستوعب النُقاط المُتصوّرة في هذا الموضوع، لا بُدَّ مِن شرح أمور، ننتهي معها إلى مقدار ما في هذا الإِدِّعاء مِن نسبة علميّة أو تهريج، فلا بُدَّ مِن ذكر أمور:

أولاً: إنّ المضمون الفكري للتشيُّع هو نفس المضمون الإِسلامي، وأيُّ مضمون يشذُّ عن المضمون الإِسلامي في العقيدة والأحكام، فالشيعة منه بُراء،

٥١

بدليل أنّ مصادر التَشريُّع عند الشيعة هي أربعة، أذكرُها لك على التوالي:

أ - الكتاب الكريم:

وهو ما أُنزِل بمضامينه وألفاظه وأُسلوبه، واعتُبِرَ قُرآناً، وهو هذا المجموع بين الدفَّتَين، المُتداول بأيدي المُسلِمينَ، المُنزَّه عن النقص والتحريف، والذي لا يأتيه الباطل مِن بين يديه ولا مِن خَلفه، والمُتواتَر بكلماته وحروفه بالتواتر القطعي، مِن عَهد النُبوّة حتّى يومنا هذا، وقد جُمِعَ على عهد النبيّ بوضعه الحالي، وكان جبرئيل يعرضه على النبيّ (ص) كلّ عامٍ (1).

ب - السُنّة الشريفة:

وهي قول المعصوم، وفعله، وتقريره، الواصلة إلينا بالطريق الصحيح عن الثُقات العُدول، والتي لا يَتمُّ لنا الوصول إلى مُلابسات الأحكام بدونها، والتي جاء دليل حُجيّتها مِن القرآن الكريم بقوله تعالى:

( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) الحشر: 7.

ج - الإِجماع:

الذي يكشف ضِمْنَاً عن قول المعصوم، سواء قَلَّ المجمعون أم كَثِروا، وسواء كان دليلاً مستقلّاً مقابل الكتاب والسُنّة والعقل، أم أنّه طريقٌ وحاكٍ عن رأي المعصوم، وأدِلّة حُجيّته مُفصَّلة في الكتاب والسُنّة والعقل.

د - دليل العقل:

ويُرجَعُ إليه وإلى قواعده عند فُقدان النُصوص، أو تَعارُض الأدلّة في تفصيلٍ لا داعي لشرحه هنا، ومُلَخَّصه: هو إدراك العقل بما هو عقل، للحُسْنِ والقُبْحِ في بعض الأفعال، المُلازم لإِدراكه تطابُق العُقلاء عليه، وذلك ناتج مِن تأدُّب العقل بذلك، وبما أن الشارع سيّد العُقلاء، فقد حصل إدراك حُكم الشارع قطعاً، وليس

____________________

(1) الفُصول المُهمّة، لشرف الدين: ص163، والبيان للخوئي: ص197.

٥٢

وراء القطع حُجَّة.

ونَظَرَاً لأهميّة التَعرُّف على تفصيل هذه المصادر، فإنّي أحيل مَن يريد التَوَسُّع في فهمها واستيعاب معانيها، إلى مجموعة مِن المصادر هي التالية (1) .

إن هذه المصادر التشريعيّة، هي المُكوّنات العضويّة لهيكل الشريعة الإسلاميّة، باتّفاق جُمهور المُسلِمينَ على اختلافٍ بسيط في بعض تفاصيلها، ولمّا كانت هي مصادر التشريع عند الإماميّة، فما معنى وصف التَشَيُّع بالفارسيّة؟!

إذا كان الباحثون في التَشَيُّع يقصدون مِن الفارسيّة مَضمون التَشَيُّع الفكري، وهذا ما أَستبعده، فإنّه لا يمكن أن يقولَ به قائل، إذ لا يُتَصَوَر أنّ إنساناً يَفتَرِضُ لأحكامٍ شرعيّة نوعاً مِن العِرقيّة، وعليه فلا بُدَّ مِن استبعاد هذا الفرض مِن فارسيّة التَشَيُّع، والرجوع إلى فروض أُخرى في هذا الموضوع يفترضها الباحثون.

هناك فرض آخر لتصوّر فارسيّة التَشَيُّع: هو أنّ هُناك مفاهيم مُعيّنة بالحضارة الفارسيّة، انتقلت إلى التَشَيُّع بمعناه الاصطلاحي، عن طريق مَن اعتنق التَشَيُّع مِن الفُرس، ولم يستوعب التَشَيُّع كُلّ أبعادهم، فجاء مِن تصور هذه المعتقدات جزءاً مِن ماهية التَشَيُّع. وبقيت هكذا يتداولها خَلَفٌ عن سَلَف.

وهذا الفرض قد صَرَّح به أكثر مِن باحث، كما سأذكره لك بعد قليل.

وفيما يخصُّ هذه الصورة وهذا الفرض، لا بُدَّ مِن الإِشارة لأُمور:

تَعقيب

أ - إنّ هذا الإِشكال بناءاً على فرض حدوث مضمونه، فإنّه يرد على المضمون الإِسلامي نفسه، حيث نصَّ على ذلك معظم مَن كتب في الحضارة

____________________

(1) الأُصول العامّة للفقه المقارن: ص179 إلى ص300، وانظر أُصول الفقه للمُظفّر: 3/338 فصاعداً، وانظر البيان للسيّد الخوئي، مبحث صيانة القرآن عن التحريف.

٥٣

الإسلاميّة، وخصوصاً في الفترة الأولى مِن العهود الإسلاميّة، والتي شَكَّلَت مضامين العقيدة فيها جدولاً، انصَبَّ فيه أكثر مِن رافد ورافد، عن طريق الأمم التي اعتنقت الإِسلام جماعات مِنها، ودخلت وهي تحمل أفكارها وعقائدها التي لم تتخلّص مِنها.

وظهرت في الأفكار والسلوك كجماعات: الروم، والفُرس، والصينيّين، والعبريّين، ولعلَّ اليهود أكثر الجماعات تأثيراً في الحضارة الإسلاميّة، حيث تبدو روحهم واضحة في هذه الميادين؛ وذلك لأنّهم استأثروا بالتفسير بالقصص الديني؛ لأنّهم أهل كتاب، وفيهم كثير مِن الأحبار الّذين يحفظون أحكام التوراة، وقصص الأمم التي حفظتها الحضارة العبريّة، والأساطير التي رافقت تلك القصص، ولمّا كانت الجزيرة العربيّة فقيرة إلى الأفكار الدينيّة والمضامين الثقافية، لَعِبَ الفكر اليهوديّ دوراً هامّاً في ملء هذا الفراغ، وخصوصاً في الفكر السُنّي، الذي حاول أن يتَخلّص مِن هذا الرِداء ويخلعه على الشيعة، عن طريق الشَخصيّة الوهميّة عبد الله بن سَبَأ، كما سَنُبَرهِن لك وهميَّة هذه الشَخصيّة قريباً. ولكنّ حقائق الأُمور والبحث الدقيق يثبت عكس ما ادّعاه هؤلاءِ القوم، وما نسبوه للشيعة.

أجل، إنّ آراء اليهود انتقلت إلى الفكر الإِسلامي عن طريق كَعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، وغيرهم وأخذت مكانها في كُتُبِ التفسير والحديث والتاريخ، وتركت بصماتها على كثير مِن بُنودِ الشريعة.

إنّ بوسعِ أيّ باحث الوقوف على ذلك في كُتُب كثيرة، مثل: تاريخ الطبري، وتفسيره جامع البيان، وفي كتاب البُخاري، وغيره مِن المؤلفات مِمّا سَنَشير إلى مصادره عند ذكره. وستجد فصلاً مُمتِعاً في تعليل العداوة بين الإِنسان والحَيّة، يذكره الطبري في تفسيره بِسَنَده عن وهب بن منبه، وذلك عند تفسيره للآية السادسة والثلاثين مِن سورة البقرة، وهي قوله تعالى: ( قُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) إلخ، يقول الطبري وأحسب أنّ الحرب التي بيننا - أي نحن والحيّات - كان أصله ما ذكره علماؤنا الّذين قدّمنا الرواية عنهم في إدخالهنّ - يعني الحيّات - إبليس الجنّة بعد أن أخرجه الله مِنها، ويستمر في سرد أفكار عجيبة يُستَحسَن أن يقرأها مَن

٥٤

يريد الفائدة مِن تفسيره (1) .

ويقول الطبري في تاريخه، عند شرح الذبح العظيم، الذي فدى به إبراهيمُ ولدَهُ إسماعيل بأمر الله تعالى:

إنّ الكبش الذي ذبحه إبراهيم، هو الكبش الذي قَرّبه ابن آدم فتقبِّل منه (2) .

وينقل في تاريخه قُصصاً تلمس عليها الروح اليهودية واضحةً، ومِن ذلك ما ذكره فقال: تزوج إسحاق امرأة فحملت بغُلامين في بطن واحد، فلّما أرادت أن تضعهما، اقتتل الغلامان في بطنها، فأراد يعقوب أن يَخرُجَ قبل عيص، فقال عيص: والله لئن خرجت قبلي لأعترضنّ في بطن أُمّي ولأقتُلنّها، فتأخّر يعقوب وخرج عيص قبله، وأخذ يعقوب بعقبه فسُمّي عيص عيصاً؛ لأنّه عصى، وسُمّي يعقوب يعقوباً، لأنه خرج بعقب عيص. وكَبُرَ الغلامان، وكان عيص أحبَّ إلى أبيه، ويعقوب أحبَّ إلى أُمّه، وكان عيص صاحب صيدٍ، فلّما عمي إسحاق، قال لِعيص: أطعمني لحم صيدٍ، واقترب منّي حتّى أدعوَ لك، وكان عيص أشعر - أي كثير الشَعَر - ويعقوب أجرد، فخرج عيص يَتصيَّد وقالت أُمّه ليعقوب، اذبح كبشاً، ثمّ اشوِهِ، والبس جلده، وقدّمه لأبيك؛ كي يدعو لك، فلّما مسَّه قال: مَن أنت؟ قال: عيص، فقال: المسُّ مسّ عيص والريح ريح يعقوب، فقالت أُمّه: هو ابنك عيص فادعو له، إلخ (3) .

ولستُ أدري كيف كان إسحاق لا يعرف أصوات أولاده، وكيف تطلب الأمُّ البركةَ مِن دعوات إسحاق وهي تَكذِب، وكيف يكذبُ أبناؤها، وأيُّ بيت نبيٍّ هذا البيت الذي يكون أعضاؤه مِن هذا النوع، ثُمَّ أي اسم مشتق مثل يعقوب أو إسحاق أو عيص لا يصلح لأن يشتق منه أمثال هذه الخزعبلات، وهذا الهُراء والسُخُف.

وأمّا الإِمام البُخاري فإنّك تلمسُ الروح الإسرائيلي في كثير مِن رواياته

____________________

(1) تفسير الطبري: 1/234.

(2) تاريخ الطبري: 1/142. وإذا كان يمكن لكبش أن يعيش هذه المُدَّة الطويلة، كما هو في الفِكر السُنّي، فلماذا يُستكثر علينا إذا قُلنا أنّ شخصاً عاش منذُ ألف ومائة سنة تقريباً للآن، ولا يُستكثر على مَن يفرض أنّ كبشاً عاش آلافاً مؤلَّفة مِن السنين؟

(3) تاريخ الطبري: 1/164.

٥٥

وإليك نماذج مِن تلك الروايات التي يتَّضح فيها هذا الروح:

يقول البُخاري بسنده عن أبي هريرة: ما مِن بني آدم مولود يولد إلاّ يَمسّه الشيطان حين يولد، فيستهلّ صارخاً مِن مسِّ الشيطان غير مريم وابنها (1) . وما أدري إذا كان هذا فضيلة، فَلِمَ حَرَمَ مِنها نبيَّنا (ص)، وهو سيّد الأنبياء، وإذا لم يكن ذلك فضيلة فما قيمة ذكرها، وما ذنب الأنبياء الباقين يَمسَّهم الشيطان.

ويقول البُخاري بسنده عن عائشة أمِّ المؤمنين: إنّ النبيّ (ص) سُحِر حتّى كان يُخيَّل إليه أنّه كان يفعل الشيء ولا يفعله (2) .

ويروي البُخاري قُصّة موسى، حين نزل إليه مَلَكُ الموت لقبض روحه، فصكَّه موسى على عينه حتّى فقأها، إلى أن قال: قال الله تعالى لملك الموت، ارجع إليه، وقل له ليضع يده على جلد ثور، فله بكلِّ شعرة غطّتها يده عُمْرُ سَنَة إلخ (3) .

وفي الواقع إنّ هذه العمليّة طريفة، فإنّ الشَّعر الذي يغطيه الكفُّ ربما يصل إلى خمسة آلاف شعرة، وعمر نبي الله موسى معروف، فإمّا أن نُكذِّب الرواية أو نُكذّب التاريخ.

وذكر البُخاري بسنده عن أُمّ المؤمنين عائشة: أنّ النبيّ (ص) مَكَثَ كذا وكذا، يُخيَّل إليه أنّه يأتي أهله ولا يأتي، إلى أن قال لي: يا عائشة إنّ الله أفتاني في أمرٍ اسْتَفْتَيْتُهُ فيه، أتاني رَجُلان فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رِجليَّ، فقال الذي عند رجليَّ للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب - أي مسحور - قال: ومَن طبَّه؟ قال: لبيد بن أعصم إلخ. إلى أن ذَهبَ عَنه أثرُ السِحر بعد مُدَّة (4) .

ومعنى هذه الرواية أنّ النبيّ (ص) أُصيب بِفِقدان الذاكرة أو بالفصام، وما أدري ما هو حال الوحي خلال هذه المدة؟! فإذا جازَ أن يُصاب النبيُّ بمثل هذا

____________________

(1) البُخاري: 4/164.

(2) البُخاري: 4/122.

(3) البُخاري: 4/157.

(4) البُخاري: 8/18.

٥٦

المرض، فما هو مقدار الثقة بالوحي؟ وعلى كلٍّ تبقى مسؤوليّة الرواية على عاتق أُمِّ المؤمنين والبخاري، ولقد حَفَلَ كِتابُ البُخاري بمثل هذا اللون مِن الفكر اليهودي، وذلك مِن قبيل ما ذكره في كتاب الاستئذان، باب بدء السلام قال:

بإسناده عن أبي هريرة عن النبيّ (ص) خَلَقَ الله آدم على صورته - الضمير يعود لله تعالى، إذ لا معنى لعوده لآدم قبل أن يخلقَ آدم، وتُعْرَفَ صورته - طوله ستّون ذِراعاً فلّما خَلَقه قال: اذهب فَسَلّم على أولئك النفر مِن الملائكة جلوس، فاستمع ما يُحيِّونك فإنّها تحيّتك وتحية ذُريّتُك. فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله، فكلّ مَن يدخل الجنّة على صورة آدم، فَلَمْ يزل الخلق ينقصون حتّى الآن (1) . إلى أمثال ذلك مِن هذه الروايات العبقريّة، ومع هذا اللون مِن الفكر الغريب عن روح الإِسلام للزومه التجسيم والهرطقة، فما وجدنا مَن يَنْبُز حَمَلَةَ هذا الفكر بالخروج عن الإِسلام، أو باليهوديّة؛ لنقلهم هذا الفكر الإِسرائيلي إلى الإِسلام، أمّا إذا قُدِّر أن شخصاً تشيّع وحمل معه شيئاً مِن أفكاره للتشيُّع تَحَوَلَ التَشَيُّع فوراً إلى يهوديّة أو نصرانيّة، مع أنّ تبعة كلّ فكرٍ تَقَعُ على حامله، وقد أسلفنا أنّ كُلّ ما يُنافي الإِسلام، يأباه التَشَيُّع جُملةً وتفصيلاً.

وعلى تقدير أنّ هُناك مجموعةً مِن الأفكار، نقلها الفُرس الّذين تشيعوا معهم للفكر الشيعي، كالقول بالحقِّ الإِلهي الذي يقول به الفُرس بالنسبة لملوكهم، ويقول به الشيعة بالنسبة لأئمَّتِهم - مع وجود فوارق بين الأمرين - وحَتّى أيّ مفهومٍ يحصلُ بهِ التقاء بين الفِكرين، كما يصوّره البعض، فإنّ ذلك لا يوجِد قدحاً في العقيدة، ما دامت الأُصول التي يتحقّقُ معها عنوان الإِسلام محفوظة عند الشيعة، بحيث إذا وُجِدتْ كان الإِنسان مُسلماً باعتناقها، ونحن نعلم أنّ الأُصول التي تُحدَّدُ إسلامَ المُسلِم، هي ما حدّده النبيّ نفسه، كما في صحيح البُخاري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن صلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكلّ ذبيحتنا، فذلك المُسلِم الذي له ذمَّة الله ورسوله، فلا تخفروا الله في ذمّته. كما أخرج البُخاري عن

____________________

(1) البُخاري: 8/50.

٥٧

عليٍّ (ع)، أنه سأل النبيّ (ص) يوم خيبر: (على ماذا أقاتِل الناس؟) فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (قاتلهم حتّى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم) (1) .

وقال الإِمام جعفر بن محمّد الصادق (ع): (الإِسلام شهادة أن لا إله إلا الله، والتصديق برسول الله، به حُقِنَت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة مِن الناس.) (2) فَصِفَةُ الإِسلام ثابتة لِمَن قال الشهادتين، سواء اعتقد أنّ الإِمامة نصٌّ مِن الله تعالى فهي حقٌّ إلهي، أو بالشورى فهي حقٌّ للجماعة، يضعونه حيث تتوفَّر المؤهِّلات، حتّى لو لم يكن لمُعتقد الإِمامة بالنصِّ شبهة مِن دليل، بل لو ذهب إلى أبعد مِن ذلك، فابتدع وكان مِن أهل البِدَع فإنّ علماء المُسلِمينَ لا ينبزونه ولا يُكفِّرونه. فقد عَقَدَ ابنُ حَزَم فصلاً مُطوَّلاً في كتابه الفصل، في باب مَن يُكَفَّر أو لا يُكَفَّر، وقد قال في ذلك الفصل: ذهبت طائفة إلى أنّه لا يُكَفَّرُ ولا يُفسَّقُ مُسلِم بقولٍ قاله في اعتقادٍ أو فعلٍ، وأنّ كلّ مَن اجتهد في شيءٍ مِن ذلك فدان بما رأى أنّه الحق، فإنّه مأجور على كلِّ حال، إن أصاب فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد. وهذا قول ابن أبي ليلى، وأبي حنيفة، والشافعي، وسُفيان الثوري، وداود بن عليّ، وهو قول كُلُّ مَن عرفنا له قولاً في هذه المسألة مِن الصحابة لا نعلم خلافاً في ذلك أصلاً (3) .

ويروي أحمد بن زاهر السرخسي، وهو مِن أصحاب الإِمام أبي الحسن الأشعري، وقد تُوفّي الأشعري بداره، وقال: أمرني الأشعري بِجمع أصحابه فَجَمَعتهم له، فقال: اشهدوا عليَّ أنّي لا أُكفِّر أحداً مِن أهل القِبلة بذنب؛ لأنّي رأيتهم كُلّهم يشيرون إلى معبود واحد، والإِسلام يشملهم ويَعمّهم (4) .

وبعد ذلك كُلّه فما هو وجه رَبط التَشَيُّع باليهوديّة، لأنّ فيه أفكاراً فارسيّة، أو

____________________

(1) انظر صحيح مُسلِم: ج2 باب فضائل علي، البُخاري: ج3 باب غزوة خبير.

(2) الفُصول المهمة لشرف الدين: ص18.

(3) الفَصل لابن حزم: 3/247.

(4) الفُصول المُهمّة لشرف الدين: ص32.

٥٨

نَعْته بأنّه أثرٌ فارسيٌّ؟ إذا كان هناك بضعة أفكار نقلها معه بعض مَن أسلم مِنهم، ودان بها وهي لا تَتَعدّى رأياً أخذ به بِشُبهه مِن دليل، أو حتّى بِبِدعة كما مَرَّ عليك، وقد عرفت آراء العُلماء في ذلك.

إنّ هذا التَهوُّر على المُسلِمينَ، والتهريُّج عليهم مِن خطل الرأي، وَسَنُوقِفُكَ عن قريب على مَصادر ما ذهب إليه الشيعةُ مِن الكتاب والسُنّة، وإن حَسِبَهُ البعض أنّه اقتباس مِن الفُرس؛ إمّا لِقلّة اطلاع أو لسوء قصد، والله مِن وراء القصد.

ج - إنّ هذه الدعوى المقلوبة، وهي فارسيّة التَشَيُّع، سَنُوقِفُكَ قريباً على إثبات عكسها، وأقول على فرض صِحّتها فما هو البأس في ذلك، إذا كان الفارسيُّ مُسلِماً؟ ونحن نَتَكلّم بِلُغَة الإِسلام طبعاً وشعارنا: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) الحُجُرات: 13.

فلماذا هذا الموقف؟ وكيف ينسجم مع روح الإِسلام؟ ولو كُنّا نَتَكَلمُ مِن منطلق قوميٍ، فإنّ لُغةً أُخرى ستكون لنا حينئذٍ، ولا يكون لنا أيُّ مُناقشة مع المُتكلّم بها، هذا مع أنّ العَقلَ والمنطقَ القومي السليم، يُحَتِّم احترام القوميّات الأُخرى، إذا أراد احترام قوميّته. وما أروع كلمة الإِمام الصادق (ع) في هذا المقام إذ يقول:

(ليس مِن العصبيّة أن تُحبَّ قومّك، ولكن مِن العصبيّة أن تجعل شِرار قومِك خيراً مِن خيار غيرهم.)

إنّ لُغةَ الإِسلام لا تُفَرِّقُ بين جنس وجنس، فلا يُعتَبَرُ مُسلِماً مَن يَتكلّم بهذه اللُغَة، أمّا إذا كان له دوافع وراء هذه اللُغَة غير إسلاميّة، فلا تخفى على القارئ الفَطِن.

إنّ مِن يَعتَبر الناس مُغَفَلين لَهو المُغفَّلُ الأكبر، وسنرى عن قريب الدوافع مِن وراء هذه المزاعم.

هناك فرض آخر في تصوّر فارسيّة التَشَيُّع: وهو أنّ كُلّ أو غالبيّة الشيعة فُرس، وقد طغت أفكارهم الفارسيّة على التَشَيُّع حتّى غَطَّته، وربما أدَّت إلى الاصطدام مع الشريعة الإسلاميّة؛ لمخالفة تلك العقائد للإِسلام.

هذا الفرض صَرَّحَ به بعضهم،

٥٩

كما ستقرؤه مع ما نعرضه مِن آراء في هذا الموضوع - وَسَتَرى أنّ هذا الرأي باطل، وَيَعلم بطلان ذلك كلُّ مَن له إلمام بتاريخ المُسلِمينَ وعقائدهم، وبُطلانه للأسباب التالية:

أ - إنّ عقائد الشيعة تَحفَل بها مِئات الكُتُب والمراجع، وهي مَيسورة تحت أيدي الباحثين والكُتّاب في كلّ مكتبات العالم، وإنّ عقائد الشيعة مَصدرُها: الكتاب والسُنّة، وفِقهُ الشيعة مصدره: الكِتاب والسُنّة والإِجماع والعقل، كما مَرَّ علينا، وأشرنا إلى الكُتُب التي تشرح ذلك مُفَصَّلاً، ونُضيف إليها كِتاب: أوائل المقالات للشيخ المفيد، و عقائد الصدوق، و الدُرَر والغُرَر للسيد المرتضى، و أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين، ومِن كُتُبِ الأخبار والأحاديث: الكُتُب الأربعة، وهي الأُصول المُعتَمدة عند الشيعة بالجُملَة، وهي: مَن لا يحضره الفقيه للصدوق، و الكافي أُصولاً وفروعاً لمحمّد بن يعقوب الكليني، و التهذيب و الاستبصار للشيخ الطوسي، مع ملاحظة أنْ ليس كلُّ ما فيها مُعتمداً عندنا، ولكُلِّ رواية حِساب، ولذلك قُلتُ إنّها مُعتَمَدَة بالجملة، وقد تَعرَّضت كُتُبُ التَقريرات لِنَقدِ كثير مِن مضامين الكُتُب المذكورة.

ب - إنّ الفُرس لا يكوَّنوِن إلا جُزءً قليلاً مِن ناحية الكَمِ الشيعي، فالتَشَيُّع مُنتَشِر عند العَرَب، والهنود، والتُرك، والأفغان، والكُرد، والصينيين، والتبتيين، وإلخ.

ويُشكِّل الفُرس جزءً مِن الشيعة، ليس كما يُصوِّره البَعض عن سوء فَهمٍ، أو سوء نِيّة.

ج - إنّ بذرة التَشَيُّع نشأت في مَهدِ العَرَب في الجزيرةِ العَربيّةِ، وإنّ الروّاد الأوائل للِتَشيُّع يُشكِّلون مؤشِّراً واضحاً في ذلك، وما كان مِن غير العَرَب في الروّاد الأوائل مِن الشيعة عدى واحداً هو سلمان المحمدي، كما سَمّاه النبيّ (ص) وكان فارسياً. وقد ذكرنا الطَبقَةَ الأولى مِن الشيعة، الّذين تَتَوزَّعُ وَشائِجُهُم على مُختَلَف البُطون والقبائل العَربيّة، وأنت إذا تَتبَّعت الطبقة الثانية والثالثة مِن الشيعة، فسوف تَجِدهم عَرَبَاً في الأعَمِّ الأغلب، ولا أريدُ الإِطالة في هذا المورد،

٦٠