آيات الغدير بحث في خطب حجة الوداع وتفسير آيات الغدير

آيات الغدير بحث في خطب حجة الوداع وتفسير آيات الغدير10%

آيات الغدير بحث في خطب حجة الوداع وتفسير آيات الغدير مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 373

آيات الغدير بحث في خطب حجة الوداع وتفسير آيات الغدير
  • البداية
  • السابق
  • 373 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96057 / تحميل: 6501
الحجم الحجم الحجم
آيات الغدير بحث في خطب حجة الوداع وتفسير آيات الغدير

آيات الغدير بحث في خطب حجة الوداع وتفسير آيات الغدير

مؤلف:
العربية

١

٢

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم السلام على

سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين

توجد ثلاث مسائل في عمل الأنبياء والرسل عليهم‌السلام لم يعطها الباحثون حقها في تدوين سيرتهم، ودراسة أعمالهم:

المسألة الأولى: أن أصل مهمتهم عليهم‌السلام هو تبليغ الناس رسالة ربهم فقط فالمحور الذي تدور عليه أعمالهم هو التبليغ والأداء، من أجل إقامة الحجة لربهم عز وجل على عباده ..

فالرسول مبلغُ رسالة ومؤديها وهو يتقي ربه سبحانه ويخاف من غضبه وعذابه إن هو قصر في الأداء، أو خالف حرفاً مما كلف بأن يؤديه!

ولذا تراه يُشْهِدُ الناس على أنه أدى اليهم، ليشهدوا له عند ربه.

والرسول مبلغٌ، وليس له إجبار الناس على قبول الهدى، ولا على الإلتزام به ولا يمكنه ذلك.

٣

فلا إكراه في الدين الالهي وحرية الناس يجب أن تبقى محفوظة، ليؤمنوا إن شاؤوا أو يكفروا ويلتزموا بالدين أو ينحرفوا عنه لأن ذلك معنى فتح مدرسة الحياة في هذه الدار، وامتحان الناس بالهدى والضلال، وإعطائهم القدرة على فعل الخير أو الشر ثم محاسبتهم في مرحلة لاحقةٍ في دارٍ أخرى.

وإجبارهم يتنافى مع أصول الإمتحان، وما يلزمه من حرية اختيار.

* *

والمسألة الثانية: أن هدف الأنبياء والرسل عليهم‌السلام يتركز على القضايا ( الكبرى ) في حياة الناس ومسار المجتمعات فالرسول عليه‌السلام مهندسٌ رباني، ولكنه مهندسُ مدنٍ ومجتمع، ومسيرة تاريخ.

وأعماله يجب أن ينظر اليها بهذا المنظار، وأن تقاس بهذا المقياس، وأن يسأل الباحث نفسه: ماذا كان سيحدث في ثقافة الناس ومسار التاريخ، لو لم يبعث هذا الرسول، وماذا حدث بسبب بعثته وأدائه لرسالته؟

أو يسأل نفسه: كيف كانت حالة العالم الوثنية اليوم، لو لم يبعث إبراهيم عليه‌السلام ويرسي أساس التوحيد، ويزرع كلياته في مسيرة المجتمع الإنساني؟!

أو كيف كانت حالة الجزيرة العربية، والبلاد العربية، والعالم في عصرنا، لو لم يبعث نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يحدث هذا المد الأخير من التوحيد والحضارة؟!

لقد كان عمله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تكوين أمة، ودفعها لتأخذ موقعها في مصاف أمم العالم، بل في ريادتها بأحسن ما يمكن من مقومات الأمة، مضموناً وشكلاً ..

كان عمله إنشاء سفينة، وإطلاقها في بحر شعوب العالم وفي مجرى التاريخ وكان حريصاً أن يكون ربانها بعده أهل بيته، الذين اصطفاهم الله وطهرهم، وأورثهم الكتاب ولكن إن لم تقبل الأمة بقيادتهم، فليكن الربان من يكون، حتى يبلغ الله أمره في هذه الأمة، ثم يبعث فيها المهدي الموعود عليه‌السلام .

٤

والمسألة الثالثة: أن الجانب الذاتي في الرسول عليه‌السلام موجودٌ ومؤثرٌ دون شك، فهو مفكرٌ، نابغٌ، مخطط ٌ، فاعلٌ مختار ولكن الذاتية في عمله ضئيلة جداً!

وما يقابل الذاتية هنا ليس الآلية، فإن إطاعة الرسول عليه‌السلام لما يوحى اليه إنما هو عن قناعةٍ، وإيمانٍ، وتَعَبُّد.

الرسول يجتهد في أمورٍ، شخصية أو عامة ولكن مساحة الأمور التي يسمح لنفسه أن يجتهد فيها ويعمل فيها برأيه، جزءٌ قليلٌ من مساحة عمله الواسع الكبير!

فمثله كمثل مهندسٍ أرسله رئيسه لتنفيذ مشروع كبير، وهو مقتنعٌ أن عليه أن يتصل دائماً برئيسه، ليأخذ منه التعليمات الحكيمة الصحيحة، حتى لا يقع في أخطاء ضارة فهو يعمل ويفكر وينفذ، ولكنه على اتصالٍ دائم بمركزه، يأخذ منه مراحل الخارطة، ويستشيره في رفع إشكالات التنفيذ!

وهذا المثل لمهمة هذا المهندس، مصغرٌ آلاف المرات عن مهمة الرسول عليه‌السلام .

أما مركز هداية الرسول عليه‌السلام ، فلا يقاس أحدٌ بالله سبحانه، ولا فعل أحدٍ بأفعاله.

* *

وعلى هذا، يجب علينا في دراسة سيرة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ندخل في حسابنا هذه الأمور الثلاثة: أنه مبلغٌ ما أمر به. وأن عمله إنشاء أمة وإطلاقها في مسيرة التاريخ. وأن عمله دائماً بتوجيه ربه، وليس من عند نفسه ..

والمتأمل في سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلمس هذه الحقيقة لمساً، وأن الله تعالى كان يدير أمره من أول يومٍ الى آخر يوم، وكان هو يطيع وينفذ مسْلِماً أمره الى ربه، متوكلاً عليه، راضياً بقضائه وقدره ..

ولذا جاءت النتائج فوق مايتصور العقل البشري، وفوق ما يمكن لكل مهندسي المجتمعات، ومنشئي الأمم، ومؤسسي الحضارات ..

لقد استطاع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحدث مداً عقائدياً حضارياً عالمياً في أقل مدة،

٥

وأقل كلفةٍ من الخسائر البشرية والمادية فرغم شراسة الأعداء والحروب لم تبلغ قتلى الطرفين ألف قتيل!!

وما ذلك إلا بسبب أن إدارة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت من ربه عز وجل

لقد كان القرآن يتنزل عليه باستمرار من أول بعثته الى قرب وفاته، وكان جبرئيل عليه‌السلام يأتيه دائماً، بآيات قرآنٍ أو وحيٍ غير القرآن، وأوامر وتوجيهات وأجوبة الخ.

وما أكثر الأمثلة في سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك، فهي مليئةٌ بالتدخل الالهي والرعاية في كبير أموره وصغيرها وهي تدل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان يتصرف من عند نفسه إلا في تطبيق الخطوط العامة التي أوحيت اليه، أو تنفيذ الأوامر التفصيلية التي بلغه إياها جبرئيل عليه‌السلام وكثيراً ما كان يتوقف عن العمل، ينتظر الوحي!

وقد ورد أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أوتيت الكتاب ومثله معه، أي ما كان جبريل يأتيه به من السنن - الإيضاح / ٢١٥، وأن جبريل كان ينزل عليه بالسنة كما ينزل بالقرآن - الدارمي: ١ / ١٤٥.

وكانت هذه التوجيهات كانت تشمل أموره الشخصية أيضاً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من زواجه وطلاقه، ولباسه وطعامه، ونومه ويقظته، ووضوئه وسواكه، فضلاً عن عطائه ومنعه، وحبه وبغضه كما كانت شاملة لحالات حله وترحاله، ورضاه وغضبه ..

- روى في الكافي: ٤ / ٣٩ ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام قصة شخص كافر جاء يحاج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويكذبه ويؤذيه ويتهدده، قال: ( فغضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى التوى عرق الغضب بين عينيه، وتربد وجهه، وأطرق الى الأرض، فأتاه جبرئيل عليه‌السلام فقال: ربك يقرؤك السلام ويقول لك: هذا رجلٌ سخيٌّ يطعم الطعام. فسكن عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الغضب ورفع رأسه، وقال له:

لو لا أن جبرئيل أخبرني عن الله عز وجل أنك سخيٌّ تطعم الطعام، لشردت بك، وجعلتك حديثاً لمن خلفك!

فقال له الرجل: وإن ربك ليحب السخاء؟

٦

فقال: نعم.

فقال: إني أشهد أن لا اله إلا الله وأنك رسول الله، والذي بعثك بالحق لا رددتُ من مالي أحداً. انتهى.

- وروى في الكافي: ١ / ٢٨٩ ، أن شخصاً سأل الإمام الباقر عليه‌السلام فقال:

حدثْني عن ولاية علي، أمن الله أو من رسوله؟

فغضب! ثم قال: ويحك! كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخوف ( لله ) من أن يقول ما لم يأمره به الله! بل افترضها الله، كما افترض الصلاة والزكاة والصوم والحج. انتهى.

ولا نطيل الكلام بأمثلة ذلك، فهي موضوع مهمٌّ لرسالة دكتوراه، بل لعدة رسائل.

* *

والخلافة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موضوعٌ بسيطٌ وليس معقداً ..

فقد قال أهل البيت وشيعتهم إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصب علياً عليه‌السلام ولياً للمسلمين من بعده، وأن ذلك كان بأمر ربه عز وجل، فلا مجال فيه لاختيار قريشٍ أو غير قريش.

وقالت قريش إنه لم ينصب أحداً، ولم يوص الى أحد، وأن ( سلطانه ) ترثه كل قبائل قريش الثلاث وعشرين، لأنه ابن قريش.

لذلك اختارت قريش بعده قرشياً من قبيلة تَيْم هو أبو بكر، ثم اختار أبو بكر قرشياً من قبيلة عَدِي هو عمر، ثم اختار عمر بواسطة الشورى قرشياً ثالثاً من بني أمية هو عثمان ..

ولم يختاروا خليفة من الأنصار، لأنه ليسوا قرشيين فلا حق لهم في سلطان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يختاروا من بني هاشم، لأن حقهم في سلطانه ليس أكثر من غيرهم من قبائل قريش، ولم تخترهم أكثرية قبائل قريش!

إنه موضوع بسيط، يدور حول وجود النص وعدم وجوده ولكنه موضوعٌ شائكٌ لا تحب فتحه قريش، لأنه يضع نظام خلافتها تحت الإستفهام وإذا فتَحْتَهُ

٧

حذرك القرشيون وقالوا لك: إنه صعبٌ معقد، وأفتوا لك بأن الكلام فيه حرام!

وآيات الغدير، جزءٌ من مجموع الآيات التي نزلت في علي وأهل البيت عليهم‌السلام ، وقد ألَّفَ قدماء المفسرين والمحدثين حتى السنيين منهم، كتباً خاصة في الآيات التي أنزلها الله تعالى في أهل بيت نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي الأحاديث التي قالها فيهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لا ينطق عن الهوى! نذكر منها كتاب الحافظ أبي نعيم الأصفهاني باسم ( ما نزل في علي من القرآن )، وكتاب النسائي صاحب الصحيح باسم ( خصائص أمير المؤمنين علي )، وهما كتابان معروفان مطبوعان ..

وأثناء بحثنا لآيات الغدير الثلاث: ( بلغ ما أنزل اليك من ربك ) و ( اليوم أكملت لكم دينكم ) و ( سأل سائل بعذاب واقع ) وجدناها مرتبطةً بخطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع ارتباطاً وثيقاً، فكان لا بد أن يشمل موضوعنا بحوثاً في هذه الخطب الست! وما فيها من تبليغه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمة وجوب اتباع الثقلين من بعده: القرآن والعترة، وبشارته الأمة في خطبة عرفات بأن الله تعالى حل مشكلة الحكم فيها، واختار لها من بعده اثني عشر إماماً ربانياً ..

كذلك كان من اللازم أن نبحث العلاقة التي كانت قائمة بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزعماء قريش في قضية حكم أهل بيته من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد اخترنا للكتاب اسم ( آيات الغدير ) رغم اشتماله على هذه الموضوعات، لأنه الإسم الأنسب لها، وإن زادت عن تفسير آيات الغدير بالمعنى الإصطلاحي.

نرجو أن تكون بحوثاً مفيدة، وأن ينفعنا الله تعالى بها في آخرتنا، ويشملنا بسببها في شفاعة النبي وآله الطاهرين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

علي الكوراني العاملي

في الثالث عشر من رجب المكرم ١٤١٩

٨

الفصل الأول

بحوث تمهيدية لتفسير آية العصمة من الناس

خلاصة آيات الغدير الثلاث

أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل حجة الوداع، أن يدل أمته على حجهم، كما دلهم على صلاتهم، وزكاتهم، وصومهم، وأن يدلهم على إمامهم من بعده ويعلن عهده الى وصيه من عترته، وينصبه علماً لأمته لأنه تعالى لم يقبض نبياً من أنبيائه عليهم‌السلام إلا بعد أن يكمل له دينه، ويورث الكتاب الالهي لوصيه، وينصبه علماً لأمته.

ودعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين الى الحج معه، ليعلمهم مناسك حجهم، ويقيم لهم علياً عليه‌السلام علماً من بعده ولكنه كان يخشى أن تعارض ذلك قريش، لحسدها القديم لبني هاشم، وأن يطعنوا في نبوته، ويتهموه بأنه يريد تأسيس ملك لأسرته كملك كسرى وقيصر فيؤدي ذلك الى حدوث حركة ردة في الأمة.

وحج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجة الوداع، وبلغ الأمة فريضة الحج، وخطب في مكة وعرفات ومنى خمس خطب بين فيها للأمة معالم دينها، وبشرها بالأئمة الإثني عشر من أهل بيته عليهم‌السلام ، وشدد على أنه لا أمان للمسلمين من الضلال إلا بالتمسك بالثقلين: القرآن والعترة.

٩

كما حذرهم من الأئمة المضلين، وأصحابه الذين سينقلبون من بعده على أعقابهم، فيمنعهم الله تعالى من ورود حوضه يوم القيامة.

وبسبب حساسية قريش، لم يكرس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولاية العترة الطاهرة بشكل رسمي ولم يأخذ البيعة من المسلمين لعلي عليه‌السلام .

وفي طريق عودته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجة الوداع نزل عليه جبرئيل عليه‌السلام بقوله تعالى بالآية الأولى ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك الخ ) فأوقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين في الجحفة عند غدير خم، وبلغهم ما أمره به ربه، وأصعد علياً عليه‌السلام معه على المنبر، ورفع بيده معلناً ولايته من بعده، وأمر أن تنصب له خيمة، وأن يهنئه المسلمون بالولاية، فهنؤوه وبايعوه فنزلت عند ذلك آية إكمال الدين وإتمام النعمة بولاية العترة الطاهرة، وهي قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً الخ. وذلك في يوم الغدير الثامن عشر من ذي الحجة.

وقبل وصول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى المدينة وبعده، بدأت تحركات قريش والمنافقين، ولكن الله تعالى أحبطها، وعصم رسوله من ارتداد الأمة على نبوته في حياته، وذلك بوسائل متعددة، كان منها أن أنزل العقاب على عدد من المعترضين على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان أحدهم جابر بن النضر بن الحارث من بني عبد الدار، الذي كان أبوه زعيم بني عبد الدار، وحامل لواء قريش يوم بدر.

قال أبو عبيد الهروي في كتابه غريب القرآن:

لما بلَّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم غدير خم ما بلَّغ، وشاع ذلك في البلاد، أتى جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري، فقال:

يا محمد! أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وبالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، فقبلنا منك. ثم لم ترض بذلك، حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه! فهذا شيء منك أم من الله؟!

١٠

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والله الذي لا إله إلا هو، إنَّ هذا من الله.

فولى جابر يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم! فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر، فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله، وأنزل الله تعالى: سأل سائلٌ بعذابٍ واقع الخ.

ومع أن عدداً من مصادر السنيين توافقنا على تفسير الآيات الثلاث بقصة الغدير وإعلان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولاية علي والعترة الطاهرة عليهم‌السلام ولكن أكثر مفسريهم ومحدثيهم فسروها بوجوه أخرى، متعددةٍ ومتضاربة، كما سترى.

لذلك حررنا بعض البحوث التمهيدية اللازمة لتفسير هذه الآيات الكريمة.

* *

١١

١٢

البحث الأول

خلافة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت مطروحة في حياته

مضافاً الى منطق الأمور، توجد أدلةٌ ملموسةٌ تدل على أن الخلافة وولاية الأمر بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت مطروحةً من أول بعثته والى آخر حياته الشريفة، وأن الكلام كان يجري في من يخلفه بشكل طبيعي لا كما تقول مصادر السنيين من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يوص الى أحد، وأن المسلمين لم يطرحوا هذا الموضوع معه أبداً، ولا سألوه عنه حتى مجرد سؤال!!

وهذه الأدلة غير ما ثبت من نصوص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إمامة العترة من بعده عليهم‌السلام .

الدليل الأول: ماورد في سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنه كان يعرض نفسه على القبائل في أول بعثته، ويطلب منها أن تحميه لكي يبلغ رسالة ربه وأن بعض القبائل قبلت عرضه بشرط أن يكون الأمر لها من بعده، فأجابها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه مجرد رسول والأمر ليس له، بل هو لله تعالى يجعله لمن يريد!

وأبرز ما وجدنا من ذلك: حديث بني عامر بن صعصعة، وحديث كندة، وكلاهما في أول البعثة، وحديث عامر بن الطفيل، وهو في أواخر حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

- ففي سيرة ابن هشام: ٢ / ٢٨٩:

أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم الى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فقال

١٣

له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟

قال: الأمر الى الله، يضعه حيث يشاء.

قال فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك! فأبوا عليه.

فلما صدر الناس، رجعت بنو عامر الى شيخ لهم، قد كانت أدركته السن حتى لا يقدر أن يوافى معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتىً من قريش ثم أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي يدعونا الى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به الى بلادنا، قال: فوضع الشيخ يديه على رأسه، ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلافٍ؟! هل لذناباها من مُطَّلب؟! والذي نفس فلانٍ بيده ما تقوَّلها إسماعيليٌّ قط، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم! انتهى.

ورواه الطبري في تاريخه: ٢ / ٨٤، وابن كثير في سيرته: ٢ / ١٥٨، وحكاه في الغدير: ٧ / ١٣٤، عن سيرة ابن هشام: ٢ / ٣٢، والروض الأنف: ١ / ٢٦٤، وبهجة المحافل لعماد الدين العامري ١ / ١٢٨، والسيرة الحلبية: ٢ / ٣، وسيرة زيني دحلان: ١ / ٣٠٢، بهامش الحلبية، وحياة محمد لهيكل / ١٥٢.

وأما حديث قبيلة كندة، فرواه ابن كثير في سيرته: ٢ / ١٥٩ قال:

قال عبد الله بن الأجلح: وحدثني أبي عن أشياخ قومه، أن كندة قالت له: إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الملك لله، يجعله حيث يشاء.

فقالوا: لا حاجة لنا فيما جئتنا به!. انتهى.

وأما حديث عامر بن الطفيل شيخ مشايخ قبائل غطفان، فرواه ابن كثير أيضاً في سيرته: ٤ / ١١٤، قال:

١٤

عن ابن عباس أن أربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب، وعامر بن الطفيل بن مالك، قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهيا إليه وهو جالس، فجلسا بين يديه: فقال عامر بن الطفيل:

- يا محمد، ما تجعل لي إن أسلمت؟

- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم.

- قال عامر: أتجعل لي الأمر إن أسلمت، من بعدك؟

- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس ذلك لك، ولا لقومك، ولكن لك أعنة الخيل.

- قال: أنا الآن في أعنة خيل نجد، إجعل لي الوَبَر، ولك المَدَر.

- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا.

- فلما قفل من عنده، قال عامر: أما والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً!

- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمنعك الله.

- وفي ص ١١٢، قال: وكان عامر بن الطفيل قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أخيرك بين ثلاث خصال: يكون لك أهل السهل ويكون لي أهل الوبر، وأكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء!

قال فطَعَن ( أصيب بالطاعون ) في بيت امرأة فقال: أغُدَّةٌ كغدة البعير، وموتٌ في بيت امرأة من بني فلان! ( وفي رواية في بيت سلولية ) ائتوني بفرسي، فركب، فمات على ظهر فرسه!. انتهى.

الدليل الثاني: أن بيعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأنصار تضمنت ثلاثة شروط:

الأول: أن يحموه مما يحمون منه أنفسهم.

الثاني: أن يحموا أهل بيته وذريته مما يحمون منه أهل بيوتهم وذراريهم.

الثالث: أن لا ينازعوا الأمر أهله.

وهذا يعني أن يطيعوا من يختاره الله تعالى للقيادة بعد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن مبدأ الإختيار الالهي للأئمة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مفروغاً عنه من أول الرسالة.

١٥

وقد وفت الأنصار بالشرط الأول خير وفاء، ولكنها حنثت بالشرطين الأخيرين حنثاً سيئاً مع الأسف!

- ففي صحيح البخاري: ٨ / ١٢٢

عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم.

- ورواه مسلم: ٦ / ١٦ والنسائي: ٧ / ١٣٧ ، بعدة روايات، وعقد باباً بعنوان ( باب البيعة على أن لا ننازع الأمر أهله )

- ورواه ابن ماجة: ٢ / ٩٥٧، وأحمد: ٥ / ٣١٦، وفي ص ٤١٥ وقال ( قال سفيان: زاد بعض الناس: ما لم تروا كفراً بواحاً ). ورواه البيهقي في سننه: ٨ / ١٤٥.

ورووا روايات فيها الزيادة التي ذكرها سفيان، وزيادة أخرى كما في صحيح البخاري: ٨ / ٨٨ قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعنا، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم من الله فيه برهان. انتهى.

ورواه البيهقي في سننه: ٨ / ١٤٥

- وروى أحمد في مسنده: ٥ / ٣٢١: عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليك السمع والطاعة، في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك، ولا تنازع الأمر أهله، وإن رأيت أنه لك. انتهى.

وهاتان الزيادتان محل شكٍ، لأن البيعة كانت قبل الهجرة، ولم يكن فيها استثناء من الطاعة، ولم تكن مسألة إثرة القرشيين على الأنصار مطروحة أبداً إلا بعد بيعة أبي بكر، واعتراض رئيس الأنصار صاحب السقيفة سعد بن عبادة، وما جرى له وهذا يوجب الاطمئنان بأن زيادتي الإستثناء والأثرة نشأتا من جو علاقة الأنصار مع الخلافة القرشية بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٦

ويلاحظ أن الصحاح القرشية أكثرت من رواية شرط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأنصار أن لا ينازعوا الأمر أهله، لأجل أن تحتج عليهم بأنهم لا سهم لهم في الخلافة القرشية ولكنها لم تروِ شرط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأنصار أن يمنعوا أهل بيته وذريته مما يمنعون منه أهليهم، لأن ذلك في غير مصلحة الخلافة القرشية، التي هاجمت بيت فاطمة وعلي عليهما‌السلام ، وأشعلت فيه النار لتحرقه بمن فيه، إن لم يخرجوا ويبايعوا!

- قال في مجمع الزوائد: ٦ / ٤٩

عن عبادة بن الصامت أن أسعد بن زرارة قال: يا أيها الناس، هل تدرون على ما تبايعون محمداً صلى الله عليه وسلم؟ إنكم تبايعونه أن تحاربوا العرب والعجم، والجن والإنس! فقالوا: نحن حرب لمن حارب، وسلم لمن سالم.

قالوا: يا رسول الله إشترط.

قال: تبايعوني على أن: تشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة، والسمع والطاعة، وأن لا تنازعوا الأمر أهله، وأن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم.

وعن حسين بن علي قال: جاءت الأنصار تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على العقبة فقال: يا علي قم فبايعهم، فقال علي: ما أبايعهم يا رسول الله؟

قال: على أن يطاع الله ولا يعصى، وعلى أن تمنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وذريته، مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم. انتهى.

وستأتي روايته من مصادر أخرى في ( مهمة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التبليغ ).

الدليل الثالث: حديث الدار المعروف، الذي ورد في تفسير قوله تعالى ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) .

ولا بد هنا من التنبيه على أمرٍ مهم، وهو أن مدوني السيرة النبوية الشريفة طمسوا مرحلة دعوة بني هاشم من السيرة، مع أنها منصوصة فيالقرآن، واخترعوا بدلها مرحلة ما قبل بيت الأرقم، وما بعد بيت الأرقم ورووا فيها الصحيح وغير

١٧

الصحيح، والمعقول وغير المعقول!

وتدل الآية الكريمة على أن الله تعالى أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المرحلة الأولى أن يدعو بني هاشم فقط فماذا فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه المرحلة؟

وهل استمرت مدتها شهوراً، أو سنوات، حتى نزل الأمر بتوسيع نطاق الدعوة؟

وما معنى الأمر الالهي: أن تكون نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولاً لبني هاشم خاصة، وبعدها لقريش والعرب والناس عامة؟

وما معنى أن قريشاً اتخذت قراراً بمحاصرة بني هاشم، فالتفوا جميعاً حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مؤمنهم وكافرهم، وتحملوا الحصار الشامل الذي استمر من السنة السادسة أو السابعة، الى السنة الحادية عشرة للبعثة ولم يقل أحد منهم آخ!

وما معنى أنه عندما كانت تقع شدائد على المسلمين، لا ينهض بحملها إلا بنو هاشم؟! فقد انهزم المسلمون جميعاً في أحد، ولم يثبت غير بني هاشم!

ثم انهزموا في حنين وهم عشرة آلاف فلم يثبت غير بني هاشم!!

إن هذه الحقائق والظواهر تفسر الحديث الذي روته مصادرنا ( بعثت الى أهل بيتي خاصة، والى الناس عامة ).

كما تدل آية ( أنذر عشيرتك الأقربين ) على أن إنذار بني هاشم كان مبرمجاً من الله تعالى ويدل حديث الدار على أن تعيين وصي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخليفته من بينهم، كان عملاً مبكراً، من ضمن ذلك البرنامج ..

- فقد قال السيوطي في الدر المنثور: ٥ / ٩٧

وأخرج ابن إسحق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي في الدلائل، من طرقٍ، عن علي رضي‌الله‌عنه قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنذر عشيرتك الأقربين ، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أني مهما أبادؤهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمتُّ عليها حتى جاء

١٨

جبريل فقال: يا محمد إنك إن لم تفعل ماتؤمر به يعذبك ربك، فاصنع لي صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واجعل لنا عساً من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب، حتى أكلمهم وأبلغ ما أمرت به.

ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا اليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به، فلما وضعته تناول النبي صلى الله عليه وسلم بضعة من اللحم فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصحفة، ثم قال: كلوا بسم الله، فأكل القوم حتى نهلوا عنه، ما ترى إلا آثار أصابعهم!

والله إنْ كان الرجل الواحد ليأكل ما قدمت لجميعهم.

ثم قال: إسق القوم يا علي، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعاً!

وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله!

فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب الى الكلام، فقال: لقد سحركم صاحبكم! فتفرق القوم ولم يكلمهم النبي صلى الله عليه وسلم.

فلما كان الغد قال: يا علي إن هذا الرجل قد سبقني الى ما سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعدْ لنا بمثل الذي صنعت بالأمس من الطعام والشراب، ثم اجمعهم لي، ففعلت ثم جمعتهم، ثم دعاني بالطعام فقربته، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا وشربوا حتى نهلوا، ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم أحداً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئنكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يُوَازِرُنِي على أمري هذا؟

فقلت وأنا أحدثهم سناً: إنه أنا، فقام القوم يضحكون.

ثم رواها السيوطي بسند آخر عن ابن مردويه عن البراء بن عازب، قال: لما نزلت

١٩

هذه الآية: وأنذر عشيرتك الأقربين ، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبدالمطلب، وهم يومئذ أربعون رجلاً الخ. انتهى.

ولكن السيوطي بتر الحديث هنا، ولم يذكر بقية كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو أسلوبٌ دأب رواة خلافة قريشٍ على ارتكابه في حديث الدار، لأن بقية الحديث تقول إن الله أمر رسوله من ذلك اليوم أن يختار وزيره وخليفته من عشيرته الأقربين!

- قال الأميني في الغدير: ١ / ٢٠٧

وها نحن نذكر لفظ الطبري بنصه حتى يتبين الرشد من الغي قال في تاريخه: ٢ / ٢١٧ من الطبعة الأولى: إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يوازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟

قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه.

فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. قال: فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.

- وقال الأميني: ٢ / ٢٧٩

وبهذا اللفظ أخرجه أبو جعفر الإسكافي المتكلم المعتزلي البغدادي، المتوفى ٢٤٠، في كتابه نقض العثمانية، وقال: إنه روي في الخبر الصحيح.

ورواه الفقيه برهان الدين في ( أنباء نجباء الأبناء ) / ٤٦ - ٤٨

وابن الأثير في الكامل ٢ / ٢٤

وأبو الفداء عماد الدين الدمشقي في تاريخه ١ / ١١٦

وشهاب الدين الخفاجي في شرح الشفا للقاضي عياض ٣ / ٣٧ ( وبتر آخره )

وقال: ذكر في دلايل البيهقي وغيره بسند صحيح.

والخازن علاء الدين البغدادي في تفسيره / ٣٩٠

٢٠

والحافظ السيوطي في جمع الجوامع، كما في ترتيبه 6 / 392

وفي/ 397، عن الحفاظ الستة: ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم، والبيهقي.

وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3 / 254. انتهى.

ثم شكا صاحب الغدير من الذين حرفوا الحديث لإرضاء قريش، ومنهم الطبري الذي رواه في تفسيره بنفس سنده المتقدم في تاريخه، ولكنه أبهم كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق علي عليه‌السلام فقال: ثم قال: إن هذا أخي، وكذا وكذا!!.

وتبعه على ذلك ابن كثير في البداية والنهاية: 3 / 40، وفي تفسيره: 3 / 351. انتهى.

- وقال في هامش بحار الأنوار: 32 / 272: وناهيك من ذلك مؤاخاته مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من الله عز وجل في بدء الإسلام حين نزل قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين راجع تاريخ الطبرى: 2 / 321، كامل ابن الأثير: 2 / 24، تاريخ أبي الفداء: 1 / 116، والنهج الحديدي: 3 / 254، ومسند الإمام ابن حنبل: 1 / 159، وجمع الجوامع ترتيبه: 6 / 408، وكنز العمال: 6 / 401.

وهذه المؤاخاة مع أنها كانت بأمر الله عز وجل، إنما تحققت بصورة البيعة والمعاهدة ( الحلف ) ولم يكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأخذ أخاً ووزيراً وصاحباً وخليفةً غيره، ولا لعلي أن يقصر في مؤازرته ونصرته والنصح له ولدينه، كمؤازرة هارون لموسى على ما حكاه الله عز وجل في القرآن الكريم.

ولذلك ترى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين يؤاخي بعد ذلك المجلس بين المهاجرين بمكة، فيؤاخي بين كل رجل وشقيقه وشكله: يؤاخي بين عمر وأبي بكر، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير وعبد الله بن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث وبلال، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة، وبين حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة الكلبي ( راجع سيرة ابن هشام: 1 / 504 المحبر / 71 - 70 البلاذرى: 1 / 270 ) يقول لعلي عليه‌السلام :

٢١

والذى بعثني بالحق نبياً ما أخرتك إلا لنفسي، فأنت مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وأنت أخي ووارثي، وأنت معي في قصري في الجنة.

ثم قال له: وإذا ذاكرك أحد فقل: أنا عبد الله وأخو رسوله، ولا يدعيها بعدي إلا كاذب مفتر ( الرياض النضرة: 2 / 168 منتخب كنز العمال: 5 / 45 و 46 ).

ولذلك نفسه تراه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما عرض نفسه على القبائل فلم يرفعوا اليه رؤوسهم، ثم عرض نفسه على بني عامر بن صعصعة قال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس بن عبد الله بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال لرسول الله: أرأيت إن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟

قال: الأمر الى الله يضعه حيث يشاء.

قال فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه ( راجع سيرة ابن هشام: 1 / 424 الروض الأنف: 1 / 264 بهجة المحافل: 1 / 128، سيرة زيني دحلان: 1 / 302 السيرة الحلبية: 2 / 3 ). فلولا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان تعاهد مع علي عليه‌السلام بالخلافة والوصاية بأمر من الله عز وجل قبل ذلك، لما ردهم بهذا الكلام المؤيس، وهو بحاجة ماسة من نصرة أمثالهم. انتهى.

- وفي دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي: 1 / 15

وروينا أيضاً عن علي بن أبي طالب صلى الله عليه أنه قال: لما أنزل الله عز وجل: وأنذر عشيرتك الأقربين ، جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بني عبد المطلب على فخذ شاة وقدح من لبن، وإن فيهم يومئد عشرة ليس منهم رجل إلا أن يأكل الجذعة ويشرب الفرق، وهم بضع وأربعون رجلاً، فأكلوا حتى صدروا وشربوا حتى ارتووا، وفيهم يومئذ أبو لهب، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يا بني عبد المطلب أطيعوني تكونوا ملوك الأرض وحكامها، إن الله لم يبعث نبياً إلا جعل له وصياً ووزيراً ووارثاً وأخاً وولياً، فأيكم يكون وصيي ووارثي ووليي وأخي ووزيري؟

٢٢

فسكتوا، فجعل يعرض ذلك عليهم رجلاً رجلاً، ليس منهم أحد يقبله، حتى لم يبق منهم أحد غيري، وأنا يومئذ من أحدثهم سناً، فعرض عليَّ فقلت: أنا يا رسول الله. فقال: نعم، أنت يا علي.

فلما انصرفوا قال لهم أبو لهب: لو لم تستدلوا على سحر صاحبكم إلا بما رأيتم، أتاكم بفخذ شاة وقدح من لبن فشبعتم ورويتم! وجعلوا يهزؤون ويقولون لأبي طالب: قد قدم ابنك اليوم عليك. انتهى.

ولا بد أن تكون حادثة دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبني هاشم قد شاعت في قريش، ثم في العرب، فقالوا إن النبي الجديد جمع عشيرته وأنذرهم ودعاهم الى دينه، وإنه طلب منهم شخصاً يكون له وزيراً وخليفةً من بعده، فأجابه ابن عمه الشاب الغلام فاتخذه وزيراً وخليفة!

* *

فهذه النصوص تدل على أن ولاية الأمر بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت مطروحةً ومنظورةً للناس، من أول بعثته الى آخر حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن كل الناس كانوا يعرفون أن مشروع النبوة ودعوة الناس اليها، هو مشروع تكوين دولة يرأسها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتحتاج الى خليفة له بعده. ولذلك كان ممثلو القبائل يحاولون أن يأخذوا منه وعداً بأن يكون لهم الأمر من بعده، ومنهم ممثلون لقبائل يمانية وعدنانية، وزعيم قبائل نجد المتنقلة فكيف يصدق عاقلٌ ما زعمه زعماء قريش، من أنهم لم يطرحوا مسألة الخلافة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى بصيغة سؤال عن الحكم الشرعي وواجب المسلمين من بعده!!

وكيف يقبل عاقل أنهم يروون عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديث عن مستقبل الأمة في كل الأمور، إلا في أمر الخلافة والإمام الشرعي من بعده؟!

* *

٢٣

٢٤

البحث الثاني

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبشر بالأئمة الإثني عشر من بعده

في اعتقادنا أن ولاية الأمر بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت أمراً مفروغاً عنه عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن الله تعالى أمره أن يبلغ الأمة ولاية عترته من بعده، كما هي سنته تعالى في أنبيائه، أن يورث عترتهم الكتاب والحكم والنبوة ..

ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضلهم، ولا نبوة بعده، بل إمامةٌ ووراثةُ الكتاب ..

وعترته وذريته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من ذريات جميع الأنبياء عليهم‌السلام وقد طهرهم الله تعالى واصطفاهم، وأورثهم الحكم والكتاب ( ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ).

وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طوال نبوته يبلغ ولاية عترته بالحكمة والتدريج، والتلويح والتصريح، لعلمه بحسد قريش لبني هاشم، وخططها لإبعادهم عن الحكم بعده، بل قد لمس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مراتٍ عديدة عنف قريش ضدهم، فأجابهم بغضب نبوي!

وكانت حجة الوداع فرصةً مناسبةً للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكي يبلغ الأمة ولاية الأمر لعترته رسمياً على أوسع نطاق، حيث لم يبق بعد تبليغ الفرائض والأحكام، واتساع الدولة الإسلامية، والمخاطر المحيطة بها، وإعلان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرب رحيله الى ربه إلا أن يرتب أمر الحكم من بعده.

٢٥

بل تدل النصوص ومنطق الأمور، على أن ذلك كان هو الهم الأكبر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع، وأن قريشاً كانت تعرف جيداً ماذا يريد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتعمل لمنع إعلان ذلك! وأنها زادت من فعاليتها في حجة الوداع لمنع تكريس ولاية علي والعترة عليهم‌السلام بشكل رسمي، وأخذ البيعة لهم من الأمة!

ولا يتسع هذا البحث للإستدلال على المفردات التي ذكرناها وكل مفردة منها عليها عدة أدلة بل نكتفي هنا باستطلاع خطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع فقد ذكرت المصادر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب خمس خطب غير خطبة الغدير، وكان من حق هذه الخطب النبوية أن تنقلها المصادر كاملةً غير منقوصة، لأن المستمعين كانوا عشرات الألوف ولكنك تراها مجزأةً مقتضبة، خاصة في الصحاح المعتمدة رسمياً عند الخلافة القرشية. قال في السيرة الحلبية: 3 / 333:

خطب صلى الله عليه وسلم في الحج خمس خطب: الأولى يوم السابع من ذي الحجة بمكة، والثانية يوم عرفة، والثالثة يوم النحر بمنى، والرابعة يوم القر بمنى، والخامسة يوم النفر الأول بمنى أيضاً. انتهى.

وقد راجعنا نصوص هذه الخطب من أكثر من مئة مصدر، فوجدنا فيها الغرائب والعجائب، من التعارض والتضارب، والمؤشرات والأدلة على تدخلات قريش ورواتها في نصوصها!!

وكل ذنب خطب الوداع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر المسلمين فيها بإطاعة أهل بيته من بعده، وحذرهم من الإختلاف بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، وأقام عليهم الحجة، كاملةً غير منقوصة!

ولكن رغم كل التعتيم القرشي، فقد وصلنا منها في المصادر القرشية نفسها، ما فيه بلاغٌ لمن أراد معرفة أوامر نبيه، وتأكيده على الإلتزام بقيادة عترته الطاهرين من بعده صلى الله عليه وعليهم.

٢٦

ونذكر منها فيما يلي: حديث الأئمة الإثني عشر ، حيث اتفق الجميع على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طرح قضيتهم في خطبه على المسلمين في حجة الوداع!

ثم نستعرض أهم ما تضمنته الخطب الشريفة من محاور، ومنها حديث الثقلين: الكتاب والعترة، وحديث: حوض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والصحابة الذين يمنعون من الورود عليه، ويؤمر بهم الى النار!

- روى البخاري في صحيحه: 8 / 127:

جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يكون اثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: كلهم من قريش!

- وفي صحيح مسلم: 6 / 3:

جابر بن سمرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يزال الإسلام عزيزاً الى اثني عشر خليفة، ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلهم من قريش!

ثم روى مسلم رواية ثانية نحوها قال فيها ( ثم تكلم بشيء لم أفهمه ).

ثم روى ثالثة، جاء فيها ( لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً الى اثني عشر خليفة، فقال كلمة صَمَّنِيها الناس! فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش ). انتهى.

ولم يصرح البخاري أن هذا الحديث جزءٌ من خطبة حجة الوداع في عرفات، وقد قلده غيره في ذلك، ولكن عدداً من المصادر نصت عليه!

ففي مسند أحمد: 5 / 93 و 96 و 99 ( عن جابر بن سمرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات، فقال ) وفي ص 87 ( يقول في حجة الوداع ). وفي ص 99 منه ( وقال المقدمي في حديثه: سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب بمنى ). انتهى.

وستعرف أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كرر هذا الموضوع المهم في عرفات، وفي منى عند الجمرة، وفي مسجد الخيف ثم أعلنه شرعياً وصريحاً في غدير خم!

* *

٢٧

فما هي قصة الأئمة الإثني عشر؟ ولماذا طرحها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أكبر تجمعٍ للمسلمين، وهو يودع أمته؟!

يجيبك البخاري: إن هؤلاء ليسوا أئمة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجب طاعتهم، بل هم أمراء صالحون سوف يكونون في أمته في زمن ما، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخبر أمته بما أخبره الله تعالى من أمرهم، وأنهم جميعاً من قريش، لا من بني هاشم وحدهم، بل من البضع وعشرين قبيلة التي تتكون منها قريش! وليس فيهم من الأنصار، ولا من قبائل العرب الأخرى، ولا من غير العرب وهذا كل ما في الأمر!!

وتسأل البخاري: لماذا أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمته في حجة الوداع في عرفات بهؤلاء الإثني عشر؟ وما هو الأمر العملي الذي يترتب على ذلك؟!

يجيبك البخاري: بأن الموضوع مجرد إخبار فقط، فقد أحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخبر أمته بذلك، لكي تأنس به فكأنه مجرد خبرٍ صحفي ليس فيه أي عنصرٍ عملي!!

والنتيجة: أن البخاري لم يروِ في صحيحه في الأئمة الإثني عشر إلا هذه الرواية اليتيمة المبهمة، التي لا يمكنك أن تفهمها أنت ولا قومك! بينما روى عن حيض أم المؤمنين عائشة في حجة الوداع روايات عديدة، واضحة مفهومة، تبين كيف احترمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأرسل معها من يساعدها على إحرامها وعمرتها!

* *

أما مسلم فكان أكرم من البخاري قليلاً، لأنه اختار روايةً يفهم منها أن هؤلاء الإثني عشر هم خلفاء يحكمون بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

ويفرح المسلم بحديث مسلم هذا، لأنه يعني أن الله تعالى قد حل مشكلة الحكم في الأمة بعد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهؤلاء أئمة معينون من الله تعالى على لسان نبيه، ويستمدون شرعيتهم من هذا التعيين، ولا يحتاج الأمر الى سقيفة واختلافات، ثم الى صراعٍ دموي على الحكم من صدر الإسلام الى يومنا هذا وملايين الضحايا وانقساماتٍ في الأمة أدت الى تراكم ضعفها الى أن انهارت خلافتها وخلفاؤها!

٢٨

ولكن رواية مسلم تقول: كلا لم تحل المشكلة، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر عنهم إخباراً مجملاً! ولم يخبر المسلمين عن هويتهم وأسمائهم؟ ولم يسأله أحدٌ من عشرات الألوف الذين أخبرهم بهذا الموضوع الخطير: من هم يا رسول الله؟!

وياليت أحدهم سأله فحددهم، حتى تسلم قريش لهم الأمر بلا منازع؟!

يقول مسلم كما قال البخاري: كلا، كلا إنهم فقط أناسٌ ربانيون، يعز الله بهم الإسلام وهم من قريش من قريش!!

* *

وهكذا لا يمكنك أن تصل من البخاري ومسلم الى نتيجة مقنعة في أمر هؤلاء الأئمة الإثني عشر فقد أقفل الشيخان عليك الأبواب، وقالا لك مقولة قريش: إن نبيك تحدث في حجة الوداع عن رائحة الأئمة الإثني عشر فقط، فشمها واسكت!

ولكنك لا تعدم الكشف عن عناصر مفيدة من مصادر قرشية أخرى، أقل مراعاة من البخاري ومسلم للسياسة وأهلها، أو أن ظروف أصحابها أحسن من ظروفهما!

فقد روى أحمد في مسنده: 5 / 92، عن نفس الراوي جابر السوائي قال: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكون ( بعدي ) ...

وروى في نفس الصفحة عن نفس الراوي جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون بعدي اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش. قال ثم رجع الى منزله، فأتته قريش فقالوا: ثم يكون ماذا؟ قال: ثم يكون الهرج. انتهى.

ففي الروايتين كلمة ( بعدي ) والمفهوم منها أنهم يكونون بعده مباشرة، والثانية تكشف عن اهتمام قريش بالموضوع، وسؤالهم عن هؤلاء الأئمة الربانيين، وأن القصة في المدينة، لا في حجة الوداع، فاحفظ ذلك لما يأتي!

وقد وردت كلمة بعدي، ومن بعدي، في عدد من روايات الحديث، منها ما رواه أحمد أيضاً في: 5 / 94 ، عن نفس الرواي ( يكون بعدي اثنا عشر أميراً، ثم لا أدري ما قال بعد ذلك، فسألت القوم )

٢٩

وفي: 5 / 99 و 108 عن السوائي أيضاً ( يكون من بعدي اثنا عشر أميراً، فتكلم فخفي علي، فسألت الذي يليني أو الى جنبي، فقال: كلهم من قريش ).

وفي سنن الترمذي: 3 / 340

( يكون من بعدي اثنا عشر أميراً، قال: ثم تكلم بشيءَ لم أفهمه، فسألت الذي يليني، فقال قال: كلهم من قريش ).

وفي تاريخ البخاري: 1 / 446 رقم 1426: عن جابر بن سمرة أيضاً أنه سمع النبي قال: يكون بعدي اثنا عشر خليفة انتهى.

وفي الصواعق المحرقة لابن حجر / 20 قال:

خرَّج أبو القاسم البغوي بسند حسن، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يكون خلفي اثنا عشر خليفة. انتهى.

* *

إذن، فقد طرح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع أمر الحكم من بعده، وأخبر عن ربه عز وجل بأن حكم الأمة الشرعي يكون لاثني عشر!

ولكن ذلك لا يحل المشكلة، بقدر ما يفتح باب الأسئلة على قريش ورواتها:

السؤال الأول: لماذا نرى أن روايات هذه القضية الضخمة تكاد تكون محصورة عندهم براوٍ واحد، هو جابر السوائي، الذي كان صغيراً في حجة الوداع، ولعله كان صبياً ابن عشر سنوات! ألم يسمعها غيره؟ ألم يروها غيره من كل الصحابة الذين كانوا حاضرين؟! أم أن غيره رواها ولكن رواية جابر فازت لأنها أحسن رواية ملائمة للخلافة القرشية، فاعتمدتها، وسمحت بتدوينها!

السؤال الثاني: كان المسلمون يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن صغير الأمور وكبيرها، حتى في أثناء خطبته، وهذه الروايات تقول إنه أخبرهم بأمر عقائدي، عملي، مصيري، مستقبلي، وتدعي أنه أبهمه إبهاماً، ثم لا تذكر أن أحداً من المسلمين سأله عن

٣٠

هؤلاء الأئمة الربانيين، وما هو واجب الأمة تجاههم؟!

وإذا كانت ( قريش ) قد ذهبت الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته في المدينة، كما يقول نفس الراوي، وطرقت عليه بابه لتسأله عما يكون بعد هؤلاء الإثني عشر، فهل يعقل أنها لم تسأله عنهم، وعما يكون في زمانهم!

وهل تعلم أن قريشاً في المدينة تعني عمر وأبا بكر فقط؟!

وهل يعقل أن أحداً من المسلمين في حجة الوداع، لم يسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم، ولا عما يكون قبلهم، وبعدهم، وعن واجب الأمة تجاههم؟!

السؤال الثالث: لماذا خفيت على الراوي الكلمة الحساسة، التي تحدد هوية الأئمة الإثني عشر، حتى سأل عنها الراوي القريبين منه؟

ثم رووها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة أيضاً، فخفيت نفس الكلمة!

ثم لماذا تؤكد مصادر الخلافة القرشية على نقل الكلمة المفقودة عن سمرة وعن عمر بن الخطاب فقط؟! الى آخر الأسئلة التي ترد على نص هذا الحديث، وتلحُّ على الباحث بالسؤال.

أليس من حق الباحث أن يشك في الأمر وأن يبحث بنفسه عن هذه كلمة السر المفقودة في أسواق الحديث والتاريخ؟!

سنحاول في الملاحظات والمسائل التالية، تسليط الضوء على هذا السرالمفقود!!

الأولى: هل أن أصل كلهم من قريش: كلهم من عترتي!

ما هو السبب في غياب الكلمة على الراوي؟ ومن الذي سأله عنها فشهد له بها؟

- جاء في مسند أحمد: 5 / 100 و 107 أن الراوي لم يفهم الكلمة، وخفيت عليه قال ( ثم قال كلمة لم أفهمها قلت لأبي ما قال؟ قال: قال كلهم من قريش )

- وفي مستدرك الحاكم: 3 / 617 ( وقال كلمة خفيت علي، وكان أبي أدنى اليه مجلساً مني فقلت ما قال؟ فقال كلهم من قريش ).

٣١

- وفي مسند أحمد: 5 / 90 و98 أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخفاها وخفض بها صوته، وهمس بها همساً! ( قال كلمة خفية لم أفهمها، قال قلت لأبي ما قال؟ قال قال كلهم من قريش ).

- وفي مستدرك الحاكم: 3 / 618 ( ثم قال كلمة وخفض بها صوته، فقلت لعمي وكان أمامي: ما قال يا عم؟ قال قال يا بني: كلهم من قريش ).

- وفي معجم الطبراني الكبير: 2 / 213 - 214 ح 1794

عن جابر بن سمرة عن النبي قال: يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً، لا يضرهم من خذلهم، ثم همس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلمة لم أسمعها، فقلت لأبي ما الكلمة التي همس بها النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال أبي: كلهم من قريش ).

بينما تقول روايات أخرى إن الذي ضيع الكلمة هم الناس، فالناس - المحرمون لربهم في عرفات، المودعون لنبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، المنتظرون لكل كلمة تصدر منه - صاروا كأنهم في سوق حراج، وصار فيهم مشاغبون يلغطون عند الكلمة الحساسة ليضيعوها على المؤمنين، فيضجون، ويكبرون، ويتكلمون، ويلغطون، ويقومون، ويقعدون!!

- ففي سنن أبي داود: 2 / 309 ( قال فكبر الناس، وضجوا، ثم قال كلمة خفية، قلت لأبي يا أبة ما قال؟ قال كلهم من قريش ). ومثله في مسند أحمد: 5 / 98.

- وفي مسند أحمد: 5 / 98 ( ثم قال كلمة أصمنيها الناس، فقلت لأبي ما قال؟ قال: كلهم من قريش ) وفي رواية مسلم المتقدمة ( صمنيها الناس ).

وفي ص 93 ( وضج الناس ).

وفي ص 99 ( فسمعته يقول: لن يزال هذا الأمر عزيزاً ظاهراً، حتى يملك اثنا عشر كلهم ثم لغط القوم وتكلموا، فلم أفهم قوله بعد كلهم، فقلت لأبي يا أبتاه ما بعد كلهم؟ قال: كلهم من قريش ).

وفي نفس الصفحة ( لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً، ينصرون على من ناواهم عليه الى اثني عشر خليفة. قال فجعل الناس يقومون ويقعدون )!

٣٢

أما الذين سألهم جابر بن سمرة عن الكلمة، فتقول أكثر الروايات إنه سأل أباه سمرة، فتكون الشهادة بتوسيع دائرة الأئمة من هاشم الى قريش، متوقفةً على وثاقة سمرة أيضاً! كما رأيت في روايتي البخاري ومسلم، وغيرهما.

ولكن في رواية أحمد: 5 / 92 ( بعدي اثنا عشر أميراً، ثم لا أدري ما قال بعد ذلك، فسألت القوم كلهم فقالوا: قال كلهم من قريش ). ونحوه في ص 90، وفي ص 108 ( يكون بعدي اثنا عشر أميراً، قال ثم تكلم فخفي على ما قال، قال فسألت بعض القوم، أو الذي يلي، ما قال؟ قال: كلهم من قريش ).

- وفي: 5 / 99 ( فخفي علي فسألت الذي يليني ) ونحوه في: 5 / 108

- وفي معجم الطبراني الكبير: 2 / 277 ح 2044 ، أن ابن سمرة قال إن القوم زعموا زعماً أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال إنهم من قريش! قال ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يكون اثنا عشر أميراً، ثم تكلم بشيء لم أسمعه، فزعم القوم أنه قال: كلهم من قريش ).

والواقع أنه يصعب على الإنسان أن يقبل خفاء أهم كلمة عن الأئمة الذين بشر بهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي مثل ذلك الجو الهادئ المنصت في عرفات! ثم لايسأل أحدٌ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الكلمة الخفية التي هي لب الموضوع!

هذا وقد روى ابن سمرة نفسه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخطب وهو راكبٌ على ناقته، وهذا يعني أنه كان حريصاً على أن يوصل صوته الى الجميع!

ففي مسند أحمد: 5 / 87 ( ثم خفي من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال وكان أبي أقرب الى راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني!

بل رووا أنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر شخصاً جهوري الصوت، فكان يلقي خطبته جملةً جملة، ويأمره أن ( يصرخ ) بها ليسمعها الناس!

- ففي مجمع الزوائد: 3 / 270

عن عبد الله بن الزبير قال: كان ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي وهو الذي كان يصرخ يوم عرفة تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له رسول الله صلى

٣٣

الله عليه وسلم: أصرخ - وكان صيِّتاً - أيها الناس أتدرون أي شهر هذا؟ فصرخ، فقالوا: نعم الشهر الحرام، قال فإن الله عز وجل قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم الى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا.

ثم قال: أصرخ: هل تدرون أي بلد هذا الخ.

وعن ابن عباس فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت ثدي ناقته، وكان رجلاً صيتاً فقال: أصرخ أيها الناس أتدرون أي شهر هذا الخ. رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات. انتهى.

والذي يزيد في الشك أنهم رووا الحديث عن نفس هذا الراوي بعدة صيغٍ غير متشابهة، ولكن الكلمة المفقودة في الجميع تبقى نفسها لا تتغير ..

بل رووا عنه أنه صدر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة، وليس في حجة الوداع في عرفات ولكن الكلمة المفقودة تبقى نفسها، وهي هوية الأئمة الإثني عشر!!

- ففي مسند أحمد: 5 / 97 و 107

عن جابر بن سمرة قال: جئت أنا وأبي الى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: لا يزال هذا الأمر صالحاً حتى يكون اثنا عشر أميراً، ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لابي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش. انتهى.

ثم رووه عنه، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب في المسجد النبوي في المدينة، وهو مسجد صغير محدود، ولكن الكلمة نفسها بقيت خفية على جابر بن سمرة حتى سأل عنها الخليفة القرشي عمر بن الخطاب فأخبره بها!

- ففي معجم الطبراني الكبير: 2 / 286 ح 2073 عن جابر بن سمرة ( قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يخطب على المنبر ويقول: إثنا عشر قيماً من قريش، لا يضرهم عداوة من عاداهم، قال فالتفتُّ خلفي، فإذا أنا بعمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه وأبي، في ناس، فأثبتوا لي الحديث كما سمعت ). انتهى.

- وقال عنه في مجمع الزوائد: 5 / 191 : رواه البزار عن جابر بن سمرة وحده، وزاد

٣٤

فيه: ثم رجع يعني النبي صلى الله عليه وسلم الى بيته، فأتيته فقلت: ثم يكون ماذا؟ قال: ثم يكون الهرج. ورجاله ثقات. انتهى.

فصار الحديث: اثني عشر قيماً والناس يعادونهم. وصار الذي أثبت له هوية هؤلاء القيمين على الأمة جماعة فيهم عمر وأبوه! فقد تغيرت صيغة الحديث ومكانه والشخص الذي سأله عنه الكلمة المفقودة، لكنها ما زالت نفسها مفقودة!!

والأعجب من الجميع أنهم رووا الحديث عن راوٍ آخر، هو أبو جحيفة، فخفيت عليه نفس الكلمة أيضاً!! ولكنه سأل عنها عمه، وليس أباه!

- ففي مستدرك الحاكم: 3 / 618

عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: كنت مع عمي عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: لا يزال أمر أمتي صالحاً حتى يمضي اثنا عشر خليفة، ثم قال كلمة وخفض بها صوته، فقلت لعمي وكان أمامي: ماقال يا عم؟ قال قال يابني: كلهم من قريش. انتهى. وقال عنه في مجمع الزوائد: 5 / 190: رواه الطبراني في الأوسط والكبير، والبزار، ورجال الطبراني رجال الصحيح. انتهى.

نجد أنفسنا هنا أمام ظاهرة لا مثيل لها في كل أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !!

مما يدل على أن أمر هذا الحديث مهمٌّ جداً، وأن نصه وظروفه ليست طبيعية وأن في الأمر سراً، يكمن في كلمة قريش!!

ويرى الباحث من حقه أن يحتمل أن الراوي الأصلي للحديث هو عمر، وهو الذي صححه لهذا الصبي جابر بن سمرة وأثبته له، وأمره أن يرويه هكذا!

فقد روى هذا الحديث الخزاز القمي الرازي في كتابه كفاية الأثر / 90، عن عمر وحده، بدون ابن سمرة وأبيه، وبدون أبي جحيفة وعمه، قال:

حدثنا أبو المفضل محمد بن عبد الله قال: حدثنا الحسن بن علي زكريا العدوي، عن شيث بن غرقده العدوي قال: حدثنا أبو بكر محمد بن العلا قال: حدثنا إسماعيل بن صبيح اليشكري، عن شريك بن عبد الله، عن المفضل بن حصين، عن

٣٥

عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: الأئمة بعدي اثنا عشر، ثم أخفى صوته فسمعته يقول: كلهم من قريش.

قال أبو المفضل: هذا غريب لا أعرفه إلا عن الحسن بن علي بن زكريا البصري بهذا الإسناد، وكتبت عنه ببجارا يوم الأربعاء، وكان يوم العاشور، وكان من أصحاب الحديث إلا أنه كان ثقة في الحديث. انتهى.

الثانية: لا يصح الوعد الالهي بقيادة مجهولة!

إن الوعد النبوي بالإثني عشر من بعده، وعدٌ إلهيٌّ من لدن حكيمٍ خبير بأئمة بعد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هي سنته تعالى في الأمم السابقة، ورحمةٌ بهذه الأمة لحل أصعب مشكلة تواجهها الأمم بعد أنبيائها على الإطلاق!

فهل تقبل عقولنا أن الله تعالى قد أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يدل أمته على قادة مجهولين؟!

نحن نرى أن الله تعالى قد وعد الأمم السابقة على لسان عيسى عليه‌السلام برسولٍ يأتي من بعده بأكثر من خمس مئة سنة، ومع ذلك سماه باسمه فقال ( يأتي من بعدي اسمه أحمد ) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكيف يعقل أن يعد خاتمة الأمم على لسان نبيها بقادتها الربانيين ( القيمين على الأمة ) ثم لا يسمي أولهم على الأقل، ولا يسمي أسرتهم، بل يكتفي بالقول إنهم من بضع وعشرين قبيلة متنازعة على الأمور الصغيرة التي هي أقل من السلطة ورئاسة الدولة بآلاف المرات؟!

إن التصديق بذلك يعني نسبة عدم الحكمة الى الله عز وجل، والى ساحة رسوله الحكيم المنزه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! وهو أمرٌ لا يجرأ عليه مسلم، بل حتى مستشرقٌ منصف!!

نعم قد يكون من المصلحة في بعض الإخبارات النبوية أن يبدأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإلقائها عامة تثير السؤال، حتى إذا سأله الناس عنها بيءَنها لهم، ليكون بيانها بعد سؤالهم أوقع لها في نفوسهم ولكن أين أسئلة المسلمين عن هؤلاء الأئمة، وأجوبة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

إنك لا تجدها إلا في مصادر أحاديث الشيعة!

٣٦

الثالثة: من قريش، لكن من عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

لو غضينا النظر عن كل االإشكالات على الحديث، وقبلنا أنه صدر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصيغته التي صححوها في مصادرهم فهو إذن يقول: إن قادة الأمة الخاتمة اثنا عشر ربانياً قيماً على الأمة، وإنهم من قريش.

ويأتي هنا السؤال: من أي قريش اختارهم الله تعالى؟

إن بطون قريش أو قبائلها أكثر من عشرين قبيلة وقد ثبت في صحاحهم أن الله تعالى اختار قريشاً من العرب، واختار هاشماً من قريش فهل يعقل بعد أن اختار الله تعالى معدن هاشم على غيره، أن يختار الأئمة الإثني عشر الوارثين لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القيمين على أمته، من معدن أقل فضلاً ودرجةً من بني هاشم؟!!

- ففي صحيح مسلم: 7 / 58

عن واثلة بن الأسقع: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم. انتهى.

ورواه الترمذي: 5 / 245 ( هذا حديث حسن صحيح غريب ) وقال عنه في ص 243 ( هذا حديث حسن صحيح ) ثم روى عدة أحاديث بمضمونه، منها:

عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت يا رسول الله إن قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم، فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة من الأرض ( والكبوة المزبلة! )

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم، وخير الفريقين، ثم خير القبائل فجعلني من خير القبيلة، ثم خير البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفساً، وخيرهم بيتاً. هذا حديث حسن. وروى بعده نحوه بسند آخر، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. انتهى.

- وفي صحيح البخاري: 4 / 138

باب قول الله تعالى: واذ كر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً. وإذ

٣٧

قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة. إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين، الى قوله يرزق من يشاء بغير حساب. قال ابن عباس: وآل عمران: المؤمنون من آل ابراهيم، وآل عمران، وآل ياسين، وآل محمد، صلى الله عليه وسلم.

- وفي نهج البلاغة: 1 / 82: والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حِيزِنا، فكانوا كما قال الأول:

أدَمْتَ لعمري شُرْبَكَ المحضَ صابحاً

وأكلكَ بالزُّبد المقشَّرةَ البُجْرا

ونحن وهبناك العلاء ولم تكن

علياً، وحُطْنَا حولك الجرد والسمرا

- وفي صحيح البخاري: 5 / 6

عن قيس بن عبادة عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة!! انتهى.

ويطول لكلام لو أردنا أن نستعرض ما ورد من القرآن والسنة في اختيار الله تعالى لبني هاشم، واصطفائهم، وتفضيلهم، وحقهم على الأمة. وكل ذلك بسبب أن عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم، لأنهم جوهرة معدن هاشم، بل جدهم وهم جوهرة كل بني آدم.

الرابعة: أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تفسر حديث الإثني عشر

من المتفق عليه بين المسلمين أن كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنزلة القرآن يفسر بعضه بعضاً. بل ذلك أصلٌ عقلائي عند كل الأمم في تفسير نصوص أنبيائها، فإن أيءَ أمةٍ تجد نصاً عن نبيها بالبشارة باثني عشر إماماً من بعده، ولا تعرفهم من هم، تنظر في نصوصه وأقواله وأفعاله، لكي تعرف بواسطتها هؤلاء القادة المبشر بهم على لسانه!

وإذا نظرنا الى ما صدر عن نبينا الذي لا ينطق عن الهوى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق عترته: علي وفاطمة والحسن والحسين وذريتهم عليهم‌السلام ، مما اتفق عليه المسلمون، وحكموا بصحته لا يبقى عندنا شك في أنه يقصد هؤلاء الذين مدحهم هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مناسبات

٣٨

عديدة، وبين للأمة أن الله تعالى مدحهم في آياته، وطهرهم من الرجس تطهيراً، وأوجب على المسلمين مودتهم، وأن يصلوا عليهم معه في صلواتهم، وحرم عليهم الصدقة، وجعل لهم الخمس في ميزانية الدولة، وجعلهم وصيته في أمته، وسماهم مع كتاب الله الثقلين ....

ولا يتسع المقام لبسط الكلام فيه، بل تكفي الإشارة الى ما هو إن المتفق عليه بين المسلمين مما صدر في حقهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المديح والتعظيم، والتحذيرهم من مخالفتهم وظلمهم فيه عبرةٌ لمن كان له قلب، وكفايةٌ لمن ألقى السمع، وشهادةٌ لمن أراد الحجة من الله تعالى، والشهادة من رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

الخامسة: اثنا عشر إماماً واثنا عشر شهراً

ذكرت روايات الخطب الشريفة في حجة الوداع، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر الأئمة الإثني عشر، وذكر استدارة الزمن كأول ما خلق الله الأرض، وقرأ آية: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً ففي صحيح البخاري: 5 / 126:

عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. انتهى. ورواه أيضاً في: 5 / 204، و: 6 / 235، وكذا أبو داود في: 1 / 435، وأحمد في: 5 / 37

- ورواه في مجمع الزوائد: 3 / 265 ، بصيغة أقرب الى أسلوب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من رواية البخاري، جاء فيها ( ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، ثم قرأ: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم، ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) انتهى.

وقد ذكر المفسرون والشراح السنيون أن قصده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلغاء النسيء الذي ابتدعته العرب للأشهر الحرم، وأن وضع التوقيت والزمن قد رجع الى هيئته الأولى، فلا نسيء

٣٩

بعد اليوم ولكنه تفسير غير مقنع، فإن نسيء العرب لم يكن مؤثراً في الزمن والفلك، حتى يرجع الزمن الى حالته الأولى بإلغاء النسيء!

كما أني لم أجد دليلاً على ارتباط استدارة الزمان بالنسيء في كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يبعد أن تكون استدارة الزمان موضوعاً مستقلاً عن النسيء.

وبما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام توديع أمته، وبيان مرحلة مابعده من الهدى والضلال، والعقائد والأحكام، وطريق الجنة والنار فقد يقصد بإخباره باستدارة الزمن: أن مرحلةً جديدة بدأت من ذلك اليوم فما بعده، من قوانين الهداية والإضلال الالهي، ومعالم ذلك هم الأئمة الإثنا عشر عليهم‌السلام ، الذين ينسجم وجودهم مع نظام الإثني عشر شهراً في تكوين السماوات والأرض.

ويؤيد ذلك: قداسة عدد الإثني عشر في القرآن، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب من الأنصار في أول بيعتهم له أن يختاروا منهم اثني عشر نقيباً ..

وأنه بشر الأمة بالأئمة الإثني عشر من بعده ..

ويؤيده: أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر الأمة بوجود أئمة مضلين من بعده، وشدد على التحذير منهم، وبين أن أخطرهم الإثنا عشر منافقاً من أصحابه!

فمقابل كل إمام هدىً إمامُ ضلالٍ، كما أن مقابل كل نبيٍّ عدوٌّ من المجرمين، يعمل لإضلال الناس! قال الله تعالى:

ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا .

يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا .

لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا .

وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا .

وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيرا . الفرقان 27 - 31

- وفي صحيح مسلم: 8 / 122 - 123:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: في أصحابي اثنا عشر منافقاً، فيهم ثمانية لا

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373