فرائد الاصول الجزء ١

فرائد الاصول0%

فرائد الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 406

فرائد الاصول

مؤلف: الشيخ مرتضى الأنصاري
تصنيف:

الصفحات: 406
المشاهدات: 43298
تحميل: 8367


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 43298 / تحميل: 8367
الحجم الحجم الحجم
فرائد الاصول

فرائد الاصول الجزء 1

مؤلف:
العربية

أنه لا ريب في أن مقتضى الاصل عدم الترجيح، كما أن الاصل عدم الحجية.

لان العمل بالخبر الموافق لذلك الظن إن كان على وجه التدين والالتزام بتعين العمل به من جانب الشارع وأن الحكم الشرعي الواقعي هو مضمونه، لا مضمون الاخر من غير دليل قطعي يدل على ذلك، فهو تشريع محرم بالادلة الاربعة، والعمل به لا على هذا الوجه محرم إذا إستلزم مخالفة القاعدة أو الاصل الذي يرجع إليه على تقدير فقد هذا الظن.

فالوجه المتقضي لتحريم العمل بالظن مستقلا من التشريع أو مخالفة الاصول القطعية الموجودة في المسألة جار بعينه في الترجيح بالظن والايات والاخبار الناهية عن القول بغير علم كلها متساوية النسبة إلى الحجية وإلى المرجحية.

وقد عرفت في الترجيح بالقياس أن المرجح يحدث حكما شرعيا لم يكن مع عدمه، وهو وجوب العمل بموافقته عينا، مع كون الحكم لا معه هو التخيير أو الرجوع إلى الاصل الموافق للاخر، هذا.

ولكن الذي يظهر من كلمات معظم الاصوليين هو الترجيح بمطلق الظن.

وليعلم أول أن محل الكلام، كما عرفت في عنوان المقامات الثلاثة أعني الجبر والوهن والترجيح، هو الظن الذي لم يعلم إعتباره.

فالترجح به من حيث السند أو الدلالة ترجيح بأمر خارجي.

وهذا لا دخل له بمسألة أخرى إتفاقية، وهي وجوب العمل بأقوى الدليلين وارجحهما.

فإن الكلام فيها في ترجيح أحد الخبرين الذي يكون بنفسه أقوى من الاخر من حيث السند، كالاعدل والافقه أو المسند أو الاشهر رواية أو غير ذلك، أو من حيث الدلالة، كالعام على المطلق، والحقيقة على المجاز، والمجاز على الاضمار، وغير ذلك.

وبعبارة أخرى، الترجيح بالمرجحات الداخلية من جهة النسد إتفاقي، واستفاض نقل الاجمع من الخاصة والعامة على وجوب العمل بأقوى الدليلين عن الاخر.

والكلام هنا في المرجحات الخارجية المعاضدة لمضمون أحد الخبرين الموجبة لصيرورة مضمونه اقرب إلى الواقع من مضمون الاخر.

نعم لو كشف تلك الامارة عن مزية داخلية لاحد الخبرين على الاخر من حيث سنده أو دلالته دخلت في المسألة الاتفاقية ووجب الاخذ بها، لان العمل بالراجح من الدليلين واجب إجماعا، سواء علم وجه الرجحان تفصيلا أم لم يعلم إلا إجمالا.

ومن هنا ظهر أن الترجيح بالشهرة والاجمع المنقول إذا كشفا عن مزية داخلية في سند أحد الخبرين أو دلالته مما لا ينبغي الخلاف فيه.

نعم لو لم يكشفا عن ذلك إلا ظنا، ففي حجيته أو

٣٠١

إلحاقه بالمرجح الخارجي وجهان، أقواهما الاول، كما سيجئ

* * *

وكيف كان فالذي يمكن أن يستدل به للترجيح بمطلق الظن الخارجي وجوه.

الاول: قاعدة الاشتغال، لدوران الامر بين التخيير وتعيين الموافق للظن.

وتوهم: (إنه قد يكوئن الطرف المخالف موافقا للاحتياط اللازم في المسألة الفرعية فيعارض الاحتياط في المسألة الاصولية بل يرجح عليه في مثل المقام، كما نبهنا عليه عند الكلام في معممات نتيجة دليل الانسداد)، مدفوع بأن المفروض فيما نحن فيه عدم وجوب الاخذ بما وافق الاحتياط من الخبرين لولا الظن: لان الاخذ به، إن كان من جهة إقتضاء المورد للاحتياط، فقد ورد عليه حكم الشارع بالتخيير المرخص للاخذ بخلاف الاحتياط وبراء‌ة الذمة من الواقع في حكم الشارع بالعمل بالخبر المخالف له.

ولهذا يحكم بالتخيير أيضا وإن كان أحدهما موافقا للاستصحاب والاخر مخالفا، إذ كما أن الدليل المعين للعمل به يكون حاكما على الاصول، كذلك الدليل المخير في العمل به وبمعارضه.

وإن كان من جهه بعض الاخبار الدالة على وجوب الاخذ بما وافق الاحتياط وطرح ما خالفه، ففيه ما تقرر في محله من عدم نهوض تلك الاخبار لتخصيص الاخبار الدالة على التخيير.

بل هنا كلام آخر، وهو أن حجية الخبر المرجوح في المقام وجواز الاخذ به يحتاج إلى توقيف، إذ لا يكفي في ذلك ما دل على حجية كلا المتعارضين بعد فرض إمتناع العمل بكل منهما، فيجب الخذ بالمتيقن جواز العمل به وطرح المشكوك، وليس المقام مقام التكليف المردد بين التعيين والتخيير حتى يبنى على مسألة البراء‌ة والاشتغال.

وتمام الكلام في خاتمة الكتاب في مبحث التراجيح إن شاء الله تعالى.

الثاني: ظهور الاجماع على ذلك، كما إستظهره بعض مشايخنا، فتراهم يستدلون في موارد الترجيح ببعض المرجحات الخارجية بإفادته للظن بمطابقة أحد الدليلين للواقع، فكان الكبرى وهي وجوب الاخذ بمطلق ما يفيد الظن على طبق أحد الدليلين مسلمة عندهم.

وربما يستفاد ذلك من الاجماعات المستفيضة على وجوب الاخذ بأقوى المتعارضين.

إلا أنه يشكل بما ذكرنا: من أن الظاهر أن المراد بأقوى الدليلين منهما ما كان كذلك في نفسه ولو إنكشف أمر خارجي عن ذلك، كعمل الاكثر الكاشف عن مرجح داخلي لا نعلمه تفصيلا، فلا يدخل فيه ما كان مضمونه مطابقا لامارة غير معتبرة، كالاستقراء والاولوية الظنية مثلا، على تقدير عدم إعتبارهما، فإن الظاهر خروج ذلك

٣٠٢

عن معتقد تلك الاجماعات، وإن كان بعض أدلتهم ألاخر قد يفيد العموم لما نحن فيه، كقبح ترجيح المرجوح، إلا أنه لا يبعد أن يكون المراد المرجوح في نفسه من المتعارضين لا مجرد المرجوح بحسب الواقع، وإلا إقتضى ذلك حجية نفس المرجح مستقلا.

نعم الانصاف: أن بعض كلماتهم يستفاد منه أن العبرة في الترجيح بصيرورة مضمون أحد الخبرين بواسطة المرجح أقرب إلى الواقع من مضمون الآخر.

وقد إستطهر بعض مشايخنا الاتفاق على الترجيح بكل ظن ما عدا القياس.

فمنها: ما تقدم عن المعارج من الاستدلال للترجيح بالقياس بكون مضمون الخبر الموافق له أقرب إلى الواقع من مضمون الاخر.

ومنها: ما ذكروه في مسائل تعارض الناقل مع المقرر، فإن مرجع ما ذكروا فيها لتقديم أحدهما على الاخر إلى الظن بموافقة احدهما لحكم الله الواقعي.

إلا أن يقال: إن هذا الظن حاصل من نفس الخبر المتصف بكونه مقررا أو ناقلا.

ومنها: ما ذكروه في ترجيح أحد الخبرين بعمل أكثر السلف معللين بأن الاكثر يوفق للصواب بما لا يوافق له الاقل، وفي ترجيحه بعمل علماء المدينة، إلا أن يقال أيضا: إن ذلك كاشف عن مرجح داخلي في احد الخبرين.

وبالجملة فتتبع كلماتهم يوجب الظن القوي بل القطع بأن بناء‌هم على الاخذ بكل ما يشمل على ما يوجب اقربيته إلى الصواب، سواء كان لامر راجع إلى نفسه أو لاحتفافه بأمارة أجنبية توجب قوة مضمونها.

ثم لو فرض عدم حصول القطع من هذه الكلمات بمرجحية الظن المطلق المطابق لمضمون أحد الخبرين، فلا أقل من كونه مظنونا، والظاهر وجوب العمل به في مقابل التخيير وإن لم يجب العمل به في مقابل الاصول.

وسيجئ بيان ذلك إن شاء الله تعالى.

الثالث: ما يظهر من بعض الاخبار، من أن المناط في الترجيح كون أحد الخبرين أقرب مطابقة للواقع، سواء كان لمرجح داخلي كالاعدلية مثلا أو لمرجح خارجي كمطابقته لامارة توجب كون مضمونه أقرب إلى الواقع من مضمون الاخر: مثل ما دل على الترجيح بالاصدقية في الحديث، كما في مقبولة إبن حنظلة، فإنا نعلم أن وجه الترجيح بهذه الصفة ليس إلا كون الخبر الموصوف بها أقرب إلى الواقع من الخبر الغير الوصوف بها، لا لمجرد كون راوي أحدهما أصدق.وليس هذه الصفة مثل الاعدلية وشبهها في إحتمال كون العبرة

٣٠٣

بالظن الحاصل من جهتها بالخصوص.

ولذا اعتبر الظن الحاصل من عدالة البينة دون الحاصل من مطلق الوثاقة، لان صفة الصدق ليست إلا المطابقة للواقع.فمعنى الاصدق هو الاقرب إلى الواقع.فالترجيح بها يدل على أن العبرة بالاقربية من أي سبب حصلت.

ومثل ما دل على ترجيح أوثق الخبرين، فإن معنى الاوثقية شدة الاعتماد عليه، وليس إلا لكون خبره أوثق.

فإذا حصل هذا المعنى في أحد الخبرين من مرجح خارجي اتبع.

ومما يستفاد منه المطلب على وجه الظهور ما دل على ترجيح أحد الخبرين على الاخر بكونه مشهورا بين الاصحاب بحيث يعرفه كلهم وكون الاخر غير مشهور الرواية بينهم، بل ينفرد بروايته بعضهم دون بعض، معللا ذلك بأن المجمع عليه لا ريب فيه، فيدل على أن طرح الاخر لاجل ثبوت الريب فيه، لا لانه لا ريب في بطلانه، كما قد يتوهم، وإلا لم يكن معنى للتعارض وتحير السائل، ولا لتقديمه على الخبر المجمع عليه، إذا كان راويه أعدل كما يقتضيه صدر الخبر، ولا لقول السائل بعد ذلك: (هما مشهوران معا).

فحاصل المرجح هو ثبوت الريب في الخبر الغير المشهور وإنتفاؤه في المشهور، فيكون المشهور من الامر البين الرشد، وغيره من الامر المشكل، لا بين الغي، كما توهم.

وليس المراد به نفي الريب من جميع الجهات، لان الاجماع على الرواية لا يوجب ذلك ضرورة، بل المراد وجود ريب في غير المشهور يكون منتفيا في الخبر المشهور، وهو احتمال وروده على بعض الوجوه أو عدم صدوره رأسا.

وليس المراد بالريب مجرد الاحتمال ولو موهوما، لان الخبر المجمع عليه يحتمل فيه أيضا من حيث الصدور بعض الاحتمالات المتطرقة في غير المشهور، غاية الامر كونه في المشهور في غاية الضعف بحيث يكون خلافه واضحا في غير المشهور إحتمالا مساويا يصدق عليه الريب عرفا.

وحينئذ فيدل على رجحان كل خبر يكون نسبته إلى معارضه مثل نسبة الخبر المجمع على روايته إلى الخبر الذي اختص بروايته بعض دون بعض، مع كونه بحيث لو سلم عن المعارض أو كان روايه أعدل وأصدق من راوي معارضه المجمع عليه لاخذ به،، ومن المعلوم أن الخبر المعتضد بأمارة توجب الظن بمطابقته ومخالفة معارضه للواقع نسبته إلى معارضه تلك النسبة.

ولعله لذا عللل تقديم الخبر المخالف للعامة على الموافق بأن ذاك لا يحتمل إلا الفتوى وهذا يحتمل التقية، لان الريب الموجود في الثاني منتف في الاول.

وكذا كثير من المرجحات الراجعة إلى وجود إحتمال في أحدهما مفقود علما أو ظنا في الاخر، فتدبر.

فكل خبر من المتعارضين يكون فيه ريب لا يوجد في الاخر أو يوجد ولا يعد لغاية ضعفه ريبا، فذاك الاخر مقدم عليه.

٣٠٤

واظهر من ذلك كله، في إفادة الترجيح بمطلق الظن، ما دل من الاخبار العلاجية على الترجيح بمخالفة العامة، بناء على أن الوجه في الترجيح بها أحد وجهين: أحدهما: كون الخبر المخالف أبعد من التقية، كما علل به الشيخ والمحقق.

فيستفاد منه إعتبار كل قرينة خارجية توجب أبعدية أحدهما عن خلاف الحق ولو كانت مثل الشهرة والاستقراء، بل يستفاد منه عدم إشتراط الظن في الترجيح، بل يكفي تطرق إحتمال غير بعيد في أحد الخبرين بعيد في الاخر، كما هو مفاد الخبر المتقدم الدال على ترجيح ما لا ريب فيه على ما فيه الريب بالنسبة إلى معارضه.

لكن هذا الوجه لم ينص عليه في الاخبار، وإنما هو شئ مستنبط منها، ذكره الشيخ ومن تأخر عنه.

نعم في رواية عبيد بن زرارة: (ما سمعته مني يشبه قول الناس ففيه التقية، وما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه)، دلالة على ذلك.

الثاني: كون الخبر المخالف أقرب من حيث المضمون إلى الواقع.

والفرق بين الوجهين: أن الاول كاشف عن وجه صدور الخبر، والثاني كاشف عن مطابقة مضمون أحدهما للواقع.

وهذا الوجه لما نحن فيه منصوص في الاخبار، مثل تعليل الحكم المذكور فيها بقولهم عليهم السلام: (فإن الرشد في خلافهم)، وما (ما خالف العامة ففيه الرشاد).

فإن هذه القضيه قضيه غالبية لا دائمية، فيدل على أنه يكفي في الترجيح الظن بكون الرشد في مضمون أحد الخبرين.

ويدل على هذا التعليل أيضا ما ورد في صورة عدم وجدان المفتي بالحق في بلد، من قوله: (إئت فقيه البلد فاستفته في أمرك، فإذا أفتاك بشئ فخذ بخلافه، فإن الحق فيه).

وأصرح من الكل في التعليل بالوجه المذكور مرفوعة أبي إسحاق الارجاني إلى أبي عبدالله عليه السلام.

قال: قال عليه السلام: (أتدري لم أمرتم بالاخذ بخلاف ما يقوله العامة؟ فقلت: لا أدري: فقال: إن عليا، عليه السلام، لم يكن يدين الله بدين إلا خالف عليه الامة إلى غيره، إرادة لابطال أمره، وكانوا يسألون أمير المؤمنين، عليه السلام، عن الشئ الذي لا يعلمونه، فإذا أفتاهم بشئ جعلوا له ضدا من عند أنفسهم ليلبسوا على الناس).

ويصدق هذا الخبر سيرة أهل الباطل مع الائمة، عليهم السلام، على هذا النحو، تبعا لسلفهم.

حتى أن أبا حنيفة حكي عنه أنه قال: (خالفت جعفرا في كل ما يقول أو يفعل، لكني لا أدري هل يغمض عينيه في الركوع والسجود أو يفتحهما).

٣٠٥

والحاصل: أن تعليل الاخذ بخلاف العامة في هذه الروايات بكونه أقرب إلى الواقع، حتى أنه يجعل دليلا مستقل عند فقد من يرجع إليه في البلد، ظاهر في وجوب الترجيح بكل ما هو من قبيل هذه الامارة في كون مضمونه مظنة الرشد.

فإذا إنضم هذا الظهور إلى الظهور الذي ادعيناه في روايات الترجيح بالاصدقية والاوثقية، فالظاهر أنه يحصل من المجموع دلالة لفظية تامة.

ولعل هذا الظهور المحصل من مجموع الاخبار العلاجية هو الذي دعى أصحابنا إلى العمل بكل ما يوجب رجحان احد الخبرين على الاخر، بل يوجب في أحدهما مزية مفقودة في الاخر ولو بمجرد كون خلاف الحق في احدهما أبعد منه في الاخر، كما هو كذلك في كثير من المرجحات.

فما ظنه بعض المتأخرين من أصحابنا على العلامة وغيره، قدست أسرارهم، من متابعتهم في ذلك طريقة العامة ظن في غير المحل.

ثم إن الاستفادة التي ذكرناها إن دخلت تحت الدلالة اللفظيه، فلا إشكال في الاعتماد عليها، وإن لم يبلغ هذا الحد بل لم يكن إلا مجرد الاشعار، كان مؤيدا لما ذكرنا من ظهور الاتفاق.

فإن لم يبلغ المجموع حد الحجية فلا أقل من كونها أمارة مفيدة للظن بالمدعى.

ولا بد من العمل به، لان التكليف بالترجيح بين المتعارضين ثابت، لان التخيير في جميع الموارد وعدم ملاحظة المرجحات يوجب مخالفة الواقع في كثير من الموارد، لانا نعلم بوجوب الاخذ ببعض الاخبار المتعارضة وطرح بعضها معينا.والمرجحات المنصوصة في الاخبار غير وافية.

مع أن تلك الاخبار معارض بعضها بعضها، بل بعضها غير معمول به بظاهره، كمقبولة إبن حنظلة المتضمنة لتقديم الاعدلية على الشهرة ومخالفة العامة وموافقة الكتاب.

وحاصل هذا المقدمات: ثبوت التكليف بالترجيح وإنتفاء المرجح اليقيني وإنتفاء ما دل الشرع على كونه مرجحا، فينحصر العمل في الظن بالمرجح.

فكل ما ظن أنه مرجح في نظر الشارع وجب الترجيح به، وإلا لوجب ترك الترجيح أو العمل بما ظن من المتعارضين أن الشارع يرجح غيره عليه.

والاول مستلزم للعمل بالتخيير في موارد كثيرة نعلم التكليف بوجوب الترجيح، والثاني ترجيح للمرجوح على الراجح في مقام وجوب البناء على أحدهما، لاجل تعذر العلم على أحدهما وقبحه بديهي.

وحينئذ فإذا ظننا من الامارات السابقة أن مجرد أقربية مضمون أحد الخبرين إلى الواقع مرجح في نظر الشارع تعين الاخذ به، هذا.

ولكن لمانع أن يمنع وجوب الترجيح بين المتعارضين الفاقدين للمرجحات المعلومة، كالتراجيح الراجعة إلى الدلالة التي دل العرف على وجوب الترجيح بها، كتقديم النص والاظهر على الظاهر.

٣٠٦

بيان ذلك: أن ما كان من المتعارضين من قبيل النص والظاهر، كالعام والخاص وشبههما مما لا يحتاج الجمع بينهما إلى شاهد، فالمرجح فيه معلوم من العرف.

وما كان من قبيل تعارض الظاهرين، كالعامين من وجه وشبههما مما يحتاج الجميع بينهما إلى شاهد واحد، فالوجه فيه، كما عرفت سابقا، عدم الترجيح إلا بقوة الدلالة، لا بمطابقة أحدهما لظن خارجي غير معتبر، ولذا لم يحكم فيه بالتخيير مع عدم ذلك الظن، بل يرجع فيه إلى الاصول والقواعد.

فهذا كاشف عن أن الحكم فيهما ذلك من أول الامر للتساقط، لاجمال الدلالة.

وما كان من قبيل المتباينين اللذين لا يمكن الجمع بينهما إلا بشاهدين، فهذا هو المتيقن من مورد وجوب الترجيح بالمرجحات الخارجية.

ومن المعلوم أن موارد هذا التعارض على قسمين:

أحدهما ما يمكن الرجوع فيه إلى أصل أو عموم كتاب أو سنة مطابق لاحدهما.وهذا القسم يرجع فيه إلى ذلك العموم أو الاصل.

وإن كان الخبر المخالف لاحدهما مطابقا لامارة خارجية - وذلك لان العمل بالعموم والاصل يقيني لا يرفع اليد عنه إلا بوارد يقيني، والخبر المخالف له لا ينهض لذلك، لمعارضته بمثله، والمفروض أن وجوب الترجيح بذلك الظن لم يثبت - فلا وارد على العموم والاصل.

القسم الثاني: ما لا يكون كذلك.وهذا أقل قليل بين المتعارضات.

فلو فرضنا العمل فيه بالتخيير مع وجود ظن خارجي على طبق أحدهما لم يكن محذور.

نعم الاحتياط يقتضي الاخذ بما يطابق الظن خصوصا، مع أن مبنى المسألة على حجية الخبر من باب الظن غير مقيد بعدم الظن الفعلي على خلافه.

والدليل على هذا الاطلاق مشكل، خصوصا لو كان الظن المقابل من الشهرة المحققة أو نقل الاجماع الكاشف عن تحقق الشهرة، فإن إثبات حجية الخبر المخالف للمشهور في غاية الاشكال وإن لم نقل بحجية الشهرة.

ولذا قال صاحب المدارك: (إن العمل بالخبر المخالف للمشهور مشكل، وموافقة الاصحاب من غير دليل أشكل).

وبالجملة فلا ينبغي ترك الاحتياط بالاخذ بالمظنون في مقابل التخيير.

وأما في مقابل العمل بالاصل، فإن كان الاصل مثبتا للاحتياط، كالاحتياط اللازم في بعض الموارد، فالاحوط العمل بالاصل.

وإن كان نافيا للتكليف كأصل البراء‌ة والاستصحاب النافي للتكليف، أو مثبتا له مع عدم التمكن من الاحتياط كأصالة الفساد في باب المعاملات ونحو ذلك، ففيه الاشكال.

وفي باب التراجيح تتمة المقال، والله العالم بحقيقة الحال، والحمد لله أولا وآخرا.

وصلى الله على محمد وآله باطنا وظاهرا.

٣٠٧

المقصد الثالث من مقاصد الكتاب في الشك

[ مقدمة ]

قد قسمنا، في صدر هذا الكتاب، المكلف الملتفت إلى الحكم الشرعي العملي في الواقعة على ثلاثة أقسام، لانه إما أن يحصل له القطع بحكمه الشرعي، وإما أن يحصل له الظن، وإما أن يحصل له الشك.

وقد عرفت أن القطع حجة في نفسه لا بجعل جاعل، والظن يمكن أن يعتبر في متعلقه، لكونه كشفا ظنيا ومرآة لمتعلقه.

لكن العمل به والاعتماد عليه في الشرعيات موقوف على وقوع التعبد به، وهو غير واقع إلا في الجملة.

وقد ذكرنا موارد وقوعه في الاحكام الشرعية في الجزء الاول من هذا الكتاب.

وأما الشك، فلما لم يكن فيه كشف أصلا لم يعقل فيه أن يعتبر.

فلو ورد في مورده حكم شرعي، كأن يقول: (الواقعة المشكوكة حكمها كذا)، كان حكما ظاهريا، لكونه مقابلا للحكم الواقعي المشكوك بالفرض.

ويطلق عليه الواقعي الثانوي أيضا، لانه حكم واقعي للواقعة المشكوك في حكمها، وثانوي بالنسبة إلى ذلك الحكم المشكوك فيه، لان موضوع هذا الحكم الظاهري، وهي الواقعة المشكوك في حكمها، لا يتحقق إلا بعد تصور حكم نفس الواقعة والشك فيه.مثلا شرب التتن في نفسه له حكم، فرضنا فيما نحن فيه شك المكلف فيه.

فإذا فرضنا ورود حكم شرعي لهذا الفعل المشكوك الحكم كان هذا الحكم الوارد متأخرا طبعا عن ذلك المشكوك.

فذلك الحكم حكم واقعي بقول مطلق، وهذا الوارد ظاهري، لكونه المعمول به في الظاهر، وواقعي ثانوي، لانه متأخر عن ذلك الحكم، لتأخر موضوعه عنه، ويسمى الدليل الدال على هذا الحكم الظاهري أصلا.

٣٠٨

٣٠٩

وأما ما دل على الحكم الاول علما أو ظنا معتبرا، فيختص باسم الدليل، وقد يقيد بالاجتهادي.

كما أن الاول قد يسمى بالدليل مقيدا بالفقاهتي.

وهذان القيدان إصطلاحان من الوجيد البهبهاني، لمناسبة مذكورة في تعريف الفقه والاجتهاد.

ثم إن الظن الغير المعتبر حكمه حكم الشك، كما لا يخفى.

ومما ذكرنا - من تأخر مرتبة الحكم الظاهرى عن الحكم الواقعي، لاجل تقييد موضوعه بالشك في الحكم الواقعي، يظهر لك وجه تقديم الادلة على الاصول، لان موضوع الاصول يرتفع بوجود الدليل.

فلا معارضة بينهما، لا لعدم إتحاد الموضوع، بل لارتفاع موضوع الاصل - وهو الشك - بوجود الدليل.

ألا ترى أنه لا معارضة ولا تنافي بين كون حكم شرب التتن المشكوك حكمه هي الاباحة وبين كون حكم شرب التتن في نفسه مع قطع النظر عن الشك فيه هي الحرمة.

فإذا علمنا بالثاني لكونه علميا ونفرض سلامته عن معارضة الاول، خرج شرب التتن عن موضوع دليل الاول، وهو كونه مشكوك الحكم، لا عن حكمه حتى يلتزم فيه تخصيص وظرح لظاهره.

ومن هنا كان إطلاق التقديم والترجيح في المقام تسامحا، لان الترجيح فرع المعارضة.

وكذلك إطلاق الخاص على الدليل والعام على الاصل، فيقال يخصص الاصل بالدليل او يخرج عن الاصل بالدليل.

ويمكن أن يكون هذا الاطلاق على الحقيقة بالنسبة إلى الادلة الغير العلمية، بأن يقال: إن مؤدى أصل البراء‌ه، مثلا، أنه إذا لم يعلم حرمة شرب التتن فهو غير محرم، وهذا عام ومفاد الدليل الدال على إعتبار تلك الامارة الغير العلمية المقابلة للاصل إنه إذا قام تلك الامارة الغير العلمية على حرمة الشئ الفلاني فهو حرام.

وهذا أخص من دليل أصل البراء‌ة مثلا، فيخرج عنه به.

وكون دليل تلك الامارة أعم من وجه، بإعتبار شموله لغير مورد أصل البراء‌ة، لا ينفع بعد قيام الاجماع على عدم الفرق في إعتبار تلك الامارة بين مواردها.

وتوضيح ذلك: أن كون الدليل رافعا لموضوع الاصل - وهو الشك - إنما يصح في الدليل العلمي، حيث أن وجوده يخرج حكم الواقعة عن كونه مشكوكا فيه.

وأما الدليل الغير العلمي فهو بنفسه غير رافع لموضوع الاصل، وهو عدم العلم.

وأما الدليل الدال على إعتباره، فهو وإن كان علميا إلا أنه لا يفيد إلا حكما ظاهريا نظير مفاد الاصل.

إذ المراد بالحكم الظاهري ما ثبت لفعل المكلف بملاحظة الجهل بحكمه الواقعي الثابت له من دون مدخلية العلم والجهل.

٣١٠

فكما أن مفاد قوله عليه السلام: (كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي)، يفيد الرخصة في الفعل الغير المعلوم ورود النهي فيه، فكذلك ما دل على حجية الشهرة الدالة مثلا على وجوب شئ، يفيد وجوب ذلك الشئ من حيث أنه مظنون مطلقا أو بهذه الامارة.

ولذا إشتهر أن علم المجتهد بالحكم مستفاد من صغرى وجدانية، وهي: (هذا ما أدى إليه ظني)، وكبرى برهانية، وهي: (كل ما أدى إليه ظني فهو حكم الله في حقي).فإن الحكم المعلوم منهما هو الحكم الظاهري.

فإذا كان مفاد الاصل ثبوت الاباحة للفعل الغير المعلوم الحرمة، ومفاد دليل تلك الامارة ثبوت الحرمة للفعل المظنون الحرمة، كانا متعارضين لا محالة.

فإذا بني على العمل بتلك الامارة، كان فيه خروج عن عموم الاصل وتخصيص له لا محالة، هذا.

ولكن التحقيق أن دليل تلك الامارة وإن لم يكن كالدليل العلمى رافعا لموضوع الاصل، إلا أنه نزل شرعا منزلة الرافع، فهو حاكم على الاصل لا مخصص له، كما سيتضح إن شاء الله.

على أن ذلك إنما يتم بالنسبة إلى الادلة الشرعية.

وأما الادلة العقلية القائمة على البراء‌ة والاشتغال، فإرتفاع موضوعها بعد ورود الادلة الظنية واضح، لجواز الاقتناع بها في مقام البيان وإنتهاضها رافعا لاحتمال العقاب، كما هو ظاهر.وأما التخيير فهو أصل عقلي لا غير.

واعلم أن المقصود بالكلام في هذه الرسالة الاصول المتضمنة لحكم الشبهة في الحكم الفرعي الكلي وإن تضمنت حكم الشبهة في الموضوع أيضا.

وهي منحصرة في أربعة، أصل البراء‌ة وأصل الاحتياط والتخيير والاستصحاب، بناء على كونه حكما ظاهريا ثبت التعبد به من الاخبار، إذ بناء على كونه مفيدا للظن يدخل في الامارات الكاشفة عن الحكم الواقعي.

وأما الاصول المشخصة لحكم الشبهة في الموضوع، كأصالة الصحة وأصالة الوقوع فيما شك فيه بعد تجاوز المحل، فلا يقع الكلام فيها إلا لمناسبة يقتضيها المقام.

ثم إن إنحصار موارد الاشتباه في الاصول الاربعة عقلي لان حكم الشك إما أن يكون ملحوظا فيه اليقين السابق عليه، وإما أن لا يكون، سواء لم يكن يقين سابق عليه أم كان ولم يلحظ.

والاول مورد الاستصحاب.

والثاني إما أن يكون الاحتياط فيه ممكنا أم لا، والثانى مورد

٣١١

التخيير.

والاول إما أن يدل دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول وإما أن لا يدل.

والاول مورد الاحتياط، والثاني مورد البراء‌ة.

وقد ظهر مما ذكرنا أن موارد الاصول قد تتداخل، لان المناط في الاستصحاب ملاحظة الحالة المتيقنة السابقة، ومدار الثلاثة الباقية على عدم ملاحظتها وإن كانت موجودة.

ثم إن تمام الكلام في الاصول الاربعه يحصل بإشباعه في مقامين: أحدهما: حكم الشك في الحكم الواقعى من دون ملاحظة الحالة السابقة الراجع إلى الاصول الثلاثة.

الثاني: حكمه بملاحظة الحالة السابقة وهو الاستصحاب.

* * *

٣١٢

المقام الاول : وهو حكم الشك في الحكم الواقعي

[ من دون ملاحظة الحالة السابقة ] فيقع الكلام فيه في موضعين، لان الشك إما في نفس التكليف، وهو النوع الخاص من الالزام وإن علم جنسه، كالتكليف المردد بين الوجوب والتحريم.

وإما في متعلق التكليف مع العلم بنفسه، كما إذا علم وجوب شئ وشك بين تعلقه بالظهر والجمعة، أو علم وجوب فائتة وتردد بين الظهر والمغرب.

٣١٣

الموضع الاول: وهو الشك في نفس التكليف

يقع الكلام فيه في مطالب، لان التكليف المشكوك فيه إما تحريم مشتبه بغير الوجوب، وإما وجوب مشتبه بغير التحريم، وإما تحريم مشتبه بالوجوب، [ لان التكليف المشكوك فيه إما إيجاب مشتبه بغيره وإما تحريم كذلك، ص ]، وصور الاشتباه كثيرة.

وهذا مبني على إختصاص التكليف بالالزام أو إختصاص الخلاف في البراء‌ة والاحتياط به، فلو فرض شموله للمستحب والمكروه يظهر حالهما من الواجب والحرام، فلا حاجة إلى تعميم العنوان.

ثم متعلق التكليف المشكوك: إما أن يكون فعلا كليا متعلقا للحكم الشرعي الكلي، كشرب التتن المشكوك في حرمته، والدعاء عند رؤية الهلال المشكوك في وجوبه.

وإما أن يكون فعلا جزئيا متعلقا للحكم الجزئي، كشرب هذا المائع المحتمل كونه خمرا.

ومنشأ الشك في القسم الثاني إشتباه الامور الخارجية.

ومنشاؤه في الاول إما عدم النص في المسألة، كمسألة شرب التتن، وإما أن يكون إجمال النص، كدوران الامر في قوله تعالى: (حتى يطهرن)، بين التشديد والتخفيف مثلا، وإما أن يكون تعارض النصين.

ومنه الاية المذكورة بناء على تواتر القراء‌ات.

وتوضيح أحكام هذه الاقسام في ضمن مطالب: الاول: دوران الامر بين الحرمة وغير الوجوب من الاحكام الثلاثة الباقية.

الثاني: دوران الامر بين الوجوب وغير التحريم.

الثالث: دورانه بين الوجوب والتحريم.

٣١٤

المطلب الاول: فيما دار الامر فيه بين الحرمة وغير الوجوب

وقد عرفت أن متعلق الشك، تارة، الواقعة الكلية، كشرب التتن.

ومنشأ الشك فيه عدم النص أو إجماله أو تعارضه، وأخرى، الواقعة الجزئية.

فههنا أربع مسائل:

[ المسألة ] الاولى: ما لا نص فيه وقد إختلف فيه على ما يرجع إلى قولين:

أحدهما إباحة الفعل شرعا وعدم وجوب الاحتياط بالترك.

والثاني وجوب الترك ويعبر عن الاحتياط.

والاول منسوب إلى المجتهدين.

والثاني إلى معظم الاخباريين.

وربما نسب إليهم أقوال أربعة: التحريم ظاهرا، والتحريم واقعا، والتوقف، والاحتياط.

ولا يبعد أن يكون تغايرها بإعتبار العنوان.

ويحتمل الفرق بينها وبين بعضها من وجه أخر تأتي بعد ذكر أدلة الاخباريين.

٣١٥

٣١٦

احتج للقول الاول بالادلة الاربعة فمن الكتاب آيات: منها: قوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها).

قيل: دلالتها واضحة.

وفيه: أنها غير ظاهرة، فإن حقيقة الايتاء إلاعطاء.

فاما أن يراد بالموصول المال، بقرينة قوله تعالى قبل ذلك: (من قدر عليه رزقه فلينفق مما اتاه الله).

فالمعنى: أن الله سبحانه لا يكلف العبد إلا دفع ما أعطي من مال.وإما أن يراد نفس فعل الشئ أو تركه، بقرينة إيقاع التكليف عليه.

فإعطاؤه كناية عن الاقدار عليه، فتدل على نفي التكليف بغير المقدور، كما ذكره الطبرسي، رحمه الله.

وهذا المعنى أظهر وأشمل، لان الانفاق من الميسور داخل في ما آتاه الله.وكيف كان.

فمن المعلوم أن ترك ما يحتمل التحريم ليس غير مقدور، وإلا لم ينازع في وقوع التكليف به أحد من المسلمين وإن نازعت الاشاعرة في إمكانه.

نعم لو أريد من الموصول نفس الحكم والتكليف كان إيتاؤه عبارة عن الاعلم به.

لكن إرادته بالخصوص تنافي مورد الاية، وإرادة الاعم منه ومن المورد تستلزم إستعمال الموصول في معنيين، إذا لا جامع بين تعلق التكليف بنفس الحكم وبالفعل المحكوم عليه، فافهم.

نعم في رواية عبدالاعلى عن أبي عبدالله عليه السلام: (قال: قلت له: هل كلف الناس بالمعرفة؟ قال: لا، على الله البيان.لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها).

٣١٧

لكنها لا تنفع في المطلب، لان نفس المعرفة بالله غير مقدور قبل تعريف الله سبحانه، فلا يحتاج دخولها في الاية إلى إرادة الاعلام من الايتاء في الاية.وسيجئ زيادة توضيح لذلك في ذكر الدليل العقلي إن شاء الله تعالى.

ومما ذكرنا يظهر حال التمسك بقوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).

ومنها: قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).

بناء على أن بعث الرسول كناية عن بيان التكليف، لانه يكون به غالبا، كما في قولك: (لا أبرح من هذا المكان حتى يؤذن المؤذن)، كناية عن دخول الوقت أو عبارة عن البيان النقلي.

ويخصص العموم بغير المستقلات أو يلتزم بوجوب التأكيد وعدم حسن العقاب إلا مع اللطف بتأييد العقل بالنقل وإن حسن الذم، بناء على أن منع اللطف يوجب قبح العقاب دون الذم، كما صرح به البعض.

وعلى أي تقدير فتدل على نفي العقاب قبل البيان.

وفيه: أن ظاهرها الاخبار بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث، فيختص بالعذاب الدنيوى الواقع في الامم السابقة.

ثم إنه ربما يورد التناقض على من جمع بين التمسك بالاية في المقام وبين رد من إستدل بها، لعدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بأن نفي فعلية التعذيب أعم من نفي الاستحقاق به، فإن الاخبار بنفي التعذيب إن دل على عدم التكليف شرعا فلا وجه للثاني، وإن لم يدل فلا وجه للاول.

ويمكن دفعه: بأن عدم الفعلية يكفي في هذا المقام، لان الخصم يدعي أن في إرتكاب الشبهة الوقوع في العقاب والهلاك فعلا من حيث لا يعلم، كما هو مقتضى رواية التثليث ونحوها التي هي عمدة أدلتهم، ويعترف بعدم المقتضى للاستحقاق على تقدير عدم الفعلية، فيكفي في عدم الاستحقاق نفي الفعلية، بخلاف مقام التكلم في الملازمة، فإن المقصود فيه إثبات الحكم الشرعي في مورد حكم العقل، وعدم ترتب العقاب على مخالفته لا ينافي ثبوته، كما في الظهار، حيث قيل إنه محرم معفو عنه.وكما في العزم على المعصية على إحتمال.

نعم لو فرض هناك أيضا إجماع على أنه لو إنتفت الفعلية إنتفى الاستحقاق، كما يظهر من بعض ما فرعوا على تلك المسألة، لم يجز التمسك به هناك.

والانصاف: أن الاية لا دلالة لها على المطلب في المقامين.

ومنها: قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون)،

٣١٨

أي: ما يجتنبونه من الافعال والتروك.وظاهرها أنه تعالى لا يخذلهم بعد هدايتهم إلى الاسلام إلا بعدما يبين لهم.

وعن الكافي وتفسير العياشى وكتاب التوحيد: (حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه).

وفيه: ما تقدم في الاية السابقة، مع أن دلالتها أضعف.

من حيث أن توقف الخذلان على البيان غير ظاهر الاستلزام للمطلب، اللهم إلا بالفحوى.

ومنها: قوله تعالى: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة).وفي دلالتها تأمل ظاهر.

ويرد على الكل أن غاية مدلولها عدم المؤاخذة على مخالفة النهي المجهول عند المكلف لو فرض وجوده واقعا، فلا ينافي ورود الدليل العام على وجوب إجتناب ما يحتمل التحريم.ومعلوم أن القائل بالاحتياط ووجوب الاجتناب لا يقول به إلا عن دليل علمي.

وهذه الايات بعد تسليم دلالتها غير معارضة لذلك الدليل، بل هي من قبيل الاصل بالنسبة إليه، كما لا يخفى.

ومنها: قوله تعالى، مخاطبا لنبيه، صلى الله عليه وآله، ملقنا إياه طريق الرد على اليهود، حيث حرموا بعض ما رزقهم الله تعالى إفتراء عليه: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا).

فأبطل [ تشريعهم ] بعدم وجدان ما حرموه في جملة المحرمات التي أوحى الله إليه.

وعدم وجدانه " ص " ذلك فيما أوحي إليه وإن كان دليلا قطعيا على عدم الوجود إلا أن في التعبير بعدم الوجدان دلالة على كفاية عدم الوجدان في إبطال الحكم بالحرمة.

لكن الانصاف: أن غاية الامر ان يكون في العدول عن التعبير بعدم الوجود إلى عدم الوجدان إشارة إلى المطلب.

وأما الدلالة فلا، ولذا قال في الوافية: (وفي الاية إشعار بأن إباحة الاشياء مركوزة في العقل قبل الشرع).

مع أنه لو سلم، فغاية مدلولها كوه عدم وجدان التحريم فيما صدر عن الله تعالى من الاحكام يوجب عدم التحريم، لا عدم وجدانه فيما بقي بأيدينا من احكام الله تعالى بعد العلم بإختفاء كثير منها عنا، وسيأتي توضيح ذلك عند الاستدلال بالاجماع العملي على هذا المطلب.

٣١٩

ومنها: قوله تعالى: (وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم).

يعني مع خلو ما فصل عن ذكر هذا الذي يجتنبونه.

ولعل هذه الاية أظهر من سابقتها، لان السابقة دلت على أنه لا يجوز الحكم بحرمة ما لم يوجد تحريمه فيما أوحى الله سبحانه إلى النبي، صلى الله عليه وآله.

وهذه تدل على أنه لا يجوز إلتزام ترك الفعل مع عدم وجوده فيما فصل وإن لم يحكم بحرمته فيبطل وجوب الاحتياط أيضا، إلا أن دلالتها موهونة من جهة أخرى.

وهي أن ظاهر الموصول العموم، فالتوبيخ على الالتزام بترك الشئ مع تفصيل جميع المحرمات الواقعية وعدم كون المتروك منها.

ولا ريب أن اللازم من ذلك العلم بعدم كون المتروك محرما واقعيا، فالتوبيخ في محله.

والانصاف: ما ذكرنا، من أن الايات المذكورة لا تنهض على إبطال القول بوجوب الاحتياط، لان غاية مدلول الدال منها هو عدم التكليف فيها لم يعلم خصوصا أو عموما بالعقل أو النقل.وهذا مما لا نزاع فيه لاحد.

وإنما أوجب الاحتياط من أوجبه بزعم قيام الدليل العقلي أو النقلي على وجوبه.

فاللازم على منكره رد ذلك الدليل أو معارضته بما يدل على الرخصة وعدم وجوب الاحتياط فيما لا نص فيه.

وأما الايات المذكورة، فهي كبعض الاخبار الاتية لا تنهض بذلك، ضرورة أنه إذا فرض أنه ورد بطريق معتبر في نفسه أنه يجب الاحتياط في كل ما يحتمل أن يكون قد حكم الشارع فيه بالحرمة لم يكن يعارضه شئ من الايات المذكورة.

٣٢٠