فرائد الاصول الجزء ١

فرائد الاصول0%

فرائد الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 406

فرائد الاصول

مؤلف: الشيخ مرتضى الأنصاري
تصنيف:

الصفحات: 406
المشاهدات: 43943
تحميل: 8496


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 43943 / تحميل: 8496
الحجم الحجم الحجم
فرائد الاصول

فرائد الاصول الجزء 1

مؤلف:
العربية

والدخل والتصرف في ظواهره.

ومن ذلك إستشهاد الامام عليه السلام بآيات كثيرة، مثل الاستشهاد لحلية بعض النسوان بقوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم)، وفي عدم جواز طلاق العبد بقوله تعالى: (عبدا مملوكا لا يقدر على شئ).

ومن ذلك الاستشهاد لحلية بعض الحيوانات بقوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما، الاية).

إلى غير ذلك مما لا يحصى.

الثاني: من وجهي المنع إنا نعلم بطرو التقييد والتخصيص والتجوز في أكثر ظواهرالكتاب.

وذلك مما يسقطها عن الظهور.

وفيه أولا، النقض بظواهر السنة، فإنا نقطع بظرو مخالفة الظاهر في أكثرها.

وثانيأ، أن هذا لا يوجب السقوط، وإنما يوجب الفحص عما يوجب مخالفة الظاهر.

فإن قلت: العلم الاجمالي بوجود مخالفات الظواهر لا يرتفع أثره، وهو وجوب التوقف بالفحص، ولذا لو تردد اللفظ بين معنيين أو علم إجمالا بمخالفة أحد الظاهرين لظاهر الاخر كما في العامين من وجه وشبههما - وجب التوقف فيه ولو بعد الفحص.

قلت: هذه شبهة ربما تورد على من إستدل على وجوب الفحص عن المخصص في العمومات بثبوت العلم الاجمالي بوجود المخصصات.

فإن العلم الاجمالي إما أن يبقى أثره ولو بعد العلم التفصيلي بوجود عدة مخصصات، وإما أن لا يبقى.

فإن بقي فلا يرتفع بالفحص، وإلا فلا مقتضي للفحص.

وتندفع هذا الشبهة: بأن المعلوم إجمالا هو وجود مخالفات كثيرة في الواقع فيما بأيدينا بحيث تظهر تفصيلا بعد الفحص.

وأما وجود مخالفات في الواقع زائدا على ذلك فغير معلوم.

فحينئذ لا يجوز العمل قبل الفحص، لاحتمال وجود مخصص يظهر بعد الفحص، ولا يمكن نفيه بالاصل لاجل العلم الاجمالي.

وأما بعد الفحص فإحتمال وجود المخصص في الواقع ينفى بالاصل السالم عن

٦١

العلم الاجمالي.

والحاصل: أن المنصف لا يجد فرقا بين ظاهر الكتاب والسنة، لا قبل الفحص ولا بعده.

* * *

ثم إنك قد عرفت أن العمدة في منع الاخباريين من العمل بظواهر الكتاب هي الاخبار المانعة عن تفسير القرآن.

إلا أنه يظهر من كلام السيد الصدر شارح الوافية، في آخر كلامه، أن المنع عن العمل بظواهر الكتاب هو مقتضى الاصل.

والعمل بظواهر الاخبار خرج بالدليل، حيث قال بعد إثبات أن في القرآن محكمات وظواهر وأنه مما لا يصح إنكاره، وينبغي النزاع في جواز العمل بالظواهر وأن الحق مع الاخباريين - ما خلاصته: (إن التوضيح يظهر بعد مقدمتين.

الاولى: أن بقاء التكليف مما لا شك فيه، ولزوم العمل بمقتضاه موقوف على الافهام، وهو يكون في الاكثر بالقول، ودلالته في الاكثر تكون ظنية، إذ مدار الافهام على إلقاء الحقائق مجردة عن القرينة وعلى ما يفهمون وإن كان إحتمال التجوز وخفاء القرينة باقيا.

الثانية: أن المتشابه كما يكون في أصل اللغة كذلك يكون بحسب الاصطلاح، مثل أن يقول أحد: (أنا أستعمل العمومات، وكثيرا ما أريد الخصوص من غير قرينة، وربما أخاطب أحدا وأريد غيره، ونحو ذلك).

فحينئذ لا يجوز لنا القطع بمراده ولا يحصل لنا الظن به.

والقرآن من هذا القبيل، لانه نزل على إصطلاح خاص.

لا أقول على وضع جديد، بل أعم من أن يكون ذلك أو يكون فيه مجازات لا يعرفها العرب، ومع ذلك قد وجدت فيه كلمات لا يعلم المراد منها، كالمقطعات.

ثم قال: - قال سبحانه: (فيه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات)، الاية، ذم على إتباع المتشابه، ولم يبين لهم المتشابهات: ماهي، وكم هي، بل لم يبين لهم المراد من هذا اللفظ، وجعل البيان موكولا إلى خلفائه، والنبي، صلى الله عليه وآله، نهى الناس عن التفسير بالاراء.

وجعلوا الاصل عدم العمل بالظن إلا ما أخرجه الدليل.

٦٢

إذا تمهدت المقدمتان، فنقول: مقتضى الاولى العمل بالظواهر ومقتضى الثانية عدم العمل، لان ما صار متشابها لا يحصل الظن بالمراد منه وما بقي ظهوره مندرج في الاصل المذكور.

فنطالب بدليل جواز العمل، لان الاصل الثابت عند الخاصة هو عدم جواز العمل بالظن إلا ما أخرجه الدليل.

لا يقال: إن الظاهر من المحكم ووجوب العمل بالمحكم إجماعي.

لانا نمنع الصغرى، إذ المعلوم عندنا مساواة المحكم للنص.

وأما شموله للظاهر فلا إلى أن قال: - لا يقال: إن ما ذكرتم لو تم لدل على عدم جواز العمل بظواهر الاخبار أيضا، لما فيها من الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والعام والمخصص، والمطلق والمقيد.

لانا نقول: إنا لو خلينا وأنفسنا، لعملنا بظواهر الكتاب والسنة مع عدم نصب القرينة على خلافها.

ولكن منعنا من ذلك في القرآن للمنع من إتباع المتشابه و عدم بيان حقيقته، ومنعنا رسول الله، صلى الله عليه وآله، عن تفسير القرآن.

ولا ريب في أن غير النص محتاج إلى التفسير.

وأيضا ذم الله تعالى من إتباع الظن، وكذا الرسول، صلى الله عليه وآله، وأوصيائه عليهم السلام، ولم يستثنوا ظواهر القرآن إلى أن قال: - وأما الاخبار، فقد سبق أن أصحاب الائمة، عليهم السلام، كانوا عاملين باخبار الاحاد من غير فحص عن مخصص أو معارض ناسخ أو مقيد، ولولا هذا لكنا في العمل بظواهر الاخبار أيضا من المتوقفين)، إنتهى.

أقول: وفيه مواقع للنظر، سيما في جعل العمل بظواهر الاخبار من جهة قيام الاجماع العملي، ولولاه لتوقف في العمل بها أيضا، إذ لا يخفى أن عمل أصحاب الائمة، عليهم السلام، بظواهر الاخبار لم يكن لدليل خاص شرعي وصل إليهم من أئمتهم، وإنما كان أمرا مركوزا في أذهانهم بالنسبة إلى مطلق الكلام الصادر من المتكلم لاجل الافادة والاستفادة، سواء كان من الشارع أم غيره.

وهذا المعنى جار في القرآن أيضا على تقدير كونه ملقى للافادة والاستفادة على ما هو الاصل في خطاب كل متكلم.

نعم، الاصل الاولي هي حرمة العمل بالظن، على ما عرفت مفصلا.

لكن

٦٣

الخارج منه ليس خصوص ظواهر الاخبار حتى يبقى الباقي، بل الخارج منه هو مطلق الظهور الناشي عن كلام كل متكلم ألقي إلى غيره للافهام.

ثم إن ما ذكره من عدم العلم بكون الظواهر من المحكمات وإحتمال كونها من المتشابهات ممنوع: أولا، بأن المتشابه لا يصدق على الظواهر، لا لغة ولا عرفا، بل يصح سلبه عنه.

فالنهي الوارد عن إتباع المتشابه لا يمنع، كما إعترف به في المقدمة الاولى، من أن مقتضى القاعدة وجوب العمل بالظواهر.

وثانيا، بأن إحتمال كونها من المتشابه لا ينفع في الخروج عن الاصل الذي اعترف به.

ودعوى إعتبار العلم بكونها من المحكم هدم لما إعترف به من أصالة حجية الظواهر، لان مقتضى ذلك الاصل جواز العمل إلا أن يعلم كونه مما نهى الشارع عنه.

وبالجملة، فالحق ما اعترف به، قدس سره، من أنا لو خلينا وأنفسنا، لعملنا بظواهر الكتاب.

ولا بد للمانع من إثبات المنع.

ثم إنك قد عرفت مما ذكرنا أن خلاف الاخباريين في ظواهر الكتاب ليس في الوجه الذي ذكرنا، من إعتبار الظواهر اللفظية في الكلمات الصادرة لافادة المطلب وإستفادته.

وإنما يكون خلافهم في أن خطابات الكتاب لم يقصد بها إستفادة المراد من أنفسها، بل بضميمة تفسير أهل الذكر أو أنها ليست بظواهر بعد إحتمال كون محكمها من المتشابه، كما عرفت من كلام السيد المتقدم.

٦٤

وينبغي التنبيه على أمور الاول إنه ربما يتوهم بعض: (أن الخلاف في إعتبار ظواهر الكتاب قليل الجدوى، إذ ليست آية متعلقة بالفروع أو الاصول إلا ورد في بيانها أو في الحكم الموافق لها خبر أو أخبار كثيرة، بل إنعقد الاجماع على أكثرها.

مع أن جل آيات الاصول والفروع، بل كلها، مما تعلق بالحكم فيها بأمور مجملة لا يمكن العمل بها إلا بعد أخد تفصيلها من الاخبار)، إنتهى.

" النراقي، مناهج الاحكام، ص ١٥٨ ".

أقول: ولعله قصر نظره على الايات الواردة في العبادات، فإن أغلبها من قبيل ما ذكره، وإلا فالاطلاقات الواردة في المعاملات مما يتمسك بها في الفروع الغير المنصوصة أو المنصوصة بالنصوص المتكافئة كثيرة جدا.

مثل: (أوفوا بالعقود)، و (أحل الله البيع)، و (تجارة عن تراض)، و (فرهان مقبوضة)، و (لا تؤتوا السفاء أموالكم)، و (لا تقربوا مال اليتيم)، و (أحل لكم ما وراء ذلكم)، و (إن جاء‌كم فاسق بنبأ فتبينوا)، و (لولا نفر من كل فرقة)، و (فاسألوا أهل الذكر)، و (عبدا مملوكا لا يقدر على شي)، و (ما على المحسنين من سبيل)، وغير ذلك مما لا يحصى.

بل وفي العبادات أيضا كثيرة، مثل قوله: (إنما المشركون نجس، فلا يقربوا المسجد الحرام).

وآيات التيمم، والوضوء، والغسل.

وهذا العمومات، وإن ورد فيها أخبار في الجملة، إلا أنه ليس كل فرع مما يتمسك فيه بالاية ورد فيه خبر سليم عن المكافئ، فلاحظ وتتبع.

الثاني: إنه إذا إختلف القراء‌ة في الكتاب على وجهين مختلفين في المؤدى، كما في قوله تعالى: (حتى

٦٥

يطهرن)، حيث قرء بالتشديد من المتطهر الظاهر في الاغتسال، وبالتخفيف من الطهارة الظاهرة في النقاء عن الحيض.

فلا يخلو: إما أن نقول بتواتر القراء‌ات كلها، كما هو المشهور، خصوصا في ما كان الاختلاف في المادة، وإما أن لا نقول، كما هو مذهب جماعة.

فعلى الاول، فهما بمنزلة آيتين تعارضتا، لا بد من الجمع بينهما بحمل الظاهر على النص أو على الاظهر، ومع التكافؤ لا بد من الحكم بالتوقف والرجوع إلى غيرهما.

وعلى الثاني، فإن ثبت جواز الاستدلال بكل قراء‌ة، كما ثبت بالاجماع جواز القراء‌ة بكل قراء‌ة، كان الحكم كما تقدم.

وإلا فلا بد من التوقف في محل التعارض والرجوع إلى القواعد، مع عدم المرجح أو مطلقا بناء على عدم ثبوت الترجيح هنا، كما هو الظاهر.

فيحكم بإستصحاب الحرمة قبل الاغتسال، إذ لم يثبت تواتر التخفيف، أو بالجواز بناء على عموم قوله تعالى: (فأتوا حرثكم أنى شئتم)، من حيث الزمان، خرج منه أيام الحيض على الوجهين في كون المقام من إستصحاب حكم المخصص أو العمل بالعموم الزماني.

الثالث: إن وقوع التحريف في القرآن، على القول به، لايمنع من التمسك بالظواهر، لعدم العلم الاجمالي بإختلال الظواهر بذلك، مع أنه لو علم لكان من قبيل الشبهة الغير المحصورة.

مع أنه لو كان من قبيل الشبهة المحصورة، أمكن القول بعدم قدحه، لاحتمال كون الظاهر المصروف عن ظاهره من الظواهر الغير المتعلقة بالاحكام الشرعية العملية التي أمرنا بالرجوع فيها إلى ظاهر الكتاب، فافهم.

الرابع: قد يتوهم: (أن وجوب العمل بظواهر الكتاب بالاجماع مستلزم لعدم جواز العمل بظاهره، لان من تلك الظواهر ظاهر الايات الناهية عن العمل بالظن مطلقا حتى ظواهر الكتاب).

وفيه: أن فرض وجود الدليل على حجية الظواهر موجب لعدم ظهور الايات الناهية في حرمة العمل بالظواهر، مع أن ظواهر الايات الناهية لو نهضت للمنع عن ظواهر الكتاب لمنعت عن حجية أنفسها، إلا أن يقال إنها لا تشمل أنفسها.

فتأمل.

وبإزاء هذا التوهم توهم: (أن خروج ظواهر الكتاب عن الايات الناهية ليس من باب التخصيص، بل من باب التخصص، لان وجود القاطع على حجيتها يخرجها عن غير العلم إلى العلم).

وفيه: ما لا يخفى.

٦٦

وأما التفصيل الاخر فهو الذي يظهر من صاحب القوانين، قدس سره، في آخر مسألة حجية الكتاب وفي أول مسألة الاجتهاد والتقليد.

وهو الفرق بين من قصد إفهامه بالكلام، فالظواهر حجة بالنسبة إليه من باب الظن الخاص، سواء كان مخاطبا، كما في الخطابات الشفاهية، أم لا، كما في الناظر في الكتب المصنفة، لرجوع كل من ينظر إليها، وبين من لم يقصد إفهامه بالخطاب، كأمثالنا بالنسبة إلى أخبار الائمة الصادرة عنهم في مقام الجواب عن سؤال السائلين وبالنسبة إلى الكتاب العزيز، بناء على عدم كون خطاباته موجهة إلينا وعدم كونه من باب تأليف المصنفين.

فالظهور اللفظي ليس حجة حينئذ لنا، إلا من باب الظن المطلق الثابت حجيته عند إنسداد باب العلم.

ويمكن توجيه هذا التفصيل: بأن الظهور اللفظي ليس حجة إلا من باب الظن النوعي.

وهو كون اللفظ بنفسه لو خلي وطبعه مفيدا للظن بالمراد.

فإذا كان مقصود المتكلم من الكلام إفهام من يقصد إفهامه، فيجب عليه إلقاء الكلام على وجه لا يقع المخاطب معه في خلاف المراد، بحيث لو فرض وقوعه في خلاف المقصود، كان إما لغفلة منه في الالتفات إلى ما اكتنف به الكلام الملقى إليه، وإنما لغفلة من المتكلم في إلقاء الكلام على وجه يفي بالمراد.

ومعلوم أن إحتمال الغفلة من المتكلم أو السامع إحتمال مرجوح في نفسه مع إنعقاد الاجماع من العقلاء والعلماء على عدم الاعتناء بإحتمال الغفلة في جميع أمور العقلاء، أقوالهم وأفعالهم.

وأما إذا لم يكن الشخص مقصودا بالافهام، فوقوعه في خلاف المقصود لا ينحصر سببه في الغفلة.

فإنا إذا لم نجد في آية أو رواية ما يكون صارفا عن ظاهرها واحتملنا ان يكون المخاطب قد فهم المراد بقرينة قد خفيت علينا، فلا يكون هذا الاحتمال لاجل غفلة من المتكلم أو منا، إذ لا يجب على المتكلم إلا نصب القرينة لمن قصد إفهامه، مع أن عدم تحقق الغفلة من المتكلم في محل

٦٧

الكلام مفروض لكونه معصوما.

وليس إختفاء القرينة علينا مسببا عن غفلتنا عنها، بل لدواعي الاختفاء الخارجة عن مدخلية المتكلم ومن ألقي إليه الكلام.

فليس هنا شئ يوجب بنفسه الظن بالمراد، حتى لو فرضنا الفحص.

فإحتمال وجود القرينة حين الخطاب وإختفائه علينا ليس هنا ما يوجب مرجوحيته حتى لو تفحصنا عنها ولم نجدها.

إذ لا يحكم العادة، ولو ظنا، بأنها لو كانت لظفرنا بها، إذ كثير من الامور قد إختفت علينا.

بل لا يبعد دعوى العلم بأن ما إختفى علينا من الاخبار والقرائن أكثر مما ظفرنا بها، مع أنا لو سلمنا حصول الظن بإنتفاء القرائن المتصلة، لكن القرائن الحاليه وما اعتمد عليه المتلكم من الامور العقلية أو النقلية الكلية أو الجزئية المعلومة عند المخاطب الصارفة لظاهر الكلام ليست مما يحصل الظن بانتفائها بعد البحث والفحص.

ولو فرض حصول الظن من الخارج بإرادة الظاهر من الكلام لم يكن ذلك ظنا مستندا إلى الكلام، كما نبهنا عليه في أول المبحث.

وبالجملة، فظواهر الالفاظ حجة، بمعنى عدم الاعتناء بإحتمال إرادة خلافها، إذا كان منشأ ذلك الاحتمال غفلة المتكلم في كيفية الافادة أو المخاطب في كيفية الاستفادة، لان إحتمال الغفلة مما هو مرجوح في نفسه ومتفق على عدم الاعتناء به في جميع الامور دون ما إذا كان الاحتمال مسببا عن إختفاء أمور لم تجر العادة القطعية أو الظنية بأنها لو كانت لوصلت إلينا.

ومن هنا يظهر: أن ما ذكرنا سابقا، من إتفاق العقلاء والعلماء على العمل بظواهر الكلام في الدعاوى والاقارير والشهادات والوصايا والمكاتبات، لا ينفع في رد هذا الفصيل، إلا أن يثبت كون أصالة عدم القرينة حجة من باب التعبد.ودون إثباتها خرط القتاد.

ودعوى: (أن الغالب إتصال القرائن، فإحتمال إعتماد المتكلم على القرينة المنفصلة مرجوح لندرته)، مردودة: بأن من المشاهد المحسوس تطرق التقييد والتخصيص إلى أكثر العمومات والاطلاقات مع عدم وجوده في الكلام.

وليس إلا لكون الاعتماد في ذلك كله على القرائن المفصلة، سواء كانت منفصلة عند الاعتماد كالقرائن العقلية والنقلية الخارجية أم كانت مقالية متصلة، لكن عرض لها الانفصال بعد ذلك، لعروض التقطيع للاخبار أو حصول التفاوت من جهة النقل بالمعنى أو غير ذلك.

فجميع ذلك مما لا يحصل الظن بأنها لو كانت لوصلت إلينا.

مع إمكان أن يقال: إنه لو حصل الظن لم يكن على إعتباره دليل خاص.

نعم، الظن الحاصل في مقابل إحتمال الغفلة الحاصلة للمخاطب أو المتكلم مما أطبق عليه العقلاء في جميع أقوالهم وأفعالهم.هذا غاية ما يمكن

٦٨

من التوجيه لهذا التفصيل.

* * *

ولكن الانصاف: أنه لا فرق في العمل بالظهور اللفظي وأصالة عدم الصارف عن الظاهر بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد، فإن جميع ما دل من إجماع العلماء وأهل اللسان على حجية الظاهر بالنسبة إلى من قصد إفهامه جار فيما يقصد، لان أهل اللسان إذا نظروا إلى كلام صادر من متكلم إلى مخاطب يحكمون بإرادة ظاهره منه إذا لم يجدوا قرينة صارفة بعد الفحص في مظان وجودها، ولا يفرقون في إستخراج مرادات المتكلمين بين كونهم مقصودين بالخطاب وعدمه.

فإذا وقع المكتوب الموجه من شخص إلى شخص بيد ثالث، فلا يتأمل في إستخراج مرادات المتكلم من الخطاب المتوجه إلى المكتوب إليه.

فإذا قرضنا إشتراك هذا الثالث مع المكتوب إليه فيما أراد المولى منهم، فلا يجوز له الاعتذار في ترك الامتثال بعدم الاطلاع على مراد المولى.

وهذا واضح لمن راجع الامثلة العرفية، هذا حال أهل اللسان في الكلمات الواردة إليهم.

وأما العلماء، فلا خلاف بينهم في الرجوع إلى أصالة الحقيقة في الالفاظ المجردة عن القرائن الموجة من متكلم إلى مخاطب، سواء كان ذلك في الاحكام الجزئية، كالوصايا الصادرة عن الموصي المعين إلى شخص معين، ثم مست الحاجة إلى العمل بها مع فقد الموصى إليه، فإن العلماء لا يتأملون في الافتاء بوجوب العمل بظاهر ذلك الكلام الموجه إلى الموصى إليه المقصود وكذا في الاقارير، أم كان في الاحكام الكلية، كالاخبار الصادرة عن الائمة، عليهم السلام، مع كون المقصود منها تفهيم مخاطبهم لا غير، فإنه لم يتأمل أحد من العلماء في إستفادة الاحكام من ظواهرها معتذرا بعدم الدليل على حجية أصالة عدم القرينة بالنسبة إلى غير المخاطب ومن قصد إفهامه.

ودعوى: (كون ذلك منهم للبناء على كون الاخبار الصادرة عنهم، عليهم السلام، من قبيل تأليف المصنفين)، واضحة الفساد.

مع أنها لو صحت لجرت في الكتاب العزيز، فإنه أولى بأن يكون من هذا القبيل، فترتفع ثمرة التفصيل المذكور، لان المفصل معترف بأن ظاهر الكلام الذي هو من قبيل تأليف المؤلفين حجة بالخصوص، لا لدخوله في مطلق الظن.

وإنما كلامه في إعتبار ظهور الكلام الموجه إلى مخاطب خاص بالنسبة إلى غيره.

والحاصل: أن القطع حاصل لكل متتبع في طريقة فقهاء المسلمين بأنهم يعملون بظواهر الاخبار من دون إبتناء ذلك على حجية الظن المطلق الثابتة بدليل الانسداد، بل يعمل بها من يدعي الانفتاح وينكر العمل بأخبار الآحاد، مدعيا كون معظم الفقه معلوما بالاجماع والاخبار المتواترة.

٦٩

ويدل على ذلك أيضا سيرة أصحاب الائمة، عليهم السلام، فإنهم كانوا يعملون بظواهر الاخبار الواردة إليهم من الائمة الماضين، عليهم السلام، كما كانوا يعملون بظواهر الاقوال التي سمعوها من إئمتهم، عليهم السلام، لا يفرقون بينهما إلا بالفحص وعدمه، كما سيأتي.

والحاصل: أن الفرق في حجية أصالة الحقيقة وعدم القرينة بين المخاطب وغيره مخالف للسيرة القطعية من العلماء وأصحاب الائمة عليهم السلام.

هذا كله، مع أن التوجيه المذكور لذلك التفصيل، لابتنائه على الفرق بين أصالة عدم الغفلة والخطأ في فهم المراد وبين مطلق أصالة عدم القرينة، يوجب عدم كون ظواهر الكتاب من الظنون المخصوصة، وإن قلنا بشمول الخطاب للغائبين، لعدم جريان أصالة عدم الغفلة في حقهم مطلقا.

فما ذكره من إبتناء كون ظواهر الكتاب ظنونا مخصوصة على شمول الخطاب للغائبين غير سديد، لان الظن المخصوص إن كان هو الحاصل من المشافهة الناشي عن ظن عدم الغفلة والخطأ، فلا يجري في حق الغائبين، وإن قلنا بشمول الخطاب لهم، وإن كان هو الحاصل من أصالة عدم القرينة فهو جار في الغائبين وإن لم يشملهم الخطاب.

ومما يمكن أن يستدل به أيضا زيادة على ما مر من إشتراك أدلة حجية الظواهر من إجماعي العلماء وأهل اللسان ما ورد في الاخبار المتواترة معنى، من الامر بالرجوع إلى الكتاب وعرض الاخبار عليه، فإن هذه الظواهر المتواترة حجة للمشافهين بها، فيشترك غير المشافهين، فيتم المطلوب، كما لا يخفى.

ومما ذكرنا تعرف النظر فيما ذكره المحقق القمي، رحمه الله، بعدما ذكر من عدم حجية ظواهر الكتاب بالنسبة إلينا بالخصوص، بقوله: (فإن قلت: إن أخبار الثقلين تدل على كون ظاهر الكتاب حجة لغير المشافهين بالخصوص.

فأجاب عنه: بأن رواية الثقلين ظاهرة في ذلك، لاحتمال كون المراد التمسك بالكتاب بعد ورود تفسيره عن الائمة، عليهم السلام، كما يقوله الاخباريون.

وحجية ظاهر رواية الثقلين بالنسبة إلينا مصادرة، إذ لا فرق بين ظواهر الكتاب والسنة في حق غير المشافهين بها).

وتوضيح النظر: أن العمدة في حجية ظواهر الكتاب غير خبر الثقلين من الاخبار المتواترة الآمرة

٧٠

بإستنباط الاحكام من ظواهر الكتاب.

وهذه الاخبار تفيد القطع بعدم إرادة الاستدلال بظواهر الكتاب بعد ورود تفسيرها عن الائمة، عليهم السلام، وليست ظاهرة في ذلك حتى يكون التمسك بظاهرها لغير المشافهين بها مصادرة.

وأما خبر الثقلين، فيمكن منع ظهوره إلا في وجوب إطاعتهما وحرمة مخالفتهما، وليس في مقام إعتبار الظن الحاصل بهما في تشخيص الاطاعة والمعصية، فافهم.

ثم إن لصاحب المعالم، رحمه الله، في هذا المقام كلاما يحتمل التفصيل المتقدم، لا بأس بالاشارة إليه.

قال: - في الدليل الرابع من أدلة حجية خبر الواحد، بعد ذكر إنسداد باب العلم في غير الضروري من الاحكام، لفقد الاجماع والسنة المتواترة ووضوح كون أصل البراء‌ة لا يفيد غير الظن وكون الكتاب ظني الدلالة - ما لفظه: لا يقال: إن الحكم المستفاد من ظواهر مقطوع لا مظنون، وذلك بضميمة مقدمة خارجية، وهي قبح خطاب الحكيم بما له ظاهر وهو يريد خلافه من غير دلالة تصرف عن ذلك الظاهر.

سلمنا، ولكن ذلك ظن مخصوص، فهو من قبيل الشهادة لا يعدل عنه إلى غيره إلا بدليل.

لانا نقول: أحكام الكتاب كلها من قبيل خطاب المشافهة.

وقد مر أنه مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب وأن ثبوت حكمه في حق من تأخر إنما هو بالاجماع وقضاء الضرورة بإشتراك التكليف بين الكل.

وحينئذ فمن الجائز أن يكون قد إقترن ببعض تلك الظواهر ما يدلهم على إرادة خلافها.

وقد وقع ذلك في مواضع علمناها بالاجماع ونحوه، فيحتمل الاعتماد في تعريفنا لسائرها على الامارات المفيدة للظن القوي، وخبر الواحد من جملتها.

ومع قيام هذا الاحتمال ينفى القطع بالحكم.

ويستوي حينئذ الظن المستفاد من ظاهر الكتاب والحاصل من غيره بالنظر إلى إناطة التكليف به، لابتناء الفرق بينهما على كون الخطاب متوجها إلينا، وقد تبين خلافه، ولظهور إختصاص الاجماع والضرورة الدالين على المشاركة في التكليف المستفاد من ظاهر الكتاب بغير صورة وجود الخبر الجامع للشرائط الاتية المفيدة للظن)، إنتهى كلامه.

٧١

ولا يخفى: أن في كلامه، قدس سره، على إجماله وإشتباه المراد منه كما يظهر من المحشين مواقع النظر والتأمل.

ثم إنك قد عرفت: أن مناط الحجية والاعتبار في دلالة الالفاظ هو الظهور العرفي، وهو كون الكلام بحيث يحمل عرفا على ذلك المعنى ولو بواسطة القرائن المقامية المكتنفة بالكلام.

فلا فرق بين إفادته الظن بالمراد وعدمها، ولا بين وجود الظن الغير المعتبر على خلافه وعدمه، لان ما ذكرنا من الحجه على العمل بها جار في جميع الصور المذكورة.

وما ربما يظهر من العلماء من التوقف في العمل بالخبر الصحيح المخالف لفتوى المشهور أو طرحه مع إعترافهم بعدم حجية الشهرة - فليس من جهة مزاحمة الشهرة لدلالة الخبر الصحيح من عموم أو إطلاق، بل من جهة مزاحمتها للخبر من حيث الصدور، بناء على أن ما دل من الدليل على حجية الخبر الواحد من حيث السند لا يشمل المخالف للمشهور، ولذا لايتأملون في العمل بظواهر الكتاب والسنة المتواترة الصدور إذا عارضها الشهرة.

فالتأمل في الخبر المخالف للمشهور إنما هو إذا خالفت الشهرة نفس الخبر، لا عمومه أو إطلاقه.

فلا يتأملون في عمومه إذا كانت الشهرة على التخصيص.

نعم، ربما يجري على لسان بعض متأخري المتأخرين من المعاصرين عدم الدليل على حجية الظواهر إذا لم تفد الظن او إذا حصل الظن الغير المعتبر على خلافها.

لكن الانصاف: أنه مخالف لطريقة أرباب اللسان والعلماء في كل زمان، ولذا عد بعض الاخباريين، كالاصوليين، إستصحاب حكم العام والمطلق حتى يثبت المخصص والمقيد من الاستصحابات المجمع عليها.

وهذا وإن لم يرجع إلى الاستصحاب المصطلح إلا بالتوجيه، إلا أن الغرض من الاستشهاد به بيان كون هذه القاعدة إجماعية.

وربما فصل بعض من المعاصرين تفصيلا يرجع حاصله إلى: (أن الكلام إن كان مقرونا بحال أو مقال يصلح أن يكون صارفا عن المعنى الحقيقي فلا يتمسك فيه بأصالة الحقيقة، وإن كان الشك في أصل وجود الصارف أو كان هنا أمر منفصل يصلح لكونه صارفا، فيعمل على أصالة الحقيقة).

وهذا تفصيل حسن متين، لكنه تفصيل في العمل بأصالة الحقيقة عند الشك في الصارف، لا

٧٢

في حجية الظهور اللفظي، ومرجعة إلى تعيين الظهور العرفي وتمييزه عن موارد الاجمال، فإن اللفظ في القسم الاول يخرج عن الظهور إلى الاجمال بشهادة العرف.

ولذا توقف جماعة في المجاز المشهور والعام المتعقب بضمير يرجع إلى بعض أفراده والجمل المتعددة المتعقبة للاستثناء والامر والنهي الواردين في مظان الحظر أو الايجاب، إلى غير ذلك مما احتف اللفظ بحال او مقال يصلح لكونه صارفا.

ولم يتوقف أحد في عام بمجرد إحتمال دليل منفصل يحتمل كونه مخصصا له، بل ربما يعكسون الامر فيحكمون بنفي ذلك الاحتمال وإرتفاع الاجمال لاجل ظهور العام.

ولذا لو قال المولى: أكرم العلماء، ثم ورد قول آخر من المولى إنه لا تكرم زيدا، واشترك زيد بين عالم وجاهل، فلا يرفع اليد عن العموم بمجرد الاحتمال، بل يرفعون الاجمال بواسطة العموم، فيحكمون بإرادة زيد الجاهل من النهي.

وبإزاء التفصيل المذكور تفصيل آخر ضعيف، وهو: (أن إحتمال إرادة خلاف مقتضى اللفظ إن حصل من أمارة غير معتبرة فلا يصح رفع اليد عن الحقيقة، وإن حصل من دليل معتبر فلا يعمل بأصالة الحقيقة.

ومثل له بما إذا ورد في السنة المتواترة عام وورد فيها أيضا خطاب مجمل يوجب الاجمال في ذلك العام ولا يوجب الظن بالواقع.

قال -: فلا دليل على لزوم العمل بالاصل تعبدا.

ثم قال -: ولا يمكن دعوى الاجماع على لزوم العمل بأصالة الحقيقة تعبدا، فإن أكثر المحققين توقفوا في ما إذا تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الراجح) إنتهى.

ووجه ضعفه يظهر مما ذكر، فإن التوقف في ظاهر خطاب لاجل إجمال خطاب آخر محتمل لكونه معارضا، مما لم يعهد من أحد من العلماء، بل لا يبعد ما تقدم من حمل المجمل في أحد الخطابين على المبين في الخطاب الاخر.

وأما قياس ذلك على مسألة تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الراجح، فعلم فساده مما ذكرنا في التفصيل المتقدم، من أن الكلام المكتنف بما يصلح أن يكون صارفا قد إعتمد عليه المتكلم في إرادة خلاف الحقيقة لا يعد من الظواهر، بل من المجملات.

وكذلك المتعقب بلفظ يصلح للصارفية كالعام المتعقب بالضمير وشبهه مما تقدم.

٧٣

القسم الثاني وهو الظن الذي يعمل لتشخيص الظواهر

كتشخيص أن اللفظ المفرد الفلاني، كلفظ الصعيد أو صيغة إفعل، أو أن المركب الفلاني، كالجملة الشرطية، ظاهر بحكم الوضع في المعنى الفلاني، وأن الامر الواقع عقيب الحظر ظاهر بقرينة وقوعه في مقام رفع الحظر - في مجرد رفع الحظر دون الالزام، والظن الحاصل هنا يرجع إلى الظن بالوضع اللغوي أو الانفهام العرفي، والاوفق بالقواعد عدم حجية الظن هنا، لان الثابت المتيقن هي حجية الظواهر.

وأما حجية الظن في أن هذا ظاهر، فلا دليل عليه، عدا وجوه ذكروها في إثبات جزئي من هذه المسألة.

وهي حجية قول اللغويين في الاوضاع.

فإن المشهور كونه من الظنون الخاصة التي ثبت حجيتها مع قطع النظر عن إنسداد باب العلم في الاحكام الشرعية وإن كانت الحكمة في إعتبارها إنسداد باب العلم في غالب مواردها، فإن الظاهر أن حكمة إعتبار أكثر الظنون الخاصة، كأصالة الحقيقة التقدم ذكرها وغيرها، إنسداد باب العلم في غالب مواردها من العرفيات والشرعيات.

والمراد بالظن المطلق ما ثبت إعتباره من أجل إنسداد باب العلم بخصوص الاحكام الشرعية، وبالظن الخاص ما ثبت إعتباره، لا لاجل الاضطرار إلى إعتبار مطلق الظن بعد تعذر العلم.

* * *

وكيف كان، فاستدلوا على إعتبار قول اللغويين بإتفاق العلماء بل جميع العقلاء على الرجوع إليهم في إستعلام اللغات والاستشهاد بأقوالهم في مقام الاحتجاج، ولم ينكر ذلك أحد على أحد.

وقد حكي عن السيد في بعض كلماته دعوى الاجماع على ذلك، بل ظاهر كلامه المحكي إتفاق المسلمين.

٧٤

قال الفاضل السبزواري، فيما حكي عنه، في هذا المقام، ما هذا لفظه: (صحة المراجعة إلى أصحاب الصناعات البارزين في صنعتهم البارعين في فنهم فيما إختص بصناعتهم، مما إتفق عليه العقلاء في كل عصر وزمان)، إنتهى.

وفيه: أن المتيقن من هذا الاتفاق هو الرجوع إليهم مع إجتماع شرائط الشهادة من العدد و العدالة ونحو ذلك، لا مطلقا.

ألا ترى أن أكثر علمائنا على إعتبار العدالة فيمن يرجع إليه من أهل الرجال، بل وبعضهم على إعتبار العدد، والظاهر إتفاقهم على إشتراط التعدد والعدالة في أهل الخبرة في مسألة التقويم وغيرها.

هذا مع أنه لا يعرف الحقيقة عن المجاز بمجرد قول اللغوي، كما إعترف به المستدل في بعض كلماته، فلا ينفع في تشخيص الظواهر.

فالانصاف: أن الرجوع إلى أهل اللغة مع عدم إجتماع شروط الشهادة: إما في مقامات يحصل العلم فيها بالمستعمل فيه من مجرد ذكر لغوي واحد أو أزيد له على وجه يعلم كونه من المسلمات عند أهل اللغة، كما قد يحصل العلم بالمسألة الفقهية من إرسال جماعة لها إرسال المسلمات، وإما في مقامات يتسامح فيها، لعدم التكليف الشرعي بتحصيل العلم بالمعنى اللغوي، كما إذا أريد تفسير خطبة أو رواية لا تتعلق بتكليف شرعي، وإما في مقام إنسد فيه طريق العلم ولا بد من العمل، فيعمل بالظن بالحكم الشرعي المستند بقول أهل اللغة.

ولا يتوهم: (أن طرح قول اللغوي الغير المفيد للعلم في ألفاظ الكتاب والسنة مستلزم لانسداد طريق الاستنباط في غالب الاحكام.

لاندفاع ذلك: بأن أكثر مواد اللغات إلا ما شذ وندر - كلفظ الصعيد ونحوه - معلوم من العرف و اللغة، كما لا يخفى.

والمتبع في الهيئآت هي القواعد العربية المستفادة من الاستقراء القطعي، وإتفاق أهل العربية أو التبادر بضميمة أصالة عدم القرنية، فإنه قد يثبت به الوضع الاصلي الموجود في الحقائق، كما في صيغه (إفعل) أو الجملة الشرطية أو الوصفية.

ومن هنا يتمسكون في إثبات مفهوم الوصف بفهم أبي عبيدة في حديث: (لي الواجد)، و نحوه غيره من موارد الاستشهاد - بفهم أهل اللسان.

وقد يثبت به الوضع بالمعنى الاعم الثابت في المجازات المكتنفة بالقرائن المقامية، كما يدعى أن الامر عقيب الحظر بنفسه مجردا عن القرينة يتبادر

٧٥

منه مجرد رفع الحظر دون الايجاب والالزام.

وإحتمال كونه لاجل قرينة خاصة يدفع بالاصل، فيثبت به كونه لاجل القرينة العامة، وهي الوقوع في مقام رفع الحظر، فيثبت بذلك ظهور ثانوي لصيغة (إفعل) بواسطة القرينة الكلية.

وبالجملة، فالحاجة إلى قول اللغوي الذي لا يحصل العلم بقوله، لقلة مواردها، لا تصلح سببا للحكم بإعتباره لاجل الحاجة.

نعم سيجئ أن كل من عمل بالظن في مطلق الاحكام الشرعية الفرعية يلزمه العمل بالحكم الناشي من الظن بقول اللغوي، لكنه لا يحتاج إلى دعوى إنسداد باب العلم في اللغات، بل العبرة عنده بإنسداد باب العلم في معظم الاحكام.

فإنه يوجب الرجوع إلى الظن بالحكم الحاصل من الظن باللغة وإن فرض إنفتاح باب العلم فيما عدا هذا المورد من اللغات، وسيتضح هذا زيادة على هذا إن شاء الله، هذا.

ولكن الانصاف: أن مورد الحاجة إلى قول اللغويين أكثر من أن يحصى في تفاصيل المعاني بحيث يفهم دخول الافراد المشكوكة أو خروجها وإن كان المعنى في الجملة معلوما من دون مراجعة قول اللغوي، كما في ألفاظ الوطن، والمفازة، والتمر، والفاكهة، والكنز، والمعدن، والغوص، وغير ذلك من متعلقات الاحكام مما لا يحصى، وإن لم تكن الكثرة بحيث يوجب التوقف فيها محذورا.

ولعل هذا المقدار مع الاتفاقات المستفيضة كاف في المطلب، فتأمل.

٧٦

ومن جملة الظنون الخارجة عن الاصل الاجماع المنقول بخبر الواحد عند كثير ممن يقول بإعتبار الخبر بالخصوص، نظرا إلى أنه أفراده، فيشمله أدلته، والمقصود من ذكره هنا، مقدما على بيان الحال في الاخبار، هو التعرض للملازمة بين حجية الخبر وحجيته، فنقول: إن ظاهر أكثر القائلين بإعتباره بالخصوص أن الدليل عليه هو الدليل على حجية خبر العادل.

فهو عندهم كخبر صحيح عالي السند، لان مدعي الاجماع يحكي مدلوله ويرويه عن الامام، عليه السلام، بلا واسطة.

ويدخل الاجماع ما يدخل لاخبر من الاقسام ويلحقه مايلحقه من الاحكام.

والذي يقوى في النظر هو عدم الملازمة بين حجية الخبر وحجية الاجماع المنقول، وتوضيح ذلك يحصل بتقديم أمرين: [ الامر ] الاول إن الادلة الخاصة التي أقاموها على حجية خبر العادل لا تدل إلا على حجية الاخبار عن حس، لان العمدة من تلك الادلة هو الاتفاق الحاصل من عمل القدماء وأصحاب الائمة، عليهم السلام، ومعلوم عدم شمولها إلا للرواية المصطلحة.وكذلك الاخبار الواردة في العمل بالروايات.

اللهم إلا أن يدعى أن المناط في وجوب العمل بالروايات هو كشفها عن الحكم الصادر عن المعصوم.

ولا يعتبر في ذلك حكاية ألفاظ الامام، عليه السلام، ولذا يجوز النقل بالمعنى.

فإذا كان المناط كشف الروايات عن صدور معناها عن الامام، عليه السلام، ولو بلفظ آخر

٧٧

والمفروض أن حكاية الاجماع أيضا حكاية حكم صادر عن المعصوم، عليه السلام، بهذه العبارة التي هي معقد الاجماع أو بعبارة أخرى - وجب العمل به.

لكن هذا المناط لو ثبت دل على حجية الشهرة بل فتوى الفقيه إذا كشف عن صدور الحكم بعبارة الفتوى أو بعبارة غيرها.

كما عمل بفتاوى علي بن بابويه، قدس سره، لتنزيل فتواه منزلة روايته، بل على حجية مطلق الظن بالحكم الصادر عن الامام، عليه السلام، وسيجئ توضيح الحال إن شاء الله.

وأما الايات، فالعمدة فيها من حيث وضوح الدلالة هي آية النبأ.

وهي إنما تدل على وجوب قبول خبر العادل دون خبر الفاسق.

والظاهر منها - بقرينة التفصيل بين العادل حين الاخبار والفاسق، وبقرينة تعليل إختصاص التبين بخبر الفاسق بقيام إحتمال الوقوع في الندم إحتمالا مساويا، لان الفاسق لا رادع له عن الكذب هو عدم الاعتناء بإحتمال تعمد كذبه، لا وجوب البناء على إصابته وعدم خطائه في حدسه، لان الفسق والعدالة حين الاخبار لا يصلح مناطا لتصويب المخبر وتخطئته بالنسبة إلى حدسه.

وكذا إحتمال الوقوع في الندم من جهة الخطأ في الحدس أمر مشترك بين العادل والفاسق، فلا يصلح لتعليل الفرق به.

فعلمنا من ذلك أن المقصود من الاية إرادة نفي إحتمال تعمد الكذب عن العادل حين الاخبار دون الفاسق، لان هذا هو الذي يصلح لاناطته بالفسق والعدالة حين الاخبار.

ومنه تبين عدم دلالة الاية على قبول الشهادة الحدسية إذا قلنا بدلالة الاية على إعتبار شهادة العدل.

فان قلت: إن مجرد دلالة الاية على ما ذكر لا يوجب قبول الخبر لبقاء إحتمال خطأ العادل فيما أخبر وإن لم يتعمد الكذب، فيجب التبين في خبر العادل أيضا، لاحتمال خطائه وسهوه.

وهو خلاف الاية المفصلة بين العادل والفاسق.

غاية الامر وجوبه في خبر الفاسق من جهتين وفي العادل من جهة واحدة.

قلت: إذا ثبت بالاية عدم جواز الاعتناء بإحتمال تعمد كذبه ينفى إحتمال خطائه وغفلته و إشتباهه بأصالة عدم الخطأ في الحس.وهذا أصل عليه إطباق العقلاء والعلماء في جميع الموارد.

نعم لو كان المخبر ممن يكثر عليه الخطأ والاشتباه لم يعبأ بخبره، لعدم جريان أصالة عدم الخطأ والاشتباه.

ولذا يعتبرون في الشاهد والراوي الضبط، وإن كان ربما يتوهم الجاهل ثبوت ذلك من الاجماع.

إلا أن المنصف يشهد بأن إعتبار هذا في جميع موارده ليس لدليل خارجي مخصص لعموم آية

٧٨

النبأ ونحوها مما دل على وجوب قبول قول العادل، بل لما ذكرنا من أن المراد بوجوب قبول قول العادل رفع التهمة عنه من جهة إحتمال تعمده الكذب، لا تصويبه وعدم تخطئته أو غفلته.

ويؤيد ما ذكرنا أنه لم يستدل أحد من العلماء على حجية فتوى الفقيه على العامي بآية النبأ، مع إستدلالهم عليها بآيتي النفر السؤال.

والظاهر أن ما ذكرنا من عدم دلالة الاية وأمثالها من أدلة قبول قول العادل على وجوب تصويبه في الاعتقاد - هو الوجه فيما ذهب إليه المعظم، بل أطبقوا عليه، كما في الرياض، من عدم إعتبار الشهادة في المحسوسات إذا لم تستند إلى الحس وإن علله في الرياض بما لا يخلو عن نظر، من أن الشهاده من الشهود وهو الحضور.

فالحس مأخوذ في مفهومها.

والحاصل: أنه لا ينبغي الاشكال في أن الاخبار عن حدس وإجتهاد ونظر ليس حجة إلا على من وجب عليه تقليد المخبر في الاحكام الشرعية وأن الاية ليست عامة لكل خبر ودعوى، خرج ما خرج.

فإن قلت: فعلى هذا إذا أخبر الفاسق بخبر يعلم بعدم تعمده للكذب فيه تقبل شهادته فيه، لان إحتمال تعمده للكذب منتف بالفرض، وإحتمال غفلته وخطائه منفي بالاصل المجمع عليه، مع أنشهادته مردودة إجماعا.

قلت: ليس المراد مما ذكرنا عدم قابلية العدالة والفسق لاناطة الحكم بهما وجودا وعدما تعبدا، كما في الشهادة والفتوى ونحوهما.

بل المراد أن الاية المذكورة لا تدل إلا على مانعية الفسق من حيث قيام إحتمال تعمد الكذب معه، فيكون مفهومها عدم المانع في العادل من هذه الجهة، فلا يدل على وجوب قبول خبر العادل إذا لم يمكن نفي خطائه بأصالة عدم الخطأ المختصة بالاخبار الحسية.

فالاية لا تدل أيضا على إشتراط العدالة ومانعية الفسق في صورة العلم بعدم تعمد الكذب، بل لا بد له من دليل آخر، فتأمل.

الامر الثاني أن الاجماع في مصطلح الخاصة بل العامة، الذين هم الاصل له وهو الاصل لهم، هو إتفاق جميع العلماء في عصر، كما ينادي بذلك تعريفات كثير من الفريقين.

قال في التهذيب: (الاجماع هو إتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله

٧٩

عليه وآله).

وقال صاحب غاية البادي في شرح المبادي، الذي هو أحد علمائنا المعاصرين للعلامة، قدس سره: (الاجماع في إصطلاح فقهاء أهل البيت، عليهم السلام، هو إتفاق أمة محمد، صلى الله عليه وآله، على وجه يشتمل على قول المعصوم)، إنتهى.

وقال في المعالم: (الاجماع في الاصطلاح إتفاق خاص، وهو إتفاق من يعتبر قوله من الامة)، إنتى.

وكذا غيرها من العبارات المصرحة بذلك في تعريف الاجماع وغيرها من المقامات، كما تراهم يعتذرون كثيرا عن وجود المخالف بإنقراض عصره.

ثم إنه لما كان وجه حجية الاجماع عند الامامية إشتماله على قول الامام، عليه السلام، كانت الحجية دائرة مدار وجوده، عليه السلام، في كل جماعة هو أحدهم، ولذا قال السيد المرتضى: (إذا كان علة كون الاجماع حجة كون الامام فيهم، فكل جماعة كثرت أو قلت، كان قول الامام في أقوالها، فإجماعها حجة، وإن خلاف الواحد والاثنين إذا كان الامام أحدهما قطعا أو تجويزا يقتضي عدم الاعتداد بقول الباقين وإن كثر، وإن الاجماع بعد الخلاف كالمبتدأ في الحجيه)، إنتهى.

وقال المحقق في المعتبر، بعد إناطة حجية الاجماع بدخول قول الامام عليه السلام: (إنه لو خلا المائة من فقهائنا من قوله لم يكن قولهم حجة، ولو حصل في إثنين كان قولهما حجة)، إنتهى.

وقال العلامة، رحمه الله، بعد قوله إن الاجماع عندنا حجة لاشتماله على قول المعصوم -: (وكل جماعة قلت أو كثرت كان قول الامام عليه السلام في جملة أقوالها فإجماعها حجة لاجله، لا لاجل الاجماع)، إنتهى.

هذا، ولكن لا يلزم من كونه حجة تسميته إجماعا في الاصطلاح، كما أنه ليس كل خبر جماعة يفيد العلم متواترا في الاصطلاح.

وأما ما إشتهر بينهم من أنه لا يقدح خروج معلوم النسب، واحدا أو أكثر، فالمراد أنه لا يقدح في حجية إتفاق الباقي، لا في تسميته إجماعا، كما علم من فرض المحقق،

٨٠