فرائد الاصول الجزء ٢

فرائد الاصول0%

فرائد الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 438

  • البداية
  • السابق
  • 438 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23292 / تحميل: 4678
الحجم الحجم الحجم
فرائد الاصول

فرائد الاصول الجزء 2

مؤلف:
العربية

الصفحة ٥٠٣

وأما بناء على وجوب الاحتياط عند الشك في الشرطية والجزئية، فلان وجوب الاحتياط فرع بقاء وجوب الشرط الواقعي المردد بين الفعل والترك، وإيجابه مع الجهل مستلزم لالقاء شرطية الجزم بالنية واقتران الواجب الواقعي بنية الاطاعة به بالخصوص مع التمكن، فيدور الامر بين مراعاة ذلك الشرط المردد وبين مراعاة شرط الجزم بالنية.

وبالجملة، فعدم وجوب الاحتياط في المقام [ يكون ] لمنع إعتبار ذلك الامر المردد بين الفعل والترك في العبادة واقعا في المقام.

نظير القول بعدم وجوب الاحتياط بالصلاة مع إشتباه القبلة، لمنع شرطية الاستقبال مع الجهل، لا لعدم وجوب الاحتياط في الشك في المكلف به.

وقد يرجح الثاني، وإن قلنا بعدم وجوبه في الشك في الشرطية والجزئية، لان مرجع الشك هنا إلى المتبائنين، لمنع جريان أدلة نفي الجزئية والشرطية عند الشك في المقام من العقل والنقل.

وما ذكر من (أن إيجاب الامر الواقعي المردد بين الفعل والترك مستلزم لالغاء الجزم بالنية) مدفوع بإلتزام ذلك، ولا ضير فيه.

ولذا وجب تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين، وإلى الجهات الاربع، وتكرار الوضوء بالمائين عند إشتباه المطلق والمضاف مع وجودهما، والجمع بين الوضوء والتيمم إذا فقد أحدهما، مع أن ما ذكرنا في نفي كل من الشرطية والمانعية بالاصل إنما يستقيم لو كان كل من الفعل والترك توصليا على تقدير الاعتبار، وإلا فيلزم من العمل بالاصلين مخالفة عملية، كما لا يخفى.

والتحقيق أنه إن قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشك في الشرطية والجزئية وعدم حرمة المخالفة القطعية للواقع إذ لم تكن عملية، فالاقوى التخيير هنا وإلا تعين الجمع بتكرار العبادة، ووجهه يظهر مما ذكرنا.

* * *

١٠١

الصفحة ٥٠٤

١٠٢

الصفحة ٥٠٥

المطلب الثالث في إشتباه الواجب بالحرام

بأن يعلم أن أحد الفعلين واجب والاخر محرم واشتبه أحدهما بالاخر.

وأما لو علم أن واحدا من الفعل والترك واجب والاخر محرم، فهو خارج عن هذا المطلب.

لانه من دوران الامر بين الوجوب والحرمة الذي تقدم حكمه في (المطلب الثالث) من مطالب الشك في التكليف.

والحكم فيما نحن فيه وجوب الاتيان بأحدهما وترك الاخر مخيرا في ذلك لان الموافقة الاحتمالية في كلا التكليفين أولى من الموافقة القطعية في أحدهما مع المخالفة القطعية في الاخر.

ومنشأ ذلك أن الاحتياط لدفع الضرر المحتمل لا يحسن بإرتكاب الضرر المقطوع، والله العالم.

١٠٣

الصفحة ٥٠٦

خاتمة فيما يعتبر في العمل بالاصل

والكلام، تارة في الاحتياط، وأخرى في البراء‌ة أما الاحتياط فالظاهر أنه لا يعتبر في العمل به أمر زائد على تحقق موضوعه، ويكفي في موضوعه إحراز الواقع المشكوك فيه به ولو كان على خلافه دليل إجتهادي بالنسبة إليه، فإن قيام الخبر الصحيح على عدم وجوب شئ لا يمنع من الاحتياط فيه، لعموم أدلة رجحان الاحتياط، غاية الامر عدم وجوب الاحتياط وهذا مما لا خلاف فيه ولا إشكال.

إنما الكلام يقع في بعض الموارد من جهة تحقق موضوع الاحتياط وإحراز الواقع، كما في العبادات المتوقفة صحتها على نية الوجه، فإن المشهور أن الاحتياط فيها غير متحقق إلا بعد فحص المجتهد عن الطرق الشرعية المثبتة لوجه الفعل وعدم عثوره على طريق منها، لان نية الوجه حينئذ ساقطة قطعا.

فإذا شك في وجوب غسل الجمعة وإستحبابه أو في وجوب السورة وإستحبابها، فلا يصح له الاحتياط بإتيان الفعل قبل الفحص عن الطرق الشرعية، لانه لا يتمكن من الفعل بنية الوجه.

والفعل بدونها غير مجد، بناء على إعتبار نية الوجه لفقد الشرط، فلا يتحقق قبل الفحص إحراز الواقع.

فإذا تفحص: فإن عثر على دليل الوجوب أو الاستحباب أتي بالفعل ناويا لوجوبه أو إستحبابه، وإن لم يعثر عليه فله أن يعمل بالاحتياط، لان المفروض سقوط نية الوجه، لعدم تمكنه منها.

وكذا لا يجوز للمقلد الاحتياط قبل الفحص عن مذهب مجتهده، نعم يجوز له بعد الفحص.

ومن هنا إشتهر بين أصحابنا: (أن عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد غير صحيحة إن علم إجمالا بمطابقتها للواقع، بل يجب أخذ أحكام العبادات عن إجتهاد أو تقليد).

١٠٤

الصفحة ٥٠٧

ثم إن هذه المسألة، أعنى بطلان عبادة تارك الطريقين، يقع الكلام فيها في مقامين، لان العامل التارك في عمله لطريقي الاجتهاد والتقليد، إما أن يكون حين العمل بانيا على الاحتياط وإحراز الواقع، وإما أن لا يكون كذلك.

فالمتعلق بما نحن فيه هو الاول، وأما الثاني فسيجئ الكلام فيه في شروط البراء‌ة.

فنقول: إن الجاهل التارك للطريقين الباقي على الاحتياط على قسمين، لان إحرازه للواقع تارة لا يحتاج إلى تكرار العمل، كالاتي بالسورة في صلاته إحتياطا وغير ذلك من موارد الشك في الشرطية والجزئية، وأخرى يحتاج إلى التكرار، كما في المتبائنين، كالجاهل بوجوب القصر والاتمام في مسيرة أربع فراسخ والجاهل بوجوب الظهر أو الجمعة عليه.

أما الاول، فالاقوى فيه الصحة، بناء على عدم إعتبار نية الوجه في العمل.

والكلام في ذلك قد حررناه في (الفقه) في نية الوضوء.

نعم لو شك في إعتبارها ولم يقلم دليل معتبر من شرع أو عرف حاكم بتحقق الاطاعة بدونها، كان مقتضي الاحتياط اللازم الحكم بعدم الاكتفاء بعبادة الجاهل، حتى على المختار من إجراء البراء‌ة في الشك في الشرطية.

لان هذا الشرط ليس على حد سائر الشروط المأخوذة في المأمور به الواقعة في حيز الامر، حتى إذا شك تعلق الالزام به من الشارع حكم العقل بقبح المؤاخذة المسببة عن تركه والنقل بكونه مرفوعا عن المكلف، بل هو على تقدير إعتباره شرط لتحقق الاطاعة وسقوط المأمور به وخروج المكلف عن العهدة.

ومن المعلوم أن مع الشك في ذلك لا بد من الاحتياط وإتيان المأمور به على وجه يقطع معه بالخروج عن العهدة.

وبالجملة، فحكم الشك في تحقق الاطاعة والخروج عن العهدة بدون الشئ غير حكم الشك في أن أمر المولى متعلق بنفس الفعل لا بشرط أو به بشرط كذا.

والمختار في الثاني البراء‌ة والمتعين في الاول الاحتياط.

لكن الانصاف: أن الشك في تحقق الاطاعة بدون نية الوجه غير متحقق، لقطع العرف بتحققها وعدهم الاتى بالمأمور به بنية الوجه الثابت عليه في الواقع مطيعا وإن لم يعرفه تفصيلاء، بل لا بأس بالاتيان به بقصد القربة المشتركة بين الوجوب والندب من غير أن يقصد الوجه الواقعي المعلوم للفعل إجمالا.

وتفصيل ذلك في (الفقه).

إلا أن الاحوط عدم إكتفاء الجاهل عن الاجتهاد أو التقليد بالاحتياط، لشهرة القول بذلك بين الاصحاب ونقل غير واحد إتفاق المتكلمين على وجوب إتيان الواجب والمندوب لوجوبه أو ندبه

١٠٥

الصفحة ٥٠٨

أو لوجههما.

ونقل السيد الرضي، قدس سره، إجماع أصحابنا على بطلان صلاة من صلى صلاة لا يعلم أحكامها، وتقرير أخيه الاجل علم الهدى، قدس سره، له على ذلك في مسألة الجاهل بالقصر.

بل يمكن أن يجعل هذان الاتفاقان المحكيان من أهل المعقول والمنقول المعتضدان بالشهرة العظيمة دليلا في المسألة فضلا عن كونهما منشأ للشك الملزم للاحتياط، كما ذكرنا.

وأما الثاني، وهو ما يتوقف الاحتياط فيه على تكرار العبادة، فقد يقوى في النظر أيضا جواز ترك الطريقين فيه إلى الاحتياط بتكرار العبادة، بناء على عدم إعتبار نية الوجه.

لكن الانصاف عدم العلم بكفاية هذا النحو من الاطاعة الاحتمالية وقوة إحتمال إعتبار الاطاعة التفصيلية في العبادة بأن يعلم المكلف حين الاشتغال بما يجب عليه أنه هو الواجب عليه.

ولذا يعد تكرار العبادة لاحراز الواقع مع التمكن من العلم التفصيلي به أجنبيا عن سيرة المتشرعة، بل من أتى بصلوات غير محصورة لاحراز شروط صلاة واحدة بأن صلى في موضع تردد فيه القبلة بين أربع جهات في خمسة أثواب، أحدها طاهر، ساجدا على خمسة أشياء: أحدها ما يصح السجود عليه، مائة صلاة مع التمكن من صلاة واحدة يعلم فيها تفصيلا إجتماع الشروط الثلاثة يعد في الشرع والعرف لاعبا بأمر المولى.

والفرق بين الصلاة الكثيرة وصلاتين لا يرجع إلى محصل.

نعم لو كان ممن لا يتمكن من العلم التفصيلي، كان ذلك منه محمودا مشكورا.

وببالي أن صاحب الحدائق، قدس سره، قد يظهر منه دعوى الاتفاق على عدم مشروعية التكرار مع التمكن من العلم التفصيلي.

ولقد بالغ الحلي في السرائر حتى اسقط إعتبار الشرط المجهول تفصيلا ولم يجوز التكرار المحرز له، فأوجب الصلاة عاريا على من عنده ثوبان مشتبهان ولم يجوز تكرار الصلاة فيها مع ورود النص به، لكن من طريق الآحاد، مستندا في ذلك إلى وجوب مقارنة الفعل الواجب لوجهه.

وكما لا يجوز الدخول في العمل بانيا على إحراز الواقع بالتكرار، وكذا لا يجوز بانيا على الفحص بعد الفراغ، فإن طابق الواقع وإلا أعاده.

ولو دخل في العبادة بنية الجزم، ثم إتفق له ما يوجب تردده في الصحة ووجوب الاتمام وفي البطلان ووجوب الاستيناف، ففي جواز الاتمام بانيا على الفحص بعد الفراغ والاعادة مع المخالفة وعدمه وجهان: من إشتراط العلم بالصحة حين العمل كما ذكرنا، ولذا لم يجوز هذا من أول الامر.

١٠٦

الصفحة ٥٠٩

وبعبارة أخرى الجزم بالنية معتبر في الاستدامة كالابتداء، ومن أن المضي في العمل ولو مترددا بانيا على إستكشاف حاله بعد الفراغ، محافظة على عدم إبطال العمل المحتمل حرمته واقعا على تقدير صحته، ليس بأدون من الاطاعة التفصيلية ولا يأباه العرف ولا سيرة المشترعة.

وبالجملة فما اعتمد عليه في عدم جواز الدخول في العمل مترددا من السيرة العرفية والشرعية غير جار في المقام.

ويمكن التفصيل بين كون الحادث الموجب للتردد في الصحة مما وجب على المكلف تعلم حكمه قبل الدخول في الصلاة لعموم البلوى، كأحكام الخلل الشائع وقوعها وإبتلاء المكلف بها.

فلا يجوز لتارك معرفتها إذا حصل له التردد في الاثناء المضي والبناء على الاستكشاف بعد الفراغ، لان التردد حصل من سوء إختياره.

فهو في مقام الاطاعة كالداخل في العمل مترددا، وبين كونه مما لا يتفق إلا نادرا.ولاجل ذلك لا يجب تعلم حكمه قبل الدخول للوثوق بعدم الابتلاء غالبا.فيجوز هنا المضي في العمل على الوجه المذكور.هذا بعض الكلام في الاحتياط.

١٠٧

الصفحة ٥١٠

وأما البراء‌ة فإن كان الشك الموجب للرجوع إليها من جهة الشبهة في الموضوع، فقد تقدم أنها غير مشروطة بالفحص عن الدليل المزيل لها، وإن كان من جهة الشبهة في الحكم الشرعي، فالتحقيق أن ليس لها إلا شرط واحد، وهو الفحص عن الادلة الشرعية.والكلام يقع تارة في اصل الفحص وأخرى في مقداره.

أما وجوب أصل الفحص وحاصله عدم معذورية الجاهل المقصر في التعلم فيدل عليه وجوه:

الاول: الاجماع القطعي على عدم جواز العمل بأصل البراء‌ه قبل إستفراغ الوسع في الادلة.

الثاني: الادلة الدالة على وجوب تحصيل العلم، مثل آيتي النفر للتفقه وسؤال أهل الذكر والاخبار الدالة على وجوب تحصيل العلم وتحصيل التفقه والذم على ترك السؤال.

الثالث: ما دل على مؤاخذة الجهال بفعل المعاصي المجهولة المستلزم لوجوب تحصيل العلم، لحكم العقل بوجوب التحرز عن مضرة العقاب.

مثل قوله صلى الله عليه وآله، فيمن غسل مجدورا أصابته جنابة، فكز، فمات: (قتلوه، قتلهم الله.

ألا سألوا، ألا يمموه)(١).

وقوله صلى الله عليه وآله لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء: (ما كان اسوء حالك لو مت على هذه الحالة)(٢)، ثم أمره بالتوبة وغسلها.

____________________

(١) الكافي (الفروع)، ج ٣، ص ٦٨.

(٢) مستدرك الوسائل، ج ٢ ص ٤٥٩.

١٠٨

الصفحة ٥١١

وما ورد في تفسير قوله تعالى: (فلله الحجة البالغة) من أنه: (يقال للعبد يوم القيامة: (هل علمت.

فإن قال: نعم، قيل: فهلا عملت.

وإن قال لا، قيل له: هلا تعلمت حتى تعمل)(١).

وما رواه القمي في تفسير قوله تعالى: (الذين تتوفهم الملائكة ظالمي أنفسهم): (نزلت فيمن اعتزل عن أمير المؤمنين عليه السلام ولم يقاتل معه.

(قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض) أي لم نعلم من الحق فقال الله تعالى: (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها)، أي دين الله وكتابه واضحا متسعا، فتنظروا فيه، فترشدوا وتهتدوا به سبيل الحق)(٢).

الرابع: أن العقل لا يعذر الجاهل القادر على الاستعلام في المقام الذي نظيره في العرفيات ما إذا ورد من يدعي الرسالة من المولى وأتى بطومار يدعي أن الناظر فيه يطلع على صدق دعويه أو كذبها، فتأمل.

والنقل الدال على البراء‌ة في الشبهة الحكمية معارض بما تقدم من الاخبار الدالة على وجوب الاحتياط حتى يسأل عن الواقعة.

كما في صحيحة عبدالرحمن المتقدمة، وما دل على وجوب التوقف بناء على الجمع بينها وبين أدلة البراء‌ه بحملها على صورة التمكن من إزالة الشبهة.

الخامس: حصول العلم الاجمالي لكل أحد قبل الاخذ في إستعلام المسائل بوجود واجبات ومحرمات كثيرةفي الشريعة ومعه لا يصح التمسك بأصل البراء‌ة، لما تقدم من أن مجراه للشك في أصل التكليف لا في المكلف به مع العلم بالتكليف.

فإن قلت: إذا علم المكلف تفصيلا بعدة أمور من الواجبات والمحرمات يحتمل إنحصار التكاليف فيها كان الشك بالنسبة إلى مجهولاته شكا في أصل التكليف.

وبتقرير آخر: إن كان إستعلام جملة من الواجبات والمحرمات تفصيلا موجبا لكون الشك في الباقي شكا في أصل التكليف، فلا مقتضي لوجوب الفحص وعدم الرجوع إلى البراء‌ة وإلا لم يجز الرجوع إلى البراء‌ة ولو بعد الفحص، إذ الشك في المكلف به فلا يرجع فيه إلى البراء‌ة ولو بذل الجهد في الفحص وطلب الحكم الواقعي.

[ فإن قلت: هذا يقتضي عدم جواز الرجوع إلى البراء‌ة في أول الامر ولو بعد الفحصن لان الفحص لا يوجب جريان البراء‌ة مع العلم الاجمالي.].

قلت: المعلوم إجمالا وجود التكاليف الواقية في الوقائع التي يقدر على الوصول إلى مداركها.

وإذا تفحص وعجز عن الوصول إلى مدارك الواقعة خرجت تلك الواقعة عن الوقائع التي علم إجمالا بوجود التكاليف فيها فيرجع إلى البراء‌ة، هذا.

ولكن لا يخلو عن نظر، لان العلم الاجمالي إنما هو بين

____________________

(١) الامالي، ص ٩ الصافي، ص ٥٥٥. (٢) تفسير القمى الصافي، ص ٣٨٧.

١٠٩

الصفحة ٥١٢

جميع الوقايع من غير مداخلية تمكن المكلف من الوصول إلى مدارك التكليف وعجزه عن ذلك.فدعوى إختصاص أطراف العلم الاجمالي بالوقايع المتمكن من الوصول إلى مداركها مجازفة.مع أن هذا الدليل إنما يوجب الفحص قبل إستعلام جملة من التكاليف يحتمل إنحصار المعلوم إجمالا فيها.فتأمل، وراجع ما ذكرنا في رد إستدلال الاخباريين على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية بالعلم الاجمالي.وكيف كان.

فالاولى ما ذكر في (الوجه الرابع) من أن العقل لا يعذر الجاهل القادر على الفحص، كما لا يعذر الجاهل بالمكلف به العالم به إجمالا.ومناط عدم المعذورية في المقامين هو عدم قبح مؤاخذة الجاهل فيهما.فإحتمال الضرر بإرتكاب الشبهة غير مندفع بما يأمن معه من ترتب الضرر.ألا ترى أنهم حكموا بإستقلال العقل، بوجوب النظر في معجزة مدعي النبوة وعدم معذوريته في تركه مستندين في ذلك إلى وجوب دفع الضرر المحتمل، لا إلى أنه شك في المكلف به.

هذا كله، مع أن في الوجه الاول وهو الاجماع القطعي كفاية.ثم إن في حكم أصل البراء‌ة كل أصل عملي خالف الاحتياط.

بقي الكلام في حكم الاخذ بالبراء‌ة مع ترك الفحص والكلام فيه إما في إستحقاقه العقاب وإما في صحة العمل الذي أخذ فيه بالبراء‌ة.أما العقاب فالمشهور أنه على مخالفة الواقع لو إتفقت.

فإذا شرب العصير العنبي من غير فحص عن حكمه، فإن لم يتفق كونه حراما واقعا فلا عقاب، ولو إتفقت حرمته كان العقاب على شرب العصير، لا على ترك التعلم.

أما الاول، فلعدم المقتضي للمؤاخذة عدا ما يتخيل من ظهور أدلة وجوب الفحص وطلب تحصيل العلم في الوجوب النفسي.

وهو مدفوع: بأن المستفاد من أدلته بعد التأمل إنما هو وجوب الفحص لئلا يقع في مخالفة الواقع، كما لا يخفى، أو ما يتخيل من قبح التجري بناء على أن الاقدام على ما لا يؤمن كونه مضرة، كالاقدام على ما يعلم كونه كذلك.

كما صرح به جماعة، منهم الشيخ في العدة وأبوالمكارم في الغنية.لكنه قد أسلفنا في صغرى وكبرى هذا الدليل.

وأما الثاني، فلوجود المقضتي، وهو الخطاب الواقعي الدال على وجوب الشئ أو تحريمه.ولا مانع

١١٠

الصفحة ٥١٣

منه عدا ما يتخيل من جهل المكلف به.

وهو غير قابل للمنع عقلا ولا شرعا: أما العقل، فلا يقبح مؤاخذة الجاهل التارك للواجب إذا علم أن بناء الشارع على تبليغ الاحكام على النحو المعتاد المستلزم لاختفاء بعضها لبعض الدواعي وكان قادرا على إزالة الجهل عن نفسه.

وأما النقل، فقد تقدم عدم دلالته على ذلك، وأن الظاهر منها، ولو بعد ملاحظة ما تقدم من أدلة الاحتياط، الاختصاص بالعاجز، مضافا إلى ما تقدم في بعض الاخبار المتقدمة في (الوجه الثالث) المؤيدة بغيرها.

مثل رواية تيمم عمار المتضمنة لتوبيخ النبي، صلى الله عليه وآله، إياه بقوله: (افلا صنعت هكذا)(١).

وقد يستدل أيضا بالاجماع على مؤاخذة الكفار على الفروع معهم مع أنهم جاهلون بها.

وفيه: أن معقد الاجماع تساوي الكفار والمسلمين في التكليف بالفروع كالاصول ومؤاخذتهم عليها بالشروط المقررة للتكليف.وهذا لا ينفي دعوى إشتراط العلم بالتكليف في حق المسلم والكافر.وقد خالف فيما ذكرنا صاحب المدارك تبعا لشيخه المحقق الاردبيلي، حيث جعلا عقاب الجاهل على ترك التعلم بقبح تكليف الغافل.وفهم منه بعض المدققين أنه قول بالعقاب على ترك المقدمه دون ذي المقدمة.

ويمكن توجيه كلامه بإرادة إستحقاق عقاب ذي المقدمه حين ترك المقدمة، فإن من شرب العصير العنبي غير ملتفت حين الشرب إلى إحتمال كونه حراما قبح توجه النهي إليه في هذا الزمان، لغفلته، وإنما يعاقب على النهي الموجه إليه قبل ذلك حين إلتفت إلى أن في الشريعة تكاليف لا يمكن إمتثالها إلا بعد معرفتها.فإذا ترك المعرفة عوقب عليه من حيث إفضائه إلى مخالفة تلك التكاليف.ففي زمان الارتكاب لا تكليف، لانقطاع التكاليف حتى ترك المقدمة وهي المعرفة.

ونظيره من ترك قطع المسافة في آخر أزمنة الامكان، حيث أنه يستحق أن يعاقب عليه، لافضائه إلى ترك أفعال الحج في أيامها، ولا يتوقف إستحقاق عقابه على حضور زمان أيام الحج وأفعاله.وحينئذ.

فإن أراد المشهور توجه النهي إلى الغافل حين غفلته، فلا ريب في قبحه، وإن أرادوا إستحقاق العقاب على المخالفة وإن لم يتوجه إليه نهي وقت المخالفة: فإن أرادوا أن الاستحقاق على

____________________

(١) الكافي (الفروع)، ج ٣، ص ٦٢: (يا عمار، تمعكت كما تتمعك الدابة).

١١١

الصفحة ٥١٤

المخالفة وقت المخالفة لا قبلها لعدم تحقق معصيته.

ففيه أنه لا وجه لترقب حضور زمان المخالفة لصيرورة الفعل مستحيل الوقوع لاجل تكر المقدمة مضافا إلى شهادة العقلاء قاطبة بحسن مؤاخذة من رمى سهما لا يصيب زيدا ولا يقتله إلا بعد مدة مديدة بمجرد الرمي، وإن أرادوا إستحقاق العقاب في زمان ترك المعرفة على ما يحصل بعد من المخالفة، فهو حسن لا محيص عنه، هذا.

ولكن بعض كلماتهم ظاهرة في الوجه الاول، وهو توجه النهي إلى الجاهل حين عدم التفاته، فانهم يحكمون بفساد الصلاة في المغصوب جاهلا بالحكم، لان الجاهل كالعامد وأن التحريم لا يتوقف على العلم به، ولو لا توجه النهي إليه حين المخالفة لم يكن وجه للبطلان، بل كان كناسي الغصبية.

والاعتذار عن ذلك بأنه يكفي في البطلان إجتماع الصلاة المأمور بها مع ما هو مبغوض في الواقع ومعاقب عليه ولو لم يكن منهيا عنه بالفعل مدفوع، مضافا إلى عدم صحته في نفسه، بأنهم صرحوا بصحة صلاة من توسط أرضا مغصوبة في حال الخروج عنها لعدم النهي عنه وإن كان آثما بالخروج.

[ إلا أن يفرق بين المتوسط للارض المغصوبة وبين الغافل بتحقق المبغوضية في الغافل وإمكان تعلق الكراهة الواقعية بالفعل المغفول عن حرمته مع بقاء الحكم الواقعي بالنسبة إليه، لبقاء الاختيار فيه وعدم ترخيص الشارع للفعل في مرحلة الظاهر بخلاف المتوسط، فإنه يقبح منه تعلق الكراهة الواقعية بالخروج، كالطلب الفعلي لتركه، لعدم التمكن من ترك الغصب.

ومما ذكرنا من عدم الترخيص يظهر الفرق بين جاهل الحكم وجاهل الموضوع المحكوم بصحة عبادته مع الغصب وإن فرض فيه الحرمة الواقعية.نعم يبقى الاشكال في ناسي الحكم خصوصا المقصر.

وللتأمل في حكم عبادته مجال، بل تأمل بعضهم في ناسي الموضوع، لعدم ترخيص الشرعي من جهة الغفلة، فافهم ].

ومما يؤيد إرادة المشهور للوجه الاول دون الاخير أنه يلزم حينئذ عدم العقاب في التكاليف الموقتة التي لا تتنجز على المكلف إلا بعد دخول أوقاتها.

فإذا فرض غفلة المكلف عند الاستطاعة عن تكليف الحج، والمفروض أن لا تكليف قبلها، فلا سبب هنا لاستحقاق العقاب راسا.

أما حين الاتفات إلى إمتثال تكليف الحج، فلعدم التكليف به لفقد الاستطاعة، وأما بعد الاستطاعة فلفقد الالتفات وحصول الغفلة.وكذلك الصلاة والصيام بالنسبة إلى أوقاتها.ومن هنا قد يلجأ إلى ما يأباه كلام صاحب المدارك ومن تبعه، من أن العلم واجب نفسي

١١٢

الصفحة ٥١٥

والعقاب على تركه من حيث هو، لا من حيث إفضائه إلى المعصية، أعني ترك الواجبات وفعل المحرمات المجهولة تفصيلا.

وما دل بظاهره من الادلة المتقدمة على كون وجوب تحصيل العلم من باب المقدمة محمول على بيان الحكمة في وجوبه وأن الحكمه في إيجابه لنفسه صيرورة المكلف قابلا للتكليف بالواجبات والمحرمات حتى لا يفوته منفعة التكليف بها ولا تناله مضرة إهماله عنها.فإنه قد يكون الحكمة في وجوب الشئ لنفسه صيرورة المكلف قابلا للخطاب.

بل الحكمة الظاهرة في الارشاد وتبليغ الانبياء والحجج ليست إلا صيرورة الناس عالمين قابلين للتكاليف.

لكن الانصاف: ظهور أدلة وجوب العلم في كونه واجبا غيريا، مضافا إلى ما عرفت من الاخبار في الوجه الثالث الظاهرة في المؤاخذة على نفس المخالفة.

ويمكن أن يلتزم حينئذ بإستحقاق العقاب على ترك تعلم التكاليف الواجب مقدمة وإن كانت مشروطة بشروط مفقودة حين الالتفات إلى ما يعلمه إجمالا من الواجبات المطلقة و المشروطة، لاستقرار بناء العقلاء في مثال الطومار المتقدم على عدم الفرق في المذمة على ترك التكاليف المسطورة فيه بين المطلقة والمشروطة، فتأمل.

هذا خلاصة الكلام بالنسبة إلى عقاب الجاهل التارك للفحص العالم بما يطابق البراء‌ة.

وأما الكلام في الحكم الوضعي وهي صحة العمل الصادر من الجاهل وفساده فيقع الكلام فيه تارة في المعاملات، وأخرى في العبادات.

أما المعاملات: فالمشهور فيها أن العبرة فيها بمطابقة الواقع ومخالفته، سواء وقعت عن أحد الطريقين أعني الاجتهاد والتقليد أم لا عنهما.فاتفقت مطابقته للواقع، لانها من قبيل الاسباب لامور شرعية.فالعلم والجهل لا مدخل له في تأثيرها وترتب المسببات عليها.فمن عقد على إمرأة لا يعرف تأثيره في حلية الوطئ فانكشف بعد ذلك صحته، كفى في صحته من حين وقوع.وكذا لو إنكشف فساده رتب عليه حكم الفاسد من حين الوقوع.وكذا من

١١٣

الصفحة ٥١٦

ذبح ذبيحة بفري ودجيه، فانكشف كونه صحيحا أو فاسدا، ولو رتب عليه أثر قبل الانكشاف، فحكمه في العقاب ما تقدم من كونه مراعى بمخالفة الواقع كما إذا وطئها، فإن العقاب عليه مراعى.

وأما حكمه الوضعي كما لو باع لحم تلك الذبيحة فكما ذكرنا هنا من مراعاته حتى ينكشف الحال.

* * *

ولا إشكال فيما ذكرنا بعد ملاحظة أدله سببية تلك المعاملات، ولا خلاف ظاهرا في ذلك أيضا إلا من بعض مشايخنا المعاصرين، قدس سره، حيث أطال الكلام هنا في تفصيل ذكره بعد مقدمة هي: أن العقود والايقاعات، بل كل ما جعله الشارع سببا، لهما حقائق واقعية هي ما قرره الشارع أولا، وحقائق ظاهرية هي ما يظنه المجتهد أنه ما وضعه الشارع، وهي قد تطابق الواقعية وقد تخالفها.

ولما لم يكن لنا سبيل في المسائل الاجتهادية إلى الواقعية فالسبب والشرط والمانع في حقنا هي الحقائق الظاهرية ومن البديهيات التي إنعقد عليها الاجماع بل الضرورة أن ترتب الآثار على الحقائق الظاهرية يختلف بالنسبة إلى الاشخاص.فإن ملاقاة الماء القليل للنجاسة سبب لتنجسه عند واحد دون غيره.وكذا قطع الحلقوم للتذكية والعقد الفارسي للتمليك أو الزوجية.

وحاصل ما ذكره من الفصيل: أن غير المجتهد والمقلد على ثلاثة أقسام، لانه إما غافل عن إحتمال كون ما أتى به من المعاملة مخالفا للواقع، وإما أن يكون غير غافل، بل يترك التقليد مسامحة.

فالاول: في حكم المجتهد أو المقلد، لانه يتعبد بإعتقاده كتعبد المجتهد بإجتهاده والمقلد بتقليده ما دام غافلا.

فإذا تنبه فإن وافق إعتقاده قول من يقلده فهو، وإلا كان كالمجتهد المتبدل رأيه، وقد مر حكمه في باب رجوع المجهتد.

وأما الثاني وهو المتفطن لاحتمال مخالفة ما أوقعه من المعاملة للواقع فإما أن يكون ما صدر عنه موافقا أو مخالفا للحكم القطعي الصادر من الشارع وإما أن لا يكون كذلك، بل كان حكم المعاملة ثابتا بالظنون الاجتهادية.

١١٤

الصفحة ٥١٧

أنه ثبت من الشارع قطعا أن المعاملة الفلانية سبب لكذا وليس معتقدا لخلافه حتى يتعبد بخلافه ولا دليل على التقييد في مثله بعلم وإعتقاد، ولا يقدح كونه محتملا للخلاف أو ظانا به، لانه مأمور بالفحص والسؤال.

كما أن من إعتقد حلية الخمر مع إحتمال الخلاف يحرم عليه الخمر وإن لم يسأل، لانه مأمور بالسؤال.

وأما الثاني: فالحق عدم ترتب الاثر في حقه ما دام باقيا على عدم التقليد، بل وجود المعاملة كعدمها سواء طابقت على أحد الاقوال أم لا.

إذ المفروض عدم القطع بالوضع الواقعي من الشارع بل هو مظنون للمجتهد فترتب الاثر إنما هو في حقه.

ثم إن قلد بعد صدور المعاملة المجتهد القائل بالفساد، فلا إشكال فيه، وإن قلد من يقول بترتب الاثر فالتحقيق فيه التفصيل بما مر في نقض الفتوى [ بالمعنى الثالث، فيقال ] من أن ما لم يختص أثره بمعين أو بمعينين كالطهارة والنجاسة والحلية والحرمة وأمثالها يترتب عليه الاثر.

فإذا غسل ثوبه من البول مرة بدون تقليد أو اكتفى في الذبيحة بقطع الحلقوم مثلا كذلك، ثم قلد من يقول بكفاية الاول في الطهارة والثاني في التذكية، ترتب الاثر على فعله السابق، إذ المغسول يصير طاهرا بالنسبة إلى كل من يرى ذلك.وكذا المذبوح حلالا بالنسبة إليه كل من يرى ذلك ولا يشترط كونه مقلدا حين الغسل والذبح.

وأما ما يختص أثره بمعين أو معينين، كالعقود والايقاعات وأسباب شغل الذمة وأمثالها، فلا يترتب عليه الاثر، إذ آثار هذه الامور لا بد أن تتعلق بالمعين، إذ لا معنى لسببية عقد صادر عن رجل خاص على إمرأة خاصة لحليتها على كل من يرى جواز هذا العقد ومقلديه.

وهذا الشخص حال العقد لم يكن مقلدا فلم يترتب في حقه الاثر كما تقدم، وأما بعده وإن دخل في مقلديه لكن لا يفيد لترتب الاثر في حقه، إذ المظنون لمجتهده سببية هذا العقد متصلا بصدوره للاثر ولم يصر هذا سببا كذلك.

وأما السببية المنفصلة فلا دليل عليها، إذ ليس هو مظنون المجتهد ولا دليل على كون الدخول في التقليد كإجازة المالك، والاصل في المعاملات الفساد.

مع أن عدم ترتب الاثر كان ثابتا قبل التقليد فيستصحب)(١)، إنتهى كلامه ملخصا.

____________________

(١) النراقي، مناهج الاحكام، ص ٣١١.

١١٥

الصفحة ٥١٨

والمهم في المقام بيان ما ذكره في المقدمة، من أن كل ما جعله الشارع من الاسباب لها حقائق واقعية وحقائق ظاهرية، فنقول بعد الاغماض عما هو التحقيق عندنا تبعا للمحققين، من أن التسبيبات الشرعية راجعة إلى تكاليف شرعية: - إن الاحكام الوضعية على القول بتأصلها هي الامور الواقعية المجعولة للشارع، نظير الامور الخارجية الغير المجعولة كحياة زيد وموت عمرو، ولكن الطريق إلى تلك المجعولات كغيرها قد يكون هو العلم وقد يكون هو الظن الاجتهادي أو التقليد، وكل واحد من الطرق قد يحصل قبل وجود ذي الاثر وقد يحصل معه وقد يحصل بعده.

ولا فرق بينهما في أنه بعد حصول الطريق يجب ترتيب الاثر على ذي الاثر من حين حصوله.

إذا عرفت ذلك فنقول: إذا كان العقد الصادر من الجاهل سببا للزوجية، فكل من حصل له إلى سببية هذا العقد عقلي أعني العلم أو جعلي بالظن الاجتهادي أو التقليد يترتب في حقه أحكام تلك الزوجية من غير فرق بين نفس الزوجين وغيرهما.

فإن أحكام زوجية هند لزيد ليست مختصة بهما، فقد يتعلق بثالث حكم مترتب على هذه الزوجية كأحكام المصاهرة وتوريثها منه والانفاق عليها من ماله وحرمة العقد عليها حال حياته.ولا فرق بين حصول هذا الطريق حال العقد أو قبله أو بعده.ثم إنه إذا اعتقد سببيته وهو في الواقع غير سبب فلا يترتب عليه شئ في الواقع.نعم لا يكون مكلفا بالواقع ما دام معتقدا.فإذا زال الاعتقاد رجع الامر إلى الواقع وعمل على مقتضاه.وبالجملة فحال الاسباب الشرعية حال الامور الخارجية كحياة زيد وموت عمرو.

فكما أنه لا فرق بين العلم بموت زيد بعد مضي مدة من موته وبين قيام الطريق الشرعي في وجوب ترتيب آثار الموت من حينه، فكذلك لا فرق بين حصول العلم بسببية العقد لاثر بعد صدوره وبين الظن الاجتهادي به بعد الصدور، فإن مؤدى الظن الاجتهادي الذي يكون حجة له وحكما ظاهريا في حقه هو كون هذا العقد المذكور حين صدوره محدثا لعلاقة الزوجية بين زيد وهند.والمفروض أن دليل حجية هذا الظن لا يفيد سوى كونه طريقا إلى الواقع.فأي فرق بين صدور العقد ظانا بكونه سببا وبين الظن به بعد صدوره.وإذا تأملت في ما ذكرنا عرفت مواقع النظر في كلامه المتقدم فلا نطيل بتفصيلها.

ومحصل ما ذكرنا: أن الفعل الصادر من الجاهل باق على حكمه الواقعي التكليفي والوضعي.فإذا لحقه العلم أو الظن الاجتهادي أو القليد كان هذا الطريق كاشفا حقيقيا أو جعليا عن حاله

١١٦

الصفحة ٥١٩

حين الصدور، فيعمل بمقتضى ما إنكشف.

بل حققنا في مباحث الاجتهاد والتقليد أن الفعل الصادر من المجتهد أو المقلد أيضا باق على حكمه الواقعي.

فإذا لحقه إجتهاد مخالف للسابق كانت كاشفا عن حاله حين الصدور، فيعمل بمقتضى ما انكشف خلافا لجماعة، حيث تخيلوا أن الفعل الصادر عن إجتهاد أو تقليد إذا كان مبنيا على الدوام وإستمرار الاثار، كالزوجية والملكية، لا يؤثر فيه الاجتهاد اللاحق، وتمام الكلام في محله.

وربما يتوهم: الفساد في معاملة الجاهل من حيث الشك في ترتب الاثر على ما يوقعه، فلا يتأتى منه قصد الانشاء في العقود والايقاعات.

وفيه: أن قصد الانشاء إنما يحصل بقصد تحقق مضمون الصيغة وهو الانتقال في البيع والزوجية في النكاح.

وهذا يحصل مع القطع بالفساد شرعا، فضلا عن الشك فيه.ألا ترى أن الناس يقصدون التمليك في القمار وبيع المغصوب وغيرهما من البيوع الفاسدة.

ومما ذكرنا يظهر أنه لا فرق في صحة معاملة الجاهل مع إنكشافها بعد العقد بين شكه في الصحة حين صدورها وبين قطعه بفسادها، فافهم، هذا كله حال المعاملات.

وأما العبادات: فملخص الكلام فيها: أنه إذا أوقع الجاهل عبادة عمل فيها بما يقتضيه البراء‌ة، كأن صلى بدون السورة، فإن كان حين العمل متزلزلا في صحة عمله بانيا على الاقتصار عليه في الامتثال، فلا إشكال في الفساد وإن إنكشف الصحة بعد ذلك بلا خلاف في ذلك ظاهرا، لعدم تحقق نية القربة، لان الشاك في كون المأتي به موافقا للمأمور به كيف يتقرب به وما يرى من الحكم بالصحة فيما شك في صدور الامر به على تقدير صدوره، كبعض الصلوات والاغسال التي لم يرد بها نص معتبر وإعادة بعض العبادات الصحيحة ظاهرا من باب الاحتياط فلا يشبه ما نحن فيه، لان الامر على تقدير وجوده هناك لا يمكن قصد إمتثاله إلا بهذا النحون فهو أقصى ما يمكن هناك من الامتثال، بخلاف ما نحن فيه حيث يقطع بوجود أمر من الشارع، فإن إمتثاله لا يكون إلا بإتيان ما يعلم مطابقته له وإتيان ما يحتمله لاحتمال مطابقته له لا يعد إطاعة عرفا.

وبالجملة فقصد التقرب شرط في صحة العبادة إجماعا، نصا وفتوى، وهو لا يتحقق مع الشك في كون العمل مقربا.

وأما قصد التقرب في الموارد المذكوره من الاحتياط فهو غير ممكن على وجه الجزم، والجزم فيه

١١٧

الصفحة ٥٢٠

غير معتبر إجماعا، إذ لولاه لم يتحقق إحتياط في كثير من الموارد مع رجحان الاحتياط فيها إجماعا.

وكيف كان فالعامل بما يقتضيه البراء‌ة مع الشك حين العمل لا يصح عبادته وإن انكشف مطابقته للواقع.

أما لو غفل عن ذلك أو سكن إلى قول من يسكن إليه من أبويه وأمثالهما، فعمل بإعتقاد التقرب، فهو خارج عن محل كلامنا الذي هو في عمل الجاهل الشاك قبل الفحص بما يقتضيه البراء‌ة، إذ مجرى البراء‌ة في الشاك دون الغافل او معتقد الخلاف.

وعلى أي حال، فالاقوى صحته إذا انكشف مطابقته للواقع، إذ لا يعتبر في العبادة إلا إتيان المأمور به على قصد التقرب والمفروض حصوله والعلم بمطابقته للواقع أو الظن بها من طريق معتبر غير معتبر في صحة العبادة لعدم الدليل، فإن أدلة وجوب رجوع المجتهد إلى الادلة ورجوع المقلد إلى المجتهد إنما هي لبيان الطرق الشرعية التي لا يقدح مع موافقتها مخالفة الواقع، لا لبيان إشتراط كون الواقع مأخوذا من هذه الطرق، كما لا يخفى على من لاحظها.

ثم إن مراة مطابقة العمل الصادر للواقع العلم بها أو الطريق الذي يرجع إليه المجتهد أو المقلد.

وتوهم: (أن ظن المجتهد أو فتواه لا يؤثر في الواقعة السابقة)، غلط، لان مؤدى ظنه نفس الحكم الشرعي الثابت للاعمال الماضية والمستقبلة.

وأما ترتيب الاثر على الفعل الماضي فهو بعد الرجوع، فإن فتوى المجتهد بعدم وجوب السورة كالعلم، في أن أثرها قبل العمل عدم وجوب السورة في الصلاة وبعد العمل عدم وجوب إعادة الصلاة الواقعة من غير سورة، كما تقدم نظير ذلك في المعاملات.

١١٨

الصفحة ٥٢١

ولنختم الكلام في الجاهل العامل قبل الفحص بامور الاول هل العبرة في باب المؤاخذة والعدم لموافقة الواقع الذي يعتبر مطابقة العمل له ومخالفته، وهو الواقع الاولي الثابت في كل واقعة عند المخطئة، فإذا فرضنا العصير العنبي الذي تناوله الجاهل حراما في الواقع وفرض وجود خبر معتبر يعثر عليه بعد الفحص على الحلية فيعاقب ولو عكس الامر لم يعاقب أو العبرة بالطريق الشرعي المعثور عليه بعد الفحص فيعاقب في صورة العكس دون الاصل أو يكفي مخالفة أحدهما فيعاقب في الصورتين أم يكفي في عدم المؤاخذة موافقة أحدهما فلا عقاب في الصورتين وجوه: من أن التكليف الاولي إنما هو بالواقع وليس التكليف بالطرق الظاهرية إلا من عثر عليها.

ومن أن الواقع إذا كان في علم الله سبحانه غير ممكن الوصول إليه وكان هنا طريق مجعول مؤداه بدلا عنه.

فالمكلف به هو مؤدى الطريق دون الواقع على ما هو عليه، فكيف يعاقب الله سبحانه على شرب العصير من يعلم أنه لم يعثر بعد الفحص على دليل حرمته.ومن أن كلا من الواقع ومؤدى الطريق تكليف واقعي.

أما إذا كان التكليف ثابتا في الواقع، فلانه كان قادرا على موافقة الواقع بالاحتياط وعلى إسقاطه عن نفسه بالرجوع إلى الطريق الشرعي المفروض دلالته على نفي التكليف.فإذا لم يفعل شيئا منهما فلا مانع من مؤاخذته.

وأما إذا كان التكليف ثابتا بالطريق الشرعي فلانه قد ترك موافقة خطاب مقدور على العلم به، فإن أدلة وجوب الرجوع إلى خبر العادل أو فتوى المجتهد يشمل العالم والجاهل القادر على المعرفة.

ومن عدم التكليف بالواقع لعدم القدره، وبالطريق الشرعي لكونه ثابتا في حق من اطلق عليه من باب حرمة التجري.

فالمكلف به فعلا المؤاخذ على مخالفته الواجب والحرام الواقعيان المنصوب عليهما طريق.فإذا لم يكن وجوب أو تحريم فلا مؤاخذة.نعم لو إطلع على ما يدل ظاهرا على الوجوب

١١٩

الصفحة ٥٢٢

أو التحريم الواقعي مع كونه مخالفا للواقع بالفرض.فالموافقة له لازمة من باب الانقياد وتركها تجر.وإذا لم يطلع على ذلك لتركه الفحص فلا تجري أيضا.

وأما إذا كان وجوب واقعي وكان الطريق الظاهري نافيا، فلان المفروض عدم التمكن من الوصول إلى الواقع.

فالمتضمن للتكليف متعذر الوصول إليه، والذي يمكن الوصول إليه ناف للتكليف.والاقوى هو الاول، ويظهر وجهه بالتأمل في الوجوه الاربعة.

وحاصله أن التكليف الثابت في الواقع وإن فرض تعذر الوصول إليه تفصيلا، إلا أنه لا مانع من العقاب بعد كون المكلف محتملا له قادرا عليه غير مطلع على طريق شرعي ينفيه ولا واجدا لدليل يؤمن من العقاب عليه مع بقاء تردده، وهو العقل والنقل الدالان على براء‌ة الذمة بعد الفحص والعجز عن الوصول إليه، وإن احتمل التكليف وتردد فيه.

أما إذا لم يكن التكليف ثابتا في الواقع، فلا مقتضي للعقاب من حيث الخطابات الواقعية.

ولو فرض هنا طريق ظاهري مثبت للتكليف لم يعثر عليه المكلف، لم يعاقب عليه، لان مؤدى الطريق الظاهري غير مجعول منحيث هو هو في مقابل الواقع، وإنما هو مجعول بعنوان كونه طريقا إليه.فإذا أخطأ لم يترتب عليه شئ.

ولذا لو أدى عبادة بهذا الطريق فتبين مخالفتها للواقع، لم يسقط الامر ووجب إعادتها.

نعم إذا عثر عليه المكلف لم يجز مخالفته، لان المفروض عدم العلم بمخالفته للواقع، فيكون معصية ظاهرية من حيث فرض كون دليله طريقا شرعيا إلى الواقع.فهو في الحقيقة نوع من التجري.وهذا المعنى مفقود مع عدم الاطلاع على هذا الطريق.

ووجوب رجوع العامي إلى المفتي لاجل إحراز الواجبات الواقعية، فإذا رجع وصادف الواقع وجب من حيث الواقع، وإن لم يصادف الواقع لم يكن الرجوع إليه في هذه الواقعة واجبا في الواقع ويترتب عليه آثار الوجوب ظاهرا مشروطة بعدم إنكشاف الخلاف إلا إستحقاق العقاب على الترك، فإنه يثبت واقعا من باب التجري.

ومن هنا يظهر أنه لا يتعدد العقاب مع مصادفة الواقع من جهة تعدد التكليف.

نعم لو قلنا بأن مؤديات الطرق الشرعية أحكام واقعية ثانوية لزم من ذلك إنقلاب التكليف إلى مؤديات تلك الطرق.

وكان أوجه الاحتمالات حنيئذ الثاني منها.

١٢٠