فرائد الاصول الجزء ٢

فرائد الاصول0%

فرائد الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 438

  • البداية
  • السابق
  • 438 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23306 / تحميل: 4681
الحجم الحجم الحجم
فرائد الاصول

فرائد الاصول الجزء 2

مؤلف:
العربية

الصفحة ٦٨٣

عليها تخصيصا، فالاستصحاب في ذلك متمم لحكم ذلك الدليل ومجريه في الزمان اللاحق.

فكذلك الاستصحاب بالنسبة إلى العمومات الاجتهادية، فإنه إذا خرج المستصحب من العموم بدليله، والمفروض أن الاستصحاب مجر لحكم ذلك الدليل في اللاحق، فكأنه أيضا مخصص، يعني موجب للخروج عن حكم العام، فافهم.

٢٨١

الصفحة ٦٨٤

الامر الحادي عشر قد أجرى بعضهم الاستصحاب في ما إذا تعذر بعض أجزاء المركب فيستصحب وجوب الباقي الممكن.

وهو بظاهره، كما صرح به بعض المحققين، غير صحيح، لان الثابت سابقا قبل تعذر بعض الاجزاء وجوب هذه الاجزاء الباقية تبعا لوجوب الكل ومن باب المقدمة، وهو مرتفع قطعا.

والذي يراد ثبوته بعد تعذر البعض هو الوجوب النفسي الاستقلالي، وهو معلوم الانتفاء سابقا.

ويمكن توجيهه، بناء على ما عرفت من جواز إبقاء القدر المشترك في بعض الموارد ولو علم بإنتفاء الفرد المشخص له سابقا، بأن المستصحب هو مطلق المطلوبية المتحققة سابقا لهذا الجزء ولو في ضمن مطلوبية الكل.

إلا أن العرف لا يرونها مغايرة في الخارج لمطلوبية الجزء في نفسه.

ويمكن توجيهه بوجه آخر، يستصحب معه الوجوب النفسي، بأن يقال: إن معروض الوجوب سابقا والمشار إليه بقولنا: (هذا الفعل كان واجبا) هو الباقي، إلا أنه يشك في مدخلية الجزء المفقود في إتصافه بالوجوب النفسي مطلقا أو في إختصاص المدخلية بحال الاختيار، فيكون محل الوجوب النفسي هو الباقي.

ووجود ذلك الجزء المفقود وعدمه عند العرف في حكم الحالات المتبادلة لذلك الواجب المشكوك في مدخلتيها.

وهذا نظير إستصحاب الكرية في ماء نقص منه مقدار فشك في بقاسه على الكرية، فيقال: هذا الماء كان كرا، والاصل بقاء كريته، مع أن هذا الشخص الموجود الباقي لم يعلم بكريته.وكذا إستصحاب القلة في ماء زيد عليه مقدار.

وهنا توجيه ثالث، وهو إستصحاب الوجوب النفسي المردد بين تعلقه سابقا بالمركب على أن يكون المفقود جزء له مطلقا فيسقط الوجوب بتعذره، وبين تعلقه بالمركب على أن يكون الجزء جزء إختياريا يبقى التكليف بعد تعذره، والاصل بقاؤه، فيثبت به تعلقه بالمركب على الوجه الثاني.

٢٨٢

الصفحة ٦٨٥

وهذا نظير إجراء إستصحاب وجود الكر في هذا الاناء لاثبات كرية الباقي فيه.

ويظهر من فائدة مخالفة التوجيهات فيما إذا لم يبق إلا قليل من أجزاء المركبن فإنه يجري التوجيه الاول والثالث دون الثاني، لان العرف لا يساعد على فرض الموضوع بين هذا الموجود وبين جامع الكل ولو مسامحة، لان هذه المسامحة مختصة بمعظم الاجزاء الفاقد لما لا يقدح في إثبات الاسم والحكم له وفي ما لو كان المفقود شرطا، فإنه لا يجري الاستصحاب على الاول ويجري على الاخرين.

[ وحيث أن بناء العرف على الظاهر على عدم إجراء الاستصحاب في فاقد الشرط لفاقد الجزء في هذا الحكم أمكن جعله كاشفا عن عدم إستقامة التوجيه الاول.] وحيث أن بناء العرف على عدم إجراء الاستصحاب في فاقد معظم الاجزاء وإجرائه في فاقد الشرط كشف عن فساد التوجيه الاول، وحيث أن بناء‌هم على إستصحاب نفس الكرية دون الذات المتصفة بها كشف عن صحه الاول من الاخيرين وقد عرفت أنه لولا المسامحة العرفية في المستصحب وموضوعه لم يتم شئ من الوجهين.

وأما الوجه الثالث فهو مبني على الاصل المثبت وستعرف بطلانه، فتعين الوجه الثاني.

لكن الاشكال بعد في الاعتماد على هذه المسامحة العرفية المذكورة.إلا أن الظاهر أن إستصحاب الكرية من المسلمات عند القائلين بالاستصحاب.والظاهر عدم الفرق.

ثم إنه لا فرق، بناء على جريان الاستصحاب، بين تعذر الجزء بعد تنجز التلكيف، كما إذا زالت الشمس، متمكنا من جميع الاجزاء ففقد بعضها، وبين ما إذا فقده قبل الزوال، لان المستصحب هو الوجوب النوعي المنجز على تقدير إجتماع شرائطه، لا الشخصي المتوقف على تحقق الشرائط فعلا، نعم هنا اوضح.

وكذا لا فرق، بناء على عدم الجريان، بين ثبوت جزئية المفقود بالدليل الاجتهادي وبين ثبوتها بقاعدة الاشتغال.

وربما يتخيل: أنه لا إشكال في الاستصحاب في القسم الثاني، لان وجوب الاتيان بذلك الجزء لم يكن إلا لوجوب الخروج عن عهدة التكليف.وهذا بعينه مقتض لوجوب الاتيان بالباقي بعدذ تعذر الجزء.

وفيه: ما تقدم، من أن وجوب الخروج عن عهدة التكليف بالمجمل إنما هو بحكم العقل لا بالاستصحاب، والاستصحاب لا ينفع إلا بناء على الاصل المثبت.

ولو قلنا به لم يفرق بين ثبوت الجزء بالدليل أو بالاصل، لما عرفت من جريان إستصحاب بقاء أصل التكليف وإن كان بينهما

٢٨٣

الصفحة ٦٨٦

فرق من حيث أن إستصحاب التكليف في المقام من قبيل إستصحاب الكلي المتحقق سابقا في ضمن فرد معين بعد العلم بإرتفاع ذلك الفرد المعين وفي إستصحاب الاشتغال من قبيل إستصحاب الكلي المتحقق في ضمن المردد بين المرتفع والباقي، وقد عرفت عدم جريان الاستصحاب في الصورة الاولى، إلا في بعض مواردها بمساعدة العرف.

ثم اعلم أنه نسب إلى الفاضلين، قدس سرهما، التمسك بالاستصحاب في هذه المسألة وفي مسأله الاقطع.

والمذكور في المعتبر والمنتهى: (الاستدلال على وجوب الغسل غسل ما بقي من اليد المقطوعة مما دون المرفق أن غسل الجميع بتقدير وجود ذلك البعض واجب.

فإذا زال البعض لم يسقط الاخر)(١)، إنتهى.

وهذا الاستدلال يحتمل أن يراد منه مفاد قاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور)، ولذا أبدله في الذكرى بنفس القاعدة، ويحتمل أن يراد منه الاستصحاب، بأن يراد منه هذا الموجود بتقدير وجود المفقود في زمان سابق واجب.

فإذا زال البعض لم يعلم سقوط الباقي والاصل عدمه أو لم يسقط بحكم الاستصحاب، ويحتمل أن يراد به التمسك بعموم ما دل على وجوب كل من الاجزاء من غيره مخصص له بصورة التمكن من الجميع، لكنه ضعيف إحتمالا ومحتملا.

____________________

(١) المعتبر، ص ٣٩.

٢٨٤

الصفحة ٦٨٧

الامر الثاني عشر إنه لا فرق في إحتمال خلاف الحالة السابقة بين أن يكون مساويا لاحتمال بقائه أو راجحا عليه بأمارة غير معتبرة.

ويدل عليه وجوه:

الاول: الاجماع القطعي على تقدير إعتبار الاستصحاب من باب الاخبار.

الثاني: (أن المراد بالشك في الروايات معناه اللغوي، وهو خلاف اليقين، كما في الصحاح.

ولا خلاف فيه ظاهرا.

ودعوى: (إنصراف المطلق في الروايات إلى معناه الاخص، وهو الاحتمال.

المساوي)، لا شاهد لها.

بل يشهد بخلافها مضافا إلى تعارف إطلاق الشك في الاخبار على المعنى الاعم موارد من الاخبار: منها: مقابلة الشك باليقين في جميع الاخبار.

ومنها: قوله في صحيحة زرارة الاولى: (فإن حرك إلى جنبه شئ وهو لا يعلم به)، فإن ظاهره فرض السؤال فيما كان معه أمارة النوم.

ومنها: قوله عليه السلام: (لا، حتى يستيقن)، حيث جعل غاية وجوب الوضوء الاستيقان بالنوم ومجئ أمر بين منه.

ومنها: قوله عليه السلام: (ولكن ينقضه بيقين آخر)، فإن الظاهر سوقه في مقام بيان حصر ناقض اليقين باليقين.

ومنها قوله عليه السلام في صحيحة زرارة الثانية: (فلعله شئ أوقع عليك، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك)، فإن كلمة (لعل) ظاهرة في مجرد الاحتمال، خصوصا مع وروده في

٢٨٥

الصفحة ٦٨٨

مقام إبداء ذلك، كما في المقام، فيكون الحكم متفرعا عليه.

ومنها: تفريع قوله عليه السلام: (صم للرؤية وأفطر للرؤية)، على قوله عليه السلام: (اليقين لا يدخله الشك).

الثالث: أن الظن الغير المعتبر إن علم بعدم إعتباره بالدليل، فمعناه أن وجوده كعدمه عند الشارع، وأن كل ما يترتب شرعا على تقدير عدمه فهو المترتب على تقدير وجوده، وإن كان مما شك في إعتباره.

فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببه إلى نقض اليقين بالشك، فتأمل جدا.

هذا كله على تقدير إعتبار الاستصحاب من باب التعبد المستنبط من الاخبار.

وأما على تقدير إعتباره من باب الظن الحاصل من تحقق المستصحب في السابق، فظاهر كلماتهم أنه لا يقدح فيه أيضا وجوده الامارة الغير المعتبرة، فيكون العبرة فيه عندهم بالظن النوعي وإن كان الظن الشخصي على خلافه.

ولذا تمسكوا به في مقامات غير محصورة على الوجه الكلي من غير إلتفات إلى وجود الامارات الغير المعتبرة في خصوصيات الموارد.

واعلم: أن الشهيد، قدس سره، في الذكرى، بعدما ذكر مسألة الشك في تقدم الحدث على الطهارة، قال: (تنبيه: قولنا (اليقين لا يرفعه الشك)، لا نعني به إجتماع اليقين والشك في زمان واحد، لامتناع ذلك.

ضرورة أن الشك في أحد النقيضين يرفع يقين الاخر.

بل المعني به أن اليقين الذي كان في الزمن الاول لا يخرج عن حكمه بالشك في الزمان الثاني، لاصالة بقاء ما كان على ما كان، فيؤول إلى إجتماع الظن والشك في الزمان الواحد، فيرجح الظن عليه، كما هو مطرد في العبادات وغيرها)(١)، إنتهى.

ومراده من الشك معناه اللغوي، وهو مجرد الاحتمال المنافي لليقين، فلا ينافي ثبوت الظن الحاصل من أصالة بقاء ما كان.فلا يرد ما أورد عليه من أن الظن كاليقين في عدم الاجتماع مع الشك.

نعم يرد، على ما ذكرنا من التوجيه، أن الشهيد قدس سره، في مقام دفع ما يتوهم من التناقض المتوهم في قولهم: (اليقين لا يرفعه الشك).ولا ريب أن الشك الذي حكم بأنه لا يرفع

____________________

(١) ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، ص ٩٨.

٢٨٦

الصفحة ٦٨٩

اليقين، ليس المراد منه الاحتمال الموهوم، لانه إنما يصير موهوما بعد ملاحظة بقاء أصالة بقاء ما كان.

نظير المشكوك الذي يراد إلحاقه بالغالب، فإنه يصير مظنونا بعد ملاحظة الغلبة وعلى تقدير إرادة الاحتمال الموهوم، كما ذكره المدقق الخوانساري.

فلا يندفع به توهم إجتماع الوهم واليقين المستفاد من عدم رفع الاول للثاي وإرادة اليقين السابق.

والشك اللاحق يغني عن إرادة خصوص الوهم من الشك.

وكيف كان، فما ذكره المورد من إشتراك الظن واليقين في عدم الاجتماع مع الشك مطلقا في محله.

فالاولى أن يقال: إن قولهم: (اليقين لا يرفعه الشك)، لا دلالة فيه على إجتماعهما في زمان واحد إلا من حيث الحكم في تلك القضية بعدم الرفع.

ولا ريب أن هذا ليس إخبارا عن الواقع، لانه كذب، وليس حكما شرعيا بإبقاء نفس اليقين أيضا، لانه غير معقول، وإنما هو حكم شرعي، لعدم رفع آثار اليقين السابق بالشك اللاحق، سواء كان إحتمالا متساويا أو مرجوحا.

٢٨٧

الصفحة ٦٩٠

خاتمة

ذكر بعضهم للعمل بالاستصحاب شروطا، كبقاء الموضوع وعدم المعارض ووجوب الفحص.

والتحقيق رجوع الكل إلى شروط جريان الاستصحاب.

وتوضيح ذلك: أنك قد عرفت أن الاستصحاب عبارة عن إبقاء ما شك في بقائه.

وهذا لا يتحقق إلا مع الشك في بقاء القضية المحققة في السابق بعينها في الزمان اللاحق، والشك على هذا الوجه لا يتحقق إلا بأمور.الاول بقاء الموضوع في الزمان اللاحق.والمراد به معروض المستصحب.

فإذا أريد إستصحاب قيام زيد او وجوده فلا بد من تحقق زيد في الزمان اللاحق على النحو الذي كان معروضا في السابق، سواء كان تحققه في السابق بتقرره ذهنا او بوجوده خارجا.

فزيد معروض للقيام في السابق بوصف وجوده الخارجي وللوجود بوصف تقرره ذهنا، لا وجوده الخارجي.

وبهذا إندفع ما إستشكله بعض في أمر كلية إعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب، بانتقاضها بإستصحاب وجود الموجدات عند الشك في بقائها، زعما منه أن المراد ببقائه وجوده الخارجي الثانوي، وغفلة عن أن المراد وجوده الثانوي على نحو وجوده الاولي الصالح لان يحكم عليه بالمستصحب وبنقيضه، وإلا لم يجز أن يحمل عليه المستصحب في الزمان السابق.

فالموضوع في إستصحاب حياة زيد هو زيد القابل لان يحكم عليه بالحياة تارة وبالموت أخرى.

وهذا المعنى لا شك في تحققه عند الشك في بقاء حياته.

٢٨٨

الصفحة ٦٩١

ثم الدليل على إعتبار هذا الشرط في جريان الاستصحاب واضح، لانه لو لم يعلم تحققه لاحقا، فإذا أريد إبقاء المستصحب العارض له المقوم به، فإما أن يبقى في غير محل وموضوع، وهو محال، وإما أن يبقى في موضوع غير الموضوع.السابق.ومن المعلوم أن هذا ليس إبقاء لنفس ذلك العارض.

وإنما هو حكم بحدوث عارض مثله في موضوع جديد فيخرج عن الاستصحاب، بل حدوثه للموضوع الجديد كان مسبوقا بالعدم، فهو المستصحب دون وجوده.

وبعبارة أخرى: بقاء المستصحب لا في موضوع محال، وكذا في موضوع آخر، إما لاستحاله إنتقال العرض، وإما لان المتيقن سابقا وجوده في الموضوع السابق، والحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد ليس نقضا للمتيقن السابق.

ومما ذكرنا يعلم أن المعتبر هو العلم ببقاء الموضوع، ولا يكفي إحتمال البقاء، إذ لا بد من العلم بكون الحكم بوجود المستصحب إبقاء والحكم بعدمه نقضا.

فإن قلت: إذا كان الموضوع محتمل البقاء فيجوز إحرازه في الزمان اللاحق بالاستصحاب.

قلت: لا مضايقه من جواز إستصحابه في بعض الامور، إلا أنه لا ينفع في إستصحاب الحكم المحمول عليه.

بيان ذلك: أن الشك في بقاء الحكم الذي يراد إستصحابه، إما أن يكون مسببا من سبب غير الشك في بقاء ذلك الموضوع المشكوك البقاء، مثل أن يشك في عدالة مجتهده مع الشك في حياته، وإما أن يكون مسببا عنه.

فان كان الاول، فلا إشكال في إستصحاب الموضوع عند الشك، لكن إستصحاب الحكم كالعدالة مثلا لا يحتاج إلى إبقاء حياة زيد، لان موضوع العدالة زيد على تقدير الحياة، إذ لا شك فيها إلا على فرض الحياة.

فالذي يراد إستصحابه هو عدالته على تقدير الحياة.

وبالجملة فهنا مستصحبان، لكل منهما موضوع على حدة، حياة زيد وعدالته على تقدير الحياة، ولا يعتبر في الثاني إثبات الحياة.وعلى الثاني، فالموضوع إما أن يكون معلوما معينا شك في بقائه.

كما إذا علم أن الموضوع لنجاسة الماء هو الماء بوصف التغير، وللمطهرية هو الماء بوصف الكرية والاطلاق، ثم شك في بقاء تغير الماء الاول وكرية الماء الثاني أو إطلاقه، وإما أن يكون غير معين، بل مرددا بين أمر معلوم البقاء وآخر معلوم الارتفاع.

كما إذا لم يعلم أن الموضوع للنجاسة هو الماء الذي حدث فيه التغير آنا ما او الماء المتلبس بالتغير.

وكما إذا شككنا في أن النجاسه محمولة على الكلب بوصف أنه كلب

٢٨٩

الصفحة ٦٩٢

أو المشترك بين الكلب وبين ما يستحال إليه من الملح أوغيره.

أما الاول، فلا إشكال في إستصحاب الموضوع، وقد عرفت في مسألة الاستصحاب في الامور الخارجية أن إستصحاب الموضوع حقيقة ترتيب الاحكام الشرعية المحمولة على ذلك الموضوع الموجود واقعا.

فحقيقة إستصحاب التغير والكرية والاطلاق في الماء ترتيب أحكامها المحمولة عليها، كالنجاسة في الاول والمطهرية في الاخرين.

فمجرد إستصحاب الموضوع يوجب إجراء الاحكام لا فلا مجال لاستصحاب الاحكام حينئذ، لارتفاع الشك.

بل لو أريد إستصحابها لم يجز، لان صحة إستصحاب النجاسة مثلا ليس من أحكام التغير الواقعي حتى يثبت بإستصحابه، لان أثر التغير الواقعي هي النجاسة الواقعية، لا إستصحابها، إذ مع فرض التغير لا شك في النجاسة.

مع أن قضية ما ذكرنا من الدليل على إشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب حكم العقل بإشتراط بقائه فيه.

فالتغير الواقعي إنما يجوز إستصحاب النجاسة له بحكم العقل.

فهذا الحكم، أعني ترتب الاستصحاب على بقاء الموضوع، ليس أمرا جعليا حتى يترتب على وجوده الاستصحابي، فتأمل.وعلى الثاني، فلا مجال لاستصحاب الموضوع ولا الحكم.

أما الاول، فلان أصالة بقاء الموضوع لا يثبت كون هذا الامر الباقي متصفا بالموضوعية إلا بناء على القول بالاصل المثبت، كما تقدم في أصالة بقاء الكر المثبتة الكرية المشكوك بقاؤه على الكرية.

وعلى هذا القول فحكم هذا القسم حكم القسم الاول.

وأما أصالة بقاء الموضوع بوصف كونه موضوعا فهو في معنى إستصحاب الحكم، لان صفة الموضوعية للموضوع ملازم لانشاء الحكم من الشارع بإستصحابه.

وأما إستصحاب الحكم، فلانه كان ثابتا لامر لا يعلم بقاؤه، وبقاؤه قائما بهذا الموجود الباقي ليس قياما بنفس ما قام به أولا حتى يكون إثباته إبقاء ونفيه نقضا.

إذا عرفت ما ذكرنا، فاعلم انه كثيرا ما يقع الشك في الحكم من جهة الشك في أن موضوعه ومحله هو الامر الزائل ولو بزوال قيده المأخوذ في موضوعيته حتى يكون الحكم مرتفعا، أو هو الامر الباقي والزائل ليس موضوعا ولا مأخوذا فيه؟ فلو فرض شك في الحكم كان من جهة أخرى غير الموضوع.

كما يقال: إن حكم النجاسة في الماء المتغير موضوعه نفس الماء، والتغير علة محدثة للحكم فيشك في عليته للبقاء.

٢٩٠

الصفحة ٦٩٣

فلا بد من ميزان يميز به القيود المأخوذة في الموضوع عن غيرها، وهو أحد أمور: الاول: العقل، فيقال: إن مقتضاه كون جميع القيود قيودا للموضوع مأخذوة فيه، فيكون الحكم ثابتا لامر واحد ليجمعها.

وذلك لان كل قضية وإن كثرت قيودها المأخوذة فيها راجعة في الحقيقة إلى موضوع واحد ومحمول واحد.

فإذا شك في ثبوت الحكم السابق بعد زوال بعد تلك القيود، سواء علم كونه قيدا للموضوع أو للمحمول أو لم يعمل أحدهما، فلا يجوز الاستصحاب.لانه إثبات عين الحكم السابق لعين الموضوع السابق.ولا يصدق هذا مع الشك في أحدهما.

نعم لو شك بسبب تغير الزمان المجعول ظرفا للحكم، كالخيار، لم يقدح في جريان الاستصحاب، لان الاستصحاب مبني على إلغاء خصوصية الزمان الاول.

فالاستصحاب في الحكم الشرعي لا يجري إلا في الشك من جهة الرافع ذاتا أو وصفا.

وفيما كان من جهة مدخلية الزمان.نعم يجري في الموضوعات الخارجية بأسرها.

ثم لو لم يعلم مدخلية القيود في الموضوع كفى في عدم جريان الاستصحاب الشك في بقاء الموضوع، على ما عرفت مفصلا.

الثاني: أن يرجع في معرفة الموضوع للاحكام إلى الادلة، ويفرق بين قوله: (الماء المتغير نجس)، وبين قوله: (الماء يتنجس إذا تغير)، فيجعل الموضوع في الاول الماء المتلبس بالتغير، فيزول الحكم بزواله، وفي الثاني نفس الماء فيستصحب النجاسة لو شك في مدخلية التغير في بقائها، وهكذا.

وعلى هذا فلا يجري الاستصحاب فيما كان الشك من غير جهة الرافع إذا كان الدليل غير لفظي لا يتميز فيه الموضوع، لاحتمال مدخلية القيد الزائل فيه.

الثالث: أن يرجع في ذلك إلى العرف.

فكل مورد يصدق عرفا أن هذا كان كذا سابقا جرى فيه الاستصحاب، وإن كان المشار إليه لا يعلم بالتدقيق أو بملاحظة الادلة كونه موضوعا، بل علم عدمه.مثلا قد ثبت بالادلة أن الانسان طاهر والكلب نجس.

فإذا ماتا واطلع أهل العرف على حكم الشارع عليهما بعد الموت فيحكمون بإرتفاع طهارة الاول وبقاء نجاسة الثاني، مع عدم صدق الارتفاع والبقاء فيهما بحسب التدقيق، لان الطهارة والنجاسة كانتا محمولتين على الحيوانين المذكورين، وقد إرتفعت الحيوانية بعد صيرورته جمادا.

ونحوه حكم العرف بإستصحاب بقاء الزوجية بعد موت أحد الزوجين، وقد تقدم حكم العرف ببقاء كرية ما كان كرا سابقا ووجوب الاجزاء الواجبة سابقا قبل تعذر بعضها وإستصحاب السواد فيما علم زوال مرتبة معينة منه ويشك في تبدله بالبياض أو بسواد خفيف، إلى

٢٩١

الصفحة ٦٩٤

غير ذلك.

وبذا الوجه يصح للفاضلين، قدس سرهما، في المعتبر والمنتهى: (الاستدلال على بقاء نجاسة الاعيان النجسة بعد الاستحالة بأن النجاسة قائمة بالاعيان النجسة، لا بأوصاف الاجزاء، فلا تزوال بتغير أوصاف محلها.

وتلك الاجزاء باقية، فتكون النجاسة باقية، لانتقاء ما يقتضي إرتفاعها)(١)، إنتهى كلام المعتبر، واحتج فخر الدين: (للنجاسة بأصالة بقائهما وبأن الاسم أمارة ومعرف، فلا يزول الحكم بزواله)(٢)، إنتهى.

وهذه الكلمات وإن كانت محل الايراد، لعدم ثبوت قيام حكم الشارع بالنجاسة بجسم الكلب المشترك بين الحيوان والجماد، بل ظاهر عدمه، لان ظاهر الادلة تبعية الاحكام للاسماء، كما اعترف به في المنتهى في إستحالة الاعيان النجسة، إلا أنه شاهد على إمكان إعتبار موضوعية الذات المشتركة بين واجد الوصف العنوانى وفاقده.

كما ذكرنا في نجاسة الكلب بالموت، وحيث أن أهل العرف لا يفهمون نجاسة أخرى حاصلة بالموت، ويفهمون إرتفاع طهارة الانسان، إلى غير ذلك مما يفهمون الموضوع فيه مشتركا بين الواجد للوصف العنوانى والفاقد.

ثم إن بعض المتأخرين فرق بين إستحالة نجس العين والمتنجس، فحكم بطهارة الاول لزوال الموضوع دون الثاني، لان موضوع النجاسة ليس عنوان المستحيل، أعني الخشب مثلا، وإنما هو الجسم ولم يزل بالاستحالة.

وهو حسن في بادي النظر، إلا أن دقيق النظر يقتضي خلافه، إذ لم يعلم أن النجاسة في المتنجسات محمولة على صورة الجنسية وهي الجسم، وإن إشتهر في الفتاوى ومعاقد الاجماعات: أن كل جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس.

إلا أنه لا يخفى على المتأمل أن التعبير بالجسم لاداء عموم الحكم لجميع الاجسام الملاقيه من حيث سببية الملاقاة للنجس، لا لبيان إناطة الحكم بالجسمية.

وبتقرير آخر: الحكم ثابت لاشخاص الجسم، فلا ينافي ثبوته لكل واحد منها من حيث نوعه وصنفه المتقوم به عند الملاقاة.

فقولهم: (كل جسم لاقى نجسا هو نجس)، لبيان حدوث النجاسة في الجسم بسبب الملاقاة من غير تعرض للمحل الذي يتقوم به.

كما إذا قال القائل: (إن كل جسم له خاصية وتأثير)، مع

____________________

(١) المعتبر، ص ١٢٥.

(٢) ايضاح الفرائد في شرح القواعد، ج ١، ص ٣١.

٢٩٢

الصفحة ٦٩٥

كون الخواص والتأثيرات من عوارض الانواع.

وإن أبيت إلا عن ظهور معقد الاجماع في تقوم النجاسة بالجسم، فنقول: لا إشكال أن مستند هذا العموم هي الادلة الخاصة الواردة في الاشخاص الخاصة، مثل الثوب والبدن والماء وغير ذلك.

فإستنباط القضية الكلية المذكورة منها ليس إلا من حيث عنوان حدوث النجاسة، لا ما يتقوم به، وإلا فاللازم إناطة النجاسة في كل مورد بالعنوان المذكور في دليله.

ودعوى: (أن ثبوت الحكم لكل عنوان خاص من حيث كونه جسما)، ليست بأولى من دعوى كون التعبير بالجسم في القضية العامة من حيث عموم ما يحدث فيه النجاسة بالملاقاة، لا من حيث تقوم النجاسة بالجسم.

نعم الفرق بين المتنجس والنجس أن الموضوع في النجس معلوم الانتفاء في طاهر الدليل وفي المتنجس محتمل البقاء.

لكن هذا المقدار لا يوجب الفرق بين تبين أن العرف هو المحكم في موضوع الاستصحاب.

أرأيت أنه لو حكم على الحنطة أو العنب بالحلية أو الحرمة أو النجاسة أو الطهارة، هل يتأمل العرف في إجراء تلك الاحكام على الدقيق والزبيب.

كما لا يتأملون في عدم جريان الاستصحاب في إستحالة الخشب دخانا والماء المتنجس بولا لمأكول اللحم، خصوصا إذا اطلعوا على زوال النجاسة بالاستحالة.

كما أن العلماء أيضا لم يفرقوا في الاستحالة بين النجس والمتنجس، كما لا يخفى على المتتبع.

بل جعل بعضهم الاستحالة مطهرة للمتنجس بالاولوية الجلية حتى تمسك بها في المقام من لا يقول بحجية مطلق الظن.

ومما ذكرنا ظهر وجه النظر فيما ذكره جماعة، تبعا للفاضل الهندي، قدس سره، من أن الحكم في المتنجسات ليس دائرا مدار الاسم حتى يطهر بالاستحالة.

فالتحقيق أن مراتب تغير الصورة في الاجسام مختلفة بل الاحكام أيضا مختلفة.

ففي بعض مراتب التغير يحكم بجريان دليل العنوان من غير حاجة إلى الاستصحاب.

وفي بعض آخر، لا يحكمون بذلك وثبتون الحكم بالاستصحاب.

وفي ثالث، لا يجرون الاستصحاب أيضا من غير فرق في حكم النجاسة بين النجس والمتنجس.

فمن الاول: ما لو حكم على الرطب أو العنب بالحلية أو الطهارة أو النجاسة.فإن ظاهر جريان عموم أدلة هذه الاحكام للتمر والزبيب.فكأنهم يفهمون من الرطب والعنب الاعم مما جف منهما

٢٩٣

الصفحة ٦٩٦

فصار تمرا أز زبيبا.مع أن الظاهر تغاير الاسمين.ولهذا لو حلف على ترك أحدهما لم يحنث بأكل الاخر.

والظاهر أنهم لا يحتاجون في إجراء الاحكام المذكورة إلى الاستصحاب.

ومن الثاني: إجراء حكم بول غير المأكول إذا صار بولا لمأكول وبالعكس.

وكذا صيرورة الخمر خلا وصيرورة الكلب أو الانسان جمادا بالموت، إلا أن الشارع حكم في بعض هذه الموارد بإرتفاع الحكم السابق، إما للنص، كما في الخمر المستحيل خلا، وإما لعموم دليل ما دل على حكم المنتقل إلهى، فإن الظاهر أن إستفادة طهارة المستحال إليه إذا كان بولا لمأكول ليس من أصالة الطهارة بعد عدم جريان الاستصحاب، بل هو من الدليل.نظير إستفادة نجاسة بول المأكول إذا صار بولا لغير المأكول.

ومن الثالث: إستحالة العذرة أو الدهن المتنجس دخانا والمني حيوانا.

ولو نوقش في بعض الامثلة المذكورة، فالمثال غير عزيز على المتتبع المتأمل.

ومما ذكرنا: يظهر أن معنى قولهم (الاحكام تدور مدار الاسماء)، أنها تدور مدار أسماء موضوعاتها التي هي المعيار في وجودها وعدمها.

فإذا قال الشارع: (العنب حلال)، فإذ ثبت كون الموضوع هو مسمى هذا الاسم دار الحكم مداره، فينتفي عند صيرورته زبيبا.

أما إذا علم من العرف أو غيره أن الموضوع هو الكلي الموجود في العنب المشترك بينه وبين الزبيب أو بينهما وبين العصير دار الحكم مداره أيضا.

نعم يبقى دعوى (أن ظاهر اللفظ في مثل القضية المذكوره كون الموضوع هو العنوان وتقوم الحكم به المستلزم لانتفائه بإنتفائه.لكنك عرفت أن العناوين مختلفة والاحكام أيضا مختلفة.

وقد تقدم حكاية بقاء نجاسة الخنزير المستحيل ملحا عن أكثر أهل العلم وإختيار الفاضلين له.

ودعوى: (إحتياج إستفادة غير ما ذكر من ظاهر اللفظ إلى القرينة الخارجية، وإلا فظاهر اللفظ كون القضية ما دام الوصف العنواني)، لا تضرنا فميا نحن بصدده، لان المقصود مراعاة العرف في تشخيص الموضوع وعدم الاقتصار في ذلك على ما يقتضيه العقل على وجه الدقة ولا على ما يقتضيه الدليل اللفظي إذا كان العرف بالنسبة إلى القضية الخاصة على خلافه.

وحينئذ فيستقيم أن يراد من قولهم: (إن الاحكام تدور مدار الاسماء) أن مقتضى ظاهر دليل الحكم تبعية ذلك الحكم لاسم الموضوع الذى علق عليه الحكم في ظاهر الدليل، فيراد من لهذه القضية تأسيس أصل قد يعدل عنه بقرينة فهم العرف او غيره، فافهم.

٢٩٤

الصفحة ٦٩٧

الامر الثاني مما يعتبر في تحقق الاستصحاب أن يكون في حال الشك متيقنا بوجود المستصحب في السابق، حيى يكون شكه في البقاء.

فلو كان الشك في تحقق نفس ما تيقنه سابقا كأن تيقن عدالة زيد في زمان كيوم الجمعة مثلا ثم شك في نفس هذا المتيقن، وهو عدالته يوم الجمعة، بان زال مدرك إعتقاده السابق فشك في مطابقته للواقع أو كونه جهلا مركبا لم يكن هذا من مورد الاستصحاب لغة ولا اصطلاحا، أما الاول، فلان الاستصحاب في اللغه أخذ الشئ مصاحبا، فلا بد من احراز ذلك يأخذه مصاحبا.فإذا شك في حدوثه من أصله فلا إستصحاب.

وأما إصطلاحا، فلانهم اتقفوا على أخذ الشك في البقاء أو ما يؤدي هذا المعنى في معنى الاستصحاب.

نعم وأن الشك بعد اليقين بهذا المعنى ملغى في نظر الشارع، فهي قاعدة أخرى مباينة للاستصحاب، سنتكم فيها، بعد دفع توهم من توهم أن أدلة الاستصحاب تشملها وأن مدلولها لا يختص بالشك في البقاء، بل الشك بعد اليقين ملغى مطلقا، سواء تعلق بنفس ما تيقنه ساباق أم ببقائه.

وأول من صرح بذلك الفاضل السبزوارى في الذخيرة في مسألة من شك في بعض أفعال الوضوء حيث قال: (والتحقيق: أنه فرغ من الوضوء متيقنا للاكمال، ثم عرض له الشك، فالظاهر عدم وجوب إعادة شئ، لصحيحة زرارة: (ولا تنقض اليقين أبدا بالشك)(١)، إنتهى.

____________________

(١) ذخيرة المعاد، ص ٤٤

٢٩٥

الصفحة ٦٩٨

ولعله قدس سره، تفطن له من كلام الحلي في السرائر، حيث إستدل على المسألة المذكورة ب (أنه لا يخرج عن حال الطهارة إلا على يقين من كمالها.وليس ينقض الشك اليقين)(١)، إنتهى.لكن هذا التعبير من الحلي لا يلزم أن يكون إستفاد من أخبار عدم نقض اليقين بالشك.ويقرب من هذا التعبير عبارة جماعة من القدماء.

لكن التعبير لا يلزم دعوى شمول الاخبار للقاعدتين، على ما توهمه غير واحد من المعاصرين، وإن إختلفوا بين مدع لانصرافها إلى خصوص الاستصحاب وبين منكر له عامل بعمومه.

وتوضيح دفعه: أن المناط في القاعدتين مختلف بحيث لا يجمعهما مناط واحد، فإن مناط الاستصحاب هو إتحاد متعلق الشك واليقين مع قطع النظر عن الزمان، لتعلق الشك ببقاء ما تيقن سابقا، ولازمه كون القضية المتيقنة، أعني عدالة زيد يوم الجمعة متيقنة حين الشك أيضا من غير جهة الزمان.ومناط هذه القاعدة إتحاد معلقيهما من جهة الزمان.

ومعناه كونه في الزمان اللاحق شاكا فيما يتقنه سابقا بوصف وجوده في السابق.

فإلغاء الشك في القاعدة الاولى عبارة عن الحكم ببقاء المتيقن سابقا من غير تعرض لحال حدوثه حيث أنه متيقن.

وفي القاعدة الثانية هو الحكم بحدوث ما يتقن حدوثه من غير تعرض لحكم بقائه، فقد يكون بقاؤه معلومنا أو معلوم العدم أو مشكوكا.

وإختلاف مؤدى القاعدتين وإن لم يمنع من إرادتها من كلام واحد، بأن يقول الشارع إذا حصل شك بعد يقين فلا عبرة به، سواء تعلق ببقائه أو بحدوثه وأحكم بالبقاء في الاول وبالحدوث في الثاني، إلا أنه مانع عن إرادتها في هذا المقام، من قوله عليه السلام: (فليمض على يقينه)، فإن المضي على اليقين السابق المفروض تحققه في القاعدتين أتني عدالة زيد يوم الجمعة بمعنى الحكم بعدالته في ذلك اليوم من غير تعرض لعدالته فيما بعد، كما هو مفاد القاعدة الثانية يغاير المضي على بمعنى عدالته بعد يوم الجمعة من غير تعرض لحال يوم الجمعة، كما هو مفاد قاعدة الاستصحاب، فلا يصح إرادة المعنيين منه.

فإن قلت: إن معنى المضي على اليقين عدم التوقف من أجل الشك العارض وفرض الشك كعدمه.

وهذا يختلف بإختلاف متعلق الشك.فالمضي مع الشك في الحدوث بمعنى الحكم

____________________

(١) السرائر، ص ١٨

٢٩٦

الصفحة ٦٩٩

بالحدوث ومع الشك في البقاء بمعنى الحكم به.

قلت: لا ريب في إتحاد متعلقي الشك واليقين وكون المراد المضى على ذلك اليقين المتعلق بما تعلق به الشك.

والمفروض أن ليس في السابق إلا يقين واحد، وهو اليقين بعدالة زيد.

والشك فيها ليس له هنا فردان يتعلق أحدهما بالحدوث والاخر بالبقاء.

[ وبعبارة أخرى: عموم أفراد اليقين بإعتبار الامور الواقعية بعدالة زيد وفسق عمرو، لا بإعتبار ملاحظة اليقين بشئ واحد حتى ينحل اليقين بعدالة زيد إلى فردين يتعلق بكل منهما شك.] بل المراد الشك في نفس ما تيقن.

وحينئذ فإن اعتبر المتكلم في كلمه الشك في هذا المتيقن من دون تقييده بيوم الجمعة، فالمضي على هذا اليقين عبارة عن الحكم بإستمرار هذا المتيقن، وإن اعتبر الشك فيه مقيدا بذلك اليوم، فالمضي على ذلك المتيقن الذي تعلق به الشك عبارة عن الحكم بحدوثها من غير تعرض للبقاء كأنه قال: من كان على يقين من عدالة زيد يوم الجمعة فشك فيها فليمض على يقينه السابق يعني يرتب آثار عدالة زيد فيه فالمضي على عدالة زيد وترتيب آثاره يكون تارة بالحكم بعدالته في الزمان اللاحق والاخرى بعدالته في ذلك الزمان المتيقن وهذان لا يجتمعان في الارادة.

[ وإن أردت توضيح الحال، فافرض أنه قال: من كان على يقين من عدالة زيد يوم الجمعة فشك فيها فليمض على يقينه السابق.

والمعنى: أن من كان على يقين من شئ وشك في ذلك الشئ فليمض على يقينه بذلك الشئ.

فإن اعتبر اليقين السابق متعلقا بعدالة زيد من دون تقييدها بيوم الجمعة، فالشك اللاحق فيه بهذا الاعتبار شك في بقائها.

وإن اعتبر متعلقا بعدالة زيد مقيدة بيوم الجمعة، فالشك فيها بهذه الملاحظة شك في حدوثها ].

وقس على هذا سائر الاخبار الدالة على عدم نقض اليقين بالشك، فإن الظاهر إتحاد متعلق الشك واليقين، فلا بد أن يلاحظ المتيقن والمشكوك غير مقيدين بالزمان وإلا لم يجزو إستصحابه، كما تقدم في رد شبهة من قال بتعارض الوجود والعدم في شئ واحد.

والمفروض في القاعدة الثانية كون الشك متعلقا بالمتيقن السابق بوصف وجوده في الزمان السابق.

ومن المعلوم عدم جواز إرادة الاعتبارين من اليقين والشك في تلك الاخبار.

[ والمفروض في القاعدة الثانية أن المتيقن السابق كعدالة زيد يوم الجمعة إن أخذت مقيدة بيوم الجمعة فمعنى عدم نقضه بالشك عدم نقضه بالشك بذلك اليوم، وإن أخذت مطلقة عارضها الشك في وجودها في الزمان اللاحق ].

ودعوى: (أن اليقين بكل من الاعتبارين فرد من اليقين، وكذلك الشك المتعلق فرد من الشك، فكل فرد لا ينقض بشكه)، مدفوعة، بأن تعدد اللحاظ والاعتبار في المتيقن به السابق،

٢٩٧

الصفحة ٧٠٠

بأخذه تارة مقيدا بالزمان السابق وأخرى باخذه مطلقا، لا يوجب تعدد أفراد اليقين.

وليس اليقين بتحقق مطلق العدالة في يوم الجمعة واليقين بعدالته المقيدة بيوم الجمعه فردين من اليقين تحت عموم الخبر.

بل الخبر بمثابة أن يقال: (من كان على يقين من عدالة زيد أو فسقه أو غيرهما من حالاته فشك فيه فليمض على يقينه بذلك)، فافهم.فإنه لا يخلو عن دقة.

ثم إذا ثبت عدم جواز إرادة المعنيين فلا بد أن يخص مدلولها بقاعدة الاستصحاب، لورودها في موارد تلك القاعدة، كالشك في الطهارة من الحدث والخبث ودخول هلال شهر رمضان أو شوال.

هذا كله، لو أريد من القاعدة الثانية إثبات نفس المتيقن عند الشك، وهي عدالة زيد في يوم الجمعة مثلا.

أما لو أريد منها إثبات عدالته من يوم الجمعة مستمرة إلى زمان الشك وما بعده إلى اليقين بطرو الفسق، فيلزم إستعمال الكلام في معنيين أيضا.لان الشك في عدالته زيد يوم الجمعة غير الشك في إستمرارها إلى الزمان اللاحق.

وقد تقدم نظير ذلك في قوله عليه السلام: (كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر).

ثم لو سلمنا دلالة الروايات على ما يشمل القاعدتين لزم حوصل التعارض في مدلول الرواية المسقط له عن الاستدلال به على القاعدة الثانية، لانه إذا شك في ما تيقن سابقا، أعني عدالة زيد في يوم الجمعة، فهذا الشك معارض لفردين من اليقين، أحدهما اليقين بعدالته المقيدة بيوم الجمعة، الثاني اليقين بعدم عدالته المطلقة قبل يوم الجمعة.

فتدل بمقتضى القاعدة الثانية على عدم نقض اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة بإحتمال إنتفائها في ذلك الزمان، وبمقتضى قاعدة الاستصحاب على عدم نقض اليقين بعدم عدالته قبل الجمعة بإحتمال حدوثها في الجمعة.

فكل من طرفي الشك معارض لفرد من اليقين.

ودعوى: (أن اليقين السابق على الجمعة قد انتقض باليقين في الجمعة، والقاعدة الثانية تثبت وجوب إعتبار هذا اليقين الناقض لليقين السابق)، مدفوعة: بأن الشك الطاري في عدالة زيد يوم الجمعة وعدمخا عين الشك في إنتقاض ذلك اليقين السابق.

وإحتمال إنتقاضه وعدمه معارضان لليقين بالعدالة وعدمها، فلا يوز لنا الحكم بالانتقاض ولا بعدمه.

ثم إن هذا من باب التنزل والمماشاة، وإلا فالتحقيق ما ذكرناه من منع الشمول بالتقريب المتقدم، مضافا إلى ما ربما يدعى من ظهور الاخبار في الشك في البقاء.بقي الكلام في وجود مدرك للقاعدة الثانية غير هذه الاخبار فنقول:

٢٩٨

الصفحة ٧٠١

إن المطلوب من تلك القاعدة إما أن يكون إثبات حدوث المشكوك فيه وبقائه مستمرا إلى اليقين بإرتفاعه، وإما أن يكون مجرد حدوثه في الزمان السابق بدون إثباته بعده بأن يراد إثبات عدالة زيد في يوم الجمعة فقط، وإما أن يراد مجرد إمضاء الاثار التي ترتبت عليها سابقا وصحة الاعمال الماضية المتفرعة عليه.

فإذا تيقن الطهارة سابقا وصلى بها ثم شك في طهارته في ذلك الزمان فصلاته ماضية.

فإن أريد الاول، فالظاهر عدم دليل يدل عليه، إذ قد عرفت أنه لو سلم إختصاص الاخبار المعتبرة لليقين السابق بهذه القاعدة، لم يمكن أن يراد منه إثبات حدوث العدالة وبقائها، لان لكل من الحدوث والبقاء شكا مستقلا.

نعم لو فرض القطع ببقائها على تقدير الحدوث، أمكن أن يقال: إنه إذا ثبت حدوث العدالة بهذه القاعدة ثبت بقاؤها، للعلم ببقائها على تقدير الحدوث، لكنه لا يتم إلا على الاصل المثبت، فهو تقدير على تقدير.

وربما يتوهم الاستدلال لاثبات هذا المطلب بما دل على عدم الاعتناء بالشك في الشئ بعد تجاوز محله.

لكنه فاسد، لانه على تقدير الدلالة لا يدل على إستمرار المشكوك، لان الشك في الاستمرار ليس شكا بعد تجاوز المحل.

وأضعف منه الاستدلال له بما سيجئ من دعوى أصالة الصحة في إعتقاد المسلم، مع أنه كالاول في عدم إثباته الاستمرار.وكيف كان، فلا مدرك لهذه القاعدة بهذا المعنى.

وربما فصل بعض الاساطين بين ما إذا علم مدرك الاعتقاد بعد زواله وأنه غير قابل للاستناد إليه وبين ما إذا لم يذكره.

كما إذا علم أنه اعتقد في زمان بطهارة ثوبه أو نجاسته ثم غاب المستند وغفل زمانا، فشك في طهارته ونجاسته فيبنى على معتقده هنا، لا في الصورة الاولى.وهو وإن كان أجود من الاطلاق، لكن إتمامه بالدليل مشكل.

وإن أريد بها الثاني، فلا مدرك له بعد عدم دلالة أخبار الاستصحاب إلا ما تقدم من أخبار عدم الاعتناء بالشك بعد تجاوز المحل.لكنها لو تمت فإنما تنفع في الاثار المرتبة عليه سابقا.فلا يثبت بها إلا صحة ما ترتبت عليها.

وأما إثبات نفس ما اعتقده سابقا حتى يترتب عليه بعد ذلك الاثار المترتبة على عدالة زيد يوم الجمعة وطهارة ثوبه في الوقت السابق فلا، فضلا عن إثبا مقارناته الغير الشرعية، مثل كونها على تقدير الحدوث باقية.

وإن أريد بها الثالث، فله وجه، بناء على تمامية قاعدة الشك بعد الفراغ وتجاوز المحل.

فإذا صلى بالطهارة المعتقدة، ثم شك في صحة إعتقاده وكونه متطهرا في ذلك الزمان، بنى على صحة

٢٩٩

الصفحة ٧٠٢

الصلاة، لكنه ليس من جهة إعتبار الاعتقاد السابق.

ولذا لو فرض في السابق غافلا غير معتقد لشئ من الطهارة والحدث بنى على الصحة ايضا، من جهة أن الشك في الصلاة بعد الفراغ منها لا إعتبار به على المشهور بين الاصحاب.

خلافا لجماعة من متأخري المتأخرين، كصاحب المدارك وكاشف اللثام، حيث منعا البناء على صحة الطواف إذا شك بعد الفراغ في كونه مع الطهارة.

والظاهر، كما يظهر من الاخير، أنهم يمنعون القاعدة المذكورة في غير أجزاء العمل.

ولعل بعض الكلام في ذلك سيجئ في مسألة أصالة الصحة في الافعال إن شاء الله.

وحصل الكلام في هذا المقام هو أنه إذا اعتقد المكلف قصورا أو تقصيرا بشئ في زمان، موضوعا كان أو حكما، إجتهاديا أو تقليديا، ثم زال إعتقاده، فلا ينفع إعتقاده السابق في ترتب آثار المعتقد، بل يرجع بعد زوال الاعتقاد إلى ما يقتضيه الاصول بالنسبة إلى نفس المعتقد وإلى الاثار المترتبة عليه سابقا أو لاحقا.

٣٠٠