فرائد الاصول الجزء ١

فرائد الاصول0%

فرائد الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 406

فرائد الاصول

مؤلف: الشيخ مرتضى الأنصاري
تصنيف:

الصفحات: 406
المشاهدات: 43301
تحميل: 8368


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 43301 / تحميل: 8368
الحجم الحجم الحجم
فرائد الاصول

فرائد الاصول الجزء 1

مؤلف:
العربية

الحلال الظاهري أو عكسه فلا نسلم لزومه، وإن أريد تحريم الحلال الواقعي ظاهرا فلا نسلم إمتناعه.

والاولى أن يقال: إنه إن أراد إمتناع التعبد بالخبر في المسألة التي إنسد فيها باب العلم بالواقع، فلا يعقل المنع عن العمل به فضلا عن إمتناعه.

إذ من فرض عدم التمكن مع العلم بالواقع، إما أن يكون للمكلف حكم في تلك الواقعة، وإما أن لا يكون له فيها حكم، كالبهائم والمجانين.

فعلى الاول، فلا مناص عن إرجاعه إلى ما لا يفيد العلم من الاصول والامارات الظنية التي منها الخبر الواحد.

وعلى الثاني يلزم ترخيص فعل الحرام الواقعي وترك الواجب الواقعي، وقد فر المستدل منهما.

فإن التزم أن مع عدم التمكن من العلم لا وجوب ولا تحريم، لان الواجب والحرام ما علم بطلب فعله أو تركه.

قلنا: فلا يلزم من التعبد بالخبر تحليل حرام أو عكسه.

وكيف كان فلا نظن بالمستدل إرادة الامتناع في هذا الفرض، بل الظاهر أنه يدعي الانفتاح، لانه أسبق من السيد وأتباعه الذين إدعوا إنفتاح باب العلم.

ومما ذكرنا: ظهر أنه لا مجال للنقض عليه بمثل الفتوى، لان المفروض إنسداد باب العلم على المستفتي.

وليس له شئ أبعد من تحريم الحلال وتحليل الحرام من العمل بقول المفتي، حتى أنه لو تمكن من الظن الاجتهادي فالاكثر على عدم جواز العمل بفتوى الغير.

وكذلك نقضه بالقطع مع إحتمال كونه في الواقع جهلا مركبا، فإن باب هذا الاحتمال منسد على القاطع.

وإن أراد الامتناع مع إنفتاح باب العلم والتمكن منه في مورد العمل بالخبر، فنقول: إن التعبد بالخبر حينئذ يتصور على وجهين:

أحدهما: أن يجب العمل به، لمجرد كونه طريقا إلى الواقع وكاشفا ظنيا عنه، بحيث لم يلاحظ فيه مصلحة سوى الكشف عن الواقع، كما قد يتفق ذلك عند إنسداد باب العلم وتعلق الغرض بإصابة الواقع، فإن الامر بالعمل بالظن الخبري أو غيره لا يحتاج إلى مصلحة سوى كونه كاشفا ظنيا عن الواقع.

الثاني: أن يجب العمل به، لاجل أنه يحدث فيه بسبب قيام تلك الامارة مصلحة راجحة على المصلحة الواقعية التي تفوت عند مخالفة تلك الامارة للواقع، كأن يحدث في صلاة الجمعة بسبب

٤١

إخبار العادل بوجوبها مصلحة راجحة على المفسدة في فعلها على تقدير حرمتها واقعا.

أما إيجاب العمل بالخبر على الوجه الاول، فهو وإن كان في نفسه قبيحا مع فرض إنفتاح باب العلم، لما ذكره المستدل من تحريم الحلال وتحليل الحرام، لكن لا يمتنع أن يكون الخبر أغلب مطابقة للواقع في نظر الشارع من الادلة القطعية التي يستعملها المكلف للوصول إلى الحرام والحلال الواقعيين، أو يكونا متساويين في نظره من حيث الايصال إلى الواقع.

إلا أن يقال: إن هذا رجوع إلى فرض إنسداد باب العلم والعجز عن الوصول إلى الواقع، إذ ليس المراد إنسداد باب الاعتقاد ولو كان جهلا مركبا، كما تقدم سابقا.

فالاولى الاعتراف بالقبح مع فرض التمكن عن الواقع.

وأما وجوب العمل بالخبر على الوجه الثاني، فلا قبح فيه أصلا، كما لا يخفى.

قال في النهاية في هذا المقام، تبعا للشيخ، قدس سره، في العدة: (إن الفعل الشرعي إنما يجب لكونه مصلحة، ولا يمتنع أن يكون مصلحة إذا فعلناه ونحن على صفة مخصوصة، وكوننا ظانين بصدق الراوي صفة من صفاتنا، فدخلت في جملة أحوالنا التي يجوز كون الفعل عندها مصلحة)، إنتهى موضع الحاجة.

فإن قلت: إن هذا إنما يوجب التصويب، لان المفروض على هذا أن في صلاة الجمعة التي أخبر بوجوبها مصلحة راجحة على المفسدة الواقعية.

فالمفسدة الواقعية سليمة عن المعارض الراجح بشرط عدم إخبار العادل بوجوبها، وبعد الاخبار يضمحل المفسدة، لعروض المصلحة الراجحة.

فلو ثبت مع هذا الوصف تحريم ثبت بغير مفسدة توجبه، لان الشرط في إيجاب المفسدة له خلوها عن معارضة المصلحة الراجحة.

فيكون إطلاق الحرام الواقعي حينئذ بمعنى أنه حرام لولا الاخبار، لا أنه حرام بالفعل ومبغوض واقعا، فالموجود بالفعل في هذه الواقعة عند الشارع ليس إلا المحبوبية والوجوب، فلا يصح إطلاق الحرام على ما فيه المفسدة المعارضة بالمصلحة الراجحة عليه.

ولو فرض صحته فلا يوجب ثبوت حكم شرعي مغاير للحكم المسبب عن المصلحة الراجحة.

والتصويب وإن لم ينحصر في هذا المعنى، إلا أن الظاهر بطلانه أيضا، كما إعترف به العلامة في النهاية في مسألة التصويب، وأجاب به صاحب المعالم في تعريف الفقه عن قول العلامة بأن ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم.

قلت: لو سلم كون هذا تصويبا مجمعا على بطلانه وأغمضنا النظر عما سيجئ من عدم كون

٤٢

ذلك تصويبا، كان الجواب به عن إبن قبة من جهة أنه أمر ممكن غير مستحيل وإن لم يكن واقعا، لاجماع أو غيره.

وهذا المقدار يكفي في رده.

إلا أن يقال: إن كلامه، قدس سره بعد الفراغ عن بطلان التصويب، كما هو ظاهر إستدلاله.

وحيث إنجر الكلام إلى التعبد بالامارات الغير العلمية، فنقول في توضيح هذا المرام وإن كان خارجا عن محل الكلام: إن ذلك يتصور على وجهين:

الاول: أن يكون ذلك من باب مجرد الكشف عن الواقع، فلا يلاحظ في التعبد بها إلا الايصال إلى الواقع، فلا مصلحة في سلوك هذا الطريق وراء مصلحة الواقع.

كما لو أمر المولى عبده عند تحيره في طريق بغداد بسؤال الاعراب عن الطريق، غير ملاحظ في ذلك إلا قول الاعراب موصلا إلى الواقع دائما أو غالبا.والامر بالعمل في هذا القسم ليس إلا للارشاد.

الثاني: أن يكون ذلك لمدخلية سلوك الامارة في مصلحة العمل وإن خالف الواقع.

فالغرض إدراك مصلحة سلوك هذا الطريق التي هى مساوية لمصلحة الواقع أو أرجح منها.

أما القسم الاول، فالوجه فيه لا يخلو من أمور: أحدها: كون الشارع العالم بالغيب عالما بدوام موافقة هذه الامارات للواقع وإن لم يعلم بذلك المكلف.

الثاني: كونها في نظر الشارع غالب المطابقة.

الثالث: كونها في نظره أغلب مطابقة من العلوم الحاصلة للمكلف بالواقع، لكون أكثرها في نظر الشارع جهلا مركبا.

والوجه الاول والثالث يوجبان الامر بسلوك الامارة ولو مع تمكن المكلف من الاسباب المفيدة للقطع.

والثاني لا يصح إلا مع تعذر باب العلم، لان تفويت الواقع على المكلف ولو في النادر من دون تداركه بشئ قبيح.

وأما القسم الثاني، فهو على وجوه:

أحدها: أن يكون الحكم - مطابقا - تابعا لتلك الامارة، بحيث لا يكون في حق الجاهل مع قطع النظر عن وجود هذه الامارة وعدمها حكم، فيكون الاحكام الواقعية مختصة في الواقع بالعالمين بها،

٤٣

والجاهل مع قطع النظر عن قيام أمارة عنده على حكم العالمين لا حكم له أو محكوم بما يعلم الله أن الامارة تؤدي إليه.وهذا تصويب باطل عند أهل الصواب من المخطئة.

وقد تواتر بوجود الحكم المشترك بين العالم والجاهل الاخبار والآثار.

الثاني: أن يكون الحكم الفعلي تابعا لهذه الامارة، بمعنى: أن لله في كل واقعة حكما يشترك فيه العالم والجاهل لولا قيام الامارة على خلافه، بحيث يكون قيام الامارة المخالفة مانعا عن فعلية ذلك الحكم، لكون مصلحة سلوك هذه الامارة غالبة على مصلحة الواقع.

فالحكم الواقعي فعلي في حق غير الظان بخلافه، وشأني في حقه بمعنى وجود المقتضي لذلك الحكم لولا الظن على خلافه.

وهذا أيضا كالاول في عدم ثبوت الحكم الواقعي للظان بخلافه، لان الصفة المزاحمة بصفة أخرى لا تصير منشأ لحكم، فلا يقال للكذب النافع: إنه قبيح واقعا.

والفرق بينه وبين الوجه الاول، بعد إشتراكهما في عدم ثبوت الحكم الواقعي للظان بخلافه، أن العامل بالامارة المطابقة حكمه حكم العالم ولم يحدث في حقه بسبب ظنه حكم، نعم كان ظنه مانعا عن المانع، وهو الظن بالخلاف.

الثالث: أن لا يكون للامارة القائمة على الواقعة تأثير في الفعل الذي تضمنت الامارة حكمه ولا تحدث فيه مصلحة، إلا أن العمل على طبق تلك الامارة، والالتزام به في مقام العمل على أنه هو الواقع، وترتيب الآثار الشرعية المترتبة عليه واقعا يشتمل على مصلحة، [ فأوجبه الشارع.

ومعنى إيجاب العمل على الامارة وجوب تطبيق العمل عليها، لا وجوب إيجاد عمل على طبقها، إذ قد لا تتضمن الامارة إلزاما على المكلف.

فإذا تضمنت إستحباب شئ أو وجوبه تخييرا أو إباحته وجب عليه إذا أراد الفعل أن يوقعه على وجه الاستحباب او الاباحة بمعنى حرمة قصد غيرهما كما لو قطع بهما، ] وتلك المصلحة لا بد أن تكون مما يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع، لو كان الامر بالعمل به مع التمكن من العلم، وإلا كان تفويتا لمصلحة الواقع، وهو قبيح، كما عرفت في كلام إبن قبة.

فإن قلت: ما الفرق بين هذا الوجه الذي مرجعه إلى المصلحة في العمل بالامارة وترتيب أحكام الواقع على مؤداها وبين الوجه السابق الراجع إلى كون قيام الامارة سببا لجعل مؤداها على المكلف؟ مثلا إذا فرضنا قيام الامارة على وجوب صلاة الجمعة مع كون الواجب في الواقع هي الظهر فإن كان في فعل الجمعة مصلحة يتدارك بها ما يفوت بترك صلاة الظهر، فصلاة الظهر في حق هذا

٤٤

الشخص خالية عن المصلحة الملزمة، فلا صفة تقتضي وجوبها الواقعي، فهنا وجوب واحد واقعا و ظاهرا متعلق بصلاة الجمعة، وإن لم يكن في فعل الجمعة صفة، كان الامر بالعمل بتلك الامارة قبيحا، لكونه مفوتا للواجب مع التمكن من إدراكه بالعلم.

فالوجهان مشتركان في إختصاص الحكم الواقعي بغير من قام عنده الامارة على وجوب صلاة الجمعة.

فيرجع الوجه الثالث إلى الوجه الثاني، وهو كون الامارة سببا لجعل مؤداها هو الحكم الواقعي لا غير، وإنحصار الحكم في المثال بوجوب صلاة الجمعة، وهو التصويب الباطل.

قلت: أما رجوع الوجه الثالث إلى الوجه الثاني فهو باطل، لان مرجع جعل مدلول الامارة في حقه الذي هو مرجع الوجه الثاني إلى أن صلاة الجمعة هي واجبة عليه واقعا، كالعالم بوجوب صلاة الجمعة، فإذا صلاها فقد فعل الواجب الواقعي، فإذا إنكشف مخالفة الامارة للواقع فقد إنقلب موضوع الحكم واقعا إلى موضوع آخر، كما إذا صار المسافر بعد صلاة القصر حاضرا، إذا قلنا بكفاية السفر في أول الوقت لصحة القصر واقعا.

ومعنى الامر بالعمل على طبق الامارة الرخصة في أحكام الواقع على مؤداها من دون أن يحدث في الفعل مصلحة على تقدير مخالفة الواقع، كما يوهمه ظاهر عبارتي العدة والنهاية المتقدمتين.

فإذا أدت إلى وجوب صلاة الجمعة واقعا، وجب ترتيب أحكام الوجوب الواقعي وتطبيق العمل على وجوبها الواقعي.

فإن كان في أول الوقت جاز الدخول فيها بقصد الوجوب وجاز تأخيرها.

فإذا فعلها جاز له فعل النافلة وإن حرمت في وقت الفريضة المفروض كونها في الواقع هي الظهر، لعدم وجوب الظهر عليه فعلا ورخصة في تركهما، وإن كان في آخر وقتها حرم تأخيرها والاشتغال بغيرها.

ثم إن إستمر هذا الحكم الظاهري أعني الترخيص في ترك الظهر إلى آخر وقتها - وجب كون الحكم الظاهري، لكون ما فعله في أول الوقت هو الواقع المستلزم لفوت الواقع على المكلف، مشتملا على مصلحة يتدارك بها ما فات لاجله من مصلحة الظهر، لئلا يلزم تفويت الواجب الواقعي على المكلف مع التمكن من إتيانه بتحصيل العلم به.

وإن لم يستمر بل علم بوجوب الظهر في المستقبل، بطل وجوب العمل على طبق وجوب صلاة الجمعة واقعا ووجب العمل على طبق عدم وجوبه في نفس الامر من أول الامر، لان المفروض عدم حدوث الوجوب النفس الامري، وإنما عمل على طبقه ما دامت أمارة الوجوب قائمة.

فإذا فقدت بإنكشاف وجوب الظهر وعدم وجوب الجمعة، وجب حينئذ ترتيب ما هو كبرى

٤٥

لهذا المعلوم، أعني وجوب الاتيان بالظهر ونقض آثار وجوب صلاة الجمعة إلا ما فات منها.

فقد تقدم أن مفسدة فواته متداركة بالحكم الظاهري المتحقق في زمان الفوت.

فلو فرضنا العلم بعد خروج وقت الظهر، فقد تقدم أن حكم الشارع بالعمل بمؤدى الامارة اللازم منه ترخيص ترك الظهر في الجزء الاخير لا بد أن يكون لمصلحة يتدارك بها مفسدة ترك الظهر.

ثم إن قلنا: إن القضاء فرع صدق الفوت المتوقف على فوت الواجب من حيث أن فيه مصلحة، لم يجب فيما نحن فيه، لان الواجب وإن ترك إلا أن مصلحته متداركة، فلا يصدق على هذا الترك الفوت.

وإن قلنا: إنه متفرع على مجرد ترك الواجب، وجب هنا، لفرض العلم بترك صلاة الظهر مع وجوبها عليه واقعا.

إلا أن يقال: إن غاية ما يلتزم به في المقام هي المصلحة في معذورية الجاهل مع تمكنه من العلم ولو كانت لتسهيل الامر على المكلفين، ولا ينافي ذلك صدق الفوت، فافهم.

ثم إن هذا كله على ما إخترناه من عدم إقتضاء الامر الظاهري للاجزاء واضح، وأما على القول بإقتضائه له فقد يشكل الفرق بينه وبين القول بالتصويب.

وظاهر شيخنا في تمهيد القواعد إستلزام القول بالتخطئة لعدم الاجزاء.

قال قدس سره: (من فروع مسألة التصويب والتخطئة لزوم الاعادة للصلاة بظن القبلة وعدمه)، وإن كان في تمثيله لذلك بالموضوعات محل نظر.

- فعلم من ذلك أن ما ذكره من وجوب كون فعل الجمعة مشتملا على مصلحة يتدارك به مفسدة ترك الواجب ومعه يسقط عن الوجوب ممنوع، لان فعل الجمعة قد لايستلزم الا ترك الظهر في بعض أجزاء وقته، فالعمل على الامارة معناه الاذن في الدخول فيها على قصد الوجوب والدخول في التطوع بعد فعلها.

نعم يجب في الحكم بجواز فعل النافلة اشتماله على مصلحة يتدارك به مفسدة فعل التطوع في وقت الفريضة لو اشتمل دليله الفريضة المأذون في تركها ظاهرا، والا كان جواز التطوع في تلك الحال حكما واقعيا لا ظاهريا.

واما قولك انه مع تدارك المفسدة بمصلحة الحكم الظاهري يسقط الوجوب فممنوع ايضا، اذ قد يترتب على وجوبه واقعا حكم شرعي وان تدارك مفسدة تركه مصلحة فعل آخر كوجوب قضائه اذا علم بعد خروج الوقت بوجوبه واقعا.

وبالجملة، فحال الامر بالعمل بالامارة القائمة على حكم شرعي حال الامر بالعمل بالامارة القائمة على الموضوع الخارجي، كحياة زيد وموت عمرو.

فكما أن الامر بالعمل بالامارة في الموضوعات لا يوجب جعل نفس الوضوع، وإنما يوجب جعل أحكامه، فيترتب عليه الحكم ما دامت الامارة قائمة عليه، فإذا فقدت الامارة وحصل العلم بعدم ذلك الموضوع ترتب عليه في المستقبل جميع أحكام عدم ذلك الموضوع من أول الامر، فكذلك حال الامر بالعمل على الامارة القائمة على الحكم.

وحاصل الكلام ثبوت الفرق الواضح بين جعل مدلول الامارة حكما واقعيا والحكم بتحققه واقعا عند قيام الامارة وبين الحكم واقعا بتطبيق العمل على الحكم الواقعي المدلول عليه بالامارة،

٤٦

كالحكم واقعا بتطبيق العمل على طبق الموضوع الخارجي الذي قامت عليه الامارة.

وأما توهم: (أن مرجع تدارك مفسدة مخالفة الحكم الواقعي، بالمصلحة الثابتة في العمل على طبق مؤدى الامارة إلى تصويب الباطل نظرا إلى خلو الحكم الواقعي حينئذ عن المصلحة الملزمة التي تكون في فوتها المفسدة).

ففيه: منع كون هذا تصويبا.

كيف والمصوبة يمنعون حكم الله في الواقع، فلا يعقل عندهم إيجاب العمل بما جعل طريقا إليه والتعبد بترتيب آثاره في الظاهر، بل التحقيق عد مثل هذا من وجوه الرد على المصوبة.

وأما ما ذكره: (من أن الحكم الواقعي إذا كانت مفسدة مخالفته متداركة بمصلحة العمل على طبق الامارة، فلو بقي في الواقع كان حكما بلا صفة، وإلا ثبت إنتقاء الحكم في الواقع.

وبعبارة أخرى: إذا فرضنا الشئ في الواقع واجبا وقامت أمارة على تحريمه، فإن لم يحرم ذلك الفعل لم يجب العمل بالامارة، وإن حرم فإن بقى الوجوب لزم إجتماع الحكمين المتضادين، وإن إنتفى ثبت إنتفاء الحكم الواقعي).

ففيه: أن المراد بالحكم الواقعي الذي يلزم بقاؤه هو الحكم المتعين المتعلق بالعباد الذي يحكي عنه الامارة ويتعلق به العلم والظن وأمر السفراء بتبليغه وإن لم يلزم إمتثاله فعلا في حق من قامت عنده أمارة على خلافه.

إلا أنه يكفي في كونه حكمه الواقعي أنه لا يعذر فيه إذا كان عالما به أو جاهل مقصرا، والرخصة في تركه عقلا، كما في الجاهل القاصر، أو شرعا، كمن قامت عنده أمارة معتبرة على خلافه.

و مما ذكرنا يظهر حال الامارة على الموضوعات الخارجية، فإنها من القسم الثالث.

والحاصل: أن المراد بالحكم الواقعي هي مدلولات الخطابات الواقعية الغير المقيدة بعلم المكلفين ولا بعدم قيام الامارة على خلافها، لها آثار عقلية وشرعية تترتب عليها عند العلم بها أو قيام أمارة حكم الشارع بوجوب البناء على كون مؤداها هو الواقع.نعم هذه ليست أحكاما فعليه بمجرد وجودها الواقعى.

فتلخص من جميع ما ذكرناه أن ذكره إبن قبة من إستحالة التعبد بخبر الواحد أو بمطلق الامارة الغير العلمية - ممنوع على إطلاقه، وإنما يصح، إذا ورد التعبد على بعض الوجوه، كما تقدم تفصيل ذلك.

٤٧

ثم إنه ربما ينسب إلى بعض: (إيجاب التعبد بخبر الواحد أو بمطلق الامارة على الله تعالى.

بمعنى قبح تركه منه)، في مقابل قول إبن قبة.

فإن أراد به وجوب إمضاء حكم العقل بالعمل به عند عدم التمكن من العلم ببقاء التكليف، فحسن.

وإن أراد وجوب الجعل بالخصوص في حال الانسداد، فممنوع، إذ جعل الطريق بعد إنسداد باب العلم إنما يجب عليه إذا لم يكن هناك طريق عقلي وهو الظن.

إلا أن يكون لبعض الظنون في نظره خصوصية.

وإن أراد حكم صورة الانفتاح: فإن أراد وجوب التعبد العيني، فهو غلط، لجواز تحصيل العلم معه قطعا، وإن أراد وجوب التعبد به تخييرا، فهو مما لا يدركه العقل، إذ لا يعلم العقل بوجود مصلحة في الامارة يتدارك بها مصلحة الواقع التي تفوت بالعمل بالامارة، اللهم إلا أن يكون في تحصيل العلم حرج يلزم في العقل رفع إيجابه بنصب أمارة هي أقرب من غيرها إلى الواقع أو أصح في نظر الشارع من غيره في مقام البدلية عن الواقع، وإلا فيكفي إمضاؤه للعمل بمطلق الظن، كصورة الانسداد.

٤٨

المقام الثاني: في وقوع التعبد بالظن في الاحكام الشرعية

ثم إذا تبين عدم إستحالة تعبد الشارع بغير العلم وعدم القبح فيه ولا في تركه، فيقع الكلام في المقام الثاني في وقوع التعبد به في الاحكام الشرعية مطلقا أو في الجملة.

وقبل الخوض في ذلك لا بد من تأسيس الاصل الذي يكون عليه المعول عند عدم الدليل على وقوع التعبد بغير العلم مطلقا أو في الجملة فنقول: التعبد بالظن، الذي لم يدل دليل على التعبد به، محرم بالادلة الاربعة.

ويكفي من الكتاب قوله تعالى: (قل الله أذن لكم أم على الله تفترون)، دل على أن ما ليس بإذن من الله من إسناد الحكم إلى الشارع فهو إفتراء، ومن السنة قوله، صلى الله عليه وآله، في عداد القضاة من أهل النار: (ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم)، ومن الاجماع ما إدعاه الفريد البهبهاني، في بعض رسائله، من كون عدم الجواز بديهيا عند العوام فضلا عن العلماء، ومن العقل تقبيح العقلاء من يتكلف من قبل مولاه بما لا يعلم بوروده عن المولى ولو كان عن جهل مع التقصير.نعم، قد يتوهم متوهم أن الاحتياط من هذا القبيل.

وهو غلط واضح، إذ فرق بين الالتزام بشئ من قبل المولى على أنه منه مع عدم العلم بأنه منه، وبين الالتزام بإتيانه لاحتمال كونه منه أو رجاء كونه منه.

وشتان ما بينهما، لان العقل يستقل بقبح الاول وحسن الثاني.

والحاصل: أن المحرم هو العمل بغير العلم متعبدا به ومتدينا به.

٤٩

وأما العمل به من دون تعبد بمقتضاه: فإن كان لرجاء إدراك الواقع، فهو حسن ما لم يعارضه إحتياط آخر أو لم يثبت من دليل آخر وجوب العمل على خلافه، كما لو ظن الوجوب واقتضى الاستصحاب الحرمة، فإن الاتيان بالفعل محرم وإن لم يكن على وجه التعبد بوجوبه والتدين به.

وإن لم يكن لرجاء إدراك الواقع، فإن لزم منه طرح أصل دل الدليل على وجوب الاخذ به حتى يعلم خلافه، كان محرما أيضا، لان فيه طرحا للاصل الواجب العمل، كما فيما ذكر، من مثال كون الظن بالوجوب على خلاف إستصحاب التحريم، وإن لم يلزم منه ذلك جاز العمل، كما لو ظن بوجوب ما تردد بين الحرمة والوجوب، فإن الالتزام بطرف الوجوب لا على أنه حكم الله المعين جائز.

لكن في تسمية هذا عملا بالظن مسامحة، وكذا في تسمية الاخذ به من باب الاحتياط.

وبالجملة، فالعمل بالظن إذا لم يصادف الاحتياط محرم إذا وقع على وجه التعبد به والتدين، سواء إستلزم طرح الاصل أو الدليل الموجود في مقابله أم لا، وإذا وقع على غير وجه التعبد به فهو محرم إذا إستلزم طرح ما يقابله من الاصول والادلة المعلوم وجوب العمل بها، هذا.

وقد يقرر (الاصل) هنا بوجوه أخر: منها: أن الاصل عدم الحجية وعدم وقوع التعبد به وإيجاب العمل به.

وفيه: أن الاصل وإن كان ذلك إلا أنه لا يترتب على مقتضاه شئ، فإن حرمة العمل بالظن يكفي في موضوعها عدم العلم بورود التعبد من غير حاجة إلى إحراز عدم ورود التعبد به، ليحتاج في ذلك إلى الاصل ثم إثبات الحرمة.

والحاصل: أن أصالة عدم الحادث إنما يحتاج إليها في الاحكام المترتبة على عدم ذلك الحادث.

وأما الحكم المرتب على عدم العلم بذلك الحادث فيكفي فيه الشك فيه ولا يحتاج إلى إحراز عدمه بحكم الاصل.

وهذا نظير قاعدة الاشتعال الحاكمة بوجوب اليقين بالفراغ، فإنه لا يحتاج في إجرائها إلى إجراء أصالة عدم فراغ الذمة، بل يكفي فيها عدم العلم بالفراغ، فتأمل.

ومنها: أن الاصل هي إباحة العمل بالظن، لانها الاصل في الاشياء.

حكاه بعض عن السيد المحقق الكاظمي.

وفيه: على تقدير النسبة، أولا، أن إباحة التعبد بالظن غير معقول، إذ لا معنى لجواز التعبد وتركه لا إلى بدل.

غاية الامر التخيير بين التعبد بالظن والتعبد بالاصل أو الدليل الموجود هناك في مقابله الذي يتعين الرجوع إليه لولا الظن.

فغاية الامر وجوب التعبد به أو بالظن تخييرا،

٥٠

فلا معنى للاباحة التي هي الاصل في الاشياء.

وثانيا، أن أصالة الاباحة إنما هي فيما لا يستقل العقل بقبحه، وقد عرفت إستقلال العقل بقبح التعبد بالظن من دون العلم بوروده من الشارع.

ومنها: أن الامر في المقام دائر بين الوجوب والتحريم، ومقتضاه التخيير أو ترجيح جانب التحريم، بناء على أن دفع المفسده أولى من جلب المنفعة.

وفيه: منع الدوران، لان عدم العلم بالوجوب كاف في ثبوت التحريم، لما عرفت من إطباق الادلة الاربعة على عدم جواز التعبد بما لا يعلم وجوب التعبد به من الشارع.

ألا ترى أنه إذا دار الامر بين رجحان عبادة وحرمتها كفى عدم ثبوت الرجحان في ثبوت حرمتها.

ومنها: أن الامر في المقام دائر بين وجوب تحصيل مطلق الاعتقاد بالاحكام الشرعية المعلومة إجمالا وبين وجوب تحصيل خصوص الاعتقاد القطعى، فيرجع إلى الشك في المكلف به وتردده بين التخيير والتعيين، فيحكم بتعيين تحصيل خصوص الاعتقاد القطعى تحصيلا لليقين بالبراء‌ة، خلافا لمن لم يوجب ذلك في مثل المقام.

وفيه: أولا، أن وجوب تحصيل الاعتقاد بالاحكام مقدمة عقلية للعمل بها وامتثالها، فالحاكم بوجوبه هو العقل.

ولا معنى لتردد العقل في موضوع حكمه وأن الذي حكم هو بوجوبه تحصيل مطلق الاعتقاد أو خصوص العلم منه، بل إما أن يستقل بوجوب تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي على ما هو التحقيق، وإما أن يحكم بكفاية مطلق الاعتقاد.

ولا يتصور الاجمال في موضوع الحكم العقلي، لان التردد في الموضوع يستلزم التردد في الحكم، وهو لا يتصور من نفس الحاكم.

و سيجئ الاشارة إلى هذا في رد من زعم أن نتيجة دليل الانسداد مهملة مجملة، مع عدم دليل الانسداد دليلا عقليا وحكما يستقل به العقل.

وأما ثانيا، فلان العمل بالظن في مورد مخالفته للاصول والقواعد الذي هو محل الكلام مخالفة قطعية لحكم الشارع بوجوب الاخذ بتلك الاصول حتى يعلم خلافها.

فلا حاجة في رده إلى مخالفته لقاعدة الاشتغال الراجعة إلى قدح المخالفة الاحتمالية للتكليف المتيقن.

مثلا إذا فرضنا أن الاستصحاب يقتضي الوجوب والظن حاصل بالحرمة، فحينئذ يكون العمل بالظن مخالفة قطعية لحكم الشارع بعدم نقض اليقين بغير اليقين، فلا يحتاج إلى تكلف أن التكليف بالواجبات و المحرمات يقيني، ولا نعلم كفاية تحصيل مطلق الاعتقاد الراجح فيها أو وجوب تحصيل الاعتقاد القطعي وأن في تحصيل الاعتقاد الراجح مخالفة إحتمالية للتكليف المتيقن فلا يجوز.

فهذا أشبه شئ بالاكل عن القفا.

٥١

فقد تبين مما ذكرنا أن ما ذكرنا في بيان الاصل هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه.

وحاصله: أن التعبد بالظن مع الشك في رضاء الشارع بالعمل به في الشريعة تعبد بالشك، وهو باطل عقلا ونقلا.

وأما مجرد العمل على طبقه فهو محرم إذا خالف أصلا من الاصول اللفظية أو العملية الدالة على وجوب الاخذ بمضمونها حتى يعلم الرافع.

فالعمل بالظن قد تجتمع فيه جهتان للحرمة، كما إذا عمل به ملتزما أنه حكم الله، وكان العمل به مخالفا لمقتضى الاصول، وقد تحقق فيه جهة واحدة، كما إذا خالف الاصل ولم يلتزم بكونه حكم الله، أو التزم ولم يخالف مقتضى الاصول، وقد لا يكون فيه عقاب أصلا، كما إذا لم يلتزم بكونه حكم الله ولم يخالف أصلا.

وحينئذ قد يستحق عليه الثواب، كما إذا عمل به على وجه الاحتياط، هذا.

ولكن حقيقة العمل بالظن هو الاستناد إليه في العمل والالتزام بكون مؤداه حكم الله في حقه، فالعمل على ما يطابقه بلا إستناد إليه ليس عملا به.

فصح أن يقال: إن العمل بالظن والتعبد به حرام مطلقا، وافق الاصول أو خالفها.

غاية الامر أنه إذا خالف الاصول يستحق العقاب من جهتين، من جهة الالتزام والتشريع ومن جهة طرح الاصل المأمور بالعمل به حتى يعلم بخلافه.

وقد أشير في الكتاب والسنة إلى الجهتين: فمما أشير فيه إلى الاولى قوله تعالى: (قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون)، بالتقريب المتقدم.

وقوله صلى الله عليه وآله: (رجل قضى بالحق وهو لا يعلم).

ومما أشير فيه إلى الثانية قوله تعالى: (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) وقوله عليه السلام: (من أفتى الناس بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه)، ونفس أدلة الاصول.

ثم إن ما ذكرنا من الحرمة من الجهتين مبني على ما هو التحقيق، من أن إعتبار الاصول، لفظية كان أو عملية، غير مقيد بصورة عدم الظن على خلافها.

وأما إذا قلنا بإشتراط عدم كون الظن عى خلافها، فلقائل أن يمنع أصالة حرمة العمل بالظن مطلقا، لا على وجه الالتزام ولا على غيره.

أما مع عدم تيسر العلم في المسألة، فلدوران الامر فيها بين العمل بالظن وين الرجوع إلى

٥٢

الاصل الموجود في تلك المسألة على خلاف الظن.

وكما لا دليل على التعبد بالظن، كذلك لا دليل على التعبد بذلك الاصل، لانه المفروض.

فغاية الامر التخيير بينهما أو تقديم الظن، لكونه أقرب إلى الواقع، فيتعين بحكم العقل.

وأما مع التمكن من العلم في المسألة، فلان عدم جواز الاكتفاء فيها بتحصيل الظن ووجوب تحصيل اليقين مبني على القول بوجوب تحصيل الواقع علما.

أما إذا أدعي أن العقل لا يحكم بأزيد من وجوب تحصيل الظن وأن الضرر الموهوم لا يجب دفعه، فلا دليل على لزوم تحصيل العلم مع التمكن.

ثم إنه ربما يستدل على أصالة حرمة العمل بالظن بالآيات الناهية عن العمل بالظن، وقد أطالوا الكلام في النقض والابرام في هذا المقام بما لا ثمرة مهمة في ذكره بعدما عرفت.

لانه إن أريد الاستدلال بها على حرمة التعبد والالتزام والتدين بمؤدى الظن، قد عرفت أنه من ضروريات العقل، فضلا عن تطابق الادلة الثلاثة النقلية عليه.

وإن اريد دلالتها على حرمة العمل المطابق للظن وإن لم يكن عن إستناد إليه: فإن أريد حرمته إذا خالف الواقع مع التمكن من العلم به، فيكفي في ذلك الادلة الواقعية، وإن أريد حرمته إذا خالف الاصول مع عدم التمكن من العلم، فيكفي فيه أيضا أدلة الاصول، بناء على ما هو التحقيق، من أن مجاريها صور عدم العلم الشامل للظن، وإن أريد حرمة العمل المطابق للظن من دون إستناد إليه وتدين به وعدم مخالفة العمل للواقع مع التمكن منه ولا لمقتضى الاصول مع العجز عن الواقع، فلا دلالة فيها ولا في غيرها على حرمة ذلك، ولا وجه لحرمته أيضا.

والظاهر أن مضمون الايات هو التعبد بالظن والتدين به، وقد عرفت أن ضروري التحريم، فلا مهم في إطالة الكلام في دلالةالايات وعدمها.

* * *

إنما المهم الموضوع له هذه الرسالة بيان ما خرج او قيل بخروجه من هذا الاصل من الامور الغير العلمية التي أقيم الدليل على إعتبارها مع قطع النظر عن إنسداد باب العلم الذي جعلوه موجبا للرجوع إلى الظن مطلقا أو في الجملة، وهي أمور:

٥٣

الظنون المعتبرة

منها: الامارات المعمولة في إستنباط الاحكام الشرعية من ألفاظ الكتاب والسنة وهي على قسمين:

القسم الاول: ما يعمل لتشخيص مراد المتكلم عند إحتمال إرادة خلاف ذلك، كأصالة الحقيقة عند إحتمال إرادة المجاز، وأصالة العموم والاطلاق، ومرجع الكل إلى أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الذي يقطع بإرادة المتكلم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة، وكغلبة إستعمال المطلق في الفرد الشائع بناء على عدم وصوله إلى حدالوضع، وكالقرائن المقامية التي يعتمدها أهل اللسان في محاوراتهم، كوقوع الامر عقيب توهم الحظر ونحو ذلك، وبالجملة الامور المعتبرة عند أهل اللسان في محاوراتهم، بحيث لو أراد المتكلم القاصد للتفهيم خلاف مقتضاها من دون نصب قرينة معتبرة عد ذلك منه قبيحا.

والقسم الثاني: ما يعمل لتشخيص أوضاع الالفاظ وتمييز مجازاتها عن حقائقها وظواهرها عن خلافها، كتشخيص أن لفظ (الصعيد) موضوع لمطلق وجه الارض أو التراب الخالص، وتعيين أن وقوع الامر عقيب توهم الحظر هل يوجب ظهوره في الاباحة المطلقة، وأن الشهرة في المجاز المشهور هل توجب إحتياج الحقيقة إلى القرينة الصارفة من الظهور العرضي المسبب من الشهرة، نظير إحتياج المطلق المنصرف إلى بعض أفراده.

وبالجملة، فالمطلوب في هذا القسم أن اللفظ ظاهر في هذا المعنى أو غير ظاهر، وفي القسم الاول أن الظاهر المفروغ عن كونه ظاهرا مراد أولا.

والشك في الاول مسبب عن الاوضاع اللغوية والعرفية وفي الثاني عن إعتماد المتكلم على القرينة وعدمه.

فالقسمان من قبيل الصغرى والكبرى لتشخيص المراد.

٥٤

القسم الاول وهو ما يعمل لتشخيص مراد المتكلم

فاعتباره في الجملة مما لا إشكال فيه ولا خلاف، لان المفروض كون تلك الامور معتبرة عند أهل اللسان في محاوراتهم المقصود بها التفهيم، ومن المعلوم بديهة أن طريق محاورات الشارع في تفهيم مقاصده للمخاطبين لم يكن طريقا مخترعا مغايرا لطريق محاورات أهل اللسان في تفهيم مقاصدهم.

وإنما الخلاف والاشكال وقع في موضعين:

أحدهما: جواز العمل بظواهر الكتاب.

والثاني: أن العمل بالظواهر مطلقا في حق غير المخالطب بها قام الدليل عليه بالخصوص بحيث لا يحتاج إلى إثبات إنسداد باب العلم في الاحكام الشرعية أم لا.

والخلاف الاول ناظر إلى عدم كون المقصود بالخطاب إستفادة المطلب منه مستقلا.

والخلاف الثاني ناظر إلى منع كون المتعارف بين أهل اللسان إعتماد غير من قصد إفهامه بالخطاب على ما يستفيده من الخطاب بواسطة أصالة عدم القرينة عند التخاطب.

فمرجع كلا الخلافين إلى منع الصغرى.

وأما الكبرى أعني كون الحكم عند الشارع في إستنباط مراداته من خطاباته المقصودة بها التفهيم ما هو المتعارف عند أهل اللسان في الاستفادة فمما لا خلاف فيه ولا إشكال.

* * *

٥٥

أما الكلام في الخلاف الاول فتفصيله أنه ذهب جماعة من الاخباريين إلى المنع عن العمل بظواهر الكتاب من دون ما يرد التفسير وكشف المراد عن الحجج المعصومين صلوات الله عليهم.

وأقوى ما يتمسك لهم على ذلك وجهان أحدهما: الاخبار المتواترة المدعى ظهورها في المنع عن ذلك مثل النبوي صلى الله عليه وآله: (من فسر القرآن برأيه فليتبوء مقعده من النار) وفي رواية أخرى: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوء مقعده من النار).

وفي نبوي ثالث: (من فسر القرآن برأيه فقد إفترى على الله الكذب).

وعن أبي عبدالله عليه السلام: (من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجرو إن أخطأ سقط أبعد من السماء).

وفي النبوي العامي: (من فسر القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ).

وعن مولانا الرضا، عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليهم: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إن الله عزوجل قال في الحديث القدسي: ما آمن بي من فسر كلامي برأيه، وما عرفني من شبهني بخلقي، وما على ديني من إستعمل القياس في ديني).

وعن تفسير العياشي عن أبي عبدالله عليه السلام: (قال: من حكم برأيه بين إثنين فقد كفر، و من فسر برأيه آية من كتاب الله فقد كفر).

٥٦

وعن مجمع البيان: (إنه قد صرح عن النبي صلى الله عليه وآله وعن الائمة القائمين مقامه: أن تفسير القرآن لا يجوز إلا بالاثر الصحيح والنص الصريح).

وقوله عليه السلام: (ليس شئ أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن.

إن الاية يكون أولها في شئ وآخرها في شئ، وهو كلام متصل ينصرف إلى وجوه).

وفي مرسلة شبيب بن أنس عن أبي عبدالله عليه السلام: (إنه قال لابي حنيفة: أنت فقيه أهل العراق؟ قال: نعم.

قال: فبأي شئ تفتيهم؟ قال: بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله قال: يا أبا حنيفة ! تعرف كتاب الله حق معرفته وتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: نعم.

قال عليه السلام: يا أبا حنيفة ! لقد إدعيت علما، ويلك، ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك، وما هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا صلى الله عليه وآله، وما ورثك الله من كتابه حرفا).

وفي رواية زيد الشحام: (قال: دخل قتادة على أبي جعفر عليه السلام، فقال له: أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال: هكذا يزعمون، فقال: بلغني أنك تفسر القرآن، قال: نعم إلى أن قال -: يا قتادة ! إن كنت قد فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت.

ويحك ! يا قتادة ! إنما يعرف القرآن من خوطب به).

إلى غير ذلك مما ادعى في الوسائل، في كتاب القضاء، تجاوزها عن حد التواتر.

وحاصل هذا الوجه يرجع إلى أن منع الشارع عن ذلك يكشف عن أن مقصود المتكلم ليس تفهيم مطالبه بنفس هذا الكلام، فليس من قبيل المحاورات العرفية.

والجواب عن الاستدلال بها أنها لا تدل على المنع عن العمل بالظواهر الواضحة المعنى بعد الفحص عن نسخها وتخصيصها وإرادة خلاف ظاهرها في الاخبار.

إذ من المعلوم أن هذا لا يسمى تفسيرا، فإن أحدا من العقلاء إذا رأى في كتاب مولاه أنه أمره بشئ بلسانه المتعارف في مخاطبته له، عربيا أو فارسيا أو غيرهما، فعمل به وامتثله، لم يعد هذا تفسيرا، إذ التفسير كشف القناع.

ثم لو سلم كون مطلق حمل اللفظ على معناه تفسيرا، لكن الظاهر أن المراد بالرأي هو الاعتبار

٥٧

العقلي الظني الراجح إلى الاستحسان، فلا يشمل حمل ظواهر الكتاب على معانيها اللغوية والعرفية.

وحينئذ فالمراد بالتفسير بالرأي: إما حمل اللفظ على خلاف ظاهره أو أحد إحتماليه، لرجحان ذلك في نظره القاصر وعقله الفاتر.

ويرشدإليه المروي عن مولانا الصادق، عليه السلام، قال في حديث طويل: (وإنما هلك الناس في المتشابه، لانهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته.

فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم، واستغنوا بذلك عن مسألة الاوصياء عليهم السلام، فيعرفونهم).

وإما الحمل على ما يظهر له في بادي الرأي من المعاني العرفية واللغوية، من دون تأمل في الادلة العقلية ومن دون تتبع في القرائن النقلية، مثل الآيات الاخر الدالة على خلاف هذا المعنى و الاخبار الواردة في بيان المراد منها وتعيين ناسخها من منسوخها.

ومما يقرب هذا المعنى الثاني، وإن كان الاول أقرب عرفا، أن المنهي، في تلك الاخبار، المخالفون الذين يستغنون بكتاب الله عن أهل البيت، عليهم السلام، بل يخطئونهم به.

ومن المعلوم ضرورة من مذهبنا تقديم نص الامام، عليه السلام، على ظاهر القرآن، كما أن المعلوم ضرورة من مذهبهم العكس.

ويرشدك إلى هذا ما تقدم في رد الامام، (ع)، على أبي حنيفة حيث أنه يعمل بكتاب الله.

ومن المعلوم أنه إنما كان يعمل بظواهره، لا أنه كان يؤوله بالرأي، إذ لا عبرة بالرأي عندهم مع الكتاب والسنة.

ويرشد إلى هذا قول أبي عبدالله، عليه السلام، في ذم المخالفين: (إنهم ضربوا القرآن بعضه ببعض، واحتجوا بالمنسوخ وهو يظنون انه الناسخ، واحتجوا بالخاص وهو يظنون أنه العام، واحتجوا بالاية وتركوا السنة في تأوليها ولم ينظروا إلى ما يفتح به الكلام وإلى ما يختمه ولم يعرفوا موارده ومصادره إذ لم يأخذوه عن أهله فضلوا وأضلوا).

وبالجملة، فالانصاف: يقتضي عدم الحكم بظهور الاخبار المذكورة في النهي عن العمل بظاهر الكتاب بعد الفحص والتتبع في سائر الادلة، خصوصا الاثار الواردة عن المعصومين عليهم السلام، كيف، ولو دلت على المنع من العمل على هذا الوجه دلت على عدم جواز العمل بأحاديث أهل

٥٨

البيت عليه السلام.

ففي رواية سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين عليه السلام: (إن أمر النبي صلى الله عليه وآله مثل القرآن، منه ناسخ ومنسوخ، وخاص وعام ومحكم ومتشابه، وقد كان يكون من رسول الله " ص " الكلام، يكون له وجهان، كلام عام وكلام خاص، مثل القرآن).

وفي رواية أسلم بن مسلم: (إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن).

هذا كله مع معارضة الاخبار المذكورة بأكثر منها، مما يدل على جواز التمسك بظاهر القرآن: مثل خبر الثقلين المشهور بين الفريقين، وغيرها، مما دل على الامر بالتمسك بالقرآن والعمل بما فيه، وعرض الاخبار المتعارضة بل ومطلق الاخبار عليه، ورد الشروط المخالفة للكتاب في أبواب العقود والاخبار الدالة قولا وفعلا وتقريرا على جواز التمسك بالكتاب.

مثل قوله، عليه السلام، لما قال زرارة: (من أين علمت أن المسح ببعض الرأس؟ فقال عليه السلام: لمكان الباء).

فعرفه مورد إستفادة الحكم من ظاهر الكتاب.

وقول الصادق، عليه السلام، في مقام نهي الدوانقي عن قبول خبر النمام: (إنه فاسق، وقال الله: إن جاء‌كم فاسق بنبا فتبينوا، الاية).

وقوله عليه السلام: لابنه إسماعيل: (إن الله عزوجل يقول: يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم).

وقوله، عليه السلام، لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء، إعتذارا بأنه لم يكن شيئا أتاه برجله: (أما سمعت قول الله عزوجل: إن السمع والبصر والفواد كل أولئك كان عنه مسئولا).

وقوله، عليه السلام، في تحليل العبد للمطلقة ثلاثا: (إنه زوج، قال الله عزوجل: حتى ينكح زوجا غيره) وفي عدم تحليلها بالعقد المنقطع: إنه تعالى قال: فإن طلقها فلا جناح عليهما).

وتقريره، عليه السلام، التمسك بقوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب)، وأنه نسخ بقوله تعالى (ولا تنكحوا المشركات).

٥٩

وقوله، عليه السلام: في رواية عبدالاعلى، في حكم من عثر، فوقع ظفره، فجعل على إصبعه مرارة: (إن هذا وشبهه يعرف من كتاب الله: ما جعل عليكم في الدين من حرج.

ثم قال: إمسح عليه)، فأحال، عليه السلام، معرفة حكم المسح على إصبعه المغطى بالمرارة إلى الكتاب، موميا إلى أن هذا لا يحتاج إلى السؤال، لوجوده في ظاهر القرآن.

ولا يخفى أن إستفادة الحكم المذكور من ظاهر الاية الشريفة مما لا يظهر إلا للمتأمل المدقق، نظرا إلى أن الاية الشريفة إنما تدل على نفي وجوب الحرج، أعني المسح على نفس الاصبع، فيدور الامر في بادي النظر بين سقوط المسح رأسا وبين بقائه مع سقوط قيد مباشرة الماسح للممسوح، فهو بظاهره لا يدل على ما حكم به الامام، عليه السلام، لكن يعلم عند التأمل أن الموجب للحرج هو إعتبار المباشرة في المسح، فهو الساقط دون أصل المسح، فيصير نفي الحرج دليلا على سقوط إعتبار المباشرة في المسح، فيمسح على الاصبع المغطى.

فإذا أحال الامام، عليه السلام، إستفادة مثل هذا الحكم إلى الكتاب، فكيف يحتاج نفي وجوب الغسل أو الوضوء، عند الحرج الشديد المستفاد من ظاهر الاية المذكورة، أو غير ذلك من الاحكام التي يعرفها كل عارف باللسان من ظاهر القرآن، إلى ورود التفسير بذلك من أهل البيت عليهم السلام.

ومن ذلك ما ورد من: (أن المصلي أربعا في السفر إن قرئت عليه آية القصر وجب عليه الاعادة، وإلا فلا).

وفي بعض الروايات (إن قرئت عليه وفسرت له).

والظاهر ولو بحكم أصالة الاطلاق في باقي الروايات أن المراد من تفسيرها له بيان أن المراد من قوله تعالى: (لا جناح عليكم أن تقصروا)، بيان الترخيص في أصل تشريع القصر وكونه مبنيا على التخفيف، فلا ينافي تعين القصر على المسافر وعدم صحة الاتمام منه، ومثل هذه المخالفة للظاهر يحتاج إلى التفسير بلا شبهة.

وقد ذكر زرارة ومحمد بن مسلم للامان، عليه السلام،: (إن الله تعالى قال: (فليس عليكم جناح)، ولم يقل: إفعلوا، فأجاب، عليه السلام، بأنه من قبيل قوله تعالى: (فمن حج البيت أو إعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما).

وهذا أيضا يدل على تقرير الامام عليه السلام لهما في التعرض لاستفادة الاحكام من الكتاب

٦٠