فرائد الاصول الجزء ١

فرائد الاصول0%

فرائد الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 406

فرائد الاصول

مؤلف: الشيخ مرتضى الأنصاري
تصنيف:

الصفحات: 406
المشاهدات: 43951
تحميل: 8498


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 43951 / تحميل: 8498
الحجم الحجم الحجم
فرائد الاصول

فرائد الاصول الجزء 1

مؤلف:
العربية

صوم الدهر على ناذره إذا كان فيه مشقة لا يتحمل عادة ممنوع.وكذا أمثالها من المشي إلى بيت الله جل ذكره، وإحياء الليالي، وغيرهما.

مع إمكان أن يقال بأن ما ألزمه المكلف على نفسه من المشاق خارج عن العمومات، لا ما كان السبب فيه نفس المكلف.

فيفرق بين الجنابة متعمدا فلا يجب الغسل مع المشقة، وبين إجارة النفس للمشاق، لان الحم في الاول تأسيس من الشارع وفي الثاني إمضاء لما ألزمه المكلف على نفسه.

فتأمل.

وأما الاجتهاد الواجب كفاية عند إنسداد باب العلم، فمع أنه شئ يقضي بوجوبه الادلة القطعية، فلا ينظر إلى تعسره وتيسره.فهو ليس أمرا حرجا، خصوصا بالنسبة إلى أهله، فإن مزاولة العلوم لاهلها ليس بأشق من أكثر المشاغل الصعبة التي يتحملها الناس لمعاشهم.وكيف كان فلا يقاس عليه.

وأما عمل العباد بالاحتياط ومراقبة ما هو أحوط الامرين أو الامور في الوقائع الشخصية إذا دار الامر فيها بين الاحتياطات التمعارضة، فإن هذا دونه خرط القتاد، إذ أوقات المجتهد لا تفي بتميز موارد الاحتياطات، ثم إرشاد المقلدين إلى ترجيح بعض الاحتياطات على بعض، عند تعارضها في الموارد الشخصية التي تتفق للمقلدين.

كما مثلنا لك سابقا في الماء المستعمل في رفع الحدث الاكبر.

٢٠١

وقد يرد الاحتياط بوجوه أخر غير ما ذكرنا من الاجماع والحرج منها: أنه لا دليل على وجوب الاحتياط وأن الاحتياط أمر مستحب إذا لم يوجب إلغاء الحقوق الواجبة.

وفيه: أنه إن أريد أنه لا دليل على وجوبه في كل واقعة إذا لوحظت مع قطع النظر عن العلم الاجمالي بوجود التكليف بينها وبين الوقائع الاخر فهم مسلم، بمعنى أن كل واقعة ليست مما يقتضي الجهل فيها بنفسها الاحتياط بل الشك فيها، إن رجع إلى التكليف، - كما في شرب التتن و وجوب الدعاء عند رؤية الهلال - لم يجب فيها الاحتياط، وإن رجع إلى تعيين المكلف به، كالشك في القصر والاتمام والظهر والجمعة، وكالشك في مدخلية شئ في العبادات، بناء على وجوب الاحتياط فيما شك في مدخليته وجب فيها الاحتياط، لكن وجوب الاحتياط في ما نحن فيه في الوقائع المجهولة من جهة العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرمات فيها، وإن كان الشك في نفس الواقعة شكا في التكليف.

ولذا ذكرنا سابقا أن الاحتياط هو مقتضى القاعدة الاولية عند إنسداد باب العلم.

نعم من لا يوجب الاحتياط حتى مع العلم الاجمالي بالتكليف فهو يستريح عن كلفة الجواب عن الاحتياط.

ومنها: أن العمل بالاحتياط مخالف للاحتياط، لان مذهب جماعة من العلماء بل المشهور بينهم إعتبار معرفة الوجه بمعنى تمييز الواجب عن المستحب إجتهادا أو تقليدا.

قال في الارشاد، في أوائل الصلاة: (يجب معرفة واجب أفعال الصلاة من مندوبها وإيقاع كل منهما على وجهه).

وحينئذ ففي الاحتياط إخلال بمعرفة الوجه التي أفتى جماعة بوجوبها وباطلاق بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد.

وفيه: أولا، أن معرفة الوجه مما يمكن، للمتأمل في الادلة وفي إطلاقات العبارات وفي سيرة

٢٠٢

المسلمين وفي سيرة النبي، صلى الله عليه وآله، والائمة، عليهم السلام، مع الناس، الجزم بعدم إعتبارها، حتى مع التمكن من المعرفة العلمية.

ولذا ذكر المحقق، قدس سره، كما في محكي المدارك في باب الوضوء: (أن ما حققه المتكلمون من وجوب إيقاع الفعل لوجهه أو وجه وجوبه كلام شعري)، وتمام الكلام في غير هذا المقام.

وثانيا، لو سلمنا وجوب المعرفة أو إحتمال وجوبها الموجب للاحتياط، فإنما هو مع التمكن من المعرفة العلمية.

أما مع عدم التمكن فلا دليل عليه قطعا.

لان إعتبار معرفة الوجه إن كان لتوقف نية الوجه عليها، فلا يخفى أنه لا يجدي المعرفة الظنية في نية الوجه، فإن مجرد الظن بوجوب شئ لا يتأتى معه القصد إليه لوجوبه، إذ لا بد من الجزم بالنية.

ولو إكتفى بمجرد الظن بالوجوب ولو لم يكن نية حقيقة فهو مما لا يفي بوجوبه ما ذكروه في إشتراط نية الوجه.

نعم لو كان الظن المذكور مما ثبت وجوب العمل به، تحقق معه نية الوجه الظاهرى على سبيل الجزم.

لكن الكلام بعد في وجوب العمل بالظن.

فالتحقيق: أن الظن بالوجه إذا لم يثبت حجيته فهو كالشك فيه لا وجه لمراعاة نية الوجه معه أصلا.

وإن كان إعتبارها لاجل توقف الامتثال التفصيلي المطلوب عقلا أو شرعا عليه - ولذا أجمعوا ظاهرا على عدم كفاية الامتثال الاجمالي مع التمكن من التفصيلي بأن يتمكن من الصلاة إلى القبلة في مكان ويصلي في مكان آخر غير معلوم القبلة إلى أربع جهات أو يصلي في ثوبين مشتبهين أو أكثر، مرتين أو أكثر، مع إمكان صلاة واحدة في ثوب معلوم الطهارة، إلى غير ذلك - ففيه: إن ذلك إنما هو مع التمكن من العلم التفصيلي.

وأما مع عدم التمكن منه، كما في ما نحن فيه، فلا دليل على ترجيح الامتثال التفصيلي الظني على الامتثال الاجمالي العلمي، إذ لا دليل على ترجيح صلاة واحدة في مكان إلى جهة مظنونة على الصلاة المكررة في مكان مشتبه الجهة، بل بناء العقلاء في إطاعتهم العرفية على ترجيح العلم الاجمالي على الظن التفصيلي.

وبالجملة، فعدم جواز الاحتياط مع التمكن من تحصيل الظن مما لم يقم له وجه.

فإن كان ولا بد من إثبات العمل بالظن فهو بعد تجويز الاحتياط والاعتراف برجحانه وكونه مستحبا، بل لا يبعد ترجيح الاحتياط على تحصيل الظن الخاص الذي قام الدليل عليه بالخصوص، فتأمل.

نعم الاحتياط مع التمكن من العلم التفصيلي في العبادات مما انعقد الاجماع ظاهرا على عدم جوازه، كما أشرنا إليه في أول الرسالة، في مسألة إعتبار العلم الاجمالي وأنه كالتفصيلي من جميع الجهات أم لا، فراجع.

٢٠٣

ومما ذكرنا ظهر أن القائل بإنسداد باب العلم وإنحصار المناص في مطلق الظن ليس له أن يتأمل في صحة عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد إذا أخذ بالاحتياط، لانه لم يبطل عند انسداد باب العلم إلا وجوب الاحتياط، لا جوازه أو رجحان.

فالاخذ بالظن عنده وترك الاحتياط عنده من باب الترخيص ودفع العسر والحرج، لا من باب العزيمة.

ثالثا، سلمنا تقديم الامتثال التفصيلي ولو كان ظنيا، على الاجمالي ولو كان علميا، لكن الجمع ممكن بين تحصيل الظن في المسألة ومعرفة الوجه ظنا والقصد إليه على وجه الاعتقاد الظني والعمل على الاحتياط.

مثلا، إذا حصل الظن بوجوب القصر في ذهاب أربعة فراسخ، فيأتي بالقصر بالنية الظنية الوجوبية ويأتي بالاتمام بقصد القربة إحتياطا أو بقصد الندب.

وكذلك إذا حصل الظن بعدم وجوب السورة في الصلاة، فينوي الصلاة الخالية عن السورة على وجه الوجوب، ثم يأتي بالسورة قربة إلى الله تعالى للاحتياط.

ورابعا، لو أغمضنا عن جميع ما ذكرنا فنقول: إن الظن إذا لم يثبت حجيته فقد كان اللازم يمقتضى العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرمات في الوقائع المشتبهة هو الاحتياط، كما عرفت سابقا.

فإذا وجب الاحتياط حصل معرفة وجه العبادة وهو الوجوب، وتأتى نية الوجه الظاهري كما تأتى في جميع الموارد التي يفتي فيها الفقهاء بالوجوب من باب الاحتياط وإستصحاب الاشتغال فتأمل.

فتحصل مما ذكرنا أن العمدة في رد الاحتياط هي ما تقدم من الاجماع ولزوم العسر دون غيرهما.

اللهم إلا أن يقال: إن هناك شيئا ينبغي أن ينبه عليه: وهو أن نفي الاحتياط بالاجما والعسر لا يثبت إلا أنه لا يجب مراعاة جميع الاحتمالات مظنونها ومشكوكها وموهومها.

ويندفع العسر بترخيص موافقة الظنون المخالفة للاحتياط كلا أو بعضا، بمعنى عدم وجوب مراعاة الاحتمالات الموهومة، لانها الاولى بالاهمال.

وإذا ساغ لدفع الحرج ترك الاحتياط في مقدار ما من المحتملات يندفع به العسر، يبقى الاحتياط على حاله في الزائد على هذا المقدار.

لما تقرر في مسألة الاحتياط، من أنه إذا كان مقتضى الاحتياط هو الاتيان بمحتملات وقام الدليل الشرعي على عدم وجوب إتيان بعض المحتملات في الظاهر، تعين مراعاة الاحتياط في باقي المحتملات ولم يسقط وجوب الاحتياط رأسا.

توضيح ما ذكرنا: أنا نفرض المشتبهات التي علم إجمالا بوجود الواجبات الكثيرة فيها بين مظنونات الوجوب ومشكوكات الوجوب وموهومات الوجوب، وكان الاتيان بالكل عسرا أو قام

٢٠٤

الاجماع على عدم وجوب الاحتياط في الجميع تعين ترك الاحتياط وإهماله في موهومات الوجوب.

بمعنى أنه إذا تعلق ظن بعدم الوجوب لم يجب الاتيان.

وليس هذا معنى حجية الظن، لان الفرق - بين المعنى المذكور، وهو أن مظنون عدم الوجوب لا يجب الاتيان به، وبين حجية الظن بمعنى كونه في الشريعة معيارا لامتثال التكاليف الواقعية نفيا وإثباتا.

وبعبارة أخرى: الفرق بين تبعيض الاحتياط في الموارد المشتبهة وبين جعل الظن فيها حجة - هو أن الظن إذا كان حجة في الشرع، كان الحكم في الواقعة الخالية عنه الرجوع إلى ما يقتضيه الاصل في تلك الواقعة من دون إلتفات إلى العلم الاجمالي بوجود التكاليف الكثيرة بين المشتبهات، إذ حال الظن حينئذ كحال العلم التفصيلي والظن الخاص بالوقائع، فيكون الوقائع بين معلومة الوجوب تفصيلا أو ما هو بمنزلة المعلوم وبين مشكوكة الوجوب رأسا.

وأما إذا لم يكن الظن حجة - بل كان غاية الامر، بعد قيام الاجماع ونفي الحرج على عدم لزوم الاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة التي علم إجمالا بوجود التكاليف بينها، عدم وجوب الاحتياط بالاتيان بما ظن عدم وجوبه، لان ملاحظة الاحتياط في موهومات الوجوب خلاف الاجماع و موجب للعسر - كان اللازم في الواقعة الخالية عن الظن الرجوع إلى ما يقتضيه العلم الاجمالي المذكور من الاحتياط، لان سقوط الاحتياط في سلسلة الموهومات لا يقتضي سقوطه في المشكوكات، لاندفاع الحرج بذلك.

وحاصل ذلك: أن مقتضى القاعدة العقلية والنقلية لزوم الامتثال العلمي التفصيلي للاحكام والتكاليف المعلومة إجمالا.

ومع تعذره يتعين الامتثال العلمي الاجمالي، وهو الاحتياط المطلق.

ومع تعذره لو دار الامر بين الامتثال الظني في الكل وبين الامتثال العلمي الاجمالي في البعض والظني في الباقي كان الثاني هو المتعين عقلا ونقلا.

ففيما نحن فيه إذا تعذر الاحتياط الكلي ودار الامر بين إلغائه بالمرة والاكتفاء بالاطاعة الظنية وبين إعماله في المشكوكات والمظنونات وإلغائه في الموهومات كان الثاني هو المتعين.

ودعوى لزوم الحرج أيضا من الاحتياط في المشكوكات، خلاف الانصاف لقلة المشكوكات، لان الغالب حصول الظن إما بالوجوب وإما بالعدم.

اللهم إلا أن يدعى قيام الاجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات أيضا.

وحاصله: دعوى أن الشارع لا يريد الامتثال العلمي الاجمالي في التكاليف الواقعية المشتبهة بين الوقائع.

فيكون حاصل دعوى الاجماع دعوى إنعقاده على أنه لا يجب شرعا الاطاعة العلمية الاجمالية في

٢٠٥

الوقائع المشتبهة مطلقا، لا في الكل ولا في البعض.

وحينئذ تعين الانتقال إلى الاطاعة الظنية.

لكن الانصاف: أن دعواه مشكلة جدا وان كان تحققه مظنونا بالظن القوي، لكنه لا ينفع ما لم ينته إلى حد العلم.

فإن قلت: إذا ظن بعدم وجوب الاحتياط في المشكوكات، فقد ظن بأن المرجع في كل مورد منها إلى ما يقتضيه الاصل الجاري في ذلك المورد، فيصير الاصول مظنونة الاعتبار في المسائل المشكوكة.

فالمظنون في تلك المسائل عدم وجوب الواقع فيها على المكلف وكفاية الرجوع إلى الاصول.

وسيجئ أنه لا فرق في الظن الثابت حجيته بدليل الانسداد بين الظن المتعلق بالواقع وبين الظن المتعلق بكون شئ طريقا إلى الواقع وكون العمل به مجزيا عن الواقع وبدلا عنه ولو تخلف عن الواقع.

قلت: مرجع الاجماع، قطعيا كان أو ظنيا، على الرجوع في المشكوكات إلى الاصول هو الاجماع على وجود الحجة الكافية في المسائل التي إنسد فيها باب العلم حتى تكون المسائل الخالية عنها موارد للاصول.

ومرجع هذا إلى دعوى الاجماع على حجية الظن بعد الانسداد.

[ قلت: مسالة إعتبار الظن بالطريق موقوف على هذه المسألة.

بيان ذلك أنه لو قلنا ببطلان لزوم الاحتياط في الشريعة رأسا من جهة إشتباه التكاليف الواقعية فيها وعدم لزوم الامتثال العلمي الاجمالي حتى في المشكوكات وكفاية الامتثال الظني في جميع تلك الواقعات المشتبهة، لم يكن فرق بين حصول الظن بنفس الواقع وبين حصول الظن بقيام شئ من الامور التعبدية مقام الواقع في حصول البراء‌ة الظنية عن الواقع والظن بسقوط الواقع في الواقع أو في حكم الشارع وبحسب جعله.

أما لو لم يثبت ذلك، بل كان غاية ما ثبت هو عدم لزوم الاحتياط بإحراز الاحتمالات الموهومة للزم العسر، كان اللازم جواز العمل على خلاف الاحتياط في الوقائع المظنون عدم وجوبها أو عدم تحريمها.

وأما الوقائع المشكوك وجوبها أو تحريمها فهي باقية على طبق مقتضى الاصل من الاحتياط اللازم المراعاة، بل الوقائع المظنون وجوبها أو تحريمها يحكم فيها بلزوم الفعل أو الترك من جهة كونها من محتملات الواجبات والمحرمات الواقعية.

وحينئذ فإذا قام ما يظن كونه طريقا على عدم وجوب أحد الموارد المشكوك وجوبها، فلا يقاس

٢٠٦

بالظن القائم على عدم وجوب مورد من الموارد المشتبهة في ترك الاحتياط، بل اللازم هو العمل بالاحتياط، لانه من الموارد المشكوكة، والظن بطريقية ما قام عليه لم يخرجه عن كونه مشكوكا.

وأنت خبير بأن جميع موارد الطرق المظنونة التي يراد إثبات إعتبار الظن بالطريق فيها إنما هي من المشكوكات، إذ لو كان نفس المورد مظنونا مع ظن الطريق القائم عليه لم يحتج إلى إعمال الظن بالطريق ولو كان مظنونا، بخلاف الطريق التعبدي المظنون كونه طريقا، لتعارض الظن الحاصل من الطريق والظن الحاصل في المورد على خلاف الطريق.

وسيجئ الكلام في حكمه على تقدير إعتبار الظن بالطريق.

والحاصل: أن إعتبار الظن بالطريق وكونه بالظن في الواقع مبني على القطع ببطلان الاحتياط رأسا، بمعنى أن الشارع لم يرد منا في مقام إمتثال الاحكام المشتبهة الامتثال العلمي الاجمالي حتى يستنتج من ذلك حكم العقل بكفاية الامتثال الظني لانه المتعين بعد الامتثال العلمي بقسميه من التفصيلي والاجمالي.

فيلزم من ذلك ما سنختاره من عدم الفرق بعد كفاية الامتثال الظني بين الظن بأداء الواقع والظن بمتابعة طريق جعله الشارع مجزيا عن الواقع.وسيجئ تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.ز ].

فإن قلت: إذا لم يقم في موارد الشك ما ظن طريقيته، لم يجب الاحتياط في ذلك المورد من جهة كونه أحد محتملات الواجبات أو المحرمات الواقعية وإن حكم بوجوب الاحتياط من جهة إقتضاء القاعدة في نفس المسألة.

كما لو كان الشك فيه في المكلف به.

وهذا إجماع من العلماء، حيث لم يحتط احد منهم في مورد الشك من جهة إحتمال كونه من الواجبات والمحرمات الواقعية، وإن إحتاط الاخباريون في الشبهة التحريمية من جهة مجرد إحتمال التحريم.

فإذا كان عدم وجوب الاحتياط إجماعيا مع عدم قيام ما يظن طريقيته على عدم الوجوب، فمع قيامه لا يجب الاحتياط بالاولوية القطعية.

قلت: العلماء إنما لم يذهبوا إلى الاحتياط في موارد الشك، لعدم العلم الاجمالي لهم بالتكاليف، بل الوقائع لهم بين معلوم التكليف تفصيلا أو مظنون لهم بالظن الخاص وبين مشكوك التكليف رأسا.

ولا يجب الاحتياط في ذلك عند المجتهدين بل عند غيرهم في الشبهة الوجوبية.

والحاصل: أن موضوع عمل العلماء بإنفتاح باب العلم أو الظن الخاص مغاير لموضوع عمل القائلين بالانسداد.

وقد نبهنا على ذلك غير مرة في بطلان التمسك لى بطلان البراء‌ة والاحتياط بمخالفتهما لعمل العلماء، فراجع.

٢٠٧

ويحصل مما ذكر إشكال آخر أيضا من جهة أن نفي الاحتياط بلزوم العسر لا يوجب كون الظن حجة ناهضة لتخصيص العمومات الثابتة بالظنون الخاصة ومخالفة سائر الظواهر الموجودة فيها.

ودعوى: (أن باب العلم والظن الخاص إذا فرض إنسداده سقط عمومات الكتاب والسنة المتواترة وخبر الواحد الثابت حجيته بالخصوص عن الاعتبار للعلم الاجمالي بمخالفة ظواهر أكثرها لمراد المتلكم، فلا يبقى ظاهر ههنا على حاله حتى يكون الظن الموجود على خلافه من باب المخصص والمقيد)، مجازفة، إذ لا علم ولا ظن بطرو مخالفة الظاره في غير الخطابات التي علم إجمالها بالخصوص.

مثل: أقيموا الصلاة، ولله على الناس حج البيت، وشبههما.

وأما كثير من العمومات التي لا نعلم بإجمال كل منها، فلا يعلم ولا يظن بثبوت المجمل بينها، لاجل طرو التخصيص في بعضها.وسيجئ بيان ذلك عند التعرض لحال نتيجة المقدمات إن شاء الله.هذا كله حال الاحتياط في جميع الوقائع.

وأما الرجوع في كل واقعة إلى ما يقتضيه الاصل في تلك الواقعة، من غير إلتفات إلى العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرمات بين الوقائع، بأن يلاحظ نفس الواقعة: فإن كان فيها حكم سابق يحتمل بقاؤه إستصحب، كالماء المتغير بعد زوال التغيير.

وإلا فإن كان الشك في أصل التكليف، كشرب التتن، أجري البراء‌ة، وإن كان الشك في تعيين المكلف به، مثل القصر والاتمام: فإن أمكن الاحتياط وجب، وإلا تخير، كما إذا كان الشك في تعيين التكليف الالزامي، كما إذا دار الامر بين الوجوب والتحريم.

فيرد هذا الوجه أن العلم الاجمالي بوجود الواجبات والمحرمات يمنع عن إجراء البراء‌ة والاستصحاب المطابق لها المخالف للاحتياط، بل وكذا العلم الاجمالي بوجود غير الواجبات والمحرمات في الاستصحابات المطابقة للاحتياط يمنع من العمل بالاستصحابات من حيث أنها إستصحابات، وإن كان لا يمنع من العمل بها من حيث الاحتياط، فتأمل، لكن الاحتياط في جميع ذلك يوجب العسر.

وبالجملة، فالعمل بالاصول النافية للتكليف في مواردها مستلزم للمخالفة القطعية الكثيرة، وبالاصول المثبتة للتكليف من الاحتياط والاستصحاب مستلزم للحرج.وهذا لكثرة المشتبهات في المقامين، كما لا يخفى على المتأمل.

وأما رجوع هذا الجاهل الذي إنسد عليه باب العلم في المسائل المشتبهة إلى فتوى العالم بها و تقليده فيها، فهو باطل لوجهين:

أحدهما الاجماع القطعي.

والثاني أن الجاهل الذي وظيفته الرجوع

٢٠٨

إلى العالم هو الجاهل العاجز عن الفحص.

وأما الجاهل الذي يبذل الجهد وشاهد مستند العالم وغلطه في إستناده إليه واعتقاده عنه، فلا دليل على حجية فتواه بالنسبة إليه.وليست فتواه من الطرق المقررة لهذا الجاهل.

فإن من يخطئ القائل بحجية خبر الواحد في فهم دلالة آية النبأ عليها، كيف يجوز له متابعته؟ وأي مزية له عليه؟ حتى يجب رجوع هذا إليه ولا يجب العكس.

وهذا هو الوجه فيما أجمع عليه العلماء، من أن المجتهد إذا لم يجد دليلا في المسألة على التكليف كان حكمه الرجوع إلى البراء‌ة، لا إلى من يعتقد وجود دليل على التكليف.

والحاصل: أن إعتقاد مجتهد ليس حجة على مجتهد آخر خال عن ذلك الاعتقاد، وأدلة وجوب رجوع الجاهل إلى العالم يراد بها العالم الذي يختفي منشأ علمه على ذلك الجاهل، لا مجرد المعتقد بالحكم.

ولا فرق بين المجتهدين المعتقدين المختلفين في الاعتقاد وبين المجتهدين اللذين أحدهما اعتقد الحكم عن دلالة والاخر إعتقد بفساد تلك الدلالة، فلم يحصل له إعتقاد.

وهذا شئ مطرد في باب مطلق رجوع الجاهل إلى العالم، شاهدا كان أو مفتيا أو غيرهما.

٢٠٩

المقدمة الرابعة في أنه إذا وجب التعرض لامتثال

الواقع في مسألة واحدة أو في مسائل

ولم يمكن الرجوع فيها إلى الاصول، ولم يجب أو لم يجز الاحتياط، تعين العمل فيها بمطلق الظن.ولعله لذلك يجب العمل بالظن في الضرر والعدالة وأمثالهما.إذا تمهدت هذه المقدمات فنقول: قد ثبت وجوب العمل بالظن فيما نحن فيه.

ومحصلها: أنه إذا ثبت إنسداد باب العلم والظن الخاص كما هو مقتضى المقدمة الاولى، وثبت وجوب إمتثال ] الاحكام المشتبهة وعدم جواز إهمالها بالمرة كما هو مقتضي المقدمة الثانية، وثبت عدم وجوب كون الامتثال على وجه الاحتياط وعدم جواز الرجوع فيه إلى الاصول الشرعية كما هو مقتضى المقدمة الثالثة: تعين بحكم العقل التعرض لامتثالها على وجه الظن بالواقع فيها، إذ ليس بعد الامتثال العلمي والظني بالظن الخاص المعتبر في الشريعة إمتثال مقدم على الامتثال الظني.

توضيح ذلك: أنه إذا وجب عقلا أو شرعا التعرض لامتثال الحكم الشرعي فله مراتب أربع:

الاولى: الامتثال العلمي التفصيلي.وهو أن ياتي بما يعلم تفصيلا أنه هو المكلف به.

وفي معناه ما إذا ثبت كونه هو المكلف به بالطريق الشرعي وإن لم يفد العلم ولا الظن، كالاصول الجارية في مواردها وفتوى المجتهد بالنسبة إلى الجاهل العاجز عن الاجتهاد.

الثانية: الامتثال العلمي الاجمالي، وهو يحصل بالاحتياط.

الثالثة: الامتثال الظني، وهو أن يأتي بما يظن أنه المكلف به.

الرابعة: الامتثال الاحتمالي، كالتعبد بأحد طرفي المسألة من الوجوب والتحريم أو التعبد

٢١٠

ببعض محتملات المكلف به عند عدم وجوب الاحتياط أو عدم إمكانه.

وهذه المراتب مترتبة لا يجوز بحكم العقل العدول عن سابقها إلى لاحقها إلا مع تعذرها، على إشكال في الاولين تقدم في أول الكتاب.

وحينئذ فإذا تعذرت المرتبة الاولى ولم يجب الثانية تعينت الثالثة، ولا يجوز الاكتفاء بالرابعة.

فاندفع بذلك: ما زعمه بعض من تصدى لرد دليل الانسداد بأنه لا يلزم من إبطال الرجوع إلى البراء‌ة ووجوب العمل بالاحتياط وجوب العمل بالظن، لجواز أن يكون المرجع شيئا آخر لا نعلمه، مثل القرعة والتقليد أو غيرهما مما لا نعلمه.فعلى المستدل سد باب هذه الاحتمالات، والمانع يكفيه الاحتمال.

توضيح الاندفاع - بعد الاغماض عن الاجماع على عدم الرجوع إلى القرعة وما بعدها - أن مجرد إحتمال كون شئ غير الظن طريقا شرعيا لا يوجب العدول عن الظن إليه، لان الاخذ بمقابل المظنون قبيح في مقام إمتثال الواقع وإن قام عليه ما يحتمل أن يكون طريقا شرعيا، إذ مجرد الاحتمال لا يجدي في طرح الطرف المظنون، فإن العدول عن الظن إلى الوهم والشك قبيح.

والحاصل: أنه كما لا يحتاج الامتثال العلمي إلى جعل جاعل، فكذلك الامتثال الظني بعد تعذر الامتثال العلمي وفرض عدم سقوط الامتثال.

واندفع بما ذكرنا أيضا ما ربما يتوهم من التنافي بين إلتزام بقاء التكاليف في الوقائع المجهولة الحكم وعدم إرتفاعه بالجهل وبين إلتزام العمل بالظن نظرا إلى أن التكليف بالواقع لو فرض بقاؤه فلا يجدي غير الاحتياط وإحراز الواقع في إمتثاله.

توضيح الاندفاع: أن المراد من بقاء التكليف بالواقع نظير إلتزام بقاء التكليف فيما تردد الامر بين محذورين من حيث الحكم أو من حيث الموضوع بحيث لا يمكن الاحتياط، فإن الحكم بالتخيير لا ينافي إلتزام بقاء التكليف.

فيقال: إن الاخذ بأحدهما لا يجدي في إمتثال الواقع، لان المراد ببقاء التكليف عدم السقوط رأسا بحيث لا يعاقب عند ترك المحتملات، كلا، بل العقل يستقل بإستحقاق العقاب عند الترك رأسا، نظير جميع الوقائع المشتبهة.

فما نحن فيه نظير إشتباه الواجب بين الظهر والجمعة في يوم الجمعة بحيث يقطع بالعقاب بتركهما معا مع عدم إمكان الاحتياط أو كونه عسرا قد نص الشارع على نفيه مع وجود الظن باحدهما، فإنه يدور الامر بين العمل بالظن والتخيير والعمل بالموهوم.

فإن إيجاب العمل بكل من الثلاثة وإن لم يحرز به الواقع، إلا أن العمل بالظن أقرب إلى الواقع من العمل بالموهوم والتخيير فيجب عقلا،

٢١١

فافهم ولا فرق في قبح طرح الطرف الراجح والاخذط بالمرجوح بين أن يقوم على المرجوح ما يحتمل أن يكون طريقا معتبرا شرعا وبين أن لا يقوم، لان العدول عن الظن إلى الوهم قبيح، ولو بإحتمال كون الطرف الموهوم واجب الاخذ شرعا، حيث قام عليه ما يحتمل كونه طريقا.

نعم لو قام على الطرف الموهوم ما يظن كونه طريقا معتبرا شرعيا ودار الامر بين تحصيل الظن بالواقع وبين تحصيل الظن بالطريق المعتبر الشرعي، ففيه كلام سيأتي إن شاء الله تعالى.

والحاصل: أنه - بعد ما ثبت بحكم المقدمة الثانية وجوب التعرض لامتثال المجهولات بنحو من الانحاء وحرمة إهمالها وفرضها كالمعدوم، وثبت بحكم المقدمة الثالثة عدم وجوب إمتثال المجهولات بالاحتياط وعدم جواز الرجوع في إمتثالها إلى الاصول الجارية في نفس تلك المسائل ولا إلى فتوى من يدعي إنفتاح باب العلم بها - تعين وجوب تحصيل الظن بالواقع فيها وموافقته، ولا يجوز قبل تحصيل الظن الاكتفاء بالاخذ بأحد طرفي المسألة، ولا بعد تحصيل الظن الاخذ بالطرف الموهوم، لقبح الاكتفاء في مقام الامتثال بالشك والوهم مع التمكن من الظن، كما يقبح الاكتفاء بالظن مع التمكن من العلم، ولا يجوز أيضا الاعتناء بما يحتمل أن يكون طريقا معتبرا مع عدم إفادته للظن، لعدم خروجه عن الامتثال الشكي أو الوهمي.

هذا خلاصة الكلام في مقدمات دليل الانسداد المنتجة لوجوب العمل بالظن في الجملة.

٢١٢

امور ينبغي التنبيه عليها الامر الاول: لا فرق في الامتثال الظني بين

الحكم الواقعي والحكم الظاهري

إنك قد عرفت أن قضية المقدمات المذكورة وجوب الامتثال الظني للاحكام المجهولة، فاعلم أنه لا فرق في الامتثال الظني بين تحصيل الظن بالحكم الفرعي الواقعي، كأن يحصل من شهرة القدماء الظن بنجاسة العصير العنبي، وبين تحصيل الظن بالحكم الفرعي الظاهري، كأن يحصل من أمارة الظن بحجية أمر لا يفيد الظن، كالقرعة مثلا.

فإذا ظن حجية القرعة حصل الامتثال الظني في مورد القرعة، وإن لم يحصل ظن بالحكم الواقعي، إلا أنه حصل ظن ببراء‌ة ذمة المكلف في الواقعة الخاصة، وليس الواقع بما هو واقع مقصودا للمكلف إلا من حيث كون تحققه مبرء‌ا للذمة.

فكما أنه لا فرق في مقام التمكن من العلم بين تحصيل العلم بنفس الواقع وبين تحصيل العلم بموافقة طريق علم كون سلوكه مبرء‌ا للذمة في نظر الشارع، فكذا لا فرق عند تعذر العلم بين الظن بتحقق الواقع وبين الظن ببراء‌ة الذمة في نظر الشارع.وقد خالف في هذا التعميم فريقان.

أحدهما: من يرى أن مقدمات دليل الانسداد لا تثبت إلا إعتبار الظن وحجيته في كون الشئ طريقا شرعيا مبرء‌ا للذمة في نظر الشارع ولا تثبت إعتباره في نفس الحكم الفرعي، زعما منهم عدم نهوض المقدمات المذكورة لاثبات حجية الظن في نفس الاحكام الفرعية، إما مطلقا أو بعد العلم الاجمالي بنصب الشارع طرقا للاحكام الفرعية.

الثاني: مقابل هذا، وهو من يرى أن المقدمات المذكورة لا تثبت إلا إعتبار الظن في نفس الاحكام الفرعية.

أما الظن بكون الشئ طريقا مبرء‌ا للذمة فهو ظن في المسألة الاصولية لم يثبت إعتباره فيها من دليل الانسداد، لجريانها في المسائل الفرعية دون الاصولية.

وأما الطائفة الاولى فقد ذكروا لذلك وجهين.

٢١٣

أحدهما - وهو الذي إقتصر عليه بعضهم - ما لفظه: (إنا كما نقطع بأنا مكلفون في زماننا هذا تكليفا فعليا بأحكام فرعية كثيرة، ولا سبيل لنا بحكم العيان و شهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع ولا بطريق معين نقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذره، كذلك نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الاحكام طرقا مخصوصة وكلفنا تكليفا فعليا بالرجوع إليها في معرفتها.

ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد، وهو القطع بأنا مكلفون تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة.

وحيث أنه لا سبيل غالبا إلى تعيينها بالقطع ولا بطريق نقطع عن السمع بقيامه بالخصوص أو قيام طريقه، كذلك مقام القطع ولو بعد تعذره.

فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنما هو الرجوع في تعيين تلك الطرق إلى الظن الفعلي الذي لا دليل على عدم حجيته، لانه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع مما عداه).

وفيه: أولا، إمكان منع نصب الشارع طرقا خاصة للاحكام الواقعية وافية بها.

كيف؟ وإلا لكان وضوح تلك الطرق كالشمس في رائعة النهار، لتوفر الدواعي بين المسلمين على ضبطها، لاحتياج كل مكلف إلى معرفتها أكثر من حاجته إلى معرفة صلواته الخمس.

وإحتمال إختفائها مع ذلك - لعروض دواعي الاختفاء، إذ ليس الحاجة إلى معرفة الطريق أكثر من الحاجة إلى معرفة المرجع بعد النبي، صلى الله عليه وآله - مدفوع بالفرق بينهما، كما لا يخفى.

وكيف كان، فيكفي في رد الاستدلال إحتمال عدم نصب الطريق الخاص للاحكام وإرجاع إمتثالها إلى ما يحكم به العقلاء وجرى عليه ديدنهم في إمتثال أحكام الملوك والموالي مع العلم بعدم نصب الطريق الخاص للاحكام، من الرجوع إلى العلم الحاصل من تواتر النقل عن صاحب الحكم أو بإجتماع جماعة من أصحابه على عمل خاص أو الرجوع إلى الظن الاطميناني

٢١٤

الذي يسكن إليه النفس ويطلق عليه العلم عرفا، ولو تسامحا، في إلقاء إحتمال الخلاف.

وهو الذي يحتمل حمل كلام السيد عليه، حيث إدعى إنفتاح باب العلم، هذا حال المجتهد.

وأما المقلد، فلا كلام في نصب الطريق الخاص له، وهو فتوى مجتهده، مع إحتمال عدم النصب في حقه أيضا، فيكون رجوعه إلى المجتهد من باب الرجوع إلى أهل الخبرة المركوز في أذهان جميع العقلاء، ويكون بعض ما ورد من الشارع في هذا الباب تقريرا لهم، لا تأسيسا.

وبالجملة، فمن المحتمل قريبا إحالة الشارع للعباد في طريق إمتثال الاحكام إلى ما هو المتعارف بينهم في إمتثال أحكامهم العرفية من الرجوع إلى العلم او الظن الاطميناني.

فإذا فقدا تعين الرجوع ايضا بحكم العقلاء إلى الظن الغير الاطميناني، كما أنه لو فقد - والعياذ بالله - الامارات المفيدة لمطلق الظن، لتعين الامتثال باخذ أحد طرفي الاحتمال فرارا عن المخالفة القطعية والاعراض عن التكاليف الالهية الواقعية.

فظهر مما ذكرنا إندفاع ما يقال من أن منع نصب الطريق لا يجامع القول ببقاء الاحكام الواقعية، إذ بقاء التكليف من دون نصب طريق إليها ظاهر البطلان.

توضيح الاندفاع: أن التكليف إنما يقبح مع عدم ثبوت الطريق رأسا، ولو بحكم العقل الحاكم بالعمل بالظن، مع عدم الطريق الخاص أو مع ثبوته وعدم رضاء الشارع بسلوكه، وإلا فلا يقبح التكليف مع عدم الطريق الخاص وحكم العقل بمطلق الظن ورضاء الشارع به.

ولهذا إعترف هذا المستدل على أن الشارع لم ينصب طريقا خاصا يرجع إليه عند إنسداد باب العلم في تعيين الطرق الخاصة الشرعية مع بقاء التكليف بها.

وربما يستشهد للعلم الاجمالي بنصب الطريق بان المعلوم من سيرة العلماء في إستنباطهم هو إتفاقهم على طريق خاص وإن إختلفوا في تعيينه.

وهو ممنوع، اؤلا، بأن جماعة من أصحابنا، كالسيد رحمه الله، وبعض من تقدم عليه وتأخر عنه، منعوا نصب الطريق الخاص رأسا بل أحاله بعضهم.

وثانيا، لو أغمضنا عن مخالفة السيد وأتباعه، لكن مجرد قول كل من العلماء بحجية طريق خاص حسب ما أدى إليه نظره لا يوجب العلم الاجمالي بأن بعض هذه الطرق منصوبة، لجواز خطأ كل واحد فيما أدى إليه نظره.

وإختلاف الفتاوى في الخصوصيات لا يكشف عن تحقق القدر المشترك، إلا إذا كان إختلافهم راجعا إلى التعيين على وجه ينبئ عن إتفاقهم على قدر مشترك.

نظير الاخبار المختلفة في الوقائع المختلفة، فإنها لا توجب تواتر القدر المشترك، إلا إذا علم من

٢١٥

أخبارهم كون الاختلاف راجعا إلى التعيين.

وقد حقق ذلك في باب التواتر الاجمالي والاجماع المركب، وربما يجعل تحقق الاجماع على المنع عن العمل بالقياس وشبهه ولو مع إنسداد باب العلم كاشفا عن أن المرجع إنما هو طريق خاص.

وينتقض:

أولا، بأنه مستلزم لكون المرجع في تعيين الطريق أيضا طريقا خاصا للاجماع على المنع عن العمل فيه بالقياس.

ويحل:

ثانيا، بأن مرجع هذا إلاشكال الاتي في خروج القياس عن مقتضى دليل الانسداد، فيدفع بأخذ الوجوه الاتية.

فإن قلت: ثبوت الطريق إجمالا مما لا مجال لانكاره، حتى على مذهب من يقول بالظن المطلق، فإن غاية الامر أنه يجعل مطلق الظن طريقا عقليا رضي به الشارع.

فنصب الشارع للطريق بالمعنى الاعم من الجعل والتقرير معلوم.

قلت: هذه مغالطة، فإن مطلق الظن ليس طريقا في عرض الطرق المجعولة حتى يتردد الامر بين كون الطريق هو مطلق الظن أو طريقا آخر مجعولا، بل الطريق العقلي بالنسبة إلى الطريق الجعلي كالاصل بالنسبة إلى الدليل.

إن وجد الطريق الجعلي لم يحكم العقل بكون الظن طريقا، لان الظن بالواقع لا يعمل به في مقابلة القطع ببراء‌ة الذمة، وإن لم يوجد كان طريقا، لان إحتمال البراء‌ة لسلوك الطريق المحتمل لا يلتفت إليه مع الظن بالواقع.

فمجرد عدم ثبوت الطريق الجعلي، كا في ما نحن فيه، كاف في حكم العقل بكون مطلق الظن طريقا.

وعلى كل حال فتردد الامر بين مطلق الظن وطريق خاص آخر مما لا معنى له.

وثانيا، سلمنا نصب الطريق، لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم.

بيان ذلك: أن ما حكم بطريقيته لعله قسم من الاخبار ليس منه بأيدينا اليوم إلا قليل، كأن يكون الطريق المنصوب هو الخبر المفيد للاطمينان الفعلي بالصدور الذي كان كثيرا في الزمان السابق لكثرة القرائن، ولا ريب في ندرة هذا القسم في هذا الزمان أو خبر العادل أو الثقة الثابت عدالته أو وثاقته بالقطع أو البينة الشرعية أو الشياع مع إفادته الظن الفعلي بالحكم.

ويمكن دعوى ندرة هذا القسم في هذا الزمان، إذ غاية الامر أن نجد الراوي في الكتب الرجالية محكي التعديل بوسائط عديدة، من مثل الكشي والنجاشي وغيرهما.ومن المعلوم أن مثل هذا لا تعد بينة شرعية، ولذا لا يقبل مثله في الحقوق.

ودعوى حجية مثل ذلك بالاجماع ممنوعة، بل المسلم أن الخبر المعدل بمثل هذا حجة بالاتفاق.

لكن قد عرفت سابقا عند تقرير الاجماع على

٢١٦

حجية خبر الواحد أن مثل هذا الاتفاق العملي لا يجدي في الكشف عن قول الحجة، مع أن مثل هذا الخبر في غاية القلة، خصوصا إذا إنضم إليه إفادة الظن الفعلي.

وثالثا: سلمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنية، من أقسام الخبر والاجماع المنقول والشهره، وظهور الاجماع والاستقراء والاولوية الظنية، إلا أن اللازم من ذلك هو الاخذ بما هو المتيقن من هذه.

فإن وفى بغالب الاحكام اقتصر عليه، وإلا فالمتيقن من الباقي.

مثلا، الخبر الصحيح والاجماع المنقول متيقن بالنسبة إلى الشهرة وما بعدها من الامارات، إذ لم يقل أحد بحجية الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والاجماع المنقول.

فلا معنى لتعيين الطريق بالظن بعد وجود القدر المتيقن ووجوب الرجوع في المشكوك إلى أصالة حرمة العمل.

نعم لو احتيج إلى العمل بإحدى أمارتين واحتمل نصب كل منهما، صح تعيينه بالظن بعد الاغماض عما سيجئ من الجواب.

ورابعا لو سلمنا عدم وجود القدر المتيقن، لكن اللازم من ذلك وجوب الاحتياط، لانه مقدم على العمل بالظن، لما عرفت من تقديم الامتثال العلمي على الظني، اللهم إلا أن يدل دليل على عدم وجوبه، وهو في المقام مفقود.

ودعوى: (أن الامر دائر بين الواجب والحرام، لان العمل بما ليس طريقا حرام)، مدفوعة: بأن العمل بما ليس طريقا إذا لم يكن على وجه التشريع غير محرم، والعمل بكل ما يحتمل الطريقية رجاء أن يكون هذا هو الطريق لا حرمة فيه من جهة التشريع.

نعم، قد عرفت أن حرمته مع عدم قصد التشريع إنما هي من جهة أن فيه طرحا للاصول المعتبرة من دون حجة شرعية.

وهذا أيضا غير لازم في المقام، لان مورد العمل بالطريق المحتمل إن كان الاصول على طبقه فلا مخالفة، وإن كان مخالفا للاصول: فإن كان مخالفا للاستصحاب النافي للتكليف فلا إشكال، لعدم حجية الاستصحابات بعد العلم الاجمالي بأن بعض الامارات الموجودة على خلافها معتبرة عند الشارع وإن كان مخالفا للاحتياط، فحينئذ يعمل بالاحتياط في المسألة الفرعية، وكذا لو كان مخالفا للاستصحاب المثبت للتلكيف.

فحاصل الامر يرجع إلى العمل بالاحتياط في المسألة اصولية، أعني نصب الطريق إذا لم يعارضه الاحتياط في المسألة الفرعية.فالعمل مطلقا على الاحتياط.

اللهم إلا أن يقال إنه يلزم الحرج من الاحتياط في موارد جريان الاحتياط في نفس المسألة، كالشك في الجزئية وفي موارد الاستصحابات المثبتة للتكليف والنافية له بعد العلم الاجمالي بوجوب العمل في بعضها على

٢١٧

خلاف الحالة السابقه، إذ يصير حينئذ كالشبهة المحصوره، فتأمل.

وخامسا، سلمنا العلم الاجمالي بوجود الطريق المجعول وعدم المتيقن وعدم وجوب الاحتياط.

لكن نقول: إن ذلك لا يوجب تعيين العمل بالظن في مسألة تعيين الطريق فقط، بل هو مجوز له، كما يجوز العمل بالظن في المسألة الفرعية.

و ذلك، لان الطريق المعلوم نصبه إجمالا، إن كان منصوبا حتى إنفتاح باب العلم، فيكون هو في عرض الواقع مبرء‌ا للذمة، بشرط العلم به، كالواقع المعلوم.

مثلا، إذا فرضنا حجية الخبر مع الانفتاح، تخير المكلف بين إمتثال ما علم كونه حكما واقعيا بتحصيل العلم به وبين إمتثال مؤدى الطريق المجعول الذي علم جعله بمنزلة الواقع.فكل من الواقع ومؤدى الطريق مبرء مع العلم به.

فإذا إنسد باب العلم التفصيلي بأحدهما تعين الاخر، وإذا باب العلم التفصيلي بهما تعين العمل فيهما بالظن.

فلا فرق بين الظن بالواقع والظن بمؤدى الطريق، في كون كل واحد منهما إمتثالا ظنيا.

وإن كان ذلك الطريق منصوبا عند إنسداد باب العلم بالواقع، فنقول: إن تقديمه حينئذ على العمل بالظن إنما هو مع العلم به وتمييزه عن غيره، إذ حينئذ يحكم العقل بعدم جواز العمل بمطلق الظن مع وجودذ هذا الطريق المعلوم، إذ فيه عدول عن الامتثال القطعي إلى الظني، فكذا مع العلم الاجمالي، بناء على أن الامتثال التفصيلي مقدم على الاجمالي أو لان الاحتياط يوجب الحرج المؤدي إلى الاختلال.

أما مع إنسداد باب العلم بهذا الطريق وعدم تميزه عن غيره إلا بإعمال مطلق الظن، فالعقل لا يحكم بتقديم إحراز الطريق بمطلق الظن على إحراز الواقع بمطلق الظن.

وكأن المستدل توهم أن مجرد نصب الطريق ولو مع عروض الاشتباه فيه موجب لصرف التكليف عن الواقع إلى العمل بمؤدى الطريق كما ينبئ عنه قوله.

وحاصل القطعين إلى أمر واحد، وهو التكليف الفعلي بالعمل بمؤديات الطرق.

وسيأتي مزيد توضيح لاندفاع هذا التوهم إن شاء الله تعالى.

فإن قلت: نحن نرى أنه إذ عين الشارع طريقا للواقع عند إنسداد باب العلم به، ثم إنسد باب العلم بذلك الطريق، كان البناء على العمل بالظن في الطريق دون نفس الواقع.

ألا ترى أن المقلد يعمل بالظن في تعيين المجتهد لا في نفس الحكم الواقعي، والقاضي يعمل بالظن في تحصيل الطرق المنصوبة لقطع المرافعات، لا في تحصيل الحق الواقعي بين المتخاصمين

٢١٨

قلت: فرق بين ما نحن فيه وبين المثالين، فإن الظنون الحاصلة للمقلد والقاضي في المثالين بالنسبة إلى نفس الواقع أمور غير مضبوطة كثيرة المخالفة للواقع مع قيام الاجماع على عدم جواز العمل بها، كالقياس، بخلاف ظنونهما المعمولة في تعيين الطريق، فإنها حاصلة من أمارات منضبطة غالبة المطابقة لم يدل دليل بالخصوص على عدم جواز العمل بها.

فالمثال المطابق لما نحن فيه أن يكون الظنون المعمولة في تعيين الطريق بعينها هي المعمولة في تحصيل الواقع، لا يوجد بينهما فرق من جهة العلم الاجمالي بكثرة مخالفة إحداهما للواقع، ولا من جهة منع الشارع عن إحداهما بالخصوص.

كما أنا لو فرضنا أن الظنون المعمولة في نصب الطريق على العكس في المثالين كان المتعين العمل بالظن في نفس الواقع دون الطريق.

فما ذكرنا، من العمل على الظن، سواء تعالق بالطريق أن بنفس الواقع، فإنما هو مع مساواتهما من جميع الجهات.

فإنا لو فرضنا أن المقلد يقدر على إعمال نظير الظنون التي يعملها لتعيين المجتهد في الاحكام الشرعية مع قدرة الفحص عما يعارضها على الوجه المعتبر في العمل بالظن، لم يجب عليه العمل بالظن في تعيين المجتهد، بل وجب عليه العمل بظنه في تعيين الحكم الواقعي.

وكذا القاضي إذا شهد عنده عادل واحد بالحق لا يعمل به، وإذا أخبره هذا العادل بعينه بطريق قطع هذه المخاصمة يأخذ به.

فإنما هو لاجل قدرته على الاجتهاد في مسأله الطريق بإعمال الظنون وبذل الجهد في المعارضات ودفعها.

بخلاف الظن بحقية أحد المتخاصمين، فإنه مما يصعب الاجتهاد وبذل الوسع في فهم الحق من المتخاصمين، لعدم إنضباط الامارات في الوقائع الشخصية وعدم قدرة المجتهد على الاحاطه بها حتى يأخذ بالاحرى.

وكما أن المقلد عاجز عن الاجتهاد في المسألة الكلية، كذلك القاضي عاجز عن الاجتهاد في الوقائع الشخصية، فتأمل.

هذا، مع إمكان أن يقال: إن مسألة عمل القاضي بالظن في الطريق مغايرة لمسألتنا، من جهة أن الشارع لم يلاحظ الواقع في نصب الطريق وأعرض عنه، وجعل مدار قطع الخصومة على الطرق التعبدية، مثل الاقرار والبينة واليمين والنكول والقرعة وشبهها، بخلاف الطرق المنصوبة للمجتهد على الاحكام الواقعية، فإن الظاهر أن مبناها على الكشف الغالبي عن الواقع، ووجه تخصيصها من بين سائر الامارات كونها أغلب مطابقة للواقع وكون غيرها غير غالب المطابقة، بل غالب المخالفة.

كما ينبئ عنه ما ورد في العمل بالعقول في دين الله: (وإنه ليس شئ أبعد عن دين الله من عقول الرجال، وإن ما يفسده أكثر مما يصلحه، وإن الدين يمحق بالقياس،

٢١٩

ونحو ذلك).

ولا ريب أن المقصود من نصب الطريق إذا كان غلبة الوصول إلى الواقع لخصوصية فيها من بين سائر الامارات، ثم إنسد باب العلم بذلك الطريق المنصوب والتجا إلى إعمال سائر الامارات التي لم يعتبرها الشارع في نفس الحكم لوجوب الاوفق منها بالواقع، فلا فرق بين إعمال هذه الامارات في تعيين ذلك الطريق وبين إعمالها في نفس الحكم الواقعي.

بل الظاهر أن إعمالها في نفس الواقع أولى لاحراز المصلحة الاولية التي هي أحق بالمراعاة من مصلحة نصب الطريق، فإن غاية ما في نصب الطريق من المصلحة ما به يتدارك المفسدة المترتبة على مخالفة الواقع اللازمة من العمل بذلك الطريق، لا إدراك المصلحة الواقعية.

ولهذا إتفق العقل والنقل على ترجيح الاحتياط على تحصيل الواقع بالطريق المنصوب في غير العبادات مما لا يعتبر فيه نية الوجه إتفاقا، بل الحق ذلك فيها أيضا، كما مرت الاشارة إليه في إبطال وجوب الاحتياط.

فإن قلت: العمل بالظن في الطريق عمل بالظن في الامتثال الظاهري والواقعي، لان الفرض إفادة الطريق للظن بالواقع، بخلاف غير ما ظن طريقيته، فإنه ظن بالواقع وليس ظنا بتحقق الامتثال في الظاهر، بل الامتثال الظاهري مشكوك أو موهوم بحسب إحتمال إعتبار ذلك الظن.

قلت: أولا، إن هذا خروج عن الفرض، لان مبنى الاستدلال المتقدم على وجوب العمل بالظن في الطريق وإن لم يكن الطريق مفيدا للظن به أصلا.

نعم قد إتفق في الخارج أن الامور التي يعلم بوجود الطريق فيها إجمالا مفيدة للظان شخصا أو نوعا، لا أن مناط الاستدلال إتباع الظن بالطريق المفيد للظن بالواقع.

وثانيا، إن هذا يرجع إلى ترجيح بعض الامارات الظنية على بعض بإعتبار الظن بإعتبار بعضها شرعا دون الاخر، بعد الاعتراف بأن مؤدى دليل الانسداد حجية الظن بالواقع لا بالطريق.

وسيجئ الكلام في أن نتيجة دليل الانسداد على تقدير إفادته إعتبار الظن بنفس الحكم كلية بحيث لا يرجح بعض الظنون على بعض أو مهملة بحيث يجب الترجيح بين الظنون، ثم التعميم مع فقد المرجح؟ والاستدلال المذكور مبني على إنكار ذلك كله، وأن دليل الانسداد جار في مسألة تعيين

٢٢٠