هوية التشيع

هوية التشيع0%

هوية التشيع مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 237

هوية التشيع

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور أحمد الوائلي
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 237
المشاهدات: 33804
تحميل: 5269

توضيحات:

هوية التشيع
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 33804 / تحميل: 5269
الحجم الحجم الحجم
هوية التشيع

هوية التشيع

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

هذه العوامل فقط، وهي: اللُغَة، والتاريخُ، والبيئةُ، والمَصالحُ المُشتَركةِ.

هذه هي التَركيبةُ المَزجيَّةُ التي تُكَوِّنُ وتُحَدِدُ مَعالِم الانتماء لأُمّةٍ مّا (1) .

وانطلاقاً مِن ذلك لِنَرى: أينَ مَظانُّ الشيعةِ مِن هذه العوامل؟

ولنبدأ مِن ذلكَ بالعامِل الأوّل:

مُقَوِّماتِ الهُويَّةِ العِرقِيَّةِ

1 - البيئةُ الجُغرافيَّة:

إنّ مَهدَ التَشَيُّعِ الأوّل هو الجَزيرةُ العَرَبيّة؛ لأنَّ شيعةَ عليٍّ (ع) الأوائل هُم مِن الصَحابَةِ، ومِن جَزيرَةِ العَرَب كما ذكرنا ذلك مِن قبل، ومَعَ افتراضِ وجودِ شَخصٍ أو شَخصين مثل: سَلمان الفارسي، وأبي رافع القَبَطي، فإنّ نشأةَ هؤلاءِ وإقامتَهُم لفترةٍ طويلةٍ بالحجازِ، ومِن الحِجازِ انتَشَرَ التَشَيُّعُ إلى الأقطارِ الأُخرى كالعراق، وسوريا، ومصر، والشام، وإفريقيا، والهند، والخليج، وأوربا، وأمريكا، والصين، وروسيا، وغيرها مِن سائرِ أقطارِ العالمِ على امتدادِ السنين. وسنرى في آخر هذا الفصل أقوال الباحثين في ذلك ونصوصهم على أنّ مهد الشيعة الأوّل هو الجزيرة العربيّة.

2 - اللُغَة:

يَعتَبِر العلماءُ أنّ اللُغَة: هي العاملُ الأساسيُّ في تَحديدِ انتماءِ كلِّ شَخصٍ إلى قَوميةٍ مِن القَوميّاتِ؛ لأنّ اللُغَة قِسمٌ مِن المَشاعِرِ، بل تَذهَبُ البُحوثُ الحَديثةُ إلى أنَّها الجُزءُ المَهموسُ مِن الفِكرِ، وذلك لِتَقسيمِهِم للفِكر إلى قِسمَين: صامتٍ، ومَهموسٍ (2) .

وبِحُكمِ كَونِ الشيعةِ مِن أهلِ الحِجازِ فَلُغَتِهِم كانت العربيّة، وشيعةُ عليٍّ - كَما هو وَاضحٌ مِن الشَريحةِ التي قدَّمناها - مِن فُصَحَاءِ العَرَب، وأبطالِ البيان.

____________________

(1) أنظر القَوميّة العَربيّة للدكتور حَازِم زكي نسيبه: ص101، وأنظر نَحوَ الوَحدَةِ العَرَبيّةِ ليوسف هَيكل، فَصل اللُغَة، وانظر آراءٌ وأحاديثٌ في الوَطنيَّة والقَوميّة لساطع الحصري: ص20.

(2) مَجلَّة عالَمِ الفِكر الكويتية: مُجلَّد 6 العدد الخاص باللُغَة.

٨١

وكان تَفَوُّقُ رُوّادِ الشيعةِ بالبيانِ والخِطابَةِ أدَباً أخَذوهُ مِن إمامهم عليٍّ (ع) أمير البيانِ، حتّى نَبَغوا في ذلكَ وعَدَّهم المُؤرِّخونَ قادَةَ بَيانٍ، ونوابِغَ فَصاحةٍ، ومِن هؤلاءِ: عدي بن حاتَم الطائي، وهاشِم المرقال، وخالِد بن سَعيد العبشمي الأُموي، والوليد بن جابر بن ظالم الطائي، وغيرهم (1) .

وبِحُكم كَونِ اللُغَةِ العربيّة هي لُغَةُ القرآن الكريم، فقد كان الشيعةُ يَقعونَ عِندَ التَصنيفِ مِن قِسم المُتَشدِّدين في اعتبار اللُغَة العربيّة لُغَةً للعِبادةِ، ولُغَةَ العُقُودِ، ولا يَتَساهَلونَ في ذلك أبداً، ولا يَقومُ عِندَهُم مَقامَ اللُغَةِ العَربيّة في ذلك أيُّ لُغَةٍ أُخرى، ونَلمَحُ مِن تَشدُّدهم في ذلك أنّ اللُغَةَ عِندَهُم ليست مُجَرَّدَ قالَبٍ للمعنى، ولو كانت كَذلِك لقامَ مقامَها قالبٌ آخَرٌ، لكنّها عِندَهم تَستَبطِنُ مَشاعِرَ وخَوَاصَّ أصيلةٍ في مَضمونِ الرِسالةِ، ولهذا نَزَلَ القرآنُ بها، لذلكَ نَرى جُمهورَ فُقَهاءِ الشيعةِ يَذهَبونَ إلى عَدَمِ جوازِ القِراءةِ في الصلاةِ والأذانِ، وافتتاحِ الصلاةِ بِغيرِ اللُغَة العَربيّة، في حينِ يَذهبُ كُلٌّ مِن: أبي حَنيفة بِصورةٍ مُطلَقةٍ، والشافعيَّة والمالكيّة بِجواز إيقاع الأذان بغير العربيّة إذا كان المؤذِن أعجميّاً، ويُريدُ أن يُؤذِّنَ لِنفسِهِ أو لجماعَةٍّ أعاجم مِثلَهُ (2) ، ويَذهبُ الشافعيُ والأحنافُ والمالِكيَّةُ إلى جوازِ إيقاعِ تَكبيرَةِ الإِحرامِ بِغَيرِ اللُغَة العربيّة، إذا كانَ غيرُ قادرٍ على اللُغَة العربيّة، ذَكَرَ ذلكَ عَنهُم صاحِبُ الفِقهِ على المذاهبِ الأربعة في بابِ شُروطِ تَكبيرةِ الإِحرامِ، مِن الجُزءِ الأوّل، ولم أجدْ في حُدودِ ما عِندي مِن مصادر لهم اشتراطاً صريحاً في إيقاعِ العُقودِ باللُغَة العَربيّة في حين يَذهبُ الشيعةُ إلى لُزومِ إيقاعِ العَقدِ بالعَرَبيَّةِ اختياراً (3) .

وفيما يَخصُّ عَقدَ النِكاحِ، يُجَوِّزُ الحَنفيَّةُ، والمالِكَيّةُ، والحنابِلَةُ إيقاعَهُ بِغيرِ اللُغَة العَربيّة مع القُدرةِ عليها، ويذهبون إلى صِحَّةِ هذا العَقدِ (4) .

____________________

(1) انظُر أُسد الغابة: 1/35، وأعيان الشيعة للأمين: 1/61.

(2) انظر الفقه على المذاهب الأربعة: 1/314، وفجر الإِسلام: ص250، وكَنزُ العِرفانِ للمقداد السيوري: 1/117.

(3) كنز العِرفان: 2/72.

(4) الأحوال الشَخصيّة لمحمّد أبو زُهرة: ص27 ط مصر الأولى.

٨٢

3 - عُروبَةُ الخليفة:

وممّا يَتّصل بموضوع اللُغَة: إنّه بالنَظَرِ لأهَميَّة اللُغَة العربيّة في مَوقِعِها مِن الشَريعَةِ، الذي يَتَّضِح مِن اختيار السماءِ لها؛ لتكونَ الظرفَ الحامِلَ للفكرِ الإِسلامي، ولِما كَرمَ الله تعالى به هذه اللُغَة في كتابه، إذ يقول في الآية الثانية مِن سورة يوسف:

( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ، ويقول في الآية السابعة والثلاثين مِن سورة الرعد: ( وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً ) الأمرُ الذي أجمَعَ مَعه مُفَسِّروا القرآن الكريم على أنّ القرآنَ حِكمَةٌ عَربيَّةٌ، ومُحاوَراتَهُ على نَسقِ مُحاوراتِ العَرَب وأساليبهم، وإذا شِئت قُلتَ: إنّه أخَذَ مَشاعِرَ العَرَب وخواصِّهِم الحَضاريَّة عندما اختار لُغَتِهِم، ولم يَختَص أو يَتأطَّر بِهم؛ لأنَّ رِسالةَ الإِسلامِ عالميَّة، ولكنّ اللهَ تعالى جَعلَ اللُغَة العربيّة هي القَناةُ التي ينقل الدينَ القَويمَ عن طَريقِها للناس.

ولأجلِ ضمانِ حِفظِ خَواصِّ الرسالةَ، ذهب كثير مِن الفِرَقِ الإسلاميّةِ إلى ضرورةِ كَونِ الخَليفةِ عَربيّاً، لا لِسَبَبٍ آخر قد يُفهَمُ مِنهُ مَعنى عُنصُري، فرسالاتُ السماءِ مُنزَّهَةٌ عن ذلك، وقد انشطرت الفِرقُ الإسلاميّة في اشتراطِ عُروبَةِ الخليفةِ إلى شطرين: وكان الشيعةُ مِن الشَطرِ الذي يؤكِّد على عُروبَةِ الخَليفةِ؛ لقول النبيّ (ص): (الأئمّة مِن قريش) (1) في حين ذَهَبَ كَثيرٌ مِن المُسلِمينَ غير الشيعةِ إلى عَدَمِ اشتراطِ هذا الشرط. ويبدو أنّ هذا المعنى يبتدئ مِن الخليفة الثاني نفسه حيث قال:

لو أدركَني أحَدُ رَجُلين فجَعلتُ هذا الأمر إليه لوثقت به: سالم مولى أبي حَذيفة، وأبو عُبيدَة الجرّاح، ولو كان سالمٌ حيّاً ما جعلتُها شورى (2) .

وواضح مِن ذِكرهِ لسالم أنّ الخَليفة لا يَشتَرِطُ عُروبَةَ الخَليفةِ، وإلاّ لَنَصَّ على العَرَب فَقط، وقد ذَهَبَ لِذلك أيضاً مَشاهيرُ المُعتَزِلَةِ مثل: ضرار بن عُمَر، وثمامة بن أشرس، والجَاحِظ، وكَثيرٌ غيرَ هؤلاءِ (3) .

____________________

(1) الفصل بين المِلَلِ والنِحَل: 4/89.

(2) طبقات ابن سعد: 3/343.

(3) ضُحّى الإِسلام: 1/62.

٨٣

كَما يَذهبُ إلى عَدمِ عُروبَةِ الخَليفةِ الخَوارِجُ بِجُملَتِهِم ونُصوصُهُم صَريحَةٌ بِذلك (1) ، وإلى عَدَمِ اشتراط عُروبَةِ الخَليفةِ يَذهب الأحنافُ أيضاً، ولِذا صَحَّحوا خِلافةَ آلِ عُثمان (2) .

إنّ اشتراطَ عُروبَةِ الخَليفَةِ في واقعِ الأمرِ لا يُمكِنُ أن يَصدُرَ عن بواعِثَ عُنصريَّةِ، أو عن تَعصُّبٍ، فإنّ ذلكَ غَيرُ مُتصوَّرٍ في رِسالَةٍ سَماويَّةٍ هي خاتمةِ الرِسالاتِ الإِنسانيَّةِ؛ ضَرورةَ أنَّ الإِسلامَ دينُ المُساواةِ، ولكن بهذا الشرطِ يَضمنُ الإِسلامُ تَوفُّرَ حاكمٍ يَعي دَقائقَ الشَريعةِ، والخَلفيّات الحَضاريّة التي تَرتَبِطُ بها اللُغَةُ التي نَزَلَت بها. لِهذا فِقط يَشتَرِطُ الإِسلامُ عُروبَةَ الخَليفةِ مِن دون انتقاصٍ للآخرينَ، أو بَخسٍ لِمكانَتِهِم، أو قَدحٍ بإخلاصهم.

4 - التاريخُ والمَصالِحُ المشتركة:

إنّ تاريخَ الشيعةِ الّذينَ عدَّدنا أسماءهم جُزءٌ مِن تاريخِ الجَزيرةِ العربيّةِ بِكُلِّ أبعادِ هذا التاريخِ ومُقوّماته، وكذلك المَصالِح المُشتَرَكة المادي مِنها والمَعنَوي، وكذلك النَهجُ الشعبي في التَفكيرِ والعاداتِ والسُلوكِ، ولذلك لَمّا جاءَ الإِسلامُ أخَذَ يُجاهِدُ لتَخليصِ المُسلِمينَ مِن بَعضِ عاداتِهم، وأنماطِ سُلوكِهم التي كانت تُؤلِّفُ قَدَراً مُشتَرَكاً بين سُكّانِ الجزيرةِ العَربيّةِ، وبالنظرِ لِكونِ هذا المعنى مِمّا لا يَنبغي الإِطالةُ فيه؛ لأنّه بِحُكمِ البَديهيّاتِ، نَكتَفي بما ذَكرناهُ، ومِن هذه الحقائق التي قَدمناها تتضح الهُويَّة العِرقيّة للتشيُّع، فهو عَرَبيٌ بانتمائهِ ومَهدِهِ ولُغَتِهِ وآرائهِ، ولأجلِ هذا ذَكَرَ الباحِثونَ الموضوعيّونَ: أنّ التَشَيُّعَ عربيٌّ بِكُلِّ خَواصِّهِ، وأقصدُ بالباحثينَ هُنا، المتأخرينَ مِنهم؛ وذلك لأنّ هذه المسألة لم تَكن تَشغَل بالَ خُصومِ الشيعةِ في العُصورِ الأولى، وإنّما نَشَأَت مؤخَّراً لأسبابٍ كثيرةٍ، أهَمُّها تَحوُّلُ الفُرسِ إلى شيعةٍ ابتداءً مِن القَرنِ العاشر. أمّا التاريخُ الذي يَسبِقُ القرنَ العاشر، فالشيعةُ مِن الفُرسِ كانوا فيهِ فئةً قَليلةً، وسَوفَ يأتينا هذا المعنى مُفصَّلاً. وحينما تَحوَّلَ الفُرسُ إلى شيعةٍ، ظَهرت لَهُم مَثالِبَ، وعُيوبَ لم تكن موجودةً يَومَ أن كانوا مِن السُنّةِ، ولا أُريدُ أن أتَعَجَلَ بكَ النتائج، فهي آتيةٌ إن شاءَ اللهُ.

____________________

(1) الفَرقُ بينَ الفِرَق للبغدادي، باب الخوارج.

(2) الإِمام الصادق لأسد حيدر: 1/157.

٨٤

والآن دَعني أُقدِّمُ لَكَ نَماذِجَ مِن أقوالِ بَعضِ الباحثينَ الّذين تَناولوا هذه المَسألة، فلم يَسَعْهُم مِن ناحيةِ إنكارِ عُروبَةِ التَشَيُّع، في الوقتِ الذي أرادوا فيه شَتمَ الشيعةِ عن طريقِ شَتمِ الفُرسِ، وشَرْحِ مَثالِبهِم، فلنستمع لما يقولون:

1 - الدكتور أحمد أمين:

يقولُ الدكوتر أحمد أمين في نَصٍ ذَكرناهُ سابِقاً، واشتشهدنا بِمقطَعٍ مِنه، ونَذكُرُهُ هُنا؛ لارتباطه بالموضوع: والذي أرى كَما يَدلُّنا التاريخُ، أنَّ التَشَيُّعَ لِعليٍّ بَدأ قَبل دُخولِ الفُرسِ في الإِسلامِ، ولكنْ بِمعنى سَاذجٍ، وهو أنّ عليّاً أولى مِن غَيرهِ، ومِن وِجهَتَين: كِفايتهُ الشَخصيّةِ، وقرابَتُهُ للنبي (ص)، ولكنَّ هذا التَشَيُّع أخَذَ صِبغَةً جَديدةً بِدُخول العَناصِرِ الأُخرى في الإِسلام مِن يهوديّةٍ، ونصرانيّةٍ، ومَجوسيّةٍ، وحَيثُ أنّ أكبرَ عُنصرٍ دَخَلَ في الإِسلام الفُرسُ، فلَهُم أكبرُ الأثرِ بالتَشَيُّع.

ورأيُهُ هُنا واضِحٌ، أنّ أوائلَ الشيعةِ لَيسوا بِفُرسٍ، وإنْ نَاقَضَ نَفسَهُ بِمكانٍ آخر (1) .

2 - الدكتور علي حسين الخربوطلي قال:

وهناك فَريقٌ مِن العَرَب تَشيَّعَ لِعليٍّ بَعدَ أن آلت الخِلافةُ إلى أبي بكرٍ، ويرى جولد تسيهر: أنّ الحَركةَ الشيعيّةَ نَشَأت في أرضٍ عَربيَّةٍ بَحتةٍ، فقد مالَ لاعتناقِ التَشَيُّعِ قَبائلٌ عَربيّةٌ تَشَبَعَتْ بِالآراءِ الثيوقراطيةِ, وبِشرعيَّةِ حَقِّ عليٍّ بالخلافة، فأقبلت على تعاليمهِ في لَهفة وحَماسةٍ أهلُ العراقِ مِن الفُرسِ، ورأوا أنّ الإِمامَةَ لَيست مِن المَصالِحِ التي تُفَوَّضُ إلى نَظَرِ الأُمّة، ويُعَيَنُ القائمُ بها تَعييناً باختيارِ جَماعةِ المُسلِمينَ وانتخابَهم، بل هي رُكنُ الدينِ، وقاعِدةُ الإِسلامِ، فيجبُ تَعيينَ الإِمامِ ويكون معصوماً، وأنّ عليّاً هو الذي عيّنهُ الرَسولُ (2) .

3 - المُستَشرِق فلهوزن قال:

أمّا أنّ آراءُ الشيعةِ تُلائمُ الإِيرانيّينَ فهذا مِمّا لا شكَّ فيه، وأمّا كَونُ هذهِ

____________________

(1) فَجر الإِسلام: ص276.

(2) الدولة العربيّة: ص127.

٨٥

الآراء انبعثت مِن الإِيرانيين، فلَيست تِلكَ الملائمةُ دليلاً عليه، بل الرواياتُ التاريخيّةُ تقول عَكسَ ذلك، إذ تَقولُ: إنّ التَشَيُّعَ الواضحَ الصريحَ كان قائماً أوّلاً في الدوائرِ العَربيّة، ثمّ انتقلَ مِنها إلى الموالي (1) .

4 - المُستَشرِق آدم متز قال:

إنّ مَذهبَ الشيعةِ لا كما يَعتقدُ البَعضُ: ردُّ فِعلٍ مِن جانبِ الروحِ الإِيرانيَّة تُخالِفُ الإِسلام، فقد كانت جَزيرةُ العَرَبِ شيعيَّةً كَلُّها، عدى المُدن الكُبرى كَمَكَةَ وتُهامَة وصَنعاء. وكانَ للشيعةِ غَلَبَةٌ في بَعض المُدن مِثل: عُمان وهَجَر وصَعدَة، وفي بلاد خوزستان التي تَلي العراق، فكانَ نِصفُ أهلِها على مذهبِ الشيعةِ، أمّا إيران، فكانت سُنيَّةً، عدى قُم، وكان أهلُ أصفهان يُغالونَ في معاوية، حتّى اعتقدَ بعضُهُم أنّهُ نَبيٌّ مُرسَل (2) .

5 - المُستَشرِق جولد تسيهر قال:

إنّ مِن الخطأ القولَ: إنّ التَشَيُّع في مَنشئِهِ، ومَراحلِ نُموِّهِ يمثلُ الأثرَ التعديلي، الذي أحدَثَتهُ أفكارُ الأُممِ الإِيرانيّة في الإِسلام، بَعدَ أن اعتَنَقَتهُ وخضعت لسُلطانِهِ عن طريق الفَتحِ والدعاية، وهذا الوهمُ الشائعُ مَبنيٌّ على سوءِ فَهمِ الحوادثِ التاريخيّةِ، فالحَرَكةُ العَلَويَّةُ نشأت في أرضٍ عربيّةٍ بَحتَة (3) .

6 - المُستَشرِق نولدكه قال:

ظَلَّتْ بِلادُ فارسٍ في أجزاءٍ كبيرةٍ مِنها تُدينُ بالمَذهَبِ السُنّي، واستمرَّ ذلكَ حتّى سنة 1500م، عندما أُعلِنَ التَشَيُّعُ مَذهَباً رَسميّاً فيها بقيامِ الدَولةِ الصَفويَّة (4) .

بعدَ استعراضِ هذه المُقتَطَفاتِ مِن أقوالِ الباحثينَ، التي تُؤكِّد عُروبَةَ التَشَيُّعِ

____________________

(1) الشيعةُ والخَوارِج: ص241.

(2) الحضارةُ الإسلاميّة: 1/101.

(3) العقيدةُ والشريعة، ص204.

(4) دراساتٌ في الفِرَقِ والعَقائد: ص326.

٨٦

في طابعِهِ العام في نَفسِ الوقتِ الذي لا تنفي امتدادَهُ إلى جِنسيَّاتٍ أُخرى، فإنّ باقي الجِنسيّات هيَ مَوضِعُ احترامِنا وتَقديرِنا، فما كُنّا إلاّ مسلمينَ، شِعارُنا قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) الحجرات: 13، ولكنّنا نُقابِلُ بِذلكَ الأصواتَ التي تُشَّهِرُ بالمذهبِ الشيعي، وتَنسِبُهُ للفارسيّةِ، وإتماماً للبحثِ سَنُقَدِّمُ هُنا عَيّنَةً مِن أقطابِ المذهبِ الشيعي، الذي قامَ الفِكرُ الشيعي على أقلامِهِم ومَواقِفِهِم، وبَعدَ ذلكَ نَضَعُ مُقابِلَ عناوينِ عُروبَةِ التَشَيُّعِ، ما يُقابِلُها مِن عناوين في أبعادِ المذاهبِ الإسلاميّة الأُخرى.

٨٧

الفَصلُ الرابِع

أئمَةُ الشيعَةِ مَنْ هُمْ؟

إنّ أئمة الشيعَةِ الإِثني عَشَر، ابتداءً مِن الإِمام عليٍّ (ع) حتّى الإِمامِ الثاني عَشَر محمّد بن الحَسن (ع)، الّذينَ تَعتَبِرُهُم الشيعَةُ بأنّهُم الامتدادُ الطبيعي للنُبوَّةِ، هُم سادَةُ العَرَبِ ومِن صَميمِهِم، وبَيتُ هاشمٍ - كما هو المعروف - أشرفُ البُيوتاتِ العَربيّةِ، فلا حاجةَ للإِفاضةِ بذلك.

يأتي بعدَ ذلكَ الروّاد الأوائلُ مِن حَمَلَةَ عُلومٍ أهلِ البيتِ، وبُيوتاتِ وأُسَرِ الشيعَةِ، الّذين حَملوا التَشَيُّعَ، وبَشَّروا بِه، فإنَّهمُ مِن صَميمِ العَرَبِ، وذلكَ ابتداءً مِن أقطابِ مَدرَسَةِ الإِمامِ الصادقِ (ع)، مِثل: أبان بن تَغلُب بن رباح الكِندي، وبيتُ آلِ أعيُن، وبيتُ آل حيّان التَغلُبي، وآلُ عَطيّة، وبَني دَرّاج وغيرهُم (1) . ثمّ الطَبَقَةُ التي تَلي هؤلاءِ، كالشيخِ المُفيدِ محمّد بنَ النُعمان، والشَريفِ المُرتضى عَلَمِ الهُدى عليّ بن أبي الحسين، والعَلاّمةِ الحِلّي جَمالِ الدين الحَسن بن يوسف بن المُطَهّر، وعبدِ العَزيز بن نِحرير البَرّاج، وجَمالِ الدين أحمد بن موسى بن طاوس، وأُسرةِ آلِ طاوس، ومُحمّد بن أحمد بن إدريس العَجَلي، ونجمِ الدين جَعفر بن الحسن الهَذَلي المعروف بالمُحَقّق، وجَمالِ الدينِ المُقداد بن عبدِ الله السيوري، والشهيدِ الأوّل محمّد بن مَكّي، والشهيدِ الثاني زينِ الدينِ العاملي وغيرِهِم، فإنّ كلّ هؤلاءِ مِن صَميمِ العَرَب.

____________________

(1) طَبَقاتُ ابن سعد: ج6 تراجم مِن سكن الكوفة مِن التابعين.

٨٨

أمّا أصحابُ الصِحاحِ الشيعة، وهُم كلٌّ مِن: محمّد بن يَعقوب الكُليني، صاحب الكافي، ومحمّد بن عليّ بن الحسين المعروف بابن بابويه القُمّي، صاحب مَن لا يَحضَرُهُ الفقيه، ومحمّد بن الحسن بن علي الشيخ الطوسي صاحب التهذيب والإِستبصار، فإنّ هؤلاءِ لا يوجَد نَصٌّ على عَدَمِ عُروبَتِهم، ومَن وَجَدَ دليلاً على أعجَميَّتِهِم فَليُفِدنا.

وختاماً لهذا الفصل، أذكر أوّلاً رأيَ دائرةِ المعارفِ الإسلاميَّة، فقد قالت:

إنّ أقدَمَ الأئمّة الكِبارِ مِن الشيعَةِ كانوا عَرَباً خُلَّصَاً، وإن كانوا مِن اليمنيين خاصَّة. (1) كما أذكُرُ لِكلِّ مَن يُريدُ التَوسُّعَ بعضَ كُتُبِ التراجِمِ الشيعيّة وغيرها؛ ليَطَّلعَ مِنها على نِسبَةِ العَرَبِ مِن الشيعة، ومِن أهمِّ هذه الكُتُب: الأعلامُ للزركلي، وتأسيسُ الشيعةِ لِعُلومِ الإِسلامِ للسيِّد حَسن الصَدر، وأعيانُ الشيعةِ للسيّد مُحسن الأمين العاملي.

السُنّة والفُرس

قَبلَ الدُخولِ في صَميمِ هذا الموضوعِ، لِنَبدَأ أوّلاً بإيران، وما هي هُويَّةُ سُكّانِها العقائديّةِ؟، وبالتحديد أينَ موقِعُ سُكّانِها مِن المَذهَبين السُنّي والشيعي؟ ففي ذلكَ بَعضُ الأضواءِ التي لا بُدَّ مِنها؛ لإِنارَةِ طريقِ البَحثِ.

لقد ذَكَرَ لنا المؤرِّخونَ: أنّ فُتوحاتِ إيران بِكلِّ أجزائها، امتدَّت فَغَطَّت فَترَةَ الخِلافةِ الإسلاميّة إلى نِهايةِ فَترةِ حُكمِ الإِمامِ عليٍّ (ع)، وكانت هذهِ البُلدان عندما يَتمُّ فَتحُها قد يَتَخلَّفُ بَعضُ جُنودِ الحَملةِ في تِلكَ المُدُن، وبَعضُ هؤلاءِ كانوا مِن الشيعةِ، ومِن الّذين حَملوا مَعَهُم مبادئهم وعَرَّفُوا بها، وفي فَترَة حُكمِ زيادِ بنِ أبيهِ للكوفةِ، كانت في جُملَةِ تخطيطاتِهِ للقضاء على التَشَيُّع بالكوفةِ أن هَجّرَ خمسينَ ألفاً مِن الشيعةِ، وسَفّرَهُم إلى خُراسان.

ولا بُدَّ أنّ هؤلاءِ توالدوا، كَما أنّهم بَشَّروا بأفكارِهِم وعَقائدِهِم، فتَبِعَهُم على

____________________

(1) دائرة المعارف: 14/66.

٨٩

ذلك جماعةٌ، كما أنّ مَدينةَ قُم تَمَّ تَمصيرُها أيّامَ الحجّاجِ؛ وذلك أنّ عَبدَ الرحمان بن الأشعث كان أميرَ سجستان مِن قِبَلِ الحَجّاج، ثمّ خَرجَ على الحجّاجِ وقاتَله، وعندما فَشِلَت حَرَكَتهُ كان بِجيشِهِ مَجموعةٌ مِن عُلَماءِ التابعين، مِنهُم: عبد الله، والأحوص، وعبد الرحمان، وإسحاق، ونعيم، وهُم بنو سَعد بن مالك الأشعري، فَنَزَلَ هؤلاءِ على سَبعةِ قُرى في مَنطقة قُم، استَولَوا عليها، وجعلوها سَبعَ مَحلاّت لمدينة قُم، والتَحَقَ بعبد اللهِ بن سعد وَلَدٌ له كان إماميّاً تَرَبّى بالكوفة، فَنَقَلَ التَشَيُّعَ لأهلِها، فليسَ بها سُنّيٌ قط (1) .

هذه هي بذورُ التَشَيُّعِ في إيران، تَنمو في مَجالٍ مَحدودٍ حتّى بِدايةِ القَرنِ العاشرِ، حيث تَحوّلت بَعدَ ذلكَ مَناطقُ كَثيرَةٌ للتشيُّعِ أيّامَ الصَفَويّين.

أمّا البدايات مُنذُ الفتحِ، وإلى القرنِ العاشر، فكانت إيران في جُملَتِها سُنيّةً مُتَوَزِعَةً بين المَذاهبِ، ويُستَثنى مِن ذلكَ جٌيوبٌ صَغيرةٌ كان فيها بعضُ الشيعةِ، وقد أكَّدَ ذلك مؤرِّخوا السُنّة، وإليك أقوالُهم:

____________________

(1) مُعجَمُ البُلدانِ لياقوتِ الحموي: 4/397.

٩٠

إيرانُ السُنّيّة

1 - شَمسُ الدينِ محمّد بن أحمد يقول:

إقليم خُراسان للمُعتزِلَةِ والشيعَةِ، والغَلبَةُ لأصحابِ أبي حَنيفة، إلاّ في كورة الشاش، فإنّهُم شَوافعُ، وفيهم قَومٌ على مَذهبِ عبدِ اللهِ السرخسي، وإقليم الرَحاب مَذاهَبُهُم مُستَقِيمةٌ، إلاّ أنّ أهلَ الحديثِ حَنابِلَةٌ، والغالب بدبيل - لَعلّهُ يُريدُ أردبيل - مَذهبُ أبي حَنيفة، وبالجبال، أمّا بالرَي فَمذاهِبُهُم مُختَلِفةٌ، والغَلَبةُ فيهم للحَنَفيّةِ، وبالرَي حَنابِلةٌ كَثيرَةٌ، وأهلُ قُمٍ شيعةٌ، والدينور غَلَبَةٌ لمذهبِ سُفيان الثَوري، وإقليمُ خوزستان مَذاهِبُهُم مُختَلِفةٌ، أكثرُ أهلِ الأهوازِ ورامهُرمُز والدورق حنابلة، ونِصفُ الأهوازِ شيعةٌ، وبِهِ مِن أصحابِ أبي حَنيفةٍ كَثيرٌ، وبالأهواز مالكيون. إقليمُ فارسٍ العَمَلُ فيه على أصحابِ الحَديثِ، وأصحاب أبي حنيفة، إقليمُ كِرمان المذاهِب الغالبة للشافعي، إقليمُ السِندِ مذاهِبُهُم أكثرُها أصحابُ الحديثِ، وأهلُ الملتان شيعةٌ يُحيعلونَ في الأذانِ - أي يَقولونَ حيَّ على خيرِ العَمَل - ويُثنّونَ في الإِقامَةِ - أي يقولونَ اللهُ أكبَرُ مَرَّتين، وأشهدُ أن لا إله إلاّ الله مرّتين أيضاً، وهكذا - ولا تَخلو القَصَباتُ مِن فُقَهاءٍ على مذهبِ أبي حَنيفة (1) .

2 - ابن بَطّوطَة في رِحلَتِهِ قال بالتلخيص:

لَمّا أعلَنَ خدابنده - حَفيدُ هولاكو - التَشَيُّعَ، حَمَلَ الناسَ على التَشَيُّعِ في مَطلَعِ القَرنِ

____________________

(1) أحسن التقاسيم للبشاري: ص199.

٩١

الثامن، وكانَ مَعهُ أحَدُ الزنادِقَةِ الروافض، ويُدعى بجمال الدين بن المُطهَّر - يَعني العلاّمة الحِلي - كَتَبَ إلى بلادِ آذربايجان، وكرمان، وأصفهان، وخراسان، وشيراز، والعراق بإدخال اسم عليٍّ، وبعضِ شيعتِهِ في خُطبَةِ الجُمعة، وعَدَمِ ذِكرِ الصحابَةِ بها، كان أولَّ بِلادٍ وَصلَ إليها الأمرُ: بغداد، وشيراز وأصفهان، فأمّا أهلُ بغدادٍ فَخَرَجَ مِنهم أهلُ بابِ الأزج، يقولون: لا سَمِعاً ولا طاعة، وجاؤوا للجامع، وهدَّدوا الخطيبَ بالقتلِ إن غَيَّرَ الخُطبَةَ، وهكذا فَعَلَ أهلُ شيراز، وأهلُ أصفهان.

3 - القاضي عياض في مُقدّمة ترتيب المدارك قال:

وقد حَكى مِن انتشارِ مَذهبِ مالك: وأمّا خُراسان، وما وراءِ العراقِ مِن بلادِ المَشرِقِ فَدَخَلَها هذا المَذهبُ أولاً: بيحيى بن يحيى التَميمي، وعبدِ اللهِ بن المُبارك، وقُتَيبة بن سعيد، فكان لهُ هُناكَ أئمةٌ على مَرِّ الأزمان، وتَفشَّى بِقزوين وما والاها مِن البلاد الجبل، وكان آخرُ مَن دَرَسَ منه بنيسابور: أبو إسحاق بن القَطّان، وغَلَبَ على تِلكَ البلادِ مَذهبا أبي حَنيفة والشافعي (1) .

4 - بروكلمان قال في تاريخ الشعوب:

إنّ الشاه إسماعيلَ الصَفَوي بَعدَ انتِصارِهِ على الوند تَوجَّه نحوَ تَبريز، فأعلَمَهُ عُلماءُ الشيعةِ التبريزيّون أنّ ثُلُثَي سُكّانِ المَدينةِ الّذينَ يَبلُغُ عَدَدُهُم ثَلثمائة ألف مِن السُنّةِ (2) ، مع لَفتِ النظرِ إلى أنّ هذهِ الكَميّةِ مِن السُنّة في بَلَدٍ واحدٍ كانت في القَرنِ العاشرِ وفي بدايتِهِ.

5 - المُستَشرِق كيب يقول:

إنّ الفِكرَةَ الخاطِئةِ، والتي لا زالت مُنتَشِرَةً، التي تَقولُ بأنّ بلادَ فارسٍ كانت المَوطنَ الأصليَ للتَشيُّعِ لا أصل لها، بل الروايات التاريخيّة تُثبِتُ بأنّ الزرادشتيّين كانوا أميَلَ عُموماً لاعتناقِ المَذهَبِ السُنّي (3) .

____________________

(1) ترتيبُ المداركِ: 1/53.

(2) تاريخُ الشُعوبِ الإسلاميّة: ص497.

(3) دِراساتٌ في الفِرَقِ والعقائد: ص26.

٩٢

ولا أُريدُ أن أُطيلَ عليكَ بالإكثارِ مِن إيرادِ الشواهِدَ والنصوص، التي تَذكُرُ أنّ إيرانَ هي مَعقَلُ التَسَنُّن حتّى القَرنِ العاشرِ، بل وحَتّى الآن، فإنّ فيها مُقاطَعاتٍ بِكاملِها سُنّيَة تَستَمتِعُ بِكُلِّ حُرّياتَها الدينيّة، وهي مُنبَثَّةٌ في إيران شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، فأين مَوقعُ إيران يا تُرى مِن التَشَيُّعِ والتَسَنُّن، هَل لهؤلاء الكُتّابِ أن يُجيبونا على هذا السؤال، ومتى كان مَنطِقُ الحِقدِ يَعقِلُ أو يُفَكِّرُ؟

٩٣

الفَصلُ الخامِس

اللُغَةُ والمَذاهِبُ الإسلاميَّة

سَبَقَ أن ذَكَرتُ مَوقِفَ المَذاهِبِ الإسلاميّة في مَوضوعِ اشتراطِ عُروبَةِ الخَليفَةِ مِن حيث الُلزومِ وعَدَمِهِ، وكَذلكَ اشتِراطُ اللُغَةِ العَربيّةِ في العبادات والعقود، فلا داعي لإِعادَةِ ذلك، وإنّما أُريدُ الإِشارةَ هُنا إلى أنّ في السُنّةِ مَن يَشترِطُ العَربيّةِ، وفيهم مَن لا يشتَرِطُها في حين يُؤكِّد المَذهبُ الشيعي على اشتراطها، وذلك يَكونُ مُؤشِّراً على عُروبَةِ التَشَيُّع، ووضوح انتمائه للعربيَّة شَكلاً ومَضموناً.

مَن هُم أئمَة السُنّة وأقطابَهُم؟

لا أُريد أن أُعيد إلى ذهن القارئ أنّ أمثال هذه البُحوث إنّما هي مِن باب إشعار الطَرَف الآخر بأنّه لا يلتزم بما هو لازم، ولا أُريد - والله يعلم - أن انتقص أيَّ إنسان ينتمي لأيِّ قوميّة، كما لا أستطيع في هذه المُقتطفات أن أستوعب كلّ الأقطاب الّذين قام بِناء الفكر السُنّي عليهم، وعلى أقلامهم ومواقفهم، وإنّما سأُقدِّم مِنهم شريحة كافية للتدليل على المطلوب.

إنّ تاريخ الدُنيا مُنذ وُجِد يُصنِّف الناس إلى صِنفين: صِنف يَقومُ مَقام الروح في الجسد، وآخر يُمثِّل الجَسد، وصِنف يَقومُ مَقام المُحرِّك، وآخر يُمثِّلُ القاطرة التي يسحبها المُحرِّك. وسَنَرى أنّ مَن يقوم مَقام المُحرِّك في الهيكل السُنّي فارسيٌّ في الأعمِّ الأغلب، ولِنَبدأ بمَن يُسمّى بالمذاهب الأربعة:

٩٤

أئمّةُ المَذاهِب الأربعة:

تَذهبُ جُملةُ المصادر المُعتَبَرَة إلى أنَّ ثَلاثةً مِن هؤلاءِ الأربعة هُم مِن الفُرس، والعَربيُّ فيهم هو الرابع فقط، أمّا الثلاثة فأوَّلهم:

الإِمام أبو حنيفة النُعمان بن ثابت بن زوطي: وهو مولى لِبَني تيم الله، ومولده بالكوفة (1) .

الثاني: الإِمام الشافعي محمّد بن إدريس بن العبّاس بن عُثمان بن شافع: مولى أبي لهب، وقد طَلَب مِن الخليفة عُمَر أن يَجعله مِن موالي قريش فامتنع، فطلب بعدها مِن الخليفة عُثمان ذلك ففعل، فهو مِن موالي قُريش، وقد ذكر ذلك كُلٌّ مِن الرازي في كتابه مناقب الشافعي، وأبو زُهرة في كتابه المعروف الإِمام الشافعي (2) .

الثالث: الإِمام مالك بن أنس بن مالك: ذَهَب كلٌّ مِن ابن عبد البر صاحب الاستيعاب في كتابه الاِنتقاء، والواقدي محمّد بن إسحاق، والسيوطي في تزيين الممالك إلى أنّه مولىً مِن موالي بني تيم، وليس بعربيّ (3) .

الرابع: الإِمام أحمد بن حَنبَل: وهو العربيُ الوحيد في المذاهب، وينتمي إلى بكر بن وائل (4) ، على أنّه هناك مَن يَروي أنّ الثلاثة الأوائل أيضاً عَرَب، ولكنّ ظروف الروايات لا تخفى على الناقد، وبوسع أيِّ باحث تقييم تلك الروايات، والانتهاء لرأي مُعيّن.

أصحابُ الصِحاحِ:

إنّ المصادر التي ترجمت لأصحاب الصحاح وزَّعتهم على النحو التالي مِن حيث أنسابهم:

____________________

(1) مناقب أبي حنيفة للموفّق بن أحمد: 1/16.

(2) انظر الإِمام الصادق لأسد حيدر: 3/220.

(3) الإِمام الصادق لأسد حيدر: 2/200.

(4) طبقات الحنابلة لأبي يعلى: 1/4.

٩٥

أ - البُخاري محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم صاحب الصحيح الشهير، أعجمي.

ب - الترمذي ابن عيسى بن سورة الضرير تلميذ البُخاري، كذلك.

ج - محمّد بن يزيد بن ماجة مولى ربيعة، أعجمي.

د - أحمد بن علي بن شُعيب النسائي نسبة لمدينة نسا بخراسان، أعجمي.

هـ - سليمان بن الأشعث بن إسحاق السجستاني وهي بلدة بقرب هرات، يُنسَب إلى الأزد، ولم يَنصّوا على أنّ النسبة بالأصل أم بالولاء، ويبقى انتماؤه إلى بَلَد أعجمي.

و - مُسلِم بن الحجّاج بن مُسلِم القشيري النيسابوري عربيٌّ منصوص على عروبته (1) .

شَريحَةٌ ثالِثَةٌ:

هذه شريحة ثالثة مُتوزِّعة على المذاهب الأربعة في امتداد تاريخها الطويل غير مُلتزمةٍ بالتسلسل الزمني أُقدِّمها لتكون مُجرَّد مؤشِّر على نِسبةِ ما في المذاهب الأربعة مِن العلماء الفُرس، ولا أُريد الاستقصاء؛ لأنّه يستلزم إضاعة وقتٍ وجُهدٍ الأولى صرفهما في مجال آخر.

إنّ مُعظَم رواة الأحكام والأخبار، ومعظم الفُقهاء والمفسِّرين هم مِن الفُرس، ومنهم على سبيل المثال: مُجاهد، وعطاء بن أبي رياح، وعِكرِمة، وسعيد بن جُبَير.

ومُجاهد وعِكرمة مِمَّن يعتمد عليه البُخاري والشافعي، ويوثِّقه، ويأخذ بمرويّاته جُملة وتفصيلاً (2) .

ومنهم: الليث بن سعد تلميذ يزيد بن حبيب، والذي يُعتَبر مؤسّس المدرسة

____________________

(1) انظر في ذلك وَفَيَات الأعيان: 1/21، والكُنى والألقاب: 3/207، ومعجم المؤلِّفين: 12/115، ومقدَّمات الصِحاح السِتَّة في تراجم أصحابها.

(2) فجر الإِسلام: ص191، و204، ومُعجَم المؤلّفين: 1/59.

٩٦

العِلميّة الدينيّة بمصر، ويقول عنه الشافعي: الليث أفقه مِن مالك، إلاّ أنّ أصحابه لم يقوموا به، وهو فارسيٌّ مِن أهل أصفهان.

ومنهم: ربيعة الرأي شيخ الإِمام مالك، وهو ابن عبد الرحمان بن فروخ مِن أهل فارس، ومنهم: طاوس بن كيسان الفارسي، تَرجم له الشيرازي في طبقات الفقهاء، ومنهم: البَيهَقي صاحب السُنن، الذي قيل عنه: للشافعي فضل على كلّ أحد إلاّ البَيهَقي.

ومنهم: مكحول بن عبد الله، مولى بني ليث، ومحمّد بن سيرين مولى أنس ابن مالك، والحسن البصري الذي قيل عنه: إنّه أشبه الناس بِعُمر بن الخطّاب - على حَدِّ تعبير الشيرازي في الطبقات -.

ومنهم: الحاكم صاحب المستدرك، وعبد العزيز الماجشون الأصفهاني مولى بني تَميم، وعاصم بن عليّ بن عاصم مولى بني تيم، ومِن شيوخ البُخاري، وعبد الحق بن سيف الدين الدهلوي، صاحب مُقدّمة في مصطلح الحديث، وعبد الحكيم القندهاري، شارح البُخاري في حاشيته، وعبد الحميد الخسروشاهي، صاحب اختصار المذهب في الفقه الشافعي.

وعبد الرحمان رحيم، مولى بني أميّة، ومُحدِّث الشام على مذهب الأوزاعي، وعبد الرحمان العضد الإِيجي، صاحب كتاب المواقف، وعبد الرحمان الجامي، صاحب فصوص الحِكَم، وعبد الرحمان الكرماني، رئيس الأحناف بخراسان، وصاحب شرح التجريد، و شيخي زادة، صاحب كتاب مجمع الأنهار عبد الرحمان، و أحمد بن عامر المروزي، صاحب كتاب مُختصر المزني.

وسهل بن محمّد السجستاني، صاحب كتاب إعراب القرآن، و محمّد بن إدريس أبو حاتم الرازي، الذي يعدُّ بمستوى البُخاري، وأبو إسحاق الشيرازي صاحب كتاب التشبيه.

وعبد الله بن ذكوان أبو الزناد عالم المدينة بالفرائض والفقه، ومّمن روى عنه مالك والليث، وأحمد بن الحسين شهاب الدين الاصبهاني، صاحب كتاب غاية الاختصار، ويعقوب بن إسحاق النيسابوري، صاحب المسند الصحيح المخرج

٩٧

على كتاب مُسلِم بن الحجّاج، وأحمد بن عبد الله أبو نعيم،صاحب الحِلية، وابن خلكان، صاحب وَفَيَات الأعيان، وأحمد بن محمّد الثعلبي المُفَسِّر (1) .

ولو رِمتَ أن أمشي مَعك على هذا الخط، فَسَنصل إلى نِسَبٍ عاليةٍ جدّاً مِن الناحية الكمّيّة مِن نِسبَة العُلماء والمؤرِّخين والمفسِّرين مِن الفُرس، إنّ الفِكرَ السُنّي بكلِّ أبعاده مَدينٌ للفُرس، ومصبوغ بالفارسيّة، وحَتّى الإِمام محمّد بن عبد الوهّاب تربّى ونشأ وتَثقّف على أيدي الفُرس، وكانت تربيته وثقافته بين كردستان وهَمَدان، وأصفهان وقُم، كما نصَّ على ذلك جماعة (2) .

ومِن الجدير بالذكر، أنّ الألسِنة الطويلة والبذيئة والمتسرِّعة التي تفتري ما تشاء على الفِرق الإسلاميّة، وخصوصاً على الشيعة هي ألسِنَةٌ فارسيّة. وسأُقدِّم لك نموذجين مِن هذا الصِنف، الذي ليس على ضميره ولسانه رَقيب، وما عند قَلَمِهِ شُعور بالمسؤوليّة.

____________________

(1) انظر في تراجم هؤلاءِ مُعجم المؤلّفين لكحالة: 1/206، فجر الإِسلام: ص241، والكُنى والألقاب للقُمّي: 1/6 فصاعداً.

(2) زُعَماء الإِصلاح لأحمد أمين: ص10.

٩٨

نَموذَجَانِ مِن السُنَّةِ الفُرسِ

1 - الشهرستاني، محمّد بِن عَبدِ الكَريم، صاحب كِتاب المِلَل والنِحَل.

مِنْ أهلِ شَهرِستَان، وهي بليدة بين نيسابور وخُراسان.

إنّ هذا الرجل قد كتب عن الفِرَقِ الإسلاميّة، فَخَلَط وخَبَط خَبطَ عَشواء، وافترى ونَسبَ أُموراً بدون عِلمٍ وتَثبُّت حتّى شحن كتابه بزادٍ موبوء، وخَلَّف تَركة مِن الافتراء تأخذ مِنها الأقلام، والله تعالى سائله عن ذلك، وقبل أن أقدِّم لك نماذج مِن كتاباته أودُّ أن أذكر لك بعض آراء قومه فيه.

أ - الإِمام الرازي:

يقول في كتابه مُناظرات مع أهل ما وراء النهر: المسألة العاشرة - مُتحدِّثاً عن كتاب المِلَل والنِحَل - إنّه كتابٌ حَكى فيه مذاهب أهل العالم بزعمه، إلاّ أنّه غير مُعتَمَد عليه؛ لأنّه نقل المذاهب الإسلاميّة مِن الكتاب المُسمّى بـ: الفَرْقُ بينَ الفِرَقِ، مِن تصانيف الأستاذ أبي منصور البغدادي، وهذا الأُستاذ كان شديدَ التَعصُّبِ على المُخالفين، ولا يكاد يَنقُل مَذهَبَهم على الوجه الصحيح، ثمّ إنّ الشهرستاني نَقَلَ مَذاهب الفِرَقِ الإسلاميّة مِن ذلك الكتاب، فلهذا السبب وَقَعَ فيه الخَلل في نقل هذه المذاهب (1) .

____________________

(1) مُعجم البلدان: 3/ 377.

٩٩

هذا عن مدى توثيقه بالنقل، أمّا دينَهُ وصِدقهُ، فيقول فيه بعضُ قومه ما يلي:

ب - ياقوت الحموي في مُعجمه:

مادة شهرستان قال: ولولا تَخبُّطِه - أي الشهرستاني - في الاِعتقاد، وميلهِ إلى هذا الإِلحاد لكان الإِمام، وكثيراً ما كُنّا نَتعجَّب مِن وفور فَضله، وكمال عقله، كيف مال إلى شيءٍ لا أصل له، واختار أمراً لا دليل عليه لا معقولاً ولا منقولاً؟، ونعوذ بالله مِن الخُذلان والحِرمان مِن نور الإِيمان؛ وليس ذلك إلاّ لإِعراضه عن نورِ الشريعة، واشتغاله بظُلُمات الفلسفة، وقد حضرتُ عدةٍ مجالسَ مِن وَعْظِه، فلم يكن فيها قال الله، ولا قال رسول الله، ولا جواب مِن المسائل الشرعيّة، والله أعلم بحاله (1) .

وبعد تقييم الشهرستاني مِن قِبَلِ قومه، أذكر لك شيئاً مِمّا كَتَبَه عن الشيعة؛ لتعرف مدى صدقه ووثاقته.

يقول عن الإماميّة: إنّهم لم يَثبتوا في تعيين الأئمّة بعد الحسن والحسين وعليّ بن الحسين على رأي واحد، بل اختلافاتهم أكثر مِن اختلافات الفِرَقِ كُلّها إلى أن قال: إنّ الإِمام الصادق بريءٌ مِن خصائص مذاهب الرافضة وحماقاتهم مِن القول بالغَيبَة، والرجعة، والبِداء، والتناسخ، والحلول، والتشبيه، لكنّ الشيعة بعده - أي بعد الصادق (ع) - افترقوا، وانتحل كلُّ واحد مِنهم مذهباً (2) .

إنّ كلّ مَن له إلمام بتاريخ الإماميّة مِن الشيعة يعلم أنّهم لم يختلفوا في تَسلسل الأئمّة، ابتداءً مِن الإِمام عليٍّ (ع) حتّى الإِمام الثاني عشر محمّد بن الحسن (ع)، والإِماميّة على ذلك مُنذُ وُجِدوا. أمّا ما ذكره مِن أنّ الإِمام الصادق (ع) تَبرّأ مِن حماقات الشيعة، فهو مَحض افتراء، ولم يحدث قط، فإنّ أهل البيت أدرى بما فيه، ولو كان هنالك شيء مِن هذا القبيل لذكره غير الشهرستاني، أمّا ما تَفضَّل به على

____________________

(1) المناظرات للرازي: ص25 بتوسّط الإِمام الصادق: 5/48.

(2) المِلَل واللنِحَل، هامش الفصل: 1/193، وحَتّى: 2/3.

١٠٠