فرائد الاصول الجزء ٢

فرائد الاصول0%

فرائد الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 438

  • البداية
  • السابق
  • 438 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23296 / تحميل: 4680
الحجم الحجم الحجم
فرائد الاصول

فرائد الاصول الجزء 2

مؤلف:
العربية

الصفحة ٥٨٣

هذا الظن بمجرده من غير ضم حكم العقل بقبح التعبد بما لا يعلم في باب أصل البراء‌ة.

قال في العدة، بعدما اختار عدم إعتبار الاستصحاب في مثل المتيمم الداخل في الصلاة: (والذي يمكن أن ينتصر به طريقة إستصحاب الحال ما أومأنا إليه من أن يقال: لو كانت الحالة الثانية مغيرة للحكم الاول، لكان عليه دليل.

وإذا تتبعنا جميع الادلة فلم نجد فيها ما يدل على أن الحالة الثانية مخالفة للحالة الاولى، دل على أن حكم الحالة الاولى باق على ما كان.

فإن قيل: هذا رجوع إلى الاستدلال بطريق آخر، وذلك خارج عن إستصحاب الحال.

قيل: إن الذي نريد بإستصحاب الحال هذا الذي ذكرناه.

وأما غير ذلك فلار يكاد يحصل غرض القائل به)(١)، إنتهى.

____________________

(١) عدة الاصول، ص ٣٠٤.

١٨١

الصفحة ٥٨٤

احتج النافون بوجوه: منها: ما عن الذريعة وفي الغنية من: (أن المتعلق بالاستصحاب يثبت الحكم عند التحقيق من غير دليل.

توضيح ذلك أنهم يقولون: قد ثبت بالاجماع على من شرع في الصلاة بالتيمم وجوب المضي فيها قبل مشاهدة الماء، فيجب ان يكون على هذا الحال بعد المشاهدة.

وهذا منهم جمع بين الحالتين في حكم من غير دليل يقتضي الجمع بينهم.

لان إختلاف الحالتين لا شبهة فيه، لان المصلي غير واجد للماء في إحداهما وواجد له في الاخرى، فلا يجوز التسوية بينهما من غير دلالة.

فإذا كان الدليل لا يتناول إلا الحالة الاولى وكانت الحالة الاخرى عارية منه، لم يجز أن يثبت فيها مثل الحكم)(١)، إنتهى.

أقول: إن كان محل الكلام فيها كان الشك لتخلف وصف وجودي أو عدمي متحقق سابقا يشك في مدخليته في أصل الحكم أو بقائه، فالاستدلال المذكور متين جدا، لان المفروض عدم دلالة دليل الحكم الاول وفقد دليل عام يدل على إنسحاب كل حكم ثبت في الحالة الاولى في الحالة الثانية، لان عمدة ما ذكروه من الدليل هي الاخبار المذكورة، وقد عرفت إختصاصها بمورد يتحقق معنى النقض، وهو الشك من جهة الرافع.

نعم قد يتخيل: كون مثال التيمم من قبيل الشك من جهة الرافع، لان الشك في إنتقاض التيمم بوجدان الماء في الصلاة كانتقاضه بوجدانه قبلها، سواء قلنا بان التيمم رافع للحدث أم قلنا إنه مبيح، لان الاباحة أيضا مستمرة إلى أن تنتقض بالحدث أو يوجد الماء.ولكنه فاسد، من حيث أن وجدان الماء ليس من الروافع والنواقض.بل الفقدان الذي هو

____________________

(١) الذريعة إلى اصول الشريعة، ج ٢، ص ٨٣.

١٨٢

الصفحة ٥٨٥

وصف المكلف لما كان مأخوذا في صحة التيمم حدوثا وبقاء في الجملة، كان الوجدان رافعا لوصف الموضوع الذي هو المكلف، فهو نظير الذي يشك في زوال النجاسة بزواله.

فوجدان الماء ليس كالحدث، وإن قرن به في قوله عليه السلام، حين سئل عن جواز الصلوات المتعددة بتيمم واحد: (نعم، ما لم يحدث أو يجد ماء)، لان المراد من ذلك تحديد الحكم بزوال المقتضي أو طرو الرافع.

وكيف كان، فإن كان محل الكلام في الاستصحاب ما كان من قبيل هذا المثال، فالحق من المنكرين لما ذكروه.

وإن شمل ما كان من قبيل تمثيلهم الاخر، وهو الشك في ناقضية الخارج من غير السبيلين، قلنا إن إثبات الحكم بعد خروج الخارج ليس من غير دليل.

بل الدليل ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة، مضافا إلى إمكان التمسك بما ذكرنا في توجيه كلام المحقق في المعارج، لكن عرفت ما فيه من التأمل.

ثم إنه اجأب في المعارج عن الدليل المذكور: ب‍ (أن قوله: (عمل بغير دليل)، غير مستقيم، لان الدليل دل على ان الثابت لا يرتفع إلا برافع.

فإذا كان التقدير تقدير عدمه كان بقاء الثابت راجحا في نظر المجتهد والعمل بالراجح لازم)(١)، إنتهى.

وكأن مراده بتقدير عدم الرافع عدم العلم به، وقد عرفت ما في دعوى حصول الظن بالبقاء بمجرد ذلك، إلا أن يرجع إلى عدم الدليل بعد الفحص الموجب للظن بالعدم.

ومنها: أنه لو كان الاستصحاب حجة، لوجب فيمن علم زيدا في الدار ولم يعلم بخروجه منها أن يقطع ببقائه فيها.

وكذا كان يلزم إذا علم بأنه حي ثم انقضت مدة لم يعلم فيها بموته أن يقطع ببقائه.

وهو باطل.

وقال في محكي الذريعة: (قد ثبت في القول أن من شاهد زيدا في الدار ثم غاب عنه، لم يحسن اعتقاد إستمرار كونه في الدار إلا بدليل متجدد.

ولا يجوز إستصحاب الحالة الاولى وقد صار كونه في الدار في الزمان الثاني وقد زالت الرؤية بمنزلة كون عمرو فيها)(٢).

وأجاب في المعارج عن ذلك: ب (أنا لا ندعي القطع، لكن ندعي رجحان

____________________

(١) معارج الاصول، ص ٢٠٩.

(٢) الذريعة، ج ٢، ص ٨٣٠.

١٨٣

الصفحة ٥٨٦

الاعتقاد ببقائه.وهذا يكفي في العمل به)(١).

أقول: قد عرفت مما سبق منع حصول الظن كلية ومنع حجيته.

ومنها: أنه لو كان حجة لزم التناقض، إذا كما يقال: كان للمصلي قبل وجدان الماء المضي في صلاته، فكذا بعد الوجدان، كذلك يقال: إن وجدان الماء قبل الدخول في الصلاه كان ناقضا للتيمم فكذا بعد الدخول، أو يقال: الاشتغال بصلاة متيقنة ثابت قبل فعل هذه الصلاة، فيستصحب.

قال في المعتبر: (إستصحاب الحال ليس حجة، لان شرعية الصلاه بشرط عدم الماء لا يستلزم الشرعية معه.

ثم مثل هذا لا يسلم عن المعارض، لانك تقول: الذمة مشغولة بالصلاة قبل الاتمام فكذا بعده)(٢)، إنتهى.

وأجاب عن ذلك في المعارج بمنع وجود المعارض في كل مقام.

ووجود المعارض في الادلة المظنونة لا يوجب سقوطها، حيث يسلم عن المعارض.

أقول: لو بني على معارضة الاستصحاب بمثل إستصحاب الاشتغال لم يسلم الاستصحاب [ في أغلب الموارد، خ ل ] عن المعارض، إذا قلما ينفك مستصحب عن اثر حادث يراد ترتبه على بقائه، فيقال: الاصل عدم ذلك الاثر.

والاولى في الجواب: أنا إذا قلنا بإعتبار الاستصحاب لافادته الظن بالبقاء، فإذا ثبت ظن البقاء في شئ لزمه عقلا ظن إرتفاع كل أمر فرض كون بقاء المستصحب رافعا له أو جزء‌ا أخيرا له.فلا يعقل الظن ببقائه.

فإن الظن طهارة ماء غسل به ثوب نجس أو توضأ به محدث مستلزم عقلا لطهارة ثوبه وبدنه وبراء‌ه ذمته بالصلاه بعد تلك الطهارة، وكذا الظن بوجوب المضي في الصلاة يستلزم الظن بإرتفاع إشتغال الذمة بمجرد إتمام تلك الصلاة.

وتوهم إمكان العكس مدفوع بما سيجئ توضيحه من عدم إمكانه.

وكذا إذا قلنا بإعتباره من باب التبعد بالنسبة إلى الاثار الشرعية المترتبة على وجود المستصحب او عدمه، لما ستعرف من عدم إمكان شمول الروايات إلا للشك السببي.

ومنه يظهر حال معارضة إستصحاب وجوب المضي بإستصحاب إنتقاض التيمم بوجدان الماء.

ومنها: أنه لو كان الاستصحاب حجة لكان بينة النفي أولى وأرجح من بينة الاثبات،

____________________

(١) معارج الاصول، ص ٢٠٩.

(٢) المعتبر، ص ٢٠٩.

١٨٤

الصفحة ٥٨٧

لاعتضادها بإستصحاب النفي.

والجواب عنه: أولا إشتراك هذا الايراد بناء على ما صرح به جماعة من كون إستصحاب النفي المسمى بالبراء‌ة الاصلية معتبرا إجماعا.

اللهم إلا أن يقال: إن إعتبارها ليس لاجل الظن، أو يقال إن الاجماع إنما هو على البراء‌ة الاصلية في الاحكام الكلية.

فلو كان أحد الدليلين معتضدا بالاستصحاب أخذ به، لا في باب الشك في إشتغال ذمة الناس، فإنه من محل الخلاف في باب الاستصحاب.

وثانيا، بما ذكره جماعة، من أن تقديم بينة الاثبات لقوتها على بينة النفي وإن اعتضد بالاستصحاب.

إذ رب دليل أقوى من دليلين.

نعم لو تكافأ دليلان رجح موافق الاصل به، لكن بينة النفي لا تكافئ بينة الاثبات، إلا أن يرجع أيضا إلى نوع من الاثبات، فيتكافئان.

وحينئذ فالوجه تقديم بينة النفي لو كان الترجيح في البينات كالترجيح في الادلة منوطا بقوة الظن مطلقا أو في غير الموارد المنصوصة على الخلاف، كتقديم بينة الخارج.

وربما إستمسكوا بوجوه أخر، يظهر حالها بملاحظة ما ذكرنا في ما ذكرنا من أدلتهم، هذا ملخص الكلام في أدلة المثبتين والنافين مطلقا.

١٨٥

الصفحة ٥٨٨

بقي الكلام في حجج المفصلين

فنقول: أما التفصيل بين العدمي والوجودي بالاعتبار في الاول وعدمه في الثاني، فهو الذي ربما يستظهر من كلام التفتازاني، حيث إستظهر من عبارة العضدي في نقل الخلاف: (إن خلاف منكري الاستصحاب إنما هو في الاثبات دون النفي)(١).

وما استظهره التفتازاني لا يخلو ظهوره عن تأمل.

مع أن هنا إشكالا آخر قد اشرنا إليه في تقسيم الاستصحاب في تحرير محل النزاع، وهو أن القول بإعتبار الاستصحاب في العدميات يغني عن التكلم في إعتباره في الوجوديات، إذ ما من مستصحب وجودى إلا وفي مورده إستصحاب عدمي يلزم من الظن ببقائه الظن المستصحب الوجودي.

وأقل ما يكون عدم ضده، فإن الطهارة لا تنفك عن عدم النجاسة، والحياة لا تنفك عن عدم الموت، والوجوب أو غيره من الاحكام لا ينفك عن عدم ما عداه من أضداده، والظن ببقاء هذه الاعدام لا ينفك عن الظن ببقاء تلك الوجودات.

فلا بد من القول بإعتباره، خصوصا بناء على ما هو الظاهر المصرح به في كلام العضدي وغيره، من أن إنكار الاستصحاب لعدم إفادته الظن بالبقاء، وإن كان ظاهر بعض النافين كالسيد، قدس سره وغيره إستنادهم إلى عدم إفادته للعلم، بناء على أن عدم إعتبار الظن عندهم مفروع عنه في أخبار الآحاد، فضلا عن الظن الاستصحابي.

وبالجملة، فإنكار الاستصحاب في الوجوديات والاعتراف به في العدميات لا يستقيم بناء على إعتبار الاستصحاب من باب الظن.

نعم لو قلنا بإعتباره من باب التعبد من جهة الاخبار صح أن يقال إن ثبوت العدم بالاستصحاب لا يوجب ثبوت ما قارنه من الوجودات.فإستصحاب عدم أضداد الوجوب لايثبت

____________________

(١) تعليقة شرح مختصر الاصول (شرح الشرح)، ص ٢٨٤.

١٨٦

الصفحة ٥٨٩

الوجوب في الزمان اللاحق.

كما أن عدم ما عدا زيد من أفراد الانسان في الدار لا يثبت بإستصحابه ثبوت زيد فيها، كما سيجئ تفصيله إن شاء الله تعالى.

لكن المتكلم في الاستصحاب من باب التعبد والاخبار بين العلماء في غاية القلة إلى زمان متأخري المتأخرين مع أن بعض هؤلاء وجدناهم لا يفرقون في مقارنات المستصحب بين أفرادها ويثبتون بالاستصحاب جميع ما لا ينفك عن المستصحب على خلاف التحقيق الاتي في التنبيهات الاتية إن شاء الله.

ودعوى: (أن إعتبار الاستصحابات العدمية لعله ليس لاجل الظن حتى يسري إلى الوجوديات المقارنة معها، بل لبناء العقلاء عليها في أمورهم بمقتضى جبلتهم)، مدفوعة: بأن عمل العقلاء في معاشهم على ما لا يفيد الظن بمقصادهم والمضي في أمورهم بمحض الشك والتردد في غاية البعد، بل خلاف ما نجده من أنفسنا معاشر العقلاء.

وأضعف من ذلك أن يدعى أن المعتبر عند العقلاء من الظن الاستصحابي هو الحاصل بالشئ الوجود المحقق سابقا، فإنه لا يحصل الظن ببقائه لمجرد تحققه السابق.

والظن الحاصل ببقائه من الظن الاستصحابي المتعلق بالعدمي المقارن له غير معتبر إما مطلقا أو إذا لم يكن ذلك الوجودي من آثار العدمي المترتبة عليه من جهة الاستصحاب.

[ ولعله المراد بما حكاه التفتازاني عن الحنفية، من أن حياة الغائب بالاستصحاب إنما يصلح عندهم من جهة الاستصحاب لعدم إنتقال إرثه إلى وارثه، لا إنتقال إرث مورثه إليه.

فإن معنى ذلك أنه يعتبرون ظن عدم إنتقال مال الغائب إلى وارثه، لا إنتقال مال مورثه إليه وإن كان أحد الظنين لا ينفك عن الاخر.

خ ] ثم إن معنى عدم إعتبار الاستصحاب في الوجودي، إما عدم الحكم ببقاء المستصحب الوجودي وإن كان لترتب أمر عدمي عليه، كترتب عدم جواز تزويج إمرأة المفقود زوجها المترتب على حياته، وإما عدم ثبوت الامر الوجودي لاجل الاستصحاب وإن كان المستصحب عدميا، فلا يترتب إنتقال مال قريب الغائب إليه وإن كان مترتبا على إستصحاب عدم موته.

ولعل هذا هو المراد بما حكاه التفتازاني عن الحنفية: من أن الاستصحاب حجة في النفي دون الاثبات.

١٨٧

الصفحة ٥٩٠

الاثبات واعتباره في النفي من باب الظن.نعم قد أشرنا فيما مضى إلى أنه لو قيل بإعتباره في النفي من باب التعبد، لم يغن ذلك عن التكلم في الاستصحاب الوجودي، بناء على ما سنحققه: من أنه لا يثبت بالاستصحاب إلا آثار المستصحب المترتبة عليه شرعا.

لكن يرد على هذا: أن هذا التفصيل مساو للتفصيل المختار المتقدم ولا يفترقان فيغني أحدهما عن الاخر، إذ الشك في بقاء الاعدام السابقة من جهة الشك في تحقق الرافع لها وهي علة الوجود والشك في بقاء الامر الوجودي من جهة الشك في الرافع لا ينفك عن الشك في تحقق الرافع، فيستصحب عدمه ويترتب عليه بقاء ذلك الامر الوجودي.

وتخيل: (أن الامر الوجودي قد لا يكون من الاثار الشرعية الرافع فلا يغني العدمي عن الوجودي)، مدفوع: بأن الشك إذا فرض من جهة الرافع فيكون الاحكام الشرعية المترتبة على ذلك الامر الوجودي مستمر إلى تحقق ذلك الرافع.

فإذا حكم بعدمه عند الشك يترتب عليه شرعا جميع تلك الاحكام، فيغني ذلك عن الاستصحاب الوجودي.

وحنيئذ فيمكن أن يحتج لهذا القول: أما على عدم الحجية في الوجوديات فبما تقدم في أدلة النافين، وأما على الحجية في العدميات فبما تقدمن في أدلة المختار، من الاجماع والاستقراء والاخبار، بناء على أن الشئ المشكوك في بقائه من جهة الرافع إنما يحكم ببقائه لترتبه على إستصحاب عدم وجود الرافع، لا لاستصحابه في نفسه، فإن الشاك في بقاء الطهارة من جهة الشك في وجود الرافع يحكم بعدم الرافع، فيحكم من أجله ببقاء الطهارة.

وحينئذ فقوله عليه السلام: - (وإلا فإنه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك)، وقوله: (لانك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين)، وغيرهما، مما دل على أن اليقين لا ينقض أو لا يدفع بالشك يراد منه أن إحتمال طرو الرافع لا يعتنى به ولا يترتب عليه أثر النقض، فيكون وجوده كالعدم.

فالحكم ببقاء الطهارة السابقة من جهة إستصحاب العدم، لا من جهة إستصحابها.

والاصل في ذلك: أن الشك في بقاء الشئ إذا كان مسببا عن الشك في شئ آخر، فلا يجتمع معه في الدخول تحت عموم (لا تنقض)، سواء تعارض مقتضى اليقين السابق فيهما أم تعاضدا، بل الداخل هو الشك السببي.

ومعنى عدم الاعتناء به زوال الشك المسبب به.وسيجئ

١٨٨

الصفحة ٥٩١

ولكن يرد عليه: أنه قد يكون الامر الوجودي أمرا خارجيا كالرطوبة يترتب عليها آثار شرعية.

فإذا شك في وجود الرافع لها لم يثبت به الرطوبة حتى يترتب عليه أحكامها، لما سيجئ من أن الستصحب لا يترتب عليه إلا آثار الشرعية المترتبة عليه بلا واسطة أمر عقلي أو عادي، فيتعين حينئذ إستصحاب نفس الرطوبة.

وأصالة عدم الرافع: إن أريد بها أصالة عدم ذات الرافع، كالريح المجفف للطروبة مثلا، لم ينفع في الاحكام المترتبة شرعا على نفس الرطوبة، بناء على عدم إعتبار الاصل المثبت، كما سيجئ.

وإن أريد بها أصالة عدمه من حيث وصف الرافعية، ومرجعها إلى أصالة عدم إرتفاع الرطوبة، فهي وإن لم يكن يترتب عليها إلا الاحكام الشرعية للرطوبة، لكنها عبارة أخرى عن إستصحاب نفس الرطوبة.

فالانصاف: إفتراق القولين في هذا القسم.

١٨٩

الصفحة ٥٩٢

حجة من أنكر إعتبار الاستصحاب في الامور الخارجية ما ذكره المحقق الخوانساري في شرح الدروس وحكاه في حاشية له عند كلام الشهيد: (ويحرم إستعمال الماء النجس والمشتبه)، على ما حكاه شارح الوافية واستظهره المحقق القمي، قدس سره، من السبزواري.

من: (أن الاخبار لا يظهر شمولها للامور الخارجية، مثل رطوبة الثوب ونحوها، إذ يبعد أن يكون مرادهم بيان الحكم في مثل هذه الامور الذي ليس حكما شرعيا وإن كان يمكن أن يصير منشأ لحكم شرعي، وهذا ما يقال: إن الاستصحاب في الامور الخارجية لا عبرة به)(١)، إنتهى.

وفيه: أما أولا، فبالنقص بالاحكام الجزئيه، مثل طهارة الثوب من حيث عدم ملاقاته للنجاسة ونجاسته من حيث ملاقاته لها، فإن بيانها أيضا ليس من وظيفة الامام، عليه السلام، كما أنه ليس من وظيفة المجتهد ولا يجوز التقليد فيها، وإنما وظيفته من حيث كونه مبينا للشرع، بيان الاحكام الكلية المشتبهة على الرعية.

وأما ثانيا، فبالحل، توضيحه: أن بيان الحكم الجزئي في المشتبهات الخارجية ليس وظيفة للشارع ولا لاحد من قبله.

نعم حكم المشتبه حكمه الجزئي، كمشكوك النجاسة أو الحرمة، حكم شرعي كلي ليس بيانه إلا وظيفة للشارع.

وكذلك الموضوع الخارجي كرطوبة الثوب.فإن بيان ثبوتها وإنتفائها في الواقع ليس وظيفة للشارع.

نعم حكم الموضوع المشتبه في الخارج، كالمايع المردد بين الخل والخمر حكم كلي ليس بيانه وظيفة إلا للشارع، وقد قال الصادق عليه السلام: (كل شئ لك حلال حتى تعلم أنه حرام، وذلك مثل الثوب يكون عليك)، إلى آخره.

وقوله في خبر

____________________

(١) القوانين المحكمة، ج ٢، ص ٦٦ مشارق الشموس في شرح الدروس، ص ٢٨١.

١٩٠

الصفحة ٥٩٣

آخر: (سأخبرك عن الجبن)، وغيره.

ولعل التوهم نشأ من تخيل أن ظاهر (لا تنقض) إبقاء نفس المتيقن السابق، وليس إبقاء الرطوبة مما يقبل حكم الشارع بوجوبه.

ويدفعه بعد النقض بالطهارة المتيقنة سابقا، فإن إبقاء‌ها ليس من الافعال الاختيارية القابلة للايجاب -: أن المراد من الابقاء وعدم النقض هو ترتيب الاثار الشرعية المترتبة على الميتقن.

فمعنى إستصحاب الرطوبة ترتيب آثارها الشرعية في زمان الشك، نظير إستصحاب الطهارة.

فطهارة الثوب ورطوبته سيان في عدم قابلية الحكم بإبقائهما عند الشك وفي قابلية الحكم بترتيب آثارهما الشرعية في زمان الشك.

فالتفصيل بين كون المستصحب من قبيل رطوبة الثوب وكونه من قبيل طهارته، لعدم شمول أدلة (لا تنقض) للاول، في غاية الضعف.

نعم يبقى في المقام أن إستصحاب الامور الخارجية إذا كان معناه ترتيب آثارها الشرعية لا يظهر له فائده، لان تلك الاثار المترتبة عليه كانت مشاركة معه في اليقين السابق.

فإستصحابها يغني عن إستصحاب نفس الموضوع، فإن إستصحاب حرمة مال زيد الغائب وزوجته يغني عن إستصحاب حياته إذا فرض أن معنى إبقاء الحياة ترتيب آثارها الشرعية.

نعم قد يحتاج إجراء الاستصحاب في آثاره إلى أدنى تدبر، كما في الاثار الغير المشاركة معه في اليقين السابق، مثل توريث الغائب من قريبه المتوفى في زمان الشك في حياة الغائب، فإن توريث غير متحقق حال اليقينبحياة الغائب، لعدم موت قريبه بعد.

لكن مقتضى التدبر إجراء الاستصحاب على وجه التعليق، بأن يقال: لو مات قريبه قبل الشك في حياته لورث منه، وبعبارة أخرى: موت قريبه قبل ذلك كان ملازما لارثه منه ولم يعلم إنتفاء الملازمة فيستصحب.

وبالجملة، الاثار المرتبة على الموضوع الخارجي، منها ما يجتمع معه في زمان اليقين به، ومنها ما لا يجتمع معه في ذلك الزمان.

لكن عدم الترتب فعلا في ذلك الرمان، مع فرض كونه من آثاره شرعا، ليس إلا لمانع في ذلك الزمان أو لعدم شرط، فيصدق في ذلك الزمان أنه لولا ذلك المانع أو عدم الشرط لترتب الاثار.

فإذا فقد المانع الموجود، أو وجد الشرط المفقود، وشك في الترتب من جهة الشك في بقاء ذلك الامر الخارجي، حكم بإستصحاب ذلك الترتب الشأني، وسيأتي لذلك مزيد توضيح في بعض التنبيهات الاتية، هذا.

ولكن التحقيق أن في موضع جريان الاستصحاب في الامر الخارجي لا يجري إستصحاب

١٩١

الصفحة ٥٩٤

الاثر المترتب عليه.فإذا شك في بقاء حياة زيد فلا سبيل إلى إثبات آثار حياته إلا بحكم الشارع بعدم جواز نقض حياته بمعنى وجوب ترتيب الاثار الشرعيه المترتبة على الشخص الحي، لا يغني عن ذلك إجراء الاستصحاب في نفس الاثار، بأن يقال بان حرمة ماله وزوجته كانت متيقنة.

فيحرم نقض اليقين بالشك، لان حرمة المال والزوجة إنما تترتبان في السابق على الشخص الحي بوصف أنه حي.

فالحياة داخل في موضوع المستصحب، ولا أقل من الشك في ذلك، فالموضوع مشكوك في الزمن اللاحق وسيجئ إشتراط القطع ببقاء الموضوع في الاستصحاب.

وإستصحاب الحياة لاحراز الموضوع في إستصحاب الاثار غلط، لان معنى إستصحاب الموضوع ترتيب آثاره الشرعية.

فتحقق أن إستصحاب الاثار نفسها غير صحيح لعدم إحراز الموضوع، وإستصحاب الموضوع كاف في إثبات الاثار.

وقد مر في مستند التفصيل السابق وسيجئ في إشتراط بقاء الموضوع وفي تعارض الاستصحابين أن الشك المسبب عن شك آخر لا يجامع معه في الدخول تحت عموم (لا تنقض)، بل الداخل هو الشك السببي.

ومعنى عدم الاعتناء به وعدم جعله ناقضا لليقين زوال الشك المسبب به، فافهم.

١٩٢

الصفحة ٥٩٥

وأما القول الخامس وهو التفصيل بين الحكم الشرعي الكلي وبين غيره.

فلا يعتبر في الاول، فهو المصرح به في كلام المحدث الاسترابادي، لكنه صرح بإستثناء إستصحاب عدم النسخ مدعيا الاجماع بل الضرورة على إعتباره.

قال في محكي فوائده المكية بعد ذكر أخبار الاستصحاب ما لفظه: (لا يقال: هذه القاعدة تقتضي جواز العمل بالاستصحاب في أحكام الله تعالى، كما ذهب إليه المفيد والعلامة من أصحابنا والشافعية قاطبة.

وتقتضي بطلان قول أكثر علمائنا والحنفية بعدم جواز العمل به.

لانا نقول: هذه شبهة عجز عن جوابها كثير من فحول الاوصوليين والفقهاء.

وقد أجبنا عنها في الفوائد المدنية تارة، بما ملخصه: إن صور الاستصحاب المختلف فيها عند النظر الدقيق والتحقيق راجعة إلى أنه إذا ثبت حكم بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته نجريه في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه.

ومن المعلوم أنه إذا تبدل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد إختلف موضوع المسألتين.

فالذي سموه إستصحابا راجع في الحقيقة إلى إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر متحد معه في الذات مختلف معه في الصفات.

ومن المعلوم عند الحكيم أن هذا المعنى غير معتبر شرعا وأن القاعدة الشريفة المذكورة غير شاملة له.

وتارة، بأن إستصحاب الحكم الشرعي، وكذا الاصل أي الحالة السابقة التي إذا خلي الشئ ونفسه كان عليها إنما يعمل بهما ما لم يظهر مخرج عنهما.

وقد

١٩٣

الصفحة ٥٩٦

ظهر في محل النزاع لتواتر الاخبار بأن كل ما يحتاج إليه الامة ورد فيه خطاب وحكم حتى أرض الخدش، كثير مما ورد مخزون عند أهل الذكر، عليهم السلام، فعلم أنه ورد في محل النزاع أحكام لا نعلمها بعينها وتواتر الاخبار بحصر المسائل في ثلاث بين رشده وبين غيه، أي مقطوع فيه ذلك لا ريب فيه، وما ليس هذا ولا ذاك، وبوجوب التوقف في الثالث)(١)، إنتهى.

أقول: لا يخفى أن ما ذكره أولا قد إستدل به كل من نفى الاستصحاب من أصحابنا وأوضحوا ذلك غاية الايضاح، كما يظهر لمن راجع الذريعة والعدة والغنية وغيرها.

إلا أنهم منعوا عن إثبات الحكم الثابت لموضوع في زمان له بعينه في زمان آخر من دون تغيير وإختلاف في صفة الموضوع سابقا ولاحقا.

كما يشهدإ له تمثيلهم بعدم الاعتماد على حياة زيد أو بقاء البلد على ساحل البحر بعد الغيبة عنهم.

وأهملوا قاعدة البناء على اليقين السابق، لعدم دلالة العقل عليه ولا النقل، بناء على عدم إلتفاتهم إلى الاخبار المذكورة، لقصور دلالتها عندهم ببعض ما أشرنا إليه سابقا، أو لغفلتهم عنها على أبعد الاحتمالات من ساحة من هو دونهم في الفضل.

وهذا المحدث قد سلم دلالة الاخبار على وجوب البناء على اليقين السابق وحرمة نقضه مع إتحاد الموضوع.

إلا أنه ادعى تغاير موضوع المسأله المتيقنة والمسألة المشكوكة، فالحكم فيها بالحكم السابق ليس بناء على اليقين السابق، وعدم الحكم به ليس نقضا له.

فيرد عليه، أولا، النقض بالموارد التي ادعي الاجماع والضرورة على إعتبار الاستصحاب فيها، كما حكيناها عنه سابقا.

فإن منها إستصحاب الليل والنهار، فإن كون الزمان المشكوك ليلا أو نهارا أشد تغايرا وإختلافا، مع كون الزمان السابق كذلك من ثبوت خيار الغبن أو الشفعة في الزمان المشكوك وثبوتهما في الزمان السابق.

ولو أريد من الليل والنهار طلوع الفجر وغروب الشمس لا نفس الزمان، كان الامر كذلك وإن كان دون الاول في الظهور، لان مرجع الطلوع والغروب إلى الحركة الحادثة شيئا فشيئا.

ولو أريد إستصحاب أحكامهما، مثل جواز الاكل والشرب وحرمتهما، ففيه: أن ثبوتهما في تحقق السابق كان منوطا ومتعلقا في الادلة الشرعية بزماني الليل والنها.

فاجراؤهما مع الشك في تحقق

____________________

(١) الفوائد المكية، ص، مخطوط.

١٩٤

الصفحة ٥٩٧

الموضوع بمنزلة ما أنكره على القائلين بالاستصحاب من إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

وبما ذكرنا يظهر ورود النقض المذكور عليه في سائر الامثلة.

فأي فرق بين الشك في تحقق الحدث أو الخبث بعد الطهارة، الذي جعل الاستصحاب فيه من ضروريات الدين وبين الشك في كون المذي محكوما شرعا برافعية الطهارة، فإن الطهارة السابقة في كل منهما كان منوطا بعدم تحقق الرافع.وهذا المناط في زمان الشك غير متحقق.فكيد يسري حكم حالة وجود المناط إليه.

وثانيا، بالحل: بأن إتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة الذي يتوقف صدق البناء على اليقين ونقضه بالشك عليه أمر راجع إلى العرف، لانه المحكم في باب الالفاظ.

ومن المعلوم أن الخيار أو الشفعة إذا ثبت في الزمان الاول وشك في ثبوتهما في الزمان الثاني يصدق عرفا أن القضية المتيقنة في الزمان الاول بعينها مشكوكة في الزمان الثاني.

نعم قد يتحقق في بعض الموارد الشك في إحراز الموضوع للشك في مدخلية الحالة المتبدلة فيه.فلا بد من التأمل التام، فإنه من أعظم المزال في هذا المقام.وأما ما ذكره ثانيا، من معارضة قاعدة اليقين والاصل بما دل على التوقف.

ففيه مضافا إلى ما ذكرنا من ضعف دلالة الاخبار على وجوب الاحتياط.

وإنما يدل على وجوب التحرز عن موارد الهلكة الدنيوية أو الاخروية، والاخيرة مختصة بموارد حكم العقل بوجوب الاحتياط من جهة القطع الاحتياط على تقدير دلالة الاخبار عليه أيضا، كما سيجئ في مسألة تعارض الاستصحاب مع سائ‍ الاصول إن شاء الله.

ثم إن ما ذكره من أنه شبهة عجز عن جوابها الفحول مما لا يخفى ما فيه إذ أي أصولي أو فقيه تعرض لهذه الاخبار وورود هذه الشبهة فعجز عن جوابها؟ مع أن لم يذكر في الجواب الاول عنها إلا ما اشتهر بين النافين للاستصحاب، ولا في الجواب الثاني إلا ما اشتهر بين الاخباريين من وجوب التوقف والاحتياط في الشبهة الحكمية.

١٩٥

الصفحة ٥٩٨

حجة القول السادس على تقدير وجود القائل به، على ما سبق التأمل فيه، تظهر مع جوابها مما تقدم في القولين السابقين.

حجية القول السابع الذي نسبه الفاضل التوني، قدس سره، إلى نفسه وإن لم يلزم مما حققه في كلامه ما ذكره في كلام طويل له، فإنه بعد الاشارة إلى الخلاف في المسألة قال: (ولتحقيق المقام لا بد من إيراد كلام يتضح به حقيقة الحال.

فنقول: الاحكام الشرعيه تنقسم إلى ستة أقسام: الاول والثاني الاحكام الاقتضائية المطلوب فيها الفعل وهي الواجب والمندوب.

والثالث والرابع الاحكام الاقتضائية المطلوب فيها الترك وهي الحرام والمكروه.

والخامس الاحكام التخييرية الدالة على الاباحة.

والسادس الاحكام الوضعية، كالحكم على الشئ بأنه سبب لامر أو شرط له أو مانع له.

والمضايقة بمنع أن الخطاب الوضعي داخل في الحكم الشرعي مما لا يضر فيما نحن بصدده.

إذا عرفت هذا، فإذا فورد أمر بطلب شئ فلا يخلو إما أن يكون موقتا أم لا.

وعلى الاول يكون وجوب ذلك الشئ أو ندبه في كل جزء من أجزاء الوقت ثابتا بذلك الامر.

فالتمسك في ثبوت ذلك الحكم في الزمان الثاني بالنص، لا بالثبوت في الزمان الاول حتى يكون إستصحابا، وهو ظاهر.

وعلى الثاني أيضا كذلك إن قلنا بإفادة المر التكرار وإلا فذمة المكلف

١٩٦

الصفحة ٥٩٩

مشغولة حتى يأتي به في أي زمان كان، ونسبة أجزاء الزمان إليه نسبة واحدة في كونه أداء في كل جزء منها، سواء قلنا بأن الامر للفوارم لا.

والتوهم، بأن الامر إذا كان للفور يكون من قبيل الموقت المضيق، إشتباه غير خفى على المتأمل.

فهذا أيضا ليس من الاستصحاب في شئ.

ولا يمكن أن يقال: إثبات الحكم في القسم الاول فيما بعد وقته من الاستصحاب، فإن هذا لم يقل به أحد ولا يجوز إجماعا.

وكذا الكلام في النهي، بل هو الولى بعدم توهم الاستصحاب فيه، لان مطلقه يفيد التكرار، والتخييري أيضا كذلك.

فالاحكام التكليفية الخمسة المجردة عن الاحكام الوضعية لا يتصور فيها الاستدلال بالاستصحاب.

وأما الاحكام الوضعية، فإذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من الاحكام الخمسة كالدلوك لوجوب الظهر، والكسوف لوجوب صلاته، والزلزلة لصلاتها، والايجاب والقبول لاباحة التصرفات والاستمتاعات في الملك والنكاح، وفيه لتحريم أم الزوجة، والحيض والنفاس لتحريم الصوم والصلاه، إلى غير ذلك فينبغي أن ينظر إلى كيفية سببية السبب: هل هي على الاطلاق، كما في الايجاب والقبول، فإن سببيته على نحو خاص، وهو الدوام إلى أن يتحقق المزيل، وكذا الزلزلة، أو في وقت معين، كالدلوك ونحوه مما لم يكن السبب وقتا، وكالكسوف والحيض ونحوهما مما يكون السبب وقتا للحكم.

فإن السببية في هذه الاشياء على نحو آخر، فإنها أسباب للحكم في أوقات معينة.

وجميع ذلك ليس من الاستصحاب في شئ، فإن ثبوت الحكم في شئ من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ليس تابعا للثبوت في جزء آخر، بل نسبة السبب في محل إقتضاء الحكم في كل جزء نسبة واحدة.وكذلك الكلام في الشرط والمانع.

فظهر مما ذكرناه: أن الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلا في الاحكام الوضعية، اعني الاسباب والشرائط والموانع للاحكام الخمسة من حيث أنها كذلك، ووقوعه في الاحكام الخمسة إنما هو بتبعيتها.

كما يقال في الماء الكر المتغير بالجناسة إذا زال تغيره من قبل نفسه، فأنه يجب

١٩٧

الصفحة ٦٠٠

الاجتناب عنه في الصلاة، لوجوبه قيل زوال تغيره، فإن مرجعه إلى النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيره، فكذلك يكون بعده.

ويقال في المتيمم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة: إن صلاته كانت صحيحة قبل الوجدان.

فكذا بعده، أي كان مكلفا ومأمورا بالصلاة بتيممه قبله، فكذا بعده، فإن مرجعه إلى أنه كان متطهرا قبل وجدان الماء فكذا بعده، والطهارة من الشروط.

فالحق مع قطع النظر عن الروايات عدم حجية الاستصحاب، لان العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت لا يقتضي العلم بل ولا الظن بوجوده في غير ذلك الوقت، كما لا يخفى فكيف يكون الحكم المعلق عليه ثابتا في غير ذلك الوقت.

فالذي يقتضيه النظر، دون ملاحظة الروايات، أنه إذا علم تحقق العلاقة الوضعية تعلق الحكم بالمكلف.

وإذا زال ذلك العلم بطرو الشك بل الظن أيضا يتوقف عن الحكم بثبوت ذلك الحكم الثابت أولا، إلا أن الظاهر من الاخبار أنه إذا علم وجود شئ، فإنه يحكم به حتى يعلم زواله)(١)، إنتهى كلامه رفع مقامه.

* * *

وفي كلامه أنظار يتوقف بيانها على ذكر كل فقرة هي مورد للنظر، ثم توضيح النظر فيه بما يخطر في الذهن القاصر، فنقول: قوله أولا: (والمضايقة بمنع أن الخطاب الوضعي داخل في الحكم الشرعي لا يضر فيما نحن بصدده).

فيه: أن المنع المذكور لا يضر فيما يلزم من تحقيقه الذي ذكره، وهو إعتبار الاستصحاب في موضوعات الاحكام الوضعية، أعني نفس السبب والشرط والمانع، لا في التفصيل بين الاحكام الوضعية، أعني سببية السبب وشرطية الشرط والاحكام التكليفية.

وكيف لا يضر في هذا التفصيل منع كون الحكم الوضعي حكما مستقلا، وتسليم أنه أمر إعتباري منتزع من التكليف تابع له حدوثا وبقاء، وهل يعقل التفصيل مع هذا المنع؟

____________________

(١) الوافية، ص، مخطوط.

١٩٨

الصفحة ٦٠١

[ الحكم الوضعي حم مستقل أو مرجعه إلى الحكم التكليفي ] ثم إنه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان أن الحكم الوضعي حكم مستقل مجعول كما إشتهر في ألسنة جماعة أولا وإنما مرجعه إلى الحكم التكليفي، فنقول: إن المشهور: كما في شرح الزبده، بل الذي إستقر عليه رأي المحققين، كما في شرح الوافية للسيد صدر الدين أن الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي وأن كون الشئ سببا لواجب هو الحكم بوجوب ذلك الواجب عند حصول ذلك الشئ.

فمعنى قولنا: (إتلاف الصبي سبب لضمانه)، أنه يجب عليه غرامة المثل أو القيمة إذا إجتمع فيه شرائط التكليف من البلوغ والعقل واليسار وغيرها.

فاذا خاطب الشارع البالغ العاقل الموسر بقوله: (إغرم ما أتلفته في حال صغرك)، أنتزع من هذا الخطاب معنى يعبر عنه بسببية الاتلاف للضمان.

ويقال: إنه ضامن، بمعنى أنه يجب عليه الغرامة عند إجتماع شرائط التكليف.

ولم يدع أحد إرجاع الحكم الوضعي إلى التكليف الفعلي المنجز حال إستناد الحكم الوضعي إلى الشخص، حتى يدفع ذلك بما ذكره بعض من غفل عن مراد النافين، من أنه قد يتحقق الحكم الوضعي في مورد غير قابل للحكم التكليفي، كالصبي والنائم وشبههما.

وكذا الكلام في غير السبب، فإن شرطية الطهارة للصلاة ليست مجعولة بجعل مغير لانشاء وجوب الصلاة الواقعة حال الطهارة.

وكذا مانعية النجاسة ليست إلا منتزعة من المنع عن الصلاة في النجس، وكذا الجزئية منزعة من الامر بالمركب.

والعجب ممن إدعى بداهة بطلان ما ذكرنا مع ما عرفت من أنه المشهور والذي إستقر عليه رأي المحققين فقال، قدس سره، في شرحه على الوافية، تعريضا على السيد الصدر: (وأما من زعم أن الحكم الوضعي عين الحكم التكليفي، على ما هو ظاهر قولهم (إن كون الشئ سببا لواجب هو الحكم بوجوب عند حصول ذلك الشئ)، فبطلانه غني عن البيان، إذ الفرق بين الوضع التكليف مما لا يخفى على من له أدنى مسكة، والتكاليف المبنية على الوضع غير الوضع.

والكلام إنما هو في نفس الوضع والجعل والتقيرير.

وبالجملة، فنقول الشارع: (دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة والحيض مانع منها)، خطاب وضعي وإن استتبع

١٩٩

الصفحة ٦٠٢

تكليفا وهو إيجاب الصلاة عند الزوال وتحريمها عند الحيض.

كما أن قوله تعالى: أقم الصلاة لدلوك الشمس)، [ وقوله صلى الله عليه وآله ]: (دعي الصلاة أيام أقرائك)، خطاب تكليفي وإن إستتبع وضعا.وهو كون الدلوك سببا والاقراء مانعا.

والحاصل أن هناك أمرين متباينين، كل منهما فرد للحكم، فلا يغني إستتباع أحدهما للاخر عن مراعاته وإحتسابه في عداد الاحكام)(١)، إنتهى كلامه رفع مقامه.

أقول: لو فرض نفسه حاكما بحكم تكليفي ووضعي بالنسبة إلى عبده لوجد من نفسه صدق ما ذكرنا، فإنه إذا قال لعبده: (أكرم زيدا إن جاء‌ك)، فهل يجد المولى من نفسه أنه أنشأ إنشائين وجعل أمرين، أحدهما وجوب إكرام زيد عند مجيئه والاخر كون مجيئه سببا لوجوب إكرامه، أو أن الثاني مفهوم منتزع من الاول لا يحتاج إلى جعل مغير لجعله ولا إلى بيان مخالف لبيانه.

ولهذا إشتهر في ألسنة الفقهاء سببية الدلوك ومانعية الحيض، ولم يرد من الشارع إلا إنشاء طلب الصلاة عند الاول وطلب تركها عند الثاني.

فإن أراد تباينها مفهوما فهو أظهر من أن يخفى.

كيف وهما محمولان مختلفا الموضوع، وإن أراد كونهما مجعولين بجعلين فالحوالة على الوجدان لا البرهان، وكذا لو أراد كونهما مجعولين بجعل واحد، فإن الوجدان شاهد على أن السببية والمانعية في المثالين إعتباران منتزعان، كالمسببية والمشروطية والممنوعية، مع أن قول الشارع: (دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة)، ليس جعلا للايجاب إستتباعا، كما ذكره، بل هو إخبار عن تحقق الوجوب عند الدلوك.

هذا كله، مضافا إلى أنه لا معنى لكون السببيه مجعولة فيما نحن فيه حتى يتكلم أنه بجعل مستقل أو لا.

فأنا لا نعقل من جعل الدلوك سببا للوجوب، خصوصا عند من لا يرى، كالاشاعرة، الاحكام منوطة بالمصالح والمفاسد الموجودة في أفعال، إلا إنشاء الوجوب عند الدلوك.

وإلا فالسببية القائمة بالدلوك ليست من لواز ذاته، بأن يكون فيه معنى يقتضي إيجاب الشارع فعلا عند حصوله، ولو كانت لم تكن مجعولة من الشارع ولا نعقلها أيضا صفة أوجدها الشارع فيه بإعتبار الفصول المنوعه ولا الخصوصيات المصنفة أو المشخصة.

هذا كله في السبب والشرط والمانع والجزء.

____________________

(١) شرح الوافيه، ص، مخطوط.

٢٠٠