فرائد الاصول الجزء ١

فرائد الاصول0%

فرائد الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 406

فرائد الاصول

مؤلف: الشيخ مرتضى الأنصاري
تصنيف:

الصفحات: 406
المشاهدات: 43299
تحميل: 8368


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 43299 / تحميل: 8368
الحجم الحجم الحجم
فرائد الاصول

فرائد الاصول الجزء 1

مؤلف:
العربية

عنه عند الشارع، فإنه يجوز ترك مراعاته، لان المظنون تدارك ضرر مخالفته لاجل ترك مظنون الوجوب أو فعل مظنون الحرمة، فافهم.

إذا عرفت ذلك، فنقول: إن أصل البراء‌ة والاستصحاب إن قام عليهما الدليل القطعي، بحيث يدل على وجوب الرجوع إليهما في صورة عدم العلم ولو مع وجود الظن الغير المعتبر، فلا إشكال في عدم وجوب مراعاة ظن الضرر، وفي أنه لا يجب الترك أو الفعل بمجرد ظن الوجوب او الحرمة، لما عرفت من أن ترخيص الشارع الحكيم للاقدام على ما فيه ظن الضرر لا يكون إلا لمصلحة يتدارك بها ذلك الضرر المظنون على تقدير الثبوت واقعا.

وإن منعنا عن قيام الدليل القطعي على الاصول، وقلنا: إن الدليل القطعي لم يثبت على إعتبار الاستصحاب، خصوصا في الاحكام الشرعية، وخصوصا مع الظن بالخلاف.

وكذلك الدليل لم يثبت على الرجوع إلى البراء‌ه حتى مع الظن بالتكليف، لان العمدة في دليل البراء‌ة الاجماع والعقل المختصان بصورة عدم الظن بالتكليف، فنقول: لا أقل من ثبوت بعض الاخبار الظنية على الاستصحاب والبراء‌ة عند عدم العلم الشامل لصورة الظن، فيحصل الظن بترخيص الشارع لنا في ترك مراعاة ظن الضرر، وهذا القد يكفي في عدم الظن بالضرر.

وتوهم: (ان تلك الاخبار الظنية لا تعاض العقل المستقل بدفع الضرر المظنون)، مدفوع بأن الفرض ان الشارع لا يحكم بجواز الاقتحام في مظان الضرر إلا عن مصلحة يتدارك بها الضرر المظنون على تقدير ثبوته، فحكم الشارع ليس مخالفا للعقل.فلا وجه لاطراح الاخبار الظنية الدالة على هذا الحكم الغير المنافي لحكم العقل.ثم إن مفاد هذا الدليل هو وجوب العمل بالظن إذا طابق الاحتياط لا من حيث هو.

وحينئذ فإذا كان الظن مخالفا للاحتياط الواجب، كما في صورة الشك في المكلف به، فلا وجه للعمل بالظن حينئذ.

ودعوى الاجماع المركب وعدم القول بالفصل واضحة الفساد، ضرورة أن العمل في الصورة الاولى لم يكن بالظن من حيث هو، بل من حيث كونه إحتياطا.وهذه الحيثية نافية للعمل بالظن في الصورة الثانية.فحاصل ذلك العمل بالاحتياط كلية وعدم العلم بالظن رأسا.

١٨١

الثاني أنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوخح على الراجح، وهو قبيح.

وربما يجاب عنه: بمنع قبح ترجيح المرجوح على الراجح، إذ المرجوح قد يوافق الاحتياط، فالاخذ به حسن عقلا.

وفيه: أن المرجوح المطابق للاحتياط ليس العمل به ترجيحا للمرجوح، بل هو جمع في العمل بين الراجح والمرجوح.

مثلا، إذا ظن عدم وجوب شئ وكان وجوبه مرجوحا، فحينئذ الاتيان به من باب الاحتياط ليس طرحا للراجح في العمل، لان الاتيان لا ينافي عدم الوجوب.وإن أريد الاتيان بقصد الوجوب المنافي لعدم الوجوب.

ففيه: أن الاتيان على هذا الوجه مخالف للاحتياط، فإن الاحتياط هو الاتيان لاحتمال الوجوب، لا بقصده.

وقد يجاب أيضا: بأن ذلك فرع وجوب الترجيح، بمعنى أن الامر إذا دار بين ترجيح المرجوح وترجيح الراجح، كان الاول قبيحا.وأما إذا لم يثبت وجوب الترجيح فلا مرجح للمرجوح ولا للراجح.

وفيه: أن التوقف عن ترجيح الراجح ايضا قبيح، كترجيح المرجوح فتأمل جدا فالاولى: الجواب، أولا، بالنقض بكثير من الظنون المحرمة العمل بالاجماع أو الضرورة.

وثانيا بالحل.

وتوضيحه: تسليم القبح إذا كان التكليف وغرض الشارع متعلقا بالواقع ولم يمكن الاحتياط.

فإن العقل قاطع بأن الغرض إذا تعلق بالذهاب إلى بغداد وتردد الامر بين طريقين، أحدهما مظنون الايصال، والاخر موهومه.

فترجيح الموهوم قبيح، لانه نقض للغرض.

وأما إذا لم يتعلق التكليف بالواقع أو تعلق به مع إمكان الاحتياط، فلا يجب الاخذ بالراجح، بل اللازم في الاول هو الاخذ بمقتضى البراء‌ة وفي الثاني الاخذ بمقتضى الاحتياط.

فإثبات القبح موقوف على إبطال الرجوع إلى البراء‌ة في موارد الظن وعدم وجوب الاحتياط فيهما.

ومعلوم أن العقل قاض حينئذ بقبح ترجيح المرجوح، بل ترك ترجيح الراجح على المرجوح فلا بد من إرجاع هذا الدليل إلى دليل الانسداد الاتي المركب من بقاء التكليف وعدم جواز الرجوع إلى البراء‌ة وعدم لزوم الاحتياط، وغير ذلك من المقدمات التي لا يتردد الامر بين الاخذ بالراجح والاخذ بالمرجوح إلا بعد إبطالها.

١٨٢

الثالث: ما حكاه الاستاد عن أستاده السيد الطباطبائي، قدس سرهما من أنه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات، ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالاتيان بكل ما يحتمل الوجوب ولو موهوما، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك.

ولكن مقتضى قاعدة نفى العسر والحرج عدم وجوب ذلك كله، لانه عسر أكيد وحرج شديد.

فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وإنتفاء الحرج العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات، لان الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات و الموهومات باطل إجماعا.

وفيه: أنه راجع إلى دليل الانسداد الاتي، إذ ما من مقدمة من مقدمات ذلك الدليل إلا و يحتاج إليها في إتمام هذا الدليل، فراجع وتأمل حتى يظهر لك حقيقة الحال.

مع أن العمل بالاحتياط في المشكوكات أيضا كالمضنونات لا يلزم منه حرج قطعا، لقلة موارد الشك المتساوي الطرفى، كما لا يخفى، فيقتصر في ترك الاحتياط على الموهومات فقط.

ودعوى: (أن كل من قال بعدم الاحتياط في الموهومات قال بعدمه أيضا في المشكوكات)، في غاية الضعف والسقوط.

١٨٣

الدليل الرابع هو الدليل المعروف بدليل الانسداد وهو مركب من مقدمات المقدمة الاولى: إنسداد باب العلم والظن الخاص في معظم المسائل الفقهية.

الثانية: أنه لا يجوز لنا إهمال الاحكام المشتبهة وترك التعرض لامتثالها، بنحو من أنحاء إمتثال الجاهل العاجز عن العلم التفصيلي، بأن يقتصر في الاطاعة على التكاليف القليلة المعلومة تفصيلا، أو بالظن الخاص القائم مقام العلم بنص الشارع، ونجعل أنفسنا في تلك الموارد ممن لا حكم عليه فيها كالاطفال والبهائم، أو ممن حكمه فيها الرجوع إلى أصالة العدم.

الثالثة: أنه إذا وجب التعرض لامتثالها فليس إمتثالها بالطرق الشرعيه المقررة للجاهل، من الاخذ بالاحتياط الموجب للعلم الاجمالي بالامتثال أو الاخذ في كل مسألة بالاصل المتبع شرعا في نفس تلك المسألة مع قطع النظر عن ملاحظتها منضمة إلى غيرها من المجهولات، أو الاخذ بفتوى العالم بتلك المسألة وتقليده فيها.

الرابعة: أنه إذا بطل الرجوع في الامتثال إلى الطرق الشرعية المذكورة، لعدم الوجوب في بعضها وعدم الجواز في الاخر، والمفروض عدم سقوط الامتثال بمقتضى المقدمة الثانية، فلا تعين بحكم العقل المستقل يجوز بحكم العقل الرجوع الامتثال الضنى والموافقة الضنيه للواقع ولايجوز العدول عنه إلى الموافقة الوهمية، بأن يؤخذ بالطرف المرجوح، ولا إلى الامتثال الاحتمالي والموافقة الشكية، بأن يعتمد على أحد طرفي المسألة من دون تحصيل الظن فيها أو يعتمد على ما يحتمل كونه طريقا شرعيا للامتثال من دون إفادته للظن أصلا.

فيحصل من جميع تلك المقدمات وجوب الامتثال الظنى والرجوع إلى الظن.

١٨٤

المقدمة الاولى: وهي إنسداد باب العلم والظن الخاص في معظم المسائل الفقهية

فهي بالنسبة إلى إنسداد باب العلم في الاغلب غير محتاجة إلى الاثبات، ضرورة قلة ما يوجب العلم التفصيلي بالمسألة على وجه لا يحتاج العمل فيها إلى إعمال أمارة غير علمية.

وأما بالنسبة إلى إنسداد باب الظن الخاص، فهي مبتنية على أن لا يثبت من الادلة المتقدمة لحجية الخبر الواحد حجية مقدار منه يفي - بضميمة الادلة العلمية وباقي الظنون الخاصة - بإثبات معظم الاحكام الشرعية بحيث لا يبقى مانع عن الرجوع في المسائل الخالية عن الخبر وأخواته من الظنون الخاصة إلى ما يقتضيه الاصل في تلك الواقعة من البراء‌ة أو الاستصحاب أو الاحتياط أو التخيير.

فتسليم هذه المقدمة ومنعها لا يظهر إلا بعد التأمل التام وبذل الجهد في النظر فيما تقدم من أدلة حجية الخبر وأنه هل يثبت بها حجية مقدار واف من الخبر أم لا.

وهذه هي عمدة مقدمات دليل الانسداد، بل الظاهر المصرح به في كلمات بعض أن ثبوت هذه المقدمة يكفي في حجية الظن المطلق، للاجماع عليه على تقدير إنسداد باب العلم والظن الخاص.

ولذا لم يذكر صاحب المعالم وصاحب الوافية في إثبات حجية الظن الخبري غير إنسداد باب العلم.

وأما الاحتمالات الاتية في ضمن المقدمات الاتية، من الرجوع بعد إنسداد باب العلم والظن الخاص إلى شئ آخر غير الظن، فإنما هي أمور احتملها بعض المدققين من متأخري المتأخرين.

أولهم، فيما أعلم، المحقق جمال الدين الخوانساري، حيث أورد على دليل الانسداد بإحتمال الرجوع إلى البراء‌ة وإحتمال الرجوع إلى الاحتياط.

وزاد عليها بعض من تأخر إحتمالات أخر.

١٨٥

المقدمة الثانية: وعي عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة على كثرتها

وترك التعرض لامتثالها بنحو من نحاء

فيدل عليه وجوه:

الاول: الاجماع القطعي على أن المرجع على تقدير إنسداد باب العلم وعدم ثبوت الدليل على حجية أخبار الآحاد بالخصوص ليس هي البراء‌ة وإجراء أصالة العدم في كل حكم، بل لا بد من التعرض لامتثال الاحكام المجهولة بوجه ما.

وهذا الحم وإن لم يصرح به أحد من قدمائنا بل المتأخرين في هذا المقام، إلا أنه معلوم للمتتبع في طريقة الاصحاب بل علماء الاسلام طرا.

فرب مسألة غير معنونة يعلم إتفاقهم فيها من ملاحظة كلماتهم في نظائرها.

أترى أن علماء‌نا العاملين بالاخبار التي بأيدينا لو لم يقم عندهم دليل خاص على إعتبارها كانوا يطرحونها ويستريحون في مواردها إلى أصالة العدم، حاشا ثم حاشا.

مع أنهم كثيرا ما يذكرون أن الظن يقوم مقام العلم في الشرعيات عند تعذر العلم.

وقد حكي عن السيد في بعض كلماته الاعتراف بالعمل بالظن عند تعذر العلم، بل قد ادعي في المختلف في باب قضاء الفوائت الاجماع على ذلك.

الثاني: أن الرجوع في جميع تلك الوقائع إلى نفي الحكم مستلزم للمخالفة القطعية الكثيرة، المعبر عنها في لسان جمع من مشايخنا بالخروج عن الدين، بمعنى أن المقتصر على التدين بالمعلومات التارك للاحكام المجهولة جاعلا لها كالمعدومة يكاد يعد خارجا عن الدين، لقلة المعلومات التي أخذ بها و كثرة المجهولات التي أعرض عنها.

وهذا أمر يقطع ببطلانه كل أحد بعد الالتفات إلى كثرة المجهولات، كما يقطع ببطلان الرجوع

١٨٦

إلى نفي الحكم وعدم الالتزام بحكم أصلا لو فرض - والعياذ بالله - إنسداد باب العلم والظن الخاص في جميع الاحكان وإنطماس هذا المقدار القليل من الاحكام المعلومة.

فيكشف بطلان الرجوع إلى البراء‌ة عن وجوب التعرض لامتثال تلك المجهولات ولو على غير وجه العلم والظن الخاص، لا أن يكون تعذر العلم والظن الخاص منشأ للحكم بإرتفاع التكليف بالمجهولات، كما توهمه بعض من تصدى للايراد على كل واحدة واحدة من مقدمات الانسداد.

نعم هذا إنما يستقيم في حكم واحد أو أحكام قليلة لم يوجد عليه دليل علمي أو ظني معتبر، كما هو دأب المجتهدين بعد تحصيل الادلة والامارات في أغلب الاحكام.

أما إذا صار معظم الفقه أو كله مجهولا، فلا يجوز أن يسلك فيه هذا المنهج.

والحاصل: أن طرح أكثر الاحكام الفرعية بنفسه محذور مفروغ عن بطلانه، كطرح جميع الاحكام لو فرضت مجهولة.وقد وقع ذلك تصريحا أو تلويحا في كلام جماعة من القدماء والمتأخرين.

منهم الصدوق في الفقيه، في باب الخلل الواقع في الصلاة، في ذيل أخبار سهو النبي: (فلو جاز رد هذه الاخبار الواقعة في هذا الباب لجاز رد جميع الاخبار، وفيه إبطال للدين والشريعة)، إنتهى.

ومنه السيد، قدس سره، حيث أورد على نفسه في المنع عن العمل بخبر الواحد وقال: (فإن قلت: إذا سددتم طريق العمل بأخبار الآحاد، فعلى أي شئ تعولون في الفقه كله؟ فأجاب، بما حاصله: دعوى إنفتاح باب العلم في الاحكام).

ولا يخفى: أنه لو جاز طرح الاحكام المجهولة ولم يكن شيئا منكرا، لم يكن وجه للايراد المذكور، إذ الفقه حينئذ ليس إلا عبارة عن الاحكام التي قام عليها الدليل والمرجح وكان فيه معول، ولم يكن وقع أيضا للجواب بدعوى الانفتاح الراجعة إلى دعوى عدم الحاجه إلى أخبار الآحاد.

بل المناسب حينئذ الجواب: بأن عدم المعول في أكثر المسائل لا يوجب فتح باب العمل بخبر الواحد.

والحاصل: أن ظاهر السؤال والجواب المذكورين التسالم والتصالح على أنه لو فرض الحاجة إلى اخبار الآحاد، لعدم المعول في أكثر الفقه، لزم العمل عليها وإن لم يقم عليه دليل بالخصوص، فإن

١٨٧

نفس الحاجة إليها هي أعظم دليل، بناء على عدم جواز طرح الاحكام.

ومن هنا ذكر السيد صدر الدين في شرح الوافية أن السيد قد إصطلح بهذا الكلام مع المتأخرين.

ومنهم الشيخ، قدس سره، في العدة حيث أنه، بعد دعوى الاجماع على حجية أخبار الآحاد، قال، ما حاصله: إنه لو إدعى أحد أن عمل الامامية بهذه الاخبار كان لاجل قرائن إنضمت إليها، كان معولا على ما يعلم من الضرورة خلافه.

ثم قال: ومن قال إني متى عدمت شيئا من القرائن حكمت بما كان يقتضيه العقل، يلزمه أن يترك أكثر الاخبار وأكثر الاحكام ولا يحكم فيها بشئ ورد الشرع به، وهذا حد يرغب أهل العلم عنه، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته، لانه يكون معولا على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه)، إنتهى.

ولعمري، إنك يكفي مثل هذا الكلام من الشيخ في قطع توهم جواز الرجوع إلى البراء‌ة عند فرض فقد العلم والظن الخاص في أكثر الاحكام.

ومنهم المحقق في المعتبر حيث قال - في مسألة خمس الغوص في رد من نفاه، مستدلا بأنه لو كان لنقل بالسنة: - قلنا: أما تواترا فممنوع، وإلا لبطل كثير من الاحكام)، إنتهى.

ومنهم العلامة في نهج المسترشدين، في مسألة إثبات عصمة الامام، حيث ذكر أنه، عليه السلام، لا بد أن يكون حافظا للاحكام.

واستدل بأن الكتاب والسنة لا يدلن على التفاصيل - إلى أن قال: - والبراء‌ة الاصليه ترفع جميع الاحكام.

ومنهم بعض أصحابنا في رسالته المعمولة في علم الكلام المسماة بعصر المنجود، حيث استدل على عصمة الامام، عليه السلام، بأنه حافظ للشريعة، لعدم إحاطة الكتاب والسنة به - إلى أن قال: - (والقياس باطل، والبراء‌ة الاصلية ترفع جميع الاحكام)، إنتهى.

ومنهم الفاضل المقداد في شرح الباب الحادي عشر، إلا أنه قال: (إن الرجوع إلى البراء‌ة الاصلية يرفع أكثر الاحكام).

والظاهر أن مراد العلامة وصاحب الرسالة، قدس سرهما، من جميع الاحكام ما عدا المستنبط

١٨٨

من الادلة العلمية، لان كثيرا من الاحكام ضرورية لا ترفع بالاصل ولا يشك فيها حتى يحتاج إلى الامام عليه السلام.

ومنهم المحقق الخوانساري، فيما حكى عنه السيد الصدر في شرح الوافية، من أن رجح الاكتفاء في تعديل الراوي بعدل، مستدلا، بعد مفهوم آية النبأ، بأن إعتبار التعدد يوجب خلو أكثر الاحكام عن الدليل.

ومنهم صاحب الوافية، حيث تقدم عنه الاستدلال على حجية أخبار الآحاد، بأنا نقطع مع طرح أخبار الآحاد - في مثل الصلاة والصوم والزكاة والحج والمتاجر والانكحة وغيرها - بخروج حقائق هذه الامور عن كونها هذه الامور.

وهذه عبارة أخرى عن الخروج عن الدين الذي عبر به جماعة من مشايخنا.

ومنهم بعض شراح الوسائل حيث استدل على حجية أخبار الآحاد بأنه لو لم يعمل بها بطل التكليف وبطلانه ظاهر.

ومنهم المحدث البحراني صاحب الحدائق - حيث ذكر في مسأله ثبوت الربا في الحنطة بالشعير خلاف الحلي في ذلك وقوله بكونهما جنسين وأن الاخبار الواردة في إتحادهما آحاد لا توجب علما ولا عملا - قال في رده: (إن الواجب عليه مع رد هذه الاخبار ونحوها من أخبار الشريعة هو الخروج عن هذا الدين إلى دين آخر)، إنتهى.

ومنهم العضدي، تبعا للحاجبي، حيث حكي عن بعضهم الاستدلال على حجية خبر الواحد بأنه لولاها لخلت أكثر الوقائع عن المدرك.ثم إنه وإن ذكر في الجواب عنه أنا نمنع الخلو عن المدرك، لان الاصل من المدارك.لكن هذا الجواب من العامة القائلين بعدم إتيان النبي، صلى الله عليه وآله، بأحكام جميع الوقائع.ولو كان المجيب من الامامية القائلين بإكمال الشريعة وبيان جميع الاحكام لم يجب بذلك.

وبالجملة، فالظاهر أن خلو أكثر الاحكام عن المدرك المستلزم للرجوع فيها إلى نفي الحكم وعدم الالتزام في معظم الفقه بحكم تكليفي كأنه أمر مفروغ البطلان.والغرض من جيمع ذلك الرد على بعض من تصدى لرد هذه المقدمه، ولم يأت بشئ عدا ما قرع سمع كل أحد من أدلة البراء‌ة وعدم ثبوت التكليف إلا بعد البيان، ولم يتفطن بأن مجراها في

١٨٩

غير ما نحن فيه، فهل يرى من نفسه إجراء‌ها ولو فرضنا، والعياذ بالله، إرتفاع العلم بجميع الاحكام.

بل نقول: لو فرضنا أن مقلدا دخل عليه وقت الصلاة ولم يعلم من الصلاة عدا ما تعلم من أبويه بظن الصحة إحتمال الفساد عنده إحتمالا ضعيفا ولم يتمكن من أزيد من ذلك، فهل يلتزم بسقوط التكليف عنه بالصلاة في هذه الحالة، أو أنه ياتي بها على حسب ظنه الحاصل من قول أبويه، والمفروض أن قول أبويه مما لم يدل عليه دليل شرعي.

فإذا لم تجد من نفسك الرخصة في تجويز ترك الصلاة لهذا الشخص، فكيف ترخص الجاهل بمعظم الاحكام في نفي الالتزام بشئ منها، عدا القليل المعلوم أو المظنون بالظن الخاص وترك ما عداه ولو كان مظنونا بظن لم يقم على إعتباره دليل خاص.

بل الانصاف: أنه لو فرض، والعياذ بالله، فقد الظن المطلق في معظم الاحكام، كان الواجب الرجوع إلى الامتثال الاحتمالي بالتزام ما لا يقطع معه بطرح الاحكام الواقعية.

الثالث: أنه لو سلمنا أن الرجوع إلى البراء‌ة لا يوجب شيئا مما ذكر من المحذور البديهي، وهو الخروج عن الدين، فنقول: إنه لا دليل على الرجوع إلى البراء‌ة من جهة العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرمات، فإن أدلتها مختصة بغير هذه الصورة، ونحن نعلم إجمالا أن في المظنونات واجبات كثيرة ومحرمات كثيرة.

والفرق بين هذا الوجه وسابقه: أن الوجه السابق كان مبنيا على لزوم المخالفة القطعية الكثيرة المعبر عنها بالخروج عن الدين وهو محذور مستقل، وإن قلنا بجواز العمل بالاصل في صورة لزوم مطلق المخالفة القطعية.

وهذا الوجه مبني على أن مطلق المخالفة القطعية غير جائز، وأصل البراء‌ة في مقابلها غير جار ما لم يصل المعلوم الاجمالي إلى حد الشبهة الغير المحصورة، وقد ثبت في مسألة البراء‌ة أن مجراها الشك في اصل التكليف، لا الشك في تعيينه مع القطع بثبوت أصله، كما في ما نحن فيه.

فإن قلت: إذا فرضنا أن ظن المجتهد أدى في جميع الوقائع إلى ما يوافق البراء‌ة، فما تصنع؟ قلت: أولا، إنه مستحيل، لان العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرمات الكثيرة في جملة الوقائع المشتبهة يمنع عن حصول الظن بعدم وجوب شي ء من الوقائع المحتملة للوجوب وعدم حرمة شئ من الوقائع المحتملة للتحريم، لان الظن بالسالبة الكلية يناقض العلم بالموجبة الجزئية، فالظن بأنه لا شخص من العلماء بفاسق، يناقض العلم إجمالا بأن بعض العلماء فاسق.

١٩٠

وثانيا، إنه على تقدير الامكان غير واقع، لان الاماراتالتي يحصل للمجتهد منها الظن في الوقائع لا تخلو عن الاخبار المتضمن كثير منها لاثبات التكليف وجوبا وتحريما.

فحصول الظن بعدم التكليف في جميع الوقائع أمر يعلم عادة بعدم وقوعه.

وثالثا، لو سلمنا وقوعه، لكن لا يجوز حنيئذ العمل بعدم التكليف في جميع الوقائع لاجل العلم الاجمالي المفروض، فلا بد حينئذ من التبعيض بين مراتب الظن بالقوة والضعف، فيعمل في موارد الظن الضعيف بنفي التكليف بمقتضى الاحتياط وفي موارد الظن القوى بنفي التكليف بمتقضى البراء‌ة.

ولو فرض التسوية في القوة والضعف كان الحكم كما لو لم يكن ظن في شئ من تلك الوقائع من التخيير إن لم يتيسر لهذا الشخص الاحتياط، وإن تيسر الاحتياط تعين الاحتياط في حق نفسه وإن لم يجز لغيره تقليده، ولكن الظاهر أن ذلك مجرد فرض غير واقع، لان الامارات كثير منها مثبتة للتكليف، فراجع كتب الاخبار.

ثم إنه قد يرد الرجوع إلى أصالة البراء‌ة تبعا لصاحب المعالم وشيخنا البهائي في الزبدة بأن إعتبارها من باب الظن، والظن منتف في مقابل الخبر ونحوه من أمارات الظن.

وفيه: منع كون البراء‌ة من باب الظن.كيف؟ ولو كانت كذلك لم يكن دليل على إعتبارها، بل هو من باب حكم العقل القطعي بقبح التكليف من دون بيان.

وذكر المحقق القمي، رحمه الله، في منع حكم العقل المذكور: (أن حكم العقل إما أن يريد به الحكم القطعي أو الظني.

فإن كان الاول، فدعوى كون مقتضى أصل البراء‌ة قطعيا أول الكلام، كما لا يخفى على من لاحظ أدلة المثبتين والنافين من العقل والنقل.سلمنا كونه قطعيا في الجمله، لكن المسلم إنما هو قبل ورود الشرع.

وأما بعد ورود الشرع، فالعلم بأن فيه أحكاما إجمالية على سبيل اليقين يثبطنا عن الحكم بالعدم قطعا، كما لا يخفى.

سلمنا ذلك، ولكن لا نسلم حصول القطع بعد ورود مثل الخبر الواحد الصحيح على خلافه.

وإن اراد الحكم الظني، سواء كان بسبب كونه بذاته مفيدا للظن أو من جهة إستصحاب الحالة السابقة، فهو أيضا ظن مستفاد من ظاهر الكتاب والاخبار التي لم يثبت حجيتها بالخصوص، مع أنه ممنوع بعد ورود الشرع، ثم بعد ورود الخبر

١٩١

الصحيح، إذا حصل من خبر الواحد ظن أقوى منه)، إنتهى كلامه، رفع مقامه.

وفيه: أن حكم العقل بقبح المواخذة من دون البيان حكم قطعي، لا إختصاص له بحال دون حال.

فلا وجه لتخصيصه بما قبل ورود الشرع، ولم يقع فيه خلاف بين العقلاء، وإنما ذهب من ذهب إلى وجوب الاحتياط لزعم نصب الشارع البيان على وجوب الاحتياط من الآيات والاخبار التي ذكروها.

وأما الخبر الصحيح فهو كغيره من الظنون إن قام دليل قطعي على إعتباره كان داخلا في البيان، ولا كلام في عدم جريان البراء‌ة معه، وإلا فوجوده كعدمه غير مؤثر في الحكم العقلي.

والحاصل: أنه لا ريب لاحد، فضلا عن أنه لا خلاف، في أنه على تقدير عدم بيان التكليف بالدليل العام أو الخاص، فالاصل البراء‌ة.وحينئذ فاللازم إقامة الدليل على كون الظن المقابل بيانا.

وبما ذكرنا ظهر صحة دعوى الاجماع على أصالة البراء‌ة في المقام، لانه إذا فرض عدم الدليل على إعتبار الظن المقابل صدق قطعا عدم البيان، فتجري البراء‌ة.

وظهر فساد دفع أصل البراء‌ة بأن المستند فيها إن كان هو الاجماع فهو مفقود في محل البحث، وإن كان هو العقل فمورده صورة عدم الدليل ولا نسلم عدم الدليل مع وجود الخبر.

وهذا الكلام، خصوصا الفقرة الاخيرة منه، مما يضحك الثكلى، فإن عدم ثبوت كون الخبر دليلا يكفي في تحقق مصداق القطع بعدم الدليل الذي هو مجرى البراء‌ة.

واعلم: أن الاعتراض على مقدمات دليل الانسداد بعدم إستلزامها للعمل بالظن لجواز الرجوع إلى البراء‌ه، وإن كان قد أشار إليه صاحب المعالم وصاحب الزبدة وأجابا عنه بما تقدم مع رده، من أن أصالة البراء‌ة لا يقاوم الظن الحاصل من خبر الواحد، إلا أن أول من شيد الاعتراض به وحرره، لا من باب الظن، هو المحقق المدقق جمال الدين، قدس سره، في حاشيته، حيث قال: (يرد على الدليل المذكور أن إنسداد باب العلم بالاحكام الشرعية غالبا لا يوجب جواز العمل بالظن حتى يتجه ما ذكروه، لجواز أن لا يجوز العمل بالظن.

فكل حكم حصل العلم به من ضرورة أو إجماع نحكم به، وما لم يحصل العلم به نحكم فيه بأصالة البراء‌ة، لا لكونها مفيدة للظن، ولا للاجماع على وجوب التمسك بها، بل لان العقل يحكم بأنه لا يثبت تكليف علينا إلا بالعلم به، أو بظن يقوم

١٩٢

على إعتباره دليل يفيد العلم.

ففيما إنتفى الامران فيه يحكم العقل ببراء‌ة الذمة عنه وعدم جواز العقاب على تركه، لا لان الاصل المذكور يفيد ظنا بمقتضاها حتى يعارض بالظن الحاصل من أخبار الاحاد بخلافها، بل لما ذكرنا من حكم العقل بعدم لزوم شئ علينا ما لم يحصل العلم لنا ولا يكفي الظن به.

ويؤكده ما ورد من النهي عن إتباع الظن.

وعلى هذا ففي ما لم يحصل العلم به على أحد الوجهين وكان لنا مندوحة عنه كغسل الجمعة فالخطب سهل، إذ نحكم بجواز تركه بمقتضى الاصل المذكور.

وأما فيما لم يكن مندوحة عنه، كالجهر بالتسمية والاخفات بها في الصلاة الاخفاتية التى قال بوجوب كل منهما قوم ولا يمكن لنا ترك التسمية، فلا محيص لنا عن الاتيان بأحدهما، فنحكم بالتخيير فيها، لثبوت وجوب أصل التسمية وعدم ثبوت وجوب الجهر والاخفات، فلا حرج لنا في شئ منهما، وعلى هذا فلا يتم الدليل المذكور، لانا لا نعمل بالظن أصلا)، إنتهى كلامه، رفع مقامه.

وقد عرفت أن المحقق القمي، قدس سره، أجاب عنه بما لا يسلم عن الفساد، فالحق رده بالوجوه الثلاثة المتقدمة.

ثم إن ما ذكره من التخلص عن العمل بالظن بالرجوع إلى البراء‌ة لا يجرى في جميع الفقه، إذ قد يتردد الامر بين كون المال لاحد شخصين.

كما إذا شك في صحة بيع المعاطاة فتبايع بها إثنان، فإنه لا مجرى هنا للبراء‌ة، لحرمة تصرف كل منهما على تقدير كون المبيع ملك صاحبه، وكذا في الثمن، ولا معنى للتخيير أيضا، لان كلا منهما يختار مصلحته، وتخيير الحاكم هنا لا دليل عليه، مع أن الكلام في حكم الواقعة، لا في علاج الخصومة، اللهم إلا أن يتمسك في أمثاله بأصالة عدم ترتب الاثر، بناء على أن أصالة العدم من الادلة الشرعية.

فلو أبدل في الايراد أصالة البراء‌ة بأصالة العدم كان أشمل.

ويمكن أن يكون هذا الاصل - يعني أصل الفساد وعدم التملك وأمثاله - داخلا في المستثنى، في قوله: (لا يثبت تكليف علينا إلا بالعلم أو بظن يقوم على إعتباره دليل يفيد العلم)، بناء على أن

١٩٣

أصل العدم من الظنون الخاصة التي قام على إعتبارها الاجماع والسيرة، إلا أن يمنع قيامهما على إعتباره عند إشتباه الحكم الشرعي مع وجود الظن على خلافه.

وإعتباره من باب الاستصحاب مع إبتنائه على حجية الاستصحاب في الحكم الشرعي رجوع إلى الظن العقلي أو الظن الحاصل من أخبار الآحاد الدالة على الاستصحاب.

الله إلا أن يدعى تواترها ولو إجمالا، بمعنى حصول العلم بصدور بعضها إجمالا، فيخرج عن خبر الآحاد، ولا يخلو عن تأمل.

وكيف كان ففي الاجوبة المتقدمة ولا أقل من الوجه الاخير غنى وكفاية إن شاء الله تعالى.

١٩٤

المقدمة الثالثة: في بيان بطلان وجوب تحصيل الامتثال

بالطرق المقررة للجاهل من الاحتياط

أو الرجوع في كل مسألة إلى ما يقتضيه الاصل في تلك المسألة أو الرجوع إلى فتوى العالم بالمسأله وتقليده فيها فنقول: إن كلا من هذه الامور الثلاثة وإن كان طريقا شرعيا في الجملة لامتثال الحكم المجهول، إلا أن منها ما لا يجب في المقام ومنها ما لا يجري.

أما الاحتياط، فهو وإن كان مقتضى الاصل والقاعدة العقلية والنقلية عند ثبوت العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرمات، إلا أنه في المقام - أعني صورة إنسداد باب العلم في معظم المسائل الفقهية - غير واجب لوجهين: أحدهما: الاجماع القطعي على عدم وجوبه في المقام، لا بمعنى أن أحدا من العلماء لم يلتزم بالاحتياط في كل الفقه أو جله، حتى يرد عليه: أن عدم إلتزامهم به إنما هو لوجود المدارك المعتبرة عندهم للاحكام، فلا يقاس عليهم من لا يجد مدركا في المسألة، بل بالمعنى الذي تقدم نظيره في الاجماع على عدم الرجوع إلى البراء‌ة.

وحاصله: دعوى الاجماع القطعي على المرجع في الشريعة - على تقدير إنسداد باب العلم في معظم الاحكام وعدم ثبوت حجية أخبار الآحاد رأسا أو بإستثناء قليل هو في جنب الباقي كالمعدوم - ليس هو الاحتياط في الدين والالتزام بفعل كل ما يحتمل الوجوب ولو موهوما، وترك كل ما يحتمل الحرمة كذلك.

وصدق هذا الدعوى مما يجده المنصف من نفسه بعد ملاحظة قلة الملومات، مضافا إلى ما يستفاد من أكثر كلمات العلماء المتقدمة في بطلان الرجوع إلى البراء‌ة وعدم التكليف في المحهولات، فإنها واضحة الدلالة في أن بطلان الاحتياط كالبراء‌ة مفروغ عنه، فراجع.

١٩٥

الثاني: لزوم العسر الشديد والحرج الاكيد في إلتزامه، لكثرة ما يحتمل موهوما وجوبه، خصوصا في أبواب الطهارة والصلاة.فمراعاته مما يوجب الحرج، والمثال لا يحتاج إليه.

فلو بنى العالم الخبير بموارد الاحتياط - فيما لم ينعقد عليه إجماع قطعي أو خبر متواتر - على الالتزام بالاحتياط في جميع أموره يوما وليلة، لوجد صدق ما ادعيناه.

هذا كله بالنسبة إلى نفس العمل بالاحتياط.

وأما تعليم المجتهد موارد الاحتياط لمقلده، وتعلم المقلد موارد الاحتياط الشخصية وعلاج تعارض الاحتياطات وترجيح الاحتياط الناشي عن الاحتمال القوي على الاحتياط الناشي عن الاحتمال الضعيف، فهو أمر مستغرق لاوقات المجتهد والمقلد، فيقع الناس من جهة تعليم هذه الموارد وتعلمها في حرج يحل بنظام معاشهم ومعادهم.

توضيح ذلك: أن الاحتياط في مسألة التطهير بالماء المستعمل في رفع الحدث الاكبر ترك التطهير به، لكن قد يعارضه في الموارد الشخصية إحتياطات أخر، بعضها اقوى منه وبعضها أضعف وبعضها مساو، فإنه قد يوجد ماء آخر للطهارة، وقد لا يوجد معه إلا التراب، وقد لا يوجد من مطلق الطهور غيره.

فإن الاحتياط في الاول هو الطهارة من ماء آخر لو لم يزاحمه الاحتياط من جهة أخرى كما إذا كان قد أصابه ما لم ينعقد الاجماع على طهارته، وفي الثاني هو الجميع بين الطهارة المائية والترابية إن لم يزاحمه ضيق الوقت المجمع عليه، وفي الثالث الطهارة من ذلك المستعمل والصلاة إن لم يزاحمه أمر آخر واجب أو محتمل الوجوب.

فكيف يسوغ للمجتهد أن يلقي إلى مقلده أن الاحتياط في ترك الطهارة بالماء المستعمل مع كون الاحتياط في كثير من الموارد إستعماله فقط أو الجمع بينه وبين غيره.وبالجملة.فتعليم موارد الاحتياط الشخصية وتعلمها، فضلا عن العمل بها، أمر يكاد يلحق بالمتعذر، ويظهر ذلك بالتأمل في الوقائع الاتفاقية.

فإن قلت: لا يجب على المقلد متابعة هذا الشخص الذي أدى نظره إلى إنسداد باب العلم في معظم المسائل ووجوب الاحتياط، بل يقلد غيره.

قلت، مع أن لنا أن نفرض انحصار المجتهد في هذا الشخص: إن كلامنا في حكم الله سبحانه بحسب إعتقاد هذا المجتهد الذي اعتقد إنسداد باب العلم، وعدم الدليل على ظن خاص يكتفى به في تحصيل غالب الاحكام، وإن من يدعي وجود الدليل على ذلك فإنما نشأ إعتقاده مما ينبغي الركون إليه، ويكون الركون إليه جازما في غير محله.

١٩٦

فالكلام في أن حكم الله تعالى على تقدير إنسداد باب العلم وعدم نصب الطريق الخاص لا يمكن أن يكون هو الاحتياط بالنسبة إلى العباد، للزوم الحرج البالغ حد إختلال النظام.

ولا يخفى أنه لا وجه لدفع هذا الكلام بأن العوام يقلدون مجتهدا غير هذا، قائلا بعدم إنسداد باب العلم أو بنصب الطرق الظنية الوافية بأغلب الاحكام، فلا يلزم عليهم حرج وضيق.

ثم إن هذا كله، مع كون المسألة في نفسها مما يمكن فيه الاحتياط ولو بتكرار العمل في العبادات.

أما مع عدم إمكان الاحتياط - كما لو دار المال بين صغيرين يحتاج كل واحد منهما إلى صرفه عليه في الحال، وكما في المرافعات - في مناص عن العمل بالظن.

* * *

وقد يورد على إبطال الاحتياط بلزوم الحرج بوجوه لا بأس بالاشارة إلى بعضها: منها: النقض بما لو أدى إجتهاد المجتهد وعمله بالظن إلى فتوى يوجب الحرج، كوجوب الترتيب بين الحاضره والفائتة لمن عليه فوائت كثيرة، أو وجوب الغسل على مريض أجنب متعمدا وإن أصابه من المرض ما أصابه، كما هو قول بعض أصحابنا.

وكذا لو فرضنا أداء ظن المجتهد إلى وجوب امور كثيرة يحصل العسر لمراعاتها.وبالجملة فلزوم الحرج من العمل بالقواعد لا يوجب الاعراض عنها.وفيما نحن فيه إذا إقتضى القاعدة رعاية الاحتياط لم يرفع اليد عنها، للزوم العسر.

والجواب: أن ما ذكر في غاية الفساد.

لان مرجعه إن كان منع نهوض أدلة نفي الحرج للحكومة على مقتضيات القواعد والعمومات وتخصيصها بغير صورة لزوم الحرج، فينبغي أن ينقل الكلام في منع ثبوت قاعدة الحرج.ولا يخفى أن منعه في غاية السقوط، لدلالة الاخبار المتواترة معنى عليه، مضافا إلى دلالة ظاهر الكتاب.

والحاصل: أن قاعدة نفي الحرج مما ثبتت بالادلة الثلاثة بل الاربعة في مثل مقام، لاستقلال العقل بقبح التكليف بما يوجب إختلال نظام أمر الملكف، نعم هي في غير ما يوجب الاختلال قاعدة ظنية تقبل الخروج عنها بالادلة الخاصة المحكمة وإن لم تكن قطعية.

وأما القواعد والعمومات المثبتة للتكليف فلا إشكال بل لا خلاف في حكومة أدلة نفي الحرج عليها.

فليس الوجه في التقديم كون النسبة بينهما عموما من وجه، فيرجع إلى أصالة البراء‌ة، كما قيل، أو إلى المرجحات الخارجية المعاضدة لقاعدة نفي الحرج، كما زعم، بل لان أدلة نفي العسر بمدلوها اللفظي حاكمة على العمومات المثبتة للتكليف، فهي بالذات مقدمة عليها.وهذا هو السر

١٩٧

في عدم ملاحظة الفقهاء المرجح الخارجي، بل يقدمونها من غير مرجح خارجي نعم جعل بعض متأخري المتأخرين عمل الفقهاء بها في الموارد من المرجحات لتلك القاعدة، زعما منه أن عملهم لمرجح توقيفي إطلعوا عليه واختفى علينا.ولم يشعر أن وجه التقديم كونها حاكمة على العمومات.

ومما يوضح ما ذكرنا - ويدعو إلى التأمل في وجه التقديم المذكور في محله، ويوجب الاعراض عما زعمه غير واحد من وقوع التعارض بينها وبين سائل العمومات فيجب الرجوع إلى الاصول أو المرجحات - هو ما رواه عبدالاعلى، مولى آل سام، في: من عثر، فانقطع ظفره، فجعل عليه مرارة، فكيف يصنع بالوضوء؟ فقال عليه السلام: (يعرف هذا وأشبهاهه من كتاب الله: ما جعل عليكم في الدين من حرج.

إمسح عليه).

فإن في إحالة الامام، عليه السلام، لحكم هذه الواقعة إلى عموم نفي الحرج - وبيان أنه ينبغي أن يعلم منه أن الحكم في هذه الواقعة المسح فوق المرارة، مع معارضة العموم المذكور بالعمومات الموجبة للمسح على البشرة - دلالة واضحة على حكومة عمومات نفي الحرج بأنفسها على العمومات المثبتة للتكاليف من غير حاجة إلى ملاحظة تعارض وترجيح في البين، فافهم.وإن كان مرجع ما ذكره إلى أن إلتزام العسر إذا دل عليه الدليل لا بأس به.

كما في ما ذكر من المثال والفرض.

ففيه: ما عرفت، من أنه لا يخصص تلك العمومات إلا ما يكون أخص منها معاضدا بما يوجب قوتها على تلك العمومات الكثيرة الواردة في الكتاب والسنة.

والمفروض أنه ليس في المقام إلا قاعدة الاحتياط التي قد رفع اليد لاجل العسر في موارد كثيرة: مثل الشبهة الغير المحصورة، وما لو علم أن عليه فوائت لا يحصى عددها، وغير ذلك.

بل أدلة نفي العسر بالنسبة إلى قاعدة الاحتياط من قبيل الدليل بالنسبة إلى الاصل.

فتقديمها عليها أوضح من تقديمها على العمومات الاجتهادية.

وأما ما ذكره - من فرض أداء ظن المجتهد إلى وجوب بعض ما يوجب العسر كالترتيب في الفوائت أو الغسل في المثالين - فظهر مما ذكرنا، من أن قاعدة نفي العسر في غير مورد الاختلال قابلة للتخصيص.

١٩٨

وأما ما ذكره من فرض أداء ظن المجتهد إلى وجوب امور يلزم من فعلها الحرج.

فيرد عليه:

أولا، منع إمكانه، لانا علمنا بأدلة نفي الحرج أن الواجبات الشرعية في الواقع ليست بحيث يوجب العسر على المكلف.ومع هذا العلم الاجمالي يمتنع الظن التفصيلي بوجوب أمور في الشريعة يوجب إرتكابها العسر، على مر نظيره في الايراد على دفع الرجوع إلى البراء‌ة.

وثانيا، سلمنا إمكان ذلك، إما لكون الظنون الحاصلة في السائل الفرعية كلها او بعضها ظنونا نوعية لا تنافي العلم الاجمالي بمخالفة البعض للواقع، أو بناء على أن المستفاد من أدلة نفي العسر ليس هو القطع ولا الظن الشخصي بانتفاء العسر، بل غايته الظن النوعي الحاصل من العمومات بذلك، فلا ينافي الظن الشخصي الفصيلي في المسائل الفرعية على الخلاف، وإما بناء على ما ربما يدعى من عدم التنافي بين الظنون التفصيلية الشخصية والعمل الاجمالي بخلافها.

كما في الظن الحاصل من الغلبة مع العلم الاجمالي بوجود الفرد النادر على الخلاف.

لكن نمنع وقوع ذلك، لان الظنون الحاصلة للمجتهد، بناء على مذهب الامامية من عدم إعتبار الظن القياسي وأشبهاهه، ظنون حاصلة من أمارات مضبوطة محصورة، كأقسام الخبر والشهرة والاستقراء والاجماع المنقول والاولوية الاعتبارية ونظائرها.

ومن المعلوم للمتتبع فيها أن مؤدياتها لا تفضي إلى الحرج، لكثرة ما يخالف الاحتياط فيها، كما لا يخفى على من لاحظها وسبرها سبرا إجماليا.

وثالثا، سلمنا إمكانه ووقوعه، لكن العمل بتلك الظنون لا يؤدي إلى إختلال النظام، حتى لا يمكن إخراجها من عمومات نفي العسر، فنعمل بها في مقابلة عمومات نفي العسر ونخصصها بها، لما عرفت من قبولها التخصيص في غير مورد الاختلال.وليس هذا كرا على ما فر منه، حيث أنا عملنا بالظن فرارا عن لزوم العسر.

فإذا أدى إليه فلا وجه للعمل به، لان العسر اللازم على تقدير طرح العمل بالظن كان بالغا حد إختلال النظام من جهة لزوم مراعاة الاحتمالات الموهومة والمشكوكة.

وأما الظنون المطابقة لمقتضى الاحتياط، فلا بد من العمل بها، سواء عملنا بالظن أم عملنا بالاحتياط.

وحينئذ ليس العسر اللازم من العمل بالظنون الاجتهادية في فرض المعترض من جهة العمل بالظن، بل من جهة مطابقته لمقتضى الاحتياط.

فلو عمل بالاحتياط وجب عليه أن يضيف إلى تلك الظنون الاحتمالات الموهومة والمشكوكة المطابقة للاحتياط.

ومنها: أنه يقع التعارض بين الادلة الدالة على حرمة العمل بالظن والعمومات النافية للحرج.

والاول أكثر، فيبقى أصالة الاحتياط مع العلم الاجمالي بالتكاليف الكثيرة سليمة عن المزاحم.

١٩٩

وفيه: ما لا يخفى، لما عرفت في تأسيس الاصل، من أن العمل بالظن ليس فيه إذا لم يكن بقصد التشريع والالتزام شرعا بمؤداه حرمة ذاتية.وإنما يحرم إذا أدى إلى مخالفة الواقع من وجوب أو تحريم.

فالنافي للعمل بالظن فيما نحن فيه ليس إلا قاعدة الاحتياط الآمرة بإحراز الاحتمالات الموهومة وترك العمل بالظنون المقابلة لتلك الاحتمالات، وقد فرضنا أن قاعدة الاحتياط ساقطة بأدلة نفي العسر.

ثم لو فرضنا ثبوت الحرمة الذاتية للعمل بالظن ولو لم يكن على جهة التشريع، لكن عرفت سابقا عدم معارضة عمومات نفي العسر بشئ من العمومات المثبتة للتكليف المتعسر.

ومنها: أن الادلة النافية للعسر إنما تنفي وجوده في الشريعة بحسب أصل الشرع اولا وبالذات، في تنافي وقوعه بسبب عارض لا يسند إلى الشارع، ولذا لو نذر المكلف أمورا عسرة، كالاخذ بالاحتياط في جميع الاحكام الغير المعلومة، وكصوم الدهر أو إحياء بعض الليالي أو المشي إلى الحج أو الزيارات، لم يمنع تعسرها عن إنعقاد نذرها، لان الالتزام بها إنما جاء من قبل المكلف، وكذا لو آجر نفسه لعمل شاق لم يمنع مشقته من صحة الاجارة ووجوب الوفاء بها.

وحينئذ فنقول: لا ريب أن وجوب الاحتياط بإتيان كل ما يحتمل الوجوب وترك كل ما يحتمل الحرمة، إنما هو من جهة إختفاء الاحكام الشرعية المسبب عن الكلفين المقصرين في محافظة الآثار الصادرة عن الشارع المبينة للاحكام والمميزة للحلال عن الحرام.

وهذا السبب وإن لم يكن عن فعل كل مكلف لعدم مدخلية أكثر المكلفين في ذلك، إلا أن التكليف بالعسر ليس قبيحا عقليا حتى يقبح أن يكلف به من لم يكن سببا له ويختص عدم قبحه بمن صار التعسر من سوء إختياره، بل هو أمر منفي بالادلة الشرعية السمعية.

وظاهرها أن المنفي هو جعل الاحكام الشرعية أولا وبالذات على وجه يوجب العسر على المكلف، فلا ينافي عروض التعسر لامتثالها من جهة تقصير المقصرين في ضبطها وحفظها عن الاختفاء مع كون ثواب الامتثال حينئذ أكثر بمراتب.

ألا ترى أن الاجتهاد الواجب على المكلفين، ولو كفاية، من الامور الشاقة جدا، خصوصا في هذه الازمنة.

فهل السبب فيه إلا تقصير المقصرين الموجبين لاختفاء آثار الشريعة، وهل يفرق في نفي العسر بين الوجوب الكفائي والعيني.

والجواب: عن هذا الوجه أن أدلة نفي العسر، سيما البالغ منه حد إختلال النظام والاضرار بأمور المعاش والمعاد، لا فرق فيها بين ما يكون بسبب يسند عرفا إلى الشارع.

وهو الذي أريد بقولهم عليهم السلام: (ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر)، وبين ما يكون مسندا إلى غيره.

ووجوب

٢٠٠