فرائد الاصول الجزء ١

فرائد الاصول0%

فرائد الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 406

فرائد الاصول

مؤلف: الشيخ مرتضى الأنصاري
تصنيف:

الصفحات: 406
المشاهدات: 43946
تحميل: 8496


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 43946 / تحميل: 8496
الحجم الحجم الحجم
فرائد الاصول

فرائد الاصول الجزء 1

مؤلف:
العربية

ونظيره: أن الوالد إذا أقام ولده الصغير في دكانه في مكانه، وعلم منه أنه يبيع أجناسه بحسب ظنونه القاصرة، صح له منعه عن العمل بظنه.

ويكون منعه في الواقع لاجل عدم الخسارة في البيع، ويكون هذا النهي في نظر الصبي بوجود النفع في المعاملة الشخصية إقداما منه ورضى بالخسارة وترك العمل بما يظنه نفعا، لئلا يقع في الخسارة في مقامات أخر، فإن حصول الظن الشخصي بالنفع تفصيلا في بعض الموارد لا ينافي علمه بأن العمل بالظن القياسي منه ومن غيره في هذا المورد وفي غيره يوجب الوقوع غالبا في مخالفة الواقع.

ولذا علمنا ذلك من الاخبار المتواترة معنى مع حصول الظن الشخصي في الموارد منه، إلا أنه كل مورد حصل الظن، نقول بحسب ظننا إنه ليس من موارد التخلف.

فنحمل عموم نهي الشارع الشامل لهذا المورد على رفع الشارع يده عن الواقع وإغماضه عن الواقع في موارد مطابقة القياس، لئلا يقع في مفسدة تخلفه عن الواقع في أكثر الموارد.

هذا جملة ما حضرني من نفسي ومن غيري في دفع الاشكال، وعليك بالتأمل في هذا المجال، والله العالم بحقيقة الحال.

٢٦١

المقام الثاني: فيما إذا قام ظن من أفراد مطلق الظن على حرمة العمل ببعضها بالخصوص

لا على عدم الدليل على إعتباره فيخرج مثل الشرة القائمة على عدم حجية الشهرة، لان مرجعها إلى إنعقاد الشهرة على عدم الدليل على حجية الشهرة وبقائها تحت الاصل.

وفي وجوب العمل بالظن الممنوع أو المانع أو الاقوى منهما أو التساقط وجوه بل أقوال.

ذهب بعض مشايخنا إلى الاول، بناء على ما عرفت سابقا، من بناء غير واحد منهم على أن دليل الانسداد لا يثبت إعتبار الظن في المسائل الاصولية التي منها مسالة حجية الممنوع.

ولازم بعض المعاصرين الثاني، بناء على ما عرفت منه، من أن اللازم بعد الانسداد تحصيل الظن الطريقي، فلا عبرة بالظن بالواقع ما لم يقم على إعتباره ظن.

وقد عرفت ضعف كلا البنائين وأن نتيجة مقدمات الانسداد هو الظن بسقوط التكاليف الواقعية في نظر الشارع الحاصل بموافقة نفس الواقع وبموافقة طريق رضى الشارع به عن الواقع.

نعم بعض من وافقنا، واقعا أو تنزلا، في عدم الفرق في النتيجة بين الظن بالواقع والظن بالطريق، إختار في المقام وجوب طرح الظن الممنوع نظرا إلى أن مفاد دليل الانسداد، كما عرفت في الوجه الخامس من وجوه دفع إشكال خروج القياس، هو إعتبار كل ظن لم يقم على عدم إعتباره دليل معتبر.

والظن الممنوع مما قام على عدم إعتباره دليل معتبر، وهو الظن المانع، فإنه معتبر حيث لم يقم دليل على المنع منه، لان الظن الممنوع لم يدل على حرمة الاخذ بالظن المانع.

غاية الامر أن الاخذ به مناف للاخذ بالمانع، لا أنه يدل على وجوب طرحه، بخلاف الظن المانع، فإنه يدل على وجوب طرح الظن الممنوع.

فخروج الممنوع من باب التخصص لا التخصيص، فلا يقال: إن دخول أحد المتنافيين تحت

٢٦٢

العام لا يصلح دليلا لخروج الآخر مع تساويهما في قابلية الدخول من حيث الفردية.

ونظير ما نحن فيه: ما تقرر في الاستصحاب، من أن مثل إستصحاب طهارة الماء المغسول به الثوب النجس دليل حاكم على إستصحاب نجاسة الثوب وإن كان كل من طهارة الماء ونجاسة الثوب، مع قطع النظر عن حكم الشارع بالاستصحاب متيقنة في السابق مشكوكة في اللاحق، وحكم الشارع بإبقاء كل متيقن في السابق مشكوك في اللاحق متساويا بالنسبة إليهما.

إلا أنه لما كان دخول يقين الطهارة في عموم الحكم بعدم النقض والحكم عليه بالبقاء يكون دليلا على زوال نجاسة الثوب المتيقنة سابقا، فيخرج عن المشكوك لاحقا، بخلاف دخول يقين النجاسة والحكم عليها بالبقاء، فإنه لا يصلح للدلالة على طرو النجاسة للماء المغسول به قبل الغسل وإن كان منافيا لبقائه على الطهارة.

وفيه: أولا، أنه لا يتم فيما إذا كان الظن المانع والممنوع من جنس أمارة واحدة.

كأن يقوم الشهرة مثلا على عدم حجية الشهرة، فإن العمل ببعض أفراد الامارة، وهي الشهرة في المسألة الاصولية دون البعض الاخر، وهي الشهرة في المسأله الفرعية، كما ترى.

وثانيا، أن الظن المانع إنما يكون على فرض إعتباره دليلا على عدم إعتبار الممنوع، لان الامتثال بالممنوع حيئنذ مقطوع العدم.كما تقرر في توضيح الوجه الخامس من وجوه دفع إشكال خروج القياس.وهذا المعنى موجود في الظن الممنوع.

مثلا، إذا فرض صيرورة الاولوية مقطوعة الاعتبار بمقتضى دخولها تحت دليل الانسداد لم يعقل بقاء الشهرة المانعة عنها على إفادة الظن بالمنع.

ودعوى: (أن بقاء الظن من الشهرة بعدم إعتبار الاولوية دليل على عدم حصول القطع من دليل الانسداد بحجية الاولوية، وإلا لارتفع بعدم حجيتها.

فكيشف ذلك عن دخول الظن المانع تحت دليل الانسداد)، معارضة بأنا لا نجد من أنفسنا القطع بعدم تحقق الامتثال بسلوك الطريق الممنوع، فلو كان الظن المانع داخلا لحصل القطع بذلك.

وحل ذلك: أن الظن بعدم إعتبار الممنوع إنما هو مع قطع النظر عن ملاحظة دليل الانسداد، ولا نسلم بقاء الظن بعد ملاحظته.

ثم إن الدليل العقلي يفيد القطع بثبوت الحكم بالنسبة إلى جميع أفراد موضوعه.

فإذا تنافي دخول فردين فإما أن يكشف عن فساد ذلك الدليل، وإما أن يجب طرحهما، لعدم حصول القطع من ذلك الدليل العقلي بشئ منهما، وإما أن يحصل القطع بدخول أحدهما فيقطع بخروج الاخر، فلا معنى للترديد بينهما وحكومة أحدهما على الاخر.

٢٦٣

فما مثلنا به المقام، من إستصحاب طهارة الماء وإستصحاب نجاسة الثوب، مما لا وجه له، لان مرجع تقديم الاستصحاب الاول إلى تقديم التخصص على التخصيص، ويكون أحدهما دليلا رافعا لليقين السابق، بخلاف الاخر.

فالعمل بالاول تخصص وبالثاني تخصيص.

ومرجعه - كما تقرر في مسألة تعارض الاستصحابين - إلى وجوب العمل بالعام تعبدا إلى أن يحصل الدليل على التخصيص.

إلا أن يقال: إن القطع بحجية المانع عين القطع بعدم حجية الممنوع، لان معنى حجية كل شئ وجوب الاخذ بمؤداه.

لكن القطع بحجية الممنوع التي هي نقيض مؤدى المانع مستلزم للقطع بعدم حجية المانع.

فدخول المانع لا يستلزم خروج الممنوع، وإنما هو عين خروجه، فلا ترجيح ولا تخصيص.

بخلاف دخول الممنوع، فإن يستلزم خروج المانع، فيصير ترجيحا من غير مرجح، فافهم.

والاولى أن يقال: إن الظن بعدم حجية الامارة الممنوعة لا يجوز كما عرفت سابقا في (الوجه السادس) - ان يكون من باب الطريقية، بل لا بد أن يكون من جهة إشتمال الظن الممنوع على مفسدة غالبة على مصلحة إدراك الواقع.

وحينئذ فإذا ظن بعدم إعتبار فقد الظن بإدراك الواقع، لكن مع الظن بترتب مفسدة غالبة، فيدور الامر بين المصلحة المظنونة والمفسدة المظنونة، فلا بد من الرجوع إلى الاقوى.

فإذا ظن بالشهرة نهي الشارع عن العمل بالاولوية، فيلاحظ مرتبة هذا الظن.

فكل أولوية في المسألة كان أقوى مرتبة من ذلك الظن الحاصل من الشهرة أخذ به، وكل أولوية كان أضعف منه وجب طرحه.

وإذا لم يتحقق الترجيح بالقوة حكم بالتساقط، لعدم إستقلال العقل بشئ منهما حنيئذ.

هذا إذا لم يكن العمل بالظن المانع سليما عن محذور ترك العمل بالظن الممنوع.

كما إذا خالف الظن الممنوع الاحتياط اللازم في المسألة، وإلا تعين العمل به لعدم التعارض.

٢٦٤

الامر الثالث: لا فرق بين الظن من أمارة على حكم وأمارة متعلقة بألفاظ الدليل

أنه لا فرق في نتيجة مقدمات دليل الانسداد بين الظن الحاصل أولا من الامارة بالحكم الفرعي الكلي كالشهرة أو نقل الاجماع على حكم، وبين الحاصل به من أمارة متعلقة بألفاظ الدليل.

كأن يحصل الظن، من قوله تعالى: (فتيمموا صعيدا)، بجواز التيمم بالحجر مع وجود التراب الخالص، بسبب قول جماعة من أهل اللغة: (إن الصعيد هو مطلق وجه الارض).

ثم إن الظن المتعلق بالالفاظ على قسمين ذكرناهما في بحث حجية الظواهر.

أحدهما: ما يتعلق بتشخيص الظواهر، مثل الظن من الشهرة بثبوت الحقائق الشرعية، وبأن الامر ظاهر في الوجوب لاجل الوضع، وأن الامر عقيب الحظر ظاهر في الاباحة الخاصة أو في مجرد رفع الحظر، وهكذا.

والثاني: ما يتعلق بتشخيص إرادة الظواهر وعدمها، كأن يحصل ظن بإرادة المعنى المجازى أو أحد معاني المشترك لاجل تفسير الراوي مثلا أو من جهة كون مذهبه مخالفا لظاهر الرواية.

وحاصل القسمين الظنون غير الخاصة المتعلقة بتشخيص الظواهر أو المرادات، والظاهر حجيتها عند كل من قال بحجية مطلق الظن لاجل الانسداد.

ولا يحتاج إثبات ذلك إلى إعمال دليل الانسداد في نفس المظنون المتعلقة بالافاظ، بأن يقال: إن العلم فيها قليل.

فلو بني الامر على إجراء الاصل لزم كذا وكذا، بل لو إنفتح باب العلم في جميع الالفاظ إلا في مورد واحد وجب العمل بالظن الحاصل بالحكم الفرعي عن تلك الامارة المتعلقة بمعاني الالفاظ عند إنسداد باب العلم في الاحكام.

وهل يعمل بذلك الظن في سائر الثمرات المترتبة على تعيين معنى اللفظ في غير مقام تعيين الحكم الشرعي الكلي، كالوصايا والاقارير والنذرو؟ فيه إشكال.

والاقوى العدم، لان مرجع

٢٦٥

العمل بالظن فيها إلى العمل بالظن في الموضوعات الخارجية المترتبة عليها الاحكام الجزئية الغير المحتاجة إلى بيان الشارع حتى يدخل فيما إنسد فيه باب العلم.

وسيجئ عدم إعتبار الظن فيها.

نعم من جعل الظنون المتعلقة بالالفاظ من الظنون الخاصة مطلقا لزمه الاعتبار في الاحكام والموضوعات، وقد مر تضعيف هذا القول عند الكلام في الظنون الخاصة.

وكذا لا فرق بين الظن الحاصل بالحكم الفرعي الكلي من نفس الامارة أو عن أمارة متعلقة بالالفاظ، وبين الحصل بالحكم الفرعي الكلي من الامارة المتعلقة بالموضوع الخارجي، ككون الراوي عادلا او مؤمنا حال الرواية وكون زرارة هو إبن أعين، لا إبن لطيفة، وكون علي بن الحكم هو الكوفي، بقرينة رواية أحمد بن محمد عنه.

فإن جميع ذلك وإن كان ظنا بالموضوع الخارجي، إلا أنه لما كان منشاء للظن بالحكم الفرعي الكلي الذي إنسد فيه باب العلم عمل به من هذه الجهة، وإن لم نعمل به من سائر الجهات المتعلقة بعدالة ذلك الرجل أو بتشخيصه عند إطلاق إسمه المشترك.

ومن هنا تبين أن الظنون الرجالية معتبرة بقول مطلق عند من قال بمطلق الظن في الاحكام، ولا يحتاج إلى تعيين أن إعتبار أقوال أهل الرجال من جهة دخولها في الشهادة أو في الرواية، ولا يقتصر على أقوال أهل الخبرة، بل يقتصر على تصحيح الغير للسند وإن كان من آحاد العلماء إذا أفاد قوله الظن بصدق الخبر المستلزم للظن بالحكم الفرعي الكلي.

وملخص هذا الامر الثالث أن كل ظن تولد منه الظن بالحكم الفرعي الكلي فهو حجة من هذه الجهة، سواء كان الحكم الفرعي واقعيا أو كان ظاهريا، كالظن بحجية الاستصحاب تعبدا وبحجية الامارة الغير المفيدة للظن الفعلي بالحكم، وسواء تعلق الظن أولا بالمطالب العملية أو غيرها أو بالامور الخارجية من غير إستثناء في سبب هذا الظن.

ووجهه واضح، فإن مقتضى النتيجة هو لزوم الامتثال الظني وترجيح الراجح على المرجوح في العمل.

حتى أنه لو قلنا بخصوصية في بعض الامارات بناء على عدم التعميم في نتيجة دليل الانسداد، لم يكن فرق بين ما تعلق تلك الامارة بنفس الحكم أو بما يتولد منه الظن بالحكم.

ولا إشكال في ذلك أصلا إلا أن يغفل غافل عن مقتضى دليل الانسداد فيدعي الاختصاص بالبعض دون البعض من حيث لا يشعر.

وربما تخيل بعض أن العمل بالظنون المطلقة في الرجال غير مختص بمن يعمل بمطلق الظن في الاحكام، بل المقتصر على الظنون الخاصة في الاحكام أيضا عامل بالظن المطلق في الرجال.

٢٦٦

وفيه نظر يظهر للمتتبع لعمل العلماء في الرجال، فإنه يحصل القطع بعدم بنائهم فيها على العمل بكل أمارة.

نعم لو كان الخبر المظنون الصدور مطلقا أو بالظن الاطميناني من الظنون الخاصة لقيام الاخبار أو الاجماع عليه، لزم القائل به العمل بمطلق الظن أو الاطميناني منه في الرجال، كالعامل بالظن المطلق في الاحكام.

ثم إنه قد ظهر بما ذكرنا أن الظن في المسائل الاصولية العملية حجة بالنسبة إلى ما يتولد منه من الظن بالحكم الفرعي الواقعي أو الظاهرى.

* * *

وربما منع منه غير واحد من مشايخنا رضوان الله عليهم.

وما استند إليه أو يصح الاستناد إليه للمنع أمران: أحدهما أصالة الحرمة وعدم شمول دليل الانسداد لان دليل الانسداد، إما أن يجري في خصوص المسائل الاصولية كما يجري في خصوص الفروع، وإما أن يقرر دليل الانسداد بالنسبة إلى جميع الاحكام الشرعية، فيثبت حجية الظن في الجميع ويندرج فيها المسائل الاصولية، وإما أن يجري في خصوص المسائل الفرعية، فيثبت به إعتبار الظن في خصوص الفروع، لكن الظن بالمسألة الاصولية يستلزم الظن بالمسألة الفرعية التي تبتنى عيها.وهذه الوجوه بين ما لا يصح وبين منا لا يجدي.

أما الاول، فهو غير صحيح، لان المسائل الاصولية التي ينسد فيها باب العلم ليست في أنفسها من الكثرة بحيث يستلزم من إجراء الاصول فيها محذور كان يلزم من إجراء الاصول في المسائل الفرعية التي إنسد فيها باب العلم، لان ما كان من المسائل الاصولية يبحث فيها عن كون شئ حجة، كمسألة حجية الشهرة ونقل الاجماع وأخبار الاحاد، أو عن كونه مرجحا، فق إنفتح فيها باب العلم وعلم الحجة منها من غير الحجة والمرجح منها من غيره بإثبات حجية الظن في المسائل الفرعية إذ بإثبات ذلك المطلب حصل الدلالة العقلية على أن ما كان من الامارات داخلة في نتيجة دليل الانسداد فهو حجة.

وقس على ذلك معرفة المرجح، فإنا قد علمنا بدليل الانسداد أن كلا من المتعارضين إذا اعتضد بما يوجب قوته على غيره من جهة من الجهات فهو راجح على صاحبه مقدم عليه في العمل.

٢٦٧

وما كان منها يبحث فيها عن الموضوعات الاستنباطية، وهي ألفاظ الكتاب والسنة، من حيث إستنباط الاحكام عنهما، كمسائل الامر والنهي وأخواتهما، من الطلق والمقيد والعام والخاص والمجمل والمبين، إلى غير ذلك، فقد علم حجية الظن فيها من حيث إستلزام الظن بها الظن بالحكم الفرعي الكلي الواقعي.

لما عرفت من أن مقتضى دليل الانسداد في الفروع حجية الظن الحاصل بها من الامارة إبتداء، والظن المتولد من أمارة موجودة في مسألة لفظية.

ويلحق بهما بعض المسائل العقلية، مثل وجوب المقدمة وحرمة الضد وإمتناع إجتماع الامر والنهي، والامر مع العلم بإنتفاء شرطه ونحو ذلك مما يستلزم الظن به الظن بالحكم الفرعي، فإنه يكفي في حجية الظن بها بإجراء دليل الانسداد في خصوص الفروع ولا يحتاج إلى إجرائه في الاصول.

وبالجملة، فبعض المسائل الاصولية صارت معلومة بدليل الانسداد وبعضها صارت حجية الظن فيها معلومة بدليل الانسداد في الفروع.

فالباقي منها الذي يحتاج في إثبات حجية الظن فيها إلى إجراء دليل الانسداد في خصوص الاصول ليس في الكثرة بحيث يلزم من العمل بالاصول وطرح الظن الموجود فيها محذور وإن كانت في أنفسها كثيرة، ثمل المسائل الباحثة عن حجية بعض الامارات، كخبر الواحد ونقل الاجماع لا بشرط الظن الشخصي، وكالمسائل الباحثة عن شروط أخبار الآحاد على مذهب من يراها ظنونا خاصة، والباحثة عن بعض المرجحات التعبدية ونحو ذلك، فإن هذه المسائل لا تصير معلومة بإجراء دليل الانسداد في خصوص الفروع.

لكن هذه المسائل بل وأضعافها ليست في الكثرة بحيث لو رجع مع حصول الظن بأحد طرفي المسألة إلى الاصول وطرح ذلك الظن لزم محذور كان يلزم في الفروع.

وأما الثاني - وهو إجراء دليل الانسداد في مطلق الاحكام الشرعية، فرعية كانت أو أصلية - فهو غير مجد، لان النتيجة وهو العمل بالظن لا يثبت عمومه من حيث موارد الظن إلا بالاجماع المركب أو الترجيح بلا مرجح، بأن يقال: إن العمل بالظن في الطهارات دون الديات، مثلا، ترجيح بلا مرجح ومخالف للاجماع.

وهذان الوجهان مفقودان في التعميم والتسوية بين المسائل الفرعية والمسائل الاصولية.

أما فقد الاجماع فواضح، لان المشهور، كما قيل، على عدم إعتبار الظن في الاصول.

وأما وجود المرجح، فلان الاهتمام بالمطالب الاصولية أكثر، لابتناء الفروع عليها.

وكلما كانت المسألة مهمة كان الاهتمام فيها أكثر، والتحفظ عن الخطأ فيها آكد، ولذا يعبرون في مقام المنع عن ذلك بقولهم: إن إثبات مثل

٢٦٨

هذا الاصل بهذا مشكل، أو إنه إثبات أصل بخبر، ونحو ذلك.

وأما الثالث، وهو إختصاص مقدمات الانسداد ونتيجتها بالمسائل الفرعية، إلا أن الظن بالمسألة الفرعية قد يتولد من الظن في المسألة الاصولية.

فالمسألة الاصولية بمنزلة المسائل اللغوية يعتبر الظن فيها من حيث كونه منشاء للظن بالحكم الفرعي.

ففيه: أن الظن بالمسألة الاصولية إن كان منشاء للظن بالحكم الفرعي الواقعي، كالباحثة عن الموضوعات المستنبطة والمسائل العقلية، مثل وجوب المقدمة وإمتناع إجتماع الامر والنهي، فقد إعترفنا بحجية الظن فيها.

وأما ما لا يتعلق بذلك وتكون باحثة عن أحوال الدليل من حيث الاعتبار في نفسه أو عند المعارضة، وهي التي منعنا عن حجية الظن فيها، فليس يتولد عن الظن فيها الظن بالحكم الفرعي الواقعي، وإنما ينشأ منه الظن بالحكم الفرعي الظاهري.

وهو مما لم يقتض إنسداد باب العلم بالاحكام الواقعية العمل بالظن فيه، فإن إنسداد باب العلم في حكم العصير العنبي إنما يقتضي العمل بالظن في ذلك الحكم المنسد، لا في حكم العصير من حيث أخبر عادل بحرمته.

بل أمثال هذه الاحكام الثابتة للموضوعات، لا من حيث هي، بل من حيث قيام الامارة الغير المفيدة للظن الفعلي عليها إن ثبت إنسداد باب العلم فيها على وجه يلزم المحذور من الرجوع فيها إلى الاصول عمل فيها بالظن، وإلا فإنسداد باب العلم في الاحكام الواقعية وعدم إمكان العمل فيها بالاصول لا يقتضي العمل بالظن في هذه الاحكام، لانها لا تغنى عن الواقع المنسد فيه العلم.

هذا غاية توضيح ما قرره إستاذنا الشريف، قدس سره اللطيف، في منع نهوض دليل الانسداد لاثبات حجية الظن في المسائل الاصولية.

الثاني من دليلي المنع:

هو أن الشهرة المحققة والاجماع المنقول على عدم حجية الظن في مسائل أصول الفقه، وهي مسالة أصولية، فلو كان الظن فيها حجة وجب الاخذ بالشهرة ونقل الاجماع في هذه المسالة.

والجواب، أما عن الوجه الاول فبأن دليل الانسداد وارد على أصالة حرمة العمل بالظن.

والمختار في الاستدلال به للمقام هو الوجه الثالث، وهو إجراؤه في الاحكام الفرعية، والظن في المسائل الاصولية مستلزم للظن في المسألة الفرعية.

٢٦٩

وما ذكر من كون اللازم منه هو الظن بالحكم الفرعي الظاهري صحيح.

إلا أن ما ذكر - من أن إنسداد باب العلم في الاحكام الواقعية وبقاء التكليف بها وعدم جواز الرجوع فيها إلى الاصول لا يقتضي إلا إعتبار الظن بالحكم الفرعي الواقعي - ممنوع، بل المقدمات المذكورة، كما عرفت غير مرة، إنما تقتضي إعتبار الظن بسقوط تلك الاحكام الواقعية وفراغ الذمة منها.

فإذا فرضنا مثلا أنا ظننا بحكم العصير لا واقعا، بل من حيث قام عليه ما لا يفيد الظن الفعلي بالحكم الواقعي.

فهذا الظن يكفي في الظن بسقوط الحكم الواقعي للعصير.

بل لو فرضنا أنه لم يحصل ظن بحكم واقعي أصلا، وإنما حصل الظن بحجية أمور لا تفيد الظن، فإن العمل بها يظن معه سقوط الاحكام الواقعية عنا، لما تقدم من أنه لا فرق في سقوط الواقع بين الاتيان بالواقع علما أو ظنا وبين الاتيان ببدله كذلك.فالظن بالاتيان بالبدل كالظن بإتيان الواقع، وهذا واضح.

وأما الجواب عن الثاني: أولا، فبمنع الشهرة والاجماع، نظرا إلى أن المسألة من المستحدثات، فدعوى الاجماع فيها مساوقة لدعوى الشهرة.

وثانيا، لو سلمنا الشهرة، لكنه لاجل بناء المشهور على الظنون الخاصة، كأخبار الآحاد والاجماع المنقول.

وحيث أن المتبع فيها الادلة الخاصة، وكانت أدلتها كالاجماع والسيرة على حجية أخبار الآحاد مختصة بالمسائل الفرعية بقيت المسائل الاصولية تحت أصالة حرمة العمل بالظن، ولم يعلم بل ولم يظن من مذهبهم الفرق بين الفروع والاصول، بناء على مقدمات الانسداد وإقتضاء العقل كفاية الخروج الظني عن عهدة التكاليف الواقعية.

وثالثا، سلمنا قيام الشهرة والاجماع المنقول على عدم الحجية على تقدير الانسداد، لكن المسالة أعني كون مقتضى الانسداد هو العمل بالطن مطلقا أو في خصوص الفروع عقلية، والشهرة ونقل الاجماع إنما تفيدان الظن في المسائل التوقيفيه دون العقلية.

ورابعا، إن حصول الظن بعدم الحجية منع تسليم دلالة دليل الانسداد على الحجية لا يجتمعان، فتسليم دليل الانسداد يمنع من حصول الظن.

وخامسا، سلمنا حصول الظن، لكن غاية الامر دخول المسألة فيما تقدم من قيام الظن على عدم حجية ظن، وقد عرفت أن المرجع فيه إلى متابعة الظن الاقوى، فراجع.

٢٧٠

الامر الرابع: الثابت بالمقدمات هو الاكتفاء بالظن في الخروج عن عهدة الاحكام

ان الثابت بمقدمات دليل الانسداد هو الاكتفاء بالظن في الخروج عن عهدة الاحكام المنسد فيها باب العلم، بمعنى أن المظنون إذا خالف حكم الله الواقعي لم يعاقب بل يثاب عليه، فالظن بالامتثال إنما يكفي في مقام تعيين الحكم الشرعي الممتثل.

وأما في مقام تطبيق العمل الخارجي على ذلك المعين، فلا دليل على الاكتفاء فيه بالظن.

مثلا، إذا شككنا في وجوب الجمعة أو الظهر جاز لنا تعيين الواجب الواقعي بالظن.

فلو ظننا وجوب الجمعة فلا نعاقب على تقدير وجوب الظهر واقعا، لكن لا يلزم من ذلك حجية الظن في مقام العمل على ذبق ذلك الظن، فإذا ظننا بعد مضي مقدار من الوقت بأنا قد أتينا بالجمعة في هذا اليوم، لكن احتمل نسيانها فلا يكفي الظن بالامتثال من هذه الجهة، بمعنى أنه إذا لم نأت بها في الواقع ونسيانها قام الظن بالاتيان مقام العمل به، بل يجب بحكم الاصل وجوب الاتيان بها.

وكذلك لو ظننا بدخول الوقت وأتينا بالجمعة فلا يقتصر على هذا الظن بمعنى عدم العقاب على تقدير مخالفة الظن للواقع بإتيان الجمعة قبل الزوال.

وبالجملة إذا ظن المكلف بالامتثال وبراء‌ة ذمته وسقوط الواقع، فهذا الظن إن كان مستندا إلى الظن في تعيين الحكم الشرعي كان المكلف فيه معذورا مأجورا على تقدير المخالفة للواقع، وإن كان مستندا إلى الظن بكون الواقع في الخارج منه منطبقا على الحكم الشرعي فليس معذورا، بل يعاقب على ترك الواقع أو ترك الرجوع إلى القواعد الظاهرية التي هى المعول لغير العالم.

ومما ذكرنا تبين: أن الظن بالامور الخارجية عند فقد العلم بإنطباقها على المفاهيم الكلية التي تعلق بها الاحكام الشرعية لا دليل على إعتباره، وأن دليل الانسداد إنما يعذر الجاهل فيما إنسد فيه باب العلم، لفقد الادلة المنصوبة من الشارع أو إجمال ما وجد منها.ولا يعذر الجاهل بالامتثال من

٢٧١

غير هذه الجهة، فإن المعذور فيه هو الظن بأن قبلة العراق ما بين المشرق والمغرب.

أما الظن بوقوع الصلاة إليه فلا يعذر فيه.

فظهر إندفاع توهم أنه إذا بني على الامتثال الظني للاحكام الواقعية فلا يجدي إحراز العلم بإنطباق الخارج على المفهوم، لان الامتثال يرجع بالاخرة إلى الامتثال الظني، حيث أن الظان بكون القبلة ما بين المشرق والمغرب إمتثاله للتكاليف الواقعية ظني، علم بما بين المشرق والمغرب أو ظن.

والحاصل: أن حجية الظن في تعيين الحكم بمعنى معذورية الشخص مع المخالفة لا تستلزم حجيته في الانطباق بمعنى معذوريته لو لم يكن الخارج منطبقا على ذلك الذي عين وإلا لكان الاذن في العمل بالظن في بعض شروط الصلاة أو أجزائها يوجب جوازه في سائرها وهو بديهي البطلان.

فعلم أن قياس الظن بالامور الخارجية على المسائل الاصولية واللغوية وإستلزامه الظن بالامتثال قياس مع الفارق، لان جميع هذه يرجع إلى شئ واحد هو الظن بتعيين الحكم.

ثم من المعلوم عدم جريان دليل الانسداد في نفس الامور الخارجية، لانها غير منوطة بأدلة وأمارات مضبوطة حتى يدعى طرو الانسداد فيها في هذا الزمان، فيجرى دليل الانسداد في أنفسها، لان مرجعها ليس إلى الشرع ولا إلى مرجع آخر منضبط.

نعم قد يوجد في الامور الخارجية ما لا يبعد إجراء نظير دليل الانسداد فيه، كما في موضوع الضرر الذي أنيط به أحكام كثيرة، من جواز التيمم والافطار وغيرهما، فيقال: إن باب العلم بالضرر منسد غالبا، إذ لا يعلم غالبا إلا بعد تحققه.

فإجراء أصالة عدمه في تلك يوجب المحذور، وهو الوقوع في الضرر غالبا، فتعين إناطة الحكم فيه بالظن.

هذا إذا أنيط الحكم بنفس الضرر.وأما إذ أنيط بموضوع الخوف فلا حاجة إلى ذلك.بل يشمل حينئذ الشك أيضا.

ويمكن أن يجري مثل ذلك في مثل العدالة والنسب وشبههما من الموضوعات التي يلزم من إجراء الاصول فيها مع عدم العلم الوقوع في مخالفه الواقع كثيرا، فافهم.

٢٧٢

الامر الخامس في إعتبار الظن في أصول الدين

والاقوال المستفادة من تتبع كلمات العلماء في هذه المسألة، من حيث وجوب مطلق المعرفة أو الحاصلة من خصوص النظر وكفاية الظن مطلقا أو في الجملة، ستة.

الاول: إعتبار العلم فيها من النظر والاستدلال، وهو المعروف عن الاكثر وادعى عليه العلامة في الباب الحادي عشر من مختصر المصباح إجماع العلماء كافة.

وربما يحكى دعوى الاجماع من العضدي، لكن الموجود منه في مسألة عدم جواز التقليد في القليات من أصول الدين دعوى إجماع الامة على وجوب معرفة الله.

الثاني: إعتبار العلم ولو من التقليد، وهو المصرح به في كلام بعض والمحكى عن آخرين.

الثالث: كفاية الظن مطلقا.

وهو المحكي عن جماعة، منهم المحقق الطوسي في بعض الرسائل المنسوبة إليه، وحكي نسبته إليه في فصوله ولم أجده فيه، وعن المحقق الاردبيلي وتلميذه صاحب المدارك، وظاهر شيخنا البهائي والعلامة المجلسي والمحدث الكاشاني وغيرهم، قدس الله أسرارهم.

الرابع: كفاية الظن المستفاد من النظر والاستدلال دون التقليد.

حكي عن شيخنا البهائي، رحمه الله، في بعض تعليقاته على شرح المختصر أنه نسبه إلى بعض.

الخامس كفاية الظن المستفاد من أخبار الآحاد.

وهو الظاهر مما حكاه العلامة، قدس سره، في النهاية عن الاخباريين، من أنهم لم يعولوا في أصول الدين وفروعه إلا على أخبار الآحاد، وحكاه الشيخ في عدته في مسألة حجية أخبار الآحاد عن بعض غفلة أصحاب الحديث.

والظاهر أن مراده حملة الاحاديث الجامدون على ظواهرها المعرضون عما عداها من البراهين العقلية المعارضة لتلك الظواهر.

السادس: كفاية الجزم بل الظن من التقليد مع كون النظر واجبا مستقلا، لكنه معفو عنه، كما

٢٧٣

يظهر من عدة الشيخ، قدس سره، في مسألة حجية أخبار الآحاد وفي أواخر العدة.

* * *

ثم إن محل الكلام في كلمات هؤلاء الاعلام غير منقح.

فالاولى ذكر الجهات التي يمكن أن نتكلم فيها، وتعقيب كل واحدة منها بما يقتضيه النظر من حكمها، فنقول مستعينا بالله: إن مسائل أصول الدين، وهي التي لا يطلب فيها أولا وبالذات إلا الاعتقاد باطنا والتدين ظاهرا وإن ترتب على وجوب ذلك بعض الاثار العملية على قسمين.

أحدهما ما يجب على المكلف الاعتقاد والتدين به غير مشروط بحصول العلم، كالمعارف، فيكون تحصيل العلم من مقدمات الواجب المطلق فيجب.

الثاني ما يجب الاعتقاد والتدين به إذا إتفق حصول العلم به، كبعض تفاصيل المعارف.

٢٧٤

القسم الثاني: الذي يجب الاعتقاد به إذا حصل العلم به

أما الثاني، فحيث كان المفروض عدم وجوب تحصيل المعرفة العلمية، كان الاقوى القول بعدم وجوب العمل فيه بالظن لو فرض حصوله ووجوب التوقف فيه، للاخبار الكثيرة الناهية عن القول بغير علم والآمرة بالتوقف، وأنه: (إذا جاء‌كم ما تعلمون فقولوا به، وإذا جاء‌كم ما لا تعلمونه فها.وأهوى بيده إلى فيه).

ولا فرق في ذلك بين أن يكون الامارة الواردة في تلك المسألة خبرا صحيحا أو غيره.

قال شيخنا الشهيد الثانى في المقاصد العلية - بعد ذكر أن المعرفة بتفاصيل البرزخ والمعاد غير لازم -: (وأما ما ورد عنه، صلى الله عليه وآله، في ذلك من طريق الآحاد فلا يجب التصديق به مطلقا وإن كان طريقه صحيحا، لان الخبر الواحد ظني، وقد اختلف في جواز العمل به في الاحكام الشرعية الظنية، فكيف بالاحكام الاعتقادية العلمية)، إنتهى.

وظاهر الشيخ في العدة أن عدم جواز التعويل في أصول الدين على أخبار الآحاد إتفاقي إلا عن بعض غفلة أصحاب الحديث.وظاهر المحكي في السرائر عن السيد المرتضى عدم الخلاف فيه أصلا.

وهو مقتضى كلام كل من قال بعدم إعتبار أخبار الآحاد في أصول الفقه.

لكن يمكن أن يقال إنه إذا حصل الظن من الخبر: فإن أرادوا بعدم وجوب التصديق بمقتضى الخبر عدم تصديقه علما أو ظنا، فعدم حصول الاول كحصول الثاني قهري لا يتصف بالوجوب وعدمه.

٢٧٥

وإن أرادوا التدين به الذي ذكرنا وجوبه في الاعتقاديات وعدم الاكتفاء فيها بمجرد الاعتقاد - كما يظهر عن بعض الاخبار الدالة على أن فرض اللسان القول والتعبير عما عقد عليه القلب وأقر به، مستشهدا على ذلك بقوله تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا)، إلخ - فلا مانع من وجوبه في مورد خبر الواحد، بناء على أن هذا نوع عمل بالخبر، فإن ما دل على وجوب تصديق العادل لا يأبى الشمول لمثل ذلك.

نعم لو كان العمل بالخبر لا لاجل الدليل الخاص على وجوب العمل به، بل من جهة الحاجة إليه لثبوت التكليف وإنسداد العلم، لم يكن وجه للعمل به في مورد لم يثبت التكليف فيه بالواقع كما هو المفروض، أو يقال: إن عمدة أدلة حجية الاخبار الآحاد وهي الاجماع العملي لا تساعد على ذلك.

ومما ذكرنا يظهر الكلام في العمل بظاهر الكتاب والخبر المتواتر في أصول الدين، فإنه قد لا يأبى دليل حجية الظواهر عن وجوب التدين بما تدل عليه من المسائل الاصولية التي لم يثبت التكليف بمعرفتها.

لكن ظاهر كلمات كثير عدم العمل بها في ذلك.

ولعل الوجه في ذلك أن وجوب التدين المذكور إنما هو من آثار العلم بالمسألة الاصولية، لا من آثار نفسها.

وإعتبار الظن مطلقا أو الظن الخاص، سواء كان من الظواهر أو غيرها، معناه ترتيب الآثار المتفرعة على نفس الامر المظنون لا على العلم به.

وأما ما يتراء‌ى من التمسك بها أحيانا لعبض العقائد، فلاعتضاد مدلولها بتعدد الظواهر وغيرها من القرائن وإفادة كل منها الظن، فيحصل من المجموع القطع بالمسألة، وليس إستنادهم في تلك المسألة إلى مجرد أصالة الحقيقة التي قد لا تفيد الظن بارادة الظاهر، فضلا عن العلم.

ثم إن الفرق بين القسمين المذكورين وتمييز ما يجب تحصيل العلم به عما لا يجب في غاية الاشكال.

وقد ذكر العلامة في الباب الحادي عشر فيما يجب معرفته على كل مكلف من تفاصيل التوحيد والنبوة والامامة والمعاد أمورا لا دليل على وجوبها كذلك، مدعيا أن الجاهل بها عن نظر وإستدلال خارج عن ربقة الايمان مستحق للعذاب الدائم.

وهو في غاية الاشكال.

نعم يمكن أن يقال: إن مقتضي عموم وجوب المعرفة، مثل قوله تعالى: (وما خلقت الجن

٢٧٦

والانس إلا ليعبدون)، أي ليعرفون.

وقوله صلى الله عليه وآله: (وما أعلم بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس)، بناء على أن الافضلية من الواجب، خصوصا مثل الصلاة، تستلزم الوجوب.

وكذا عمومات وجوب التفقه في الدين الشامل للمعارف بقرينة إستشهاد الامام عليه السلام بها، لوجوب النفر لمعرفة الامام بعد موت الامام السابق عليه السلام، وعمومات طلب العلم هو وجوب معرفة الله جل ذكره ومعرفة النبي " ص " والامام عليه السلام.

ومعرفة ما جاء به النبي " ص " على كل قادر يتمكن من تحصيل العلم، فيجب الفحص حتى يحصل اليأس: فإن حصل العلم بشئ من هذه التفاصيل اعتقد وتدين وإلا توقف ولم يتدين بالظن لو حصل له.

ومن هنا قد يقال: إن الاشتغال بالعلم المتكفل لمعرفة الله ومعرفة أوليائه، صلوات الله عليهم، أهم من الاشتغال بعلم المسائل العلمية، بل هو المتعين، لان العمل يصح عن تقليد، فلا يكون الاشتغال بعلمه إلا كفائيا بخلاف المعرفة، هذا.

ولكن الانصاف ممن جانب الاعتساف يقتضي الاذعان بعدم التمكن من ذلك إلا للاوحدي من الناس، لان المعرفة المذكورة لا تصحل إلا بعد تحصيل قوة إستنباط المطالب من الاخبار وقوة نظرية أخرى لئلا يأخذ بالاخبار المخالفة للبراهين العقلية، ومثل هذا الشخص مجتهد في الفروع قطعا، فيحرم عليه التقليد.

ودعوى جوازه له للضرورة ليس بأولى من دعوى جواز ترك الاشتغال بالمعرفة التي لا تحصل غالبا بالاعمال المبتنية على التقليد.هذا إذا لم يتعين عليه الافتاء والمرافعة لاجل قلة المجتهدين.وأما في مثل زماننا فالامر واضح.

فلا تغتر حينئذ بمن قصر إستعداده أو همته عن تحصيل مقدمات إستنباط المطالب الاعتقادية الاصولية والعلمية عن الادلة العقلية والنقلية، فيتركها مبغضا لها، لان الناس أعداء ماجهلوا، ويشتغل بمعرفة صفات الرب جل ذكره وأوصاف حججه، صلوات الله عليهم، بنظر في الاخبار لا يعرف به من ألفاظها الفاعل من المفعول، فضلا عن معرفة الخاص من العام، وبنظر في المطالب العقلية لا يعرف به البديهيات منها، ويشتغل في خلال ذلك بالتشنيع على حملة الشريعة العملية وإستهزائهم بقصور الفهم وسوء النية، فيسأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزء‌ون.

هذا كله حال وجوب المعرفة مستقلا.

٢٧٧

وأما إعتبار ذلك في الاسلام أو الايمان فلا دليل عليه، بل يدل على خلافه الاخبار الكثيرة المفسرة لمعنى الاسلام والايمان.

ففي رواية محمد بن سالم عن أبي جعفر، عليه السلام، المروية في الكافي: (إن الله، عزوجل بعث محمدا، صلى الله عليه وأله وسلم، وهو بمكة عشر سنين، ولم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إلا أدخله الله الجنة بإقراره).

وهو إيمان التصديق، فإن الظاهر أن حقيقة الايمان التي يخرج الانسان بها عن حد الكفر الموجب للخلود في النار لم تتغير بعد إنتشار الشريعة.

نعم ظهر في الشريعة أمور صارت ضرورية الثبوت من النبي، صلى الله عليه وسلم، فيعتبر في الاسلام عدم إنكارها.

لكن هذا لا يوجب التغيير، فإن المقصود أنه لم يعتبر في الايمان ازيد من التوحيد والتصديق بالنبي " ص " وبكونه رسولا صادقا فيما يبلغ.

وليس المراد معرفة تفاصيل ذلك، وإلا لم يكن من آمن بمكة من أهل الجنة أو كان حقيقة الايمان بعد إنتشار الشريعة غيرها في صدر الاسلام.

وفي رواية سليم بن قيس عن أمير المؤمنين، عليه السلام: (إن أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أن يعرفه الله تبارك وتعالى إياه، فيقر له بالطاعة، ويعرفه نبيه فيقر له بالطاعة، ويعرفه إمامه وحجته في أرضه وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة.

فقلت له: يا أمير المؤمنين ! وإن جهل جميع الاشياء إلا ما وصفت؟ قال: نعم).وهي صريحة في المدعى.

وفي رواية أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: (جعلت فداك، أخبرني عن الدين الذي إفترضه الله تعالى على العباد ما لا يسعهم جهله ولا يقبل منهم غيره ما هو؟) فقال: أعده علي.

فأعاد عليه.

فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت من إستطاع إليه سبيلا، وصوم شهر رمضان - ثم سكت قليلا، ثم قال -: والولاية والولاية، مرتين ثم قال -: هذا الذي فرض الله عزوجل على العباد، لا يسأل الرب العباد يوم القيامة، فيقول: ألا زدتني على ما إفترضت عليك، ولكن من زاد زاده الله.

إن رسول الله " ص " سن سنة حسنة ينبغي للناس الاخذ بها).

ونحوها رواية عيسى بن السري، (قلت لابي عبدالله عليه السلام: حدثني عما بنيت عليه

٢٧٨

دعائم الاسلام التي إذا أخذت بها زكى عملي ولم يضرني جهل ما جهلت بعده؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، صلى الله عليه وآله، والاقرار بما جاء من عند الله، وحق في الاموال الزكاة، والولاية التي أمر الله بها ولاية آل محمد " ص "، فإن رسول الله " ص " قال: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).

وقال الله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم)، فكان علي، ثم صار من بعده الحسن، ثم من بعده الحسين، ثم من بعده علي بن الحسين، ثم من بعده محمد بن علي، ثم هكذا يكون الامر.

إن الارض لا تصلح إلا بإمام)، الحديث.

وفي رواية أبي اليسع: (قال: قلت لابي عبدالله، عليه السلام، أخبرني عن دعائم الاسلام التي لا يسع أحدا التقصير عن معرفة شئ منها، التي من قصر عن معرفة شئ منها فسد عليه دينه ولم يقبل منه عمله، ومن عرفها وعمل بها صلح دينه وقبل عمله ولم يضق به مما هو فيه لجهل شئ من الامور جهله؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا الله، والايمان بأن محمدا رسول الله، صلى الله عليه وآله، والاقرار بما جاء به من عند الله وحق في الاموال الزكاة، والولاية التي أمر الله عزوجل بها ولاية آل محمد صلى الله عليه وآله).

وفي رواية إسماعيل: قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الدين الذي لا يسع العباد جهله.

فقال: الدين واسع، وإن الخوارج ضيقوا على أنفسهم، بجهلهم.

فقلت: جعلت فداك ! أما أحدثك بديني الذي أنا عليه؟ فقال: بلى قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والاقرار بما جاء به من عند الله، وأتولاكم وأبرأ من عدوكم ومن ركب رقابكم وتأمر عليكم وظلمكم حقكم.

فقال: ما جهلت شيئا.

فقال: هو والله الذي نحن عليه.

فقلت: فهل يسلم أحد لا يعرف هذا الامر؟ قال: لا إلا المستضعفين.

قلت: من هم؟ قال: نساؤكم وأولادكم.

قال: أرأيت أم أيمن ! فإني أشهد أنها من أهل الجنة، وما كانت تعرف ما أنتم عليه).

فإن في قوله (ما جهلت شيئا)، دلالة واضحةعلى عدم إعتبار الزائد في أصل الدين.

والمستفاد من الاخبار المصرحة بعدم إعتبار معرفة أزيد مما ذكر فيها في الدين - وهو الظاهر أيضا من جماعة من علمائنا الاخيار، كالشهيدين في الالفية وشرحها والمحقق الثاني في الجعفرية وشارحها وغيرهم - وهو أنه يكفي في معرفة الرب التصديق بكونه موجودا وواجب الوجود لذاته والتصديق بصفاته الثبوتية الراجعة إلى صفتي العلم والقدرة ونفي الصفات الراجعة إلى الحاجة

٢٧٩

والحدوث وأنه لا يصدر منه القبيح فعلا أو تركا.

والمراد بمعرفة هذه الامور ركوزها في إعتقاد المكلف، بحيث إذا سألته عن شئ مما ذكر أجاب بما هو الحق فيه لم يعرف التعبير عنه بالعبارات المتعارفة على ألسنة الخواص.

ويكفي في معرفة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، معرفة شخصه بالنسب المعروف المختص به، والتصديق بنبوته وصدقه، فلا يعتبر في ذلك الاعتقاد بعصمته، أعني كونه معصوما بالملكة من أول عمر إلى آخره.

قال في المقاصد العلية: (ويمكن إعتبار ذلك، لان الغرض المقصود من الرسالة لا يتم إلا به، فينتفي بالفائدة التي بإعتبارها وجب إرسال الرسل.

وهو ظاهر بعض كتب العقائد المصدرة بأن من جهل ما ذكروه فيها فليس مؤمنا مع ذكرهم ذلك.

والاول غير بعيد عن الصواب)، إنتهى.

أقول: والظاهر أن مراده ببعض كتب العقائد هو الباب الحادي عشر للعلامة، قدس سره، حيث ذكر تلك العبارة، بل ظاهره دعوى إجماع العلماء عليه.

نعم يمكن أن يقال: إن معرفة ما عدا النبوة واجبة بالاستقلال على من هو متمكن منه بحسب الاستعداد وعدم الموانع، لما ذكرنا من عمومات وجوب التفقه وكون المعرفة أفضل من الصلوات الواجبة، وأن الجهل بمراتب سفراء الله، جل ذكره، مع تيسر العلم بها تقصير في حقهم وتفريط في حبهم ونقص يجب بحكم العقل رفعه، بل من أعظم النقائص.

وقد أومى النبي، صلى الله عليه وآله، إلى ذلك حيث قال مشيرا إلى بعض العلوم الخارجة من العلوم الشرعية: (إن ذلك علم يضر جهله.

- ثم قال: - إنما العلوم ثلاثة، آية محكمة وفريضة عادلة وسنة قائمة، وما سواهن فهو فضل،).

وقد أشار إلى ذلك رئيس المحدثين في ديباجة الكافي، حيث قسم الناس إلى أهل الصحة والسلامة وأهل المرض والزمانة، وذكر وضع التكليف عن الفرقة الاخيرة.

ويكفي في معرفة الائمة، صلوات الله عليهم، معرفتهم بنسبهم المعروف والتصديق بأنهم أئمة يهدون بالحق ويجب الانقياد إليهم والاخذ منهم.وفي وجوب الزائد على ما ذكر من عصمتهم الوجهان.

وقد ورد في بعض الاخبار تفسير معرفة حق الامام بمعرفة كونه إماما مفترض الطاعة.

٢٨٠