فرائد الاصول الجزء ١

فرائد الاصول0%

فرائد الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 406

فرائد الاصول

مؤلف: الشيخ مرتضى الأنصاري
تصنيف:

الصفحات: 406
المشاهدات: 43317
تحميل: 8371


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 43317 / تحميل: 8371
الحجم الحجم الحجم
فرائد الاصول

فرائد الاصول الجزء 1

مؤلف:
العربية

الغير الالزامي إذا احتمل الضرر.

بل وكما أن أمر الشارع بالاطاعة في قوله تعالى: (أطيعوا الله ورسوله) لمحض الارشاد، لئلا يقع العبد في عقاب المعصية ويفوته ثواب الطاعة ولا يترتب على مخالفته سوى ذلك، فكذلك أمره بالاخذ بما يأمن معه الضرر لا يترتب على موافقته سوى الامان المذكور، ولا على مخالفته سوى الوقوع في الحرام الواقعي على تقدير تحققه.

ويشهد لما ذكرنا أن ظاهر الاخبار حصر حكمة الاجتناب عن الشبهة في التفصي عن الهلكة الواقعية لئلا يقع فيها من حيث لا يعلم وإقترانه مع الاجتناب عن الحرام المعلوم في كونه ورعا.

ومن المعلوم أن الامر بإجتناب المحرمات في هذه الاخبار ليس إلا للارشاد، لا يترتب على مخالفتها وموافقتها سوى الخاصية الموجودة في المأمور به، وهو الاجتناب عن الحرام أو فوتها.

فكذلك الامر بإجتناب الشبهة لا يترتب على موافقته سوى ما يترتب على نفس الاجتناب لو لم يأمر به الشارع، بل فعل المكلف حذرا من الوقوع في الحرام.ولا يبعد التزام ترتب الثواب عليه، من حيث أنه إنقياد وإطاعة حكمية.

فيكون حينئذ حال الاحتياط والامر به حال نفس الاطاعة الحقيقية، والامر بها في كون الامر لا يزيد فيه على ما ثبت فيه من المدح أو الثواب لولا الامر، هذا.

ولكن الظاهر من بعض الاخبار المتقدمة، مثل قوله عليه السلام: (من إرتكب الشبهات نازعته نفسه إلى أن يقع في المحرمات)، وقوله: (من ترك الشبهات كان لما إستبان له من الاثم أترك)، وقوله: (من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه)، هو كون الامر به للاستحباب.و حكمته أن لا يهون عليه إرتكاب المحرمات المعلومة.

ولازم ذلك إستحقاق الثواب على إطاعة أوامر الاحتياط مضافا إلى الخاصية المترتبة على نفسه.

ثم لا فرق فيما ذكرناه من حسن الاحتياط بالترك بين أفراد المسألة حتى مورد دوران الامر بين الاستحباب والتحريم، بناء على أن دفع المفسدة الملزمه للترك أولى من جلب المصلحة الغير الملزمة و ظهور الاخبار المتقدمة في ذلك أيضا.

ولا يتوهم: (أنه يلزم من ذلك عدم حسن الاحتياط فيما احتمل كونه من العبادات المستحبة بل حسن الاحتياط بتركه)، إذ لا ينفك ذلك عن إحتمال كون فعله تشريعا محرما، لان حرمة التشريع تابعة لتحققه.

ومن إتيان ما احتمل كونه عبادة لداعي هذا الاحتمال لا يتحقق موضوع التشريع.

ولذا قد يجب الاحتياط مع هذا الاحتمال، كما في الصلاة إلى أربع جهات أو في الثوبين

٣٦١

المشتبهين وغيرهما.وسيجئ زيادة توضيح لذلك إن شاء الله.

الرابع: نسب الوحيد البهبهاني، رحمه الله، إلى الاخباريين مذاهب أربعة فيما لا نص فيه: التوقف، و الاحتياط، والحرمة الظاهرية، والحرمة الواقعية، فيحتمل رجوعها إلى معنى واحد وكون إختلافها في التعبير، لاجل إختلاف ما ركنوا إليه من أدلة القول بوجوب إجتناب الشبهة: فبعضهم ركن إلى أخبار التوقف، وآخر إلى أخبار الاحتياط، وثالث إلى أوامر ترك الشبهات مقدمة لتجنب المحرمات، كحديث التثليث، ورابع إلى أوامر ترك المشتبهات من حيث أنها مشتبهات، فإن هذا الموضوع في نفسه حكمه الواقعي الحرمة.

والاظهر أن التوقف أعم بحسب المورد من الاحتياط، لشموله الاحكام المشتبهة في الاموال و الاعراض والنفوس مما يجب فيها الصلح أو القرعة.فمن عبر به أراد وجوب التوقف في جميع الوقائع الخالية عن النص العام والخاص.

والاحتياط اعم من موارد إحتمال التحريم.

فمن عبر به أراد الاعم من محتمل التحريم ومحتمل الوجوب، مثل وجوب السورة أو وجوب الجزاء المردد بين نصف الصيد وكله.

وأما الحرمة الظاهرية والواقعيه فيحتمل الفرق بينهما: بأن المعبر بالاولى قد لاحظ الحرمة من حيث عروضها لموضوع محكوم بحكم واقعي، فالحرمة ظاهرية.

والمعبر بالثانية قد لاحظها من حيث عروضها لمشتبه الحكم، وهو موضوع من الموضوعات الواقعية، فالحرمة واقعية.

أو بملاحظة أنه إذا منع الشارع المكلف، من حيث أنه جاهل بالحكم من الفعل، فلا يعقل إباحته له واقعا، لان معنى الاباحة الاذن والترخيص، فتأمل.

ويحتمل الفرق بأن القائل بالحرمة الظاهرية يحتمل أن يكون الحكم في الواقع هي الاباحة، إلا أن أدلة الاجتناب عن الشبهات حرمتها ظاهرا، والقائل بالحرمه الواقعية إنما يتمسك في ذلك باصالة الحظر في الاشياء من قبح باب التصرف فيما يختص بالغير بغير إذنه.

ويحتمل الفرق بأن معنى الحرمة الظاهرية حرمة الشئ في الظاهر فيعاقب عليه مطلقا وإن كان مباحا في الواقع.

والقائل بالحرمة الواقعيه يقول بأنه لا حرمة ظاهرا أصلا.

فإن كان في الواقع حراما إستحق المؤاخذة عليه وإلا فلا.

وليس معناها أن المشتبه حرام واقعا، بل معناه أنه ليس فيه إلا الحرمة الواقعيه على تقدير ثبوتها.

فإن هذا أحد الاقوال للاخباريين في المسألة، على ما ذكر العلامة الوحيد المتقدم، في موضع آخر، حيث قال، بعد رد التثليث المتقدم: ب‍ (أنه لا يدل على

٣٦٢

الحظر أو وجوب التوقف، بل مقتضاه أن من إرتكب شبهة واتفق كونه حراما في الواقع يهلك لا مطلقا.

ويخطر بخاطري أن من الاخباريين من يقول بهذا المعنى)، إنتهى.

ولعل هذا القائل اعتمد في ذلك على ما ذكرنا سابقا، من أن الامر العقلي والنقلي بالاحتياط للارشاد، من قبيل أوامر الطبيب، لا يترتب على موافقتها ومخالفتها عدا ما يترتب على نفس الفعل المأمور به أو تركه لو لم يكن أمر، نعم الارشاد على مذهب هذا الشخص على وجه اللزوم، كما في بعض أوامر الطبيب، لا للاولوية، كما اختاره القائلون بالبراء‌ة.وأما ما يترتب على نفس الاحتياط فليس إلا التخلص من الهلاك المحتمل في الفعل.

نعم فاعله يستحق المدح من حيث تركه لما يحتمل أن يكون تركه مطلوبا عند المولى.

ففيه نوع من الانقياد ويستحق عليه المدح والثواب.

وأما تركه فليس فيه إلا التجري بإرتكاب ما يحتمل أن يكون مبغوضا للمولى، ولا دليل على حرمه التجري على هذا الوجه وإستحقاق العقاب عليه.

بل عرفت في مسألة حجية العلم المناقشة في حرمه التجري بما هو أعظم من ذلك، كأن يكون الشئ مقطوع الحرمة بالجهل المركب ولا يلزم من تسليم إستحقاق الثواب على الانقياد بفعل الاحتياط إستحقاق العقاب بترك الاحتياط والتجري بالاقدام على ما يحتمل كونه مبغوضا.وسيأتي تتمة توضيح ذلك في الشبهة المحصورة إن شاء الله تعالى.

الخامس: إن أصل الاباحة في مشتبه الحكم إنما هو مع عدم أصل موضوعي حاكم عليه.

فلو شك في حل أكل حيوان مع العلم بقبوله التذكية جرى أصالة الحل، وإن شك فيه من جهة الشك في قبوله للتذكيه فالحكم الحرمة، لاصالة عدم التذكية، لان من شرائطها قابلية المحل وهي مشكوكة فيحكم بحرمتها وكون الحيوان ميتة.

ويظهر من المحقق والشهيد الثانيين، قدس سرهما، فيما إذا شك في حيوان متولد من طاهر و نجس لا يتبعهما في الاسم وليس له مماثل، أن الاصل فيه الطهارة والحرمة.

فإن كان الوجه فيه أصالة عدم التذكية، فإنما يحسن مع الشك في قبول التذكية وعدم عموم يدل على جواز تذكية كل حيوان إلا ما خرج، كما إدعاه بعض.وإن كان الوجه فيه أصالة حرمة أكل لحمه قبل التذكية.

ففيه: أن الحرمة قبل التذكية لاجل

٣٦٣

كونه من الميتة.فإذا فرض إثبات جواز تذكيته خرج عن الميتة فيحتاج حرمته إلى موضوع آخر.ولو شك في قبول التذكية رجع إلى الوجه السابق.وكيف كان فلا يعرف وجه لرفع اليد عن أصالة الحل والاباحة.

نعم ذكر شارح الروضة هنا وجها آخر، ونقله بعض محشيها عن تمهيد القواعد.

قال شارح الروضة: (إن كلا من النجاسات والمحللات محصورة.

فإذا لم يدخل في المحصور منها كان الاصل طهارته وحرمة لحمه، وهو ظاهر)، إنتهى.

ويمكن منه حصر المحللات بل المحرمات محصورة، والعقل والنقل دل على إباحة ما لم يعلم حرمته.

ولذا يتمسكون كثيرا بأصالة الحل في باب الاطعمة والاشربة.

ولو قيل: إن الحل إنما علق، في قوله تعالى: (قل أحل لكم الطيبات) المفيد للحصر في مقام الجواب عن الاستفهام، فكل ما شك في كونه طيبا فالاصل عدم إحلال الشارع له.

قلنا: إن التحريم محمول في القرآن على الخبائث والفواحش.فإذا شك فيه فالاصل عدم التحريم.

ومع تعارض الاصلين يرجع إلى أصالة الاباحة، وعموم قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي)، وقوله عليه السلام: (ليس الحرام إلا ما حرم الله تعالى)، مع أنه يمكن فرض كون الحيوان مما ثبت كونه طيبا، بل الطيب ما لا يستقذر، فهو أمر عدمي يمكن إحرازه بالاصل عند الشك، فتدبر.

السادس: حكي عن بعض الاخباريين كلام لا يخلو إيراده عن فائدة وهو: (أنه هل يجوز أحد أن يقف عبد من عباد الله، فيقال له: بما كنت تعمل في الاحكام الشرعية.

فيقول: كنت أعمل بقول المعصوم وأقتفي أثره وما يثبت من المعلوم.فإن إشتبه علي شئ عملت بالاحتياط.

أفيزل قدم هذا العبد عن الصراط ويقابل بالاهانة والاحباط فيؤمر به إلى النار ويحرم مرافقة الابرار.

هيهات هيهات أن يكون أهل التسامح والتساهل في الدين في الجنة خالدين واهل الاحتياط في النار معذبين)، إنتهى كلامه.

أقول: لا يخفى على العوام فضلا عن غيرهم أن أحدا لا يقول بحرمة الاحتياط ولا ينكر حسنه و

٣٦٤

أنه سبيل النجاة.

وأما الافتاء بوجوب الاحتياط فلا إشكال في أنه غير مطابق للاحتياط، لاحتمال حرمته، فإن ثبت وجوب الافتاء فالامر يدور بين الوجوب والتحريم، وإلا فالاحتياط في ترك الفتوى.وحينئذ فيحكم الجاهل بما يحكم به عقله.

فإن إلتفت إلى قبح العقاب من غير بيان لم يكن عليه بأس في إرتكاب المشتبه، وإن لم يلتفت إليه واحتمل العقاب كان مجبولا على الالتزام بتركه.كمن احتمل أن فيما يريد سلوكه من الطريق سبعا.

وعلى كل تقدير فلا ينفع قول الاخباريين له إن العقل يحكم بوجوب الاحتياط من باب وجوب دفع الضرر المحتمل، ولا قول الاصولي له إن العقل يحكم بنفي البأس مع الاشتباه.

وبالجملة فالمجتهدون لا ينكرون على العامل بالاحتياط.

والافتاء بوجوبه من الاخباريين نظير الافتاء بالبراء‌ة من المجتهدين، ولا متيقن من الامرين في البين، ومفاسد الالتزام بالاحتياط ليست بأقل من مفاسد إرتكاب المشتبه، كما لا يخفى.

فما ذكره هذا الاخباري من الانكار لم يعلم توجهه إلى أحد، والله العالم وهو الحاكم.

٣٦٥

المسألة الثانية: ما إذا كان دوران حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة إجمال النص إما بأن يكون اللفظ الدال على الحكم مجملا، كالنهي المجرد عن القرينة إذا قلنا بإشتراكه لفظا بين الحرمة والكراهة، وإما بأن يكون الدال على متعلق الحكم كذلك، سواء كان الاجمال في وضعه كالغناء إذا قلنا بإجماله فيكون المشكوك في كونه غناء محتمل الحرمة، أم كان الاجمال في المراد منه، كما إذا شك في شمول الخمر للخمر الغير المسكر ولم يكن هناك إطلاق يؤخذ به.و الحكم في ذلك كله كما في المسألة الاولى.والادلة المذكورة من الطرفين جارية هنا.

وربما يتوهم أن الاجمال إذا كان في متعلق الحكم، كالغناء وشرب الخمر الغير المسكر، كان ذلك داخلا في الشبهة في طريق الحكم.وهو فاسد.

المسألة الثالثة: أن يدور حكم الفعل بين الحرمة وغير الوجوب من جهة تعارض النصين وعدم ثبوت ما يكون مرجحا لاحدهما والاقوى فيه أيضا عدم وجوب الاحتياط، لعدم الدليل عليه، عدا ما تقدم من الوجوه المذكورة التي عرفت حالها، وبعض ما ورد في خصوص تعارض النصين، مثل ما في عوالي اللئالي من مرفوعة العلامة، رحمه الله، إلى زرارة عن مولانا أبي جعفر عليه السلام.

(قال: قلت: جعلت فداك ! يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان، فبأيهما آخذ؟ فقال: يا زرارة ! خذ بما اشتهر بين أصحابك واترك الشاذ النادر.

فقلت: يا سيدي ! إنهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم.

فقال: خذ بما يقوله

٣٦٦

أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك فقلت: إنهما معا عدلان مرضيان موثقان عندي فقال: أنظر ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه وخذ بما خالفهم، فإن الحق فيما خالفهم.

قلت: ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين لهم، فكيف نصنع؟ قال: فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط.

فقلت: إنهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان، فكيف أصنع قال: إذن فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الاخر)، الحديث.

وهذه الرواية وإن كانت أخص من أخبار التخيير، إلا أنها ضعيفة السند: وقد طعن صاحب الحدائق فيها وفي كتاب العوالي وصاحبه، فقال: (إن الروايه المذكورة لم نقف عليها في غير كتاب العوالي، مع ما هي عليها من الارسال، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الاخبار والاهمال وخلط غثها بسمينها وصحيحها بسقيمها، كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور)، إنتهى.

ثم إذا لم نقل بوجوب الاحتياط، ففي كون أصل البراء‌ة مرجحا لما يوافقه أو كون الحكم الوقف أو التساقط والرجوع إلى الاصل أو التخيير بين الخبرين في أول الامر أو دائما وجوه، ليس هنا محل ذكرها، فإن المقصود هنا نفي وجوب الاحتياط، والله العالم.

بقي هنا شئ: وهو أن الاصوليين عنونوا في باب التراجيح الخلاف في تقديم الخبر الموافق للاصل على المخالف، ونسب تقديم المخالف وهو المسمى بالناقل إلى أكثر الاصوليين، بل إلى جمهور منهم العلامة، قدس سره، وعنونوا أيضا مسألة تقديم الخبر الدال على الاباحة على الدال على الحظر و الخلاف فيه، ونسب تقديم الحاظر على المبيح إلى المشهور، بل يظهر من المحكي عن بعضهم عدم الخلاف في ذلك.

والخلاف المسألة الاولى ينافي الوفاق في الثانية.

كما أن قول الاكثر فيهما مخالف لما يشاهد من عمل علمائنا على عدم تقديم المخالف للاصل، بل التخيير أو الرجوع إلى الاصل الذي هو وجوب الاحتياط عند الاخباريين والبراء‌ة عند المجتهدين حتى العلامة، مضافا إلى ذهاب جماعة من أصحابنا في المسألتين إلى التخيير.

٣٦٧

ويمكن أن يقال: إن مرادهم من الاصل في الناقل والمقرر أصالة البرء‌ة من الوجوب، لا اصالة الاباحة، فيفارق مسألة تعارض المبيح والحاظر، وإن حكم أصحابنا بالتخيير أو الاحتياط، لاجل الاخبار الواردة، لا لمقتضي نفس مدلولى الخبرين من حيث هما فيفارق المسألتين.لكن هذا الوجه قد يأباه مقتضى أدلتهم، فلاحظ وتأمل.

٣٦٨

المسألة الرابعة: دوران الحكم بين الحرمة وغير الوجوب، مع كون الشك في الواقعة الجزئية لاجل الاشتباه في بعض الامور الخارجية كما إذا شك في حرمة شرب مايع أو إباحته، للتردد في أنه خل أو خمر، وفي حرمة لحم، لتردده بين كونه من الشاة أو من الارنب.

والظاهر عدم الخلاف في أن مقتضى الاصل فيه الاباحة، للاخبار الكثيرة في ذلك، مثل قوله عليه السلام: (كل شئ لك حلال حتى تعلم أنه حرام)، و: كل شئ فيه حلال و حرام فهو لك حلال.

واستدل العلامة، رحمه الله، في التذكرة على ذلك برواية مسعدة بن صدقة: (كل شئ لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك.

و ذلك مثل الثوب يكون عليك ولعله سرقة، أو العبد يكون عندك لعله حر قد باع نفسه، أو قهر فبيع، أو خدع فبيع، أو إمرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك والاشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البينة).

وتبعه عليه جماعة من المتأخرين، ولا إشكال في ظهور صدرها في المدعى إلا أن الامثلة المذكورة فيها ليس الحل فيها مستندا إلى أصالة الحلية.

فإن الثوب والعبد إن لوحظا بإعتبار اليد عليهما حكم بحل التصرف فيهما لاجل اليد، وإن لوحظا مع قطع النظر عن اليد كان الاصل فيهما حرمة التصرف، لاصالة بقاء الثوب على ملك الغير وأصالة الحرية في الانسان المشكوك في رقيته.وكذا الزوجة إن لوحظ فيها أصل عدم تحقق النسب أو الرضاع.فالحلية مستندة إليه.وإن قطع النظر عن هذا الاصل فالاصل عدم تأثير العقد فيها، فيحرم وطيها.وبالجملة، فهذه الامثلة الثلاثة بملاحظة الاصل الاولي محكومة بالحرمة.والحكم بحليتها إنما هو

٣٦٩

من حيث الاصل الموضوعى الثانوي، فالحل غير مستند إلى أصالة الاباحة في شئ منها.

هذا، ولكن في باقي الاخبار المتقدمة بل جميع الادلة المتقدمة من الكتاب والعقل كفاية، مع أن صدرها وذيلها ظاهران في المدعى.

وتوهم: (عدم جريان قبح التكليف من غير بيان هنا، نظرا إلى أن الشارع بين حكم الخمر، مثلا، فيجب حينئذ إجتناب كل ما يحتمل كونه خمرا من باب المقدمة العلمية، فالعقل لا يقبح العقاب خصوصا على تقدير مصادفة الحرام)، مدفوع بأن النهي عن الخمر يوجب حرمة الافراد المعلومة تفصيلا والمعلومة إجمالا بين محصورين.

فالاول لا يحتاج إلى مقدمة علمية والثاني يتوقف على الاجتناب من أطراف الشبهة لا غير.

وأما ما احتمل كونه خمرا من دون علم إجمالي، فلم يعلم من النهي تحريمه وليس مقدمة للعلم بإجتناب فرد محرم يحسن العقاب عليه.

فلا فرق بعد فرض عدم العلم بحرمته ولا بتحريم خمر يتوقف العلم بإجتنابه على إجتنابه بين هذا الفرد المشتبه وبين الموضوع الكلي المشتبه حكمه كشرب التتن في قبح العقاب عليه.

وما ذكر من التوهم جار فيه أيضا، لان العمومات الدالة على حرمة الخبائث والفواحش و (ما نهاكم عنه فانتهوا) تدل على حرمة أمور واقعية يحتمل كون شرب التتن منها.

ومنشأ التوهم المذكور ملاحظة تعلق الحكم بكلي مردد بين مقدار معلوم وبين أكثر منه، فيتخيل أن الترديد في المكلف به فمع العلم بالتكليف يجب الاحتياط.

ونظير هذا التوهم قد وقع في الشبهة الوجوبية حيث تخيل بعض أن دوران ما فات من الصلاة بين الاقل والاكثر موجب للاحتياط من باب وجوب المقدمة العلمية، وقد عرفت، وسيأتى إندفاعه.

قإن قلت: الضرر محتمل في هذا الفرد المشتبه، لاحتمال كونه محرما، فيجب دفعه.

قلت: إن أريد بالضرر العقاب وما يجري مجراه من الامور الاخروية فهو مأمون بحكم العقل بقبح العقاب من غير بيان، وإن اريد ما لا يدفع العقل ترتبه من غير بيان، كما في المضار الدنيوية، فوجوب دفعه عقلا لو سلم - كما تقدم من الشيخ وجماعة - لم يسلم وجوبه شرعا، لان الشارع صرح بحليته ما لم يعلم حرمته، فلا عقاب عليه، كيف وقد يحكم الشرع بجواز إرتكاب الضرر القطعي الغير المتعلق بأمر المعاد، كما هو المفروض في الضرر المحتمل في المقام.

فإن قيل: نختار أولا، إحتمال الضرر المتعلق بأمور الآخرة، والعقل لا يدفع ترتبه من دون بيان، لاحتمال المصلحة في عدم البيان ووكول الامر إلى ما يقتضيه العقل.كما صرح في العدة في جواب

٣٧٠

ما ذكره القائلون باصالة الاباحة، من أنه لو كان هناك في الفعل مضرة آجله لبينها.

وثانيا، المضرة الدنيوية، وتحريمه ثابت شرعا، لقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)، كما إستدل به الشيخ أيضا في العدة على دفع أصالة الاباحة.

وهذا الدليل ومثله رافع للحلية الثابتة بقولهم عليهم السلام: (كل شئ لك حلال حتى تعرف أنه حرام).

قلت: لو سلمنا إحتمال المصلحة في عدم بيان الضرر الاخروي، إلا أن قولهم عليهم السلام: (كل شئ لك حلال) بيان لعدم الضرر الاخروي.

وأما الضرر الغير الاخروي، فوجوب دفع المشكوك منه ممنوع، وآية التهلكة مختصة بمظنة الهلاك وقد صرح الفقهاء في باب المسافر بأن سلوك الطريق الذي يظن معه العطب معصية، دون مطلق ما يحتمل فيه ذلك.

وكذا في باب التيممم والافطار لم يرخصوا إلا مع ظن الضرر الموجب لحرمة العبادة دون الشك.

نعم ذكر قليل من متأخري المتأخرين إنسحاب حكم الافطار والتيمم مع الشك أيضا.

لكن لا من جهة حرمة إرتكاب مشكوك الضرر، بل لدعوى تعلق الحكم في الادلة بخوف الضرر الصادق مع الشك، بل مع بعض أفراد الوهم أيضا.

لكن الانصاف إلزام العقل بدفع الضرر المشكوك فيه، كالحكم بدفع الضرر المتيقن كما يعلم بالوجدان عند وجود مايع محتمل السمية إذا فرض تساوي الاحتمالين من جميع الوجوه.

لكن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المتيقن إنما هو بملاحظة نفس الضرر الدنيوى من حيث هو، كما يحكم وجوب دفع الضرر الاخروي كذلك: إلا أنه قد يتحد مع الضرر الدنيوي عنوان يترتب عليه نفع أخروي، فلا يستقل العقل بوجوب دفعه، ولذا لا ينكر العقل أمر الشارع بتسليم النفس للحدود والقصاص وتعريضها له في الجهاد والاكراه على القتل أو على الارتداد.وحينئذ فالضرر الدنيوي المقطوع يجوز أن يبيحه الشارع لمصلحة.

فإباحته للضرر المشكوك لمصحلة الترخيص على العباد أو لغيرها من المصالح أولى بالجواز: فإن قلت: إذا فرضنا قيام أمارة غير معتبرة على الحرمة فيظن الضرر فيجب دفعه مع إنعقاد الاجماع على عدم الفرق بين الشك والظن الغير المعتبر.

قلنا: الظن بالحرمة لا يستلزم الظن بالضرر.أما الاخروي فلان المفروض عدم البيان فيقبح.

و أما الدنيوي فلان الحرمة لاتلازم الضرر الدنيوي، بل القطع بها أيضا لا يلازمه، لاحتمال إنحصار المفسدة فيما يتعلق بالامور الاخروية.

ولو فرض حصول الظن بالضرر الدنيوي فلا محيص عن إلتزام حرمته، كسائر ما ظن فيه الضرر الدنيوي من الحركات والسكنات.

٣٧١

وينبغي التنبيه على أمور الاول إن محل الكلام في الشبهة الموضوعية المحكومة بالاباحة ما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي يقضي بالحرمة.

فمثل المرأة المرددة بين الزوجه والاجنبية خارج عن محل الكلام، لان أصالة عدم علاقة الزوجية المقتضية للحرمة بل إستصحاب الحرمة حاكمة على أصالة الاباحة.ونحوها المال المردد بين مال نفسه وملك الغير مع سبق ملك الغير له.

وأما مع عدم سبق ملك أحد عليه، فلا ينبغي الاشكال في عدم ترتب أحكام ملكه عليه من جواز بيعه ونحوه مما يعتبر فيه تحقق المالية.

وأما إباحة التصرفات الغير المترتبة في الادلة على ماله وملكه فيمكن القول به للاصل.

ويمكن عدمه، لان الحلية في الاملاك لا بد لها من سبب محلل بالاستقراء، ولقوله عليه السلام: (لا يحل مال إلا من حيث أحله الله).

ومبنى الوجهين أن إباحة التصرف هي المحتاجة إلى السبب فيحرم مع عدمه ولو بالاصل وأن حرمة التصرف محمولة في الادلة على ملك الغير.فمع عدم تملك الغير ولو بالاصل ينتفي الحرمة.ومن قبيل ما لا يجري فيه أصالة الاباحة اللحم المردد بين المذكى والميتة.فإن أصالة عدم التذكية المقتضية للحرمة والنجاسة حاكمة على أصالة الاباحة والطهارة.

وربما يتخيل خلاف ذلك، تارة لعدم حجية إستصحاب عدم التذكية، وأخرى لمعارضة أصالة عدم التذكية بأصالة عدم الموت والحرمة والنجاسة من أحكام الميتة.

والاول مبني على عدم حجية الاستصحاب ولو في الامور العدمية.

والثاني مدفوع، أولا، بأنه يكفي في الحكم بالحرمة عدم التذكية ولو بالاصل، ولا يتوقف على

٣٧٢

ثبوت الموت حتى ينتفي بإنتفائه ولو بحكم الاصل.

والدليل عليه إستثناء (ما ذكيتم) من قوله (و ما أكل السبع)، فلم يبح الشارع إلا ما ذكي، وإناطة إباحة الاكل بما ذكر اسم الله عليه وغيره من الامور الوجودية المعتبرة في التذكية.فإذا إنتفى بعضها ولو بحكم الاصل إنتفت الاباحة.

وثانيا، أن الميتة عبارة عن غير المذكى، إذ ليست الميتة خصوص ما مات حتف أنفه، بل كل زهاق روح إنتفى فيه شرط من شروط التذكية فهي ميتة شرعا.وتمام الكلام في (الفقه).

الثاني إن الشيخ الحر، قدس سره، أورد في بعض كلماته إعتراضا على معاشر الاخباريين.

وحاصله أنه ما الفرق بين الشبهة في نفس الحكم وبين الشبهة في طريقه، حيث أوجبتم الاحتياط في الاول دون الثاني؟ وأجاب بما لفظه: (إن حد الشبهة في الحكم حكمه الشرعي، أعني الاباحة والتحريم.

و حد الشبهة في طريق الحكم الشرعي ما اشتبه فيه موضوع الحكم، كاللحم المشترى من السوق لا يعلم أنه مذكى أو ميتة، مع العلم لحكم المذكى والميتة.

ويستفاد هذا التقسيم من أحاديث ومن وجوه عقلية مؤيدة لتلك الاحاديث، ويأتي بعضها وقسم متردد بين القسمين، وهي الافراد التي ليست بظاهرة الفردية لبعض الانواع.

وليس إشتباهها بسبب شئ من الامور الدنيوية كإختلاط الحلال بالحرام، بل إشتباهها لامر ذاتى، أعني إشتباه صنفها في نفسها، كبعض أفراد الغناء الذى قد ثبت تحريم نوعه واشتبه أنواع في أفراد يسيرة، وبعض أفراد الخبائث الذى قد ثبت تحريم نوعه واشتبه بعض أفراده.حتى إختلف العقلاء فيها، ومنها شرب التتن.

وهذا النوع يظهر من الاخبار دخوله في الشبهات التي ورد الامر بإجتنابها.

وهذه التفاصيل يستفاد من مجموع الاحاديث، ونذكر مما يدل على ذلك وجوها: منها قوله عليه السلام: (كل شئ فيه حلال و حرام فهو لك حلال).

فهذا وأشباهه صادق على الشبهة في طريق الحكم - إلى أن قال - وإذا حصل الشك في تحريم الميتة لم يصدق عليها أن فيها حلالا ولا حراما).

أقول: كان مطلبه أن هذه الرواية وأمثالها مخصصة لعموم ما دل على وجوب التوقف والاحتياط

٣٧٣

في مطلق الشبهة، وإلا فجريان أصالة الاباحة في الشبهة الموضوعية لا ينفي جريانها في الشبهة الحكمية.

مع أن سياق أخبار التوقف والاحتياط يأبى عن التخصيص من حيث إشتمالها على العلة العقلية لحسن التوقف والاحتياط، أعني الحذر من الوقوع في الحرام والهلكة.فحملها على الاستحباب أولى.

ثم قال: (ومنها: قوله " ص ": حلال بين وحرام بين وشبهات.

وهذا إنما ينطبق على الشبهة في نفس الحكم وإلا لم يكن الحلال البين ولا الحرام البين ولا يعلم أحدهما من الاخر إلا علام الغيوب.وهذا ظاهر واضح).

أقول: فيه - مضافا إلى ما ذكرنا من إباء سياق الخبر عن التخصيص - أن رواية التثليث التي هي العمدة من أدلتهم ظاهرة في حصر ما يبتلى به المكلف من الافعال في ثلاثة: فإن كانت عامة للشبهة الموضوعية أيضا صح الحصر، وإن إختصت بالشبهة الحكمية كان الفرد الخارجي المردد بين الحلال والحرام قسما رابعا، لانه ليس حلالا بينا ولا حراما بينا ولا مشتبه الحكم.

ولو استشهد بما قبل النبوي من قول الصادق عليه السلام: (إنما الامور ثلاثة)، كان ذلك أظهر في الاختصاص بالشبهة الحكمية، إذ المحصور في هذه الفقرة الامور التي يرجع فيها إلى بيان الشارع، فلا يرد إخلاله بكون الفرد الخارجي المشتبه أمرا رابعا للثلاثة.

وأما ما ذكره: (من المانع لشمول النبوي للشبهة الموضوعية من أنه لا يعلم الحلال من الحرام إلا علام الغيوب)، ففيه: أنه إن أريد عدم وجودهما، ففيه ما لا يخفى، وإن أريد ندرتهما، ففيه أن الندرة تمنع من إختصاص النبوي بالنادر لا من شمولها له، مع أن دعوى كون الحلال البين من حيث الحكم أكثر من الحلال البين من حيث الموضوع قابلة للمنع، بل المحرمات الخارجية المعلومة أكثر بمراتب من المحرمات الكلية المعلوم تحريمها.

ثم قال: (ومنها: ما ورد من الامر البليغ بإجتناب ما يحتمل الحرمة والاباحة بسبب تعارض الادلة وعدم النص.

وذلك واضح الدلالة على إشتباه نفس الحكم الشرعي).

أقول: ما دل على التخيير والتوسعة مع التعارض وعلى الاباحة مع عدم ورود النهي، وإن لم يكن في الكثرة بمقدار أدلة التوقف والاحتياط، إلا أن الانصاف أن دلالتها على الاباحة والرخصة أظهر من دلالة تلك الاخبار على وجوب الاجتناب.

٣٧٤

قال: (ومنها: أن ذلك وجه للجمع بين الاخبار لا يكاد يوجد وجه أقرب منه).

أقول: مقتضى الانصاف أن حمل أدلة الاحتياط على الرجحان المطلق أقرب مما ذكره.

ثم قال: ما حاصله: (ومنها أن الشبهة في نفس الحكم يسئل عنها الامام، عليه السلام، بخلاف الشبهة في طريق الحكم، لعدم وجوب السؤال عنه، بل علمهم بجميع أفراده غير معلوم أو معلوم العدم، لانه من علم الغيب فلا يعلمه إلا الله وإن كانوا يعلمون منه ما يحتاجون إليه وإذا شاؤوا أن يعلموا شيئا علموه)، إنتهى.

أقول ما ذكره من الفرق لا مدخل له، فإن طريق الحكم لا يجب الفحص عنه وإزالة الشبهة فيه، لا من الامام عليه السلام ولا من غيره من الطرق المتمكن منها.

والرجوع إلى الامام عليه السلام إنما يجب فيما تعلق التكليف فيه بالواقع على وجه لا يعذر الجاهل المتمكن من العلم.

وأما مسألة مقدار معلومات الامام عليه السلام من حيث العموم والخصوص وكيفية علمه بها من حيث توقفه على مشيتهم أو على إلتفاتهم إلى نفس الشئ أو عدم توقف على ذلك، فلا يكاد يظهر من الاخبار المختلفة في ذلك ما يطمئن به النفس.فالاول وكول علم ذلك إليهم، صلوات الله عليهم أجمعين.

ثم قال: (ومنه: أن إجتناب الشبهة في نفس الحكم أمر ممكن مقدور، لان أنواعه محصورة، بخلاف الشبهة في طريق الحكم.

فإجتنابها غير ممكن، لما أشرنا إليه من عدم وجود الحلال البين ولزوم تكليف ما لا يطاق.

والاجتناب عما يزيد على قدر الضرورة حرج عظيم وعسر شديد، لاستلزامه الاقتصار في اليوم والليلة على لقمة واحدة وترك جميع الانتفاعات) إنتهى.

اقول: لا ريب أن أكثر الشبهات الموضوعية لا يخلو عن أمارات الحل والحرمة، كيد المسلم و السوق وأصالة الطهارة وقول المدعي بلا معارض والاصول العدمية المجمع عليها عند المجتهدين و الاخباريين على ما صرح به المحدث الاسترابادي، كما سيجئ نقل كلامه في الاستصحاب، و بالجملة فلا يلزم حرج من الاجتناب في الموارد الخالية عن هذه الامارات لقلتها.

٣٧٥

قال: (ومنها: أن إجتناب الحرام واجب عقلا ونقلا، ولا يتم إلا بإجتناب ما يحتمل التحريم مما اشتبه حكمه الشرعي ومن الافراد الغير الظاهرة بالفردية، و ما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدورا فهو واجب، إلى غير ذلك من الوجوه.

وإن أمكن المناقشة في بعضها.

فمجموعها دليل كاف شاف في هذا المقام والله أعلم بحقائق الامور والاحكام)، إنتهى.

أقول: الدليل المذكور أولى بالدلالة على وجوب الاجتناب من الشبهة في طريق الحكم، بل لو تم لم يتم إلا فيه، لان وجوب الاجتناب عن الحرام لم يثبت إلا بدليل حرمة ذلك الشئ أو أمر وجوب إطاعة الاوامر والنواهي، مما ورد في الشرع وحكم به العقل.فهي كلها تابعة لتحقق الموضوع، أعني الامر والنهي.والمفروض الشك في تحقق النهي.

وحينئذ فإذا فرض عدم الدليل على الحرمة، فأين وجوب ذي المقدمة حتى يثبت وجوبها.

نعم يمكن أن يقال في الشبهة في طريق الحكم، بعدما قام الدليل على حرمة الخمر، يثبت وجوب الاجتناب عن جميع أفرادها الواقعية، ولا يحصل العلم بموافقة هذا الامر العام إلا بالاجتناب عن كل ما احتمل حرمته.

لكنك عرفت الجواب عنه سابقا، وأن التكليف بذي المقدمه غير محرز إلا بالعلم التفصيلي أو الاجمالي.

فالاجتناب عما يحتمل الحرمة إحتمالا مجردا عن العلم الاجمالي لا يجب لا نفسا ولا مقدمة، والله العالم.

الثالث: أنه لا شك في حكم العقل والنقل برجحان الاحتياط مطلقا، حتى فيما كان هناك أمارة على الحل مغنية عن أصالة الاباحة.

إلا أنه لا ريب في أن الاحتياط في الجميع موجب لاختلال النظام، كما ذكره المحدث المتقدم، بل يلزم أزيد مما ذكره فلا يجوز الامر به من الحكيم، لمنافاته للغرض و التبعيض بحسب الموارد.

وإستحباب الاحتياط حتى يلزم الاختلال أيضا مشكل، لان تحديده في غاية التعسر، فيحتمل التبعيض بحسب الاحتمالات، فيحتاط في المظنونات.

وأما المشكوكات فضلا عن إنضمام الموهومات إليها، فالاحتياط فيها حرج مخل بالنظام.

و يدل على هذا العقل بعد ملاحظه حسن الاحتياط مطلقا وإستلزام كليته الاختلال ويحتمل

٣٧٦

التبعيض بحسب المحتملات.

فالحرام المحتمل إذا كان من الامور المهمة في نظر الشارع، كالدماء و الفروج، بل مطلق حقوق الناس بالنسبة إلى حقوق الله تعالى يحتاط فيه وإلا فلا.

ويدل على هذا جميع ما ورد من التأكيد في أمر النكاح، وأن شديد، وأنه يكون منه الولد.

منها: ما تقدم من قوله عليه السلام: (لا تجامعوا على النكاح بالشبهة) قال عليه السلام: (فإذا بلغك إمرأة أرضعتك - إلى أن قال -: إن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة).

وقد تعارض هذه بما دل على عدم وجوب السؤال والتوبيخ عليه وعدم قبول قول من يدعي حرمة المعقودة مطلقا أو بشرط عدم كونه ثقة، وغير ذلك.

وفيه: أن مساقها التسهيل وعدم وجوب الاحتياط فلا ينافي الاستحباب، ويحتمل التبعيض بين مورد الامارة على الاباحة ومورد لا يوجد إلا أصالة الاباحة.

فيحمل ما ورد من الاجتناب عن الشبهات والوقوف عند الشبهات على الثاني دون الاول، لعدم صدق الشبهة بعد الامارة الشرعية على الاباحة.

فإن الامارات في الموضوعات بمنزلة الادلة في الاحكام مزيلة للشبهة ن خصوصا إذا كان المراد من الشبهة ما يتحير في حكمه، ولا بيان من الشارع لا عموما ولا خصوصا بالنسبة إليه، دون مطلق ما فيه الاحتمال.

وهذا بخلاف أصالة الاباحة، فإنها حكم في مورد الشبهة لا مزيلة لها، هذا.

ولكن أدلة الاحتياط لا تنحصر في ما ذكر فيه لفظ الشبهة، بل العقل مستقل بحسن الاحتياط مطلقا.

فالاولى الحكم برجحان الاحتياط في كل موضع لا يلزم منه الحرام.

وما ذكر من أن تحديد الاستحباب بصورة لزوم الاختلال عسر، فهو إنما يقدح في وجوب الاحتياط لا في حسنه.

الرابع: إباحة ما يحتمل الحرمة غير مختصة بالعاجز عن الاستعلالم، بل تشمل القادر على تحصيل العلم بالواقع.

لعموم أدلته من العقل والنقل.

وقوله، عليه السلام، في ذيل رواية مسعدة بن صدقة: (والاشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غيره أو تقوم به البينة)، فإن ظاهره حصول الاستبانة و قيام البينة لا بالتحصيل.

وقوله (هو لك حلال حتى يجيئك شاهدان).

لكن هذا وأشباهه، مثل قوله عليه السلام في اللحم المشترى من السوق (كل ولا تسأل)، وقوله عليه السلام: (ليس عليكم المسألة، إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم)، وقوله عليه السلام في حكاية المنقطعة التي تبين لها زوج: (لم سألت) واردة في موارد وجود الامارة الشرعية على الحلية، فلا يشمل ما نحن فيه، إلا أن المسألة غير خلافية مع كفاية الاطلاقات.

٣٧٧

المطلب الثاني في دوران حكم الفعل بين الوجوب وغير الحرمة من الاحكام

وفيه أيضا مسائل:

المسألة الاولى: فيما إشتبه حكمه الشرعي الكلي من جهة عدم النص المعتبر كما إذا ورد خبر ضعيف أو فتوى جماعة بوجوب فعل، كالدعاء عند رؤية الهلال، وكالاستهلال في رمضان وغير ذلك.

المعروف من الاخباريين هنا موافقة المجتهدين في العمل بأصالة البراء‌ة و عدم وجوب الاحتياط.

قال المحدث الحر العاملي في باب القضاء من الوسائل (إنه لا خلاف في نفي الوجوب عند الشك في الوجوب إلا إذا علمنا إشتغال الذمة بعبارة معينة وحصل الشك بين الفردين، كالقصر والاتمام والظهر والجمعة وجزاء واحد للصيد أو إثنين ونحو ذلك، فإنه يجب الجمع بين العبادتين، لتحريم تركهما معا للنص وتحريم الجزم بوجوب أحدهما بعينه عملا بأحاديث الاحتياط)، إنتهى موضع الحاجة.

وقال المحدث البحراني في مقدمات كتابه، بعد تقسيم أصل البراء‌ة إلى قسمين: (أحدهما أنها عبارة عن نفي وجوب فعل وجودي، بمعنى أن الاصل عدم الوجوب حتى يقوم دليل على الوجوب.

وهذا القسم لا خلاف في صحة الاستدلال به، إذ لم يقل أحد: إن الاصل الوجوب).

وقال في محكي كتابه المسمى بالدرر النجفية: (إن كان الحكم المشكوك دليله هو الوجوب فلا خلاف ولا إشكال في إنتفائه حتى يظهر دليل لاستلزام التكليف بدون دليل الحرج والتكليف بما لا يطاق)، إنتهى.

٣٧٨

لكنه، رحمه الله، في مسألة وجوب الاحتياط قال بعد القطع برجحان الاحتياط: (إن منه ما يكون واجبا ومنه ما يكون مستحبا.

فالاول كما إذا تردد المكلف في الحكم، إما لتعارض الادلة، أو لتشابهها وعدم وضوح دلالتها، أو لعدم الدليل بالكلية، بناء على نفي البراء‌ة الاصلية، أو لكون ذلك الفرد مشكوكا في إندارجه تحت بعض الكليات المعلومة الحكم أو نحو ذلك.

والثاني كما إذا حصل الشك بإحتمال وجود النقيض لما قام عليه الدليل الشرعي إحتمالا مستندا إلى بعض الاسباب المجوزة.

كما إذا كان مقتضى الدليل الشرعي إباحة شئ وحليته.لكن يحتمل قريبا بسبب بعض تلك الاسباب أنه مما حرمه الشارع.ومنه جوائز الجائر ونكاح إمرأة بلغك أنها أرتضعت معك الرضاع المحرم ولم يثبت شرعا.

ومنه أيضا الدليل المرجوح في نظر الفقيه.

أما إذا لم يحصل ما يوجب الشك والريبة، فإنه يعمل على ما ظهر له من الادلة وإن احتمل النقيض في الواقع ولا يستحب له الاحتياط، بل ربما كان مرجوحا لاستفاضة الاخبار بالنهي عن السؤال عند الشراء من سوق المسلمين).

ثم ذكر الامثلة للاقسام الثلاثة لوجوب الاحتياط، أعني إشتباه الدليل وتردده بين الوجوب والاستحباب وتعارض الدليين وعدم النص قال: (ومن هذا القسم ما لم يرد فيه نص من الاحكام التي لا يعم به البلوى عند من لم يعتمد على البراء‌ة الاصلية، فإن الحكم فيه ما ذكرنا، كما سلف)، إنتهى.

وممن يظهر منه وجوب الاحتياط هنا المحدث الاسترابادي، حيث حكى عنه في الفوائد المدنية أنه قال: (إن التمسك بالبراء‌ة الاصلية إنما يجوز قبل إكمال الدين.

وأما بعد تواتر الاخبار بأن كل واقعة محتاج إليها فيها خطاب قطعي من قبل الله تعالى فلا يجوز قطعا.

وكيف يجوز وقد تواتر عنهم، عليهم السلام، وجوب التوقف في ما لم يعلم حكمها معللين بأنه بعد أن كملت الشريعه لا تخلو واقعة عن حكم قطعي وارد من

٣٧٩

الله تعالى.ومن حكم بغير ما أنزل الله تعالى فأولئك هم الكافرون).

ثم اقول: هذا المقام مما زلت فيه أقدام أقوام من فحول العلماء.

فحري بنا أن نحقق المقام ونوضحه بتوفيق الملك العلام ودلالة أهل الذكر عليهم السلام.

فنقول: التمسك بالبراء‌ة الاصلية إنما يتم عند الاشاعرة المنكرين للحسن والقبح الذاتيين.

وكذلك عند من يقول بهما ولا يقول بالحرمة والوجوب الذاتيين، كما هو المستفاد من كلامهم عليهم السلام، وهو الحق عندي.

ثم على هذين المذهبين إنما يتم قبل إكمال الدين لا بعده إلا على مذهب من جوز من العامة خلو الواقعة عن الحكم.

لا يقال: بقي هنا أصل آخر، وهو أن يكون الخطاب الوارد في الواقعة موافقا للبراء‌ة الاصلية.

لانا نقول: هذا الكلام مما لا يرضى له لبيب، لان خطابه تعالى تابع للمصالح والحكم، ومقتضيات الحكم والمصالح مختلفة - إلى أن قال: - هذا الكلام مما لا يرتاب في قبحه.

نظير أن يقال: الاصل في الاجسام تساوي نسبة طبايعها إلى جهة السفل والعلو، ومن المعلوم بطلان هذا المقال.

ثم أقول: هذا الحديث المتواتر بين الفريقين المشتمل على حصر الامور في الثلاثة وحديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، ونظائرهما، أخرج كل واقعة لم يكن حكمها مبينا من البراء‌ة الاصلية وأوجب التوقف فيها.

ثم قال: بعد أن الاحتياط قد يكون في محتمل الوجوب وقد يكون في محتمل الحرمة: (إن عادة العامة والمتأخرين من الخاصة جرت بالتمسك بالبراء‌ة الاصلية.

ولما أبطلنا جواز التمسك بها في المقامين، لعلمنا بأن الله تعالى أكمل لنا ديننا و علمنا بأن كل واقعة يحتاج إليها ورد فيها خطاب قطعي من الله تعالى خال عن المعارض، وبأن كل ما جاء به نبينا " ص " مخزون عند العترة الطاهرة، ولم يرخصوا لنا في التمسك بالبراء‌ة الاصلية، بل أوجبوا التوقف في كل ما لم يعلم حكمه، وأوجبوا الاحتياط في بعض صوره، فعلينا أن نبين ما يجب أن يفعل في

٣٨٠