فرائد الاصول الجزء ٢

فرائد الاصول0%

فرائد الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 438

  • البداية
  • السابق
  • 438 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23303 / تحميل: 4680
الحجم الحجم الحجم
فرائد الاصول

فرائد الاصول الجزء 2

مؤلف:
العربية

الصفحة ٧٦٣

وهي ضعيفة جدا.وقد طعن في ذلك التأليف وفي مؤلفه المحدث البحراني، قدس سره، في مقدمات الحدائق.

وأما أخبار التوقف الدالة على الوجه الثالث من حيث أن التوقف في الفتوى يستلزم الاحتياط في العمل، كما في ما لا نص فيه فهي محمولة على صورة التمكن من الوصول إلى الامام عليه السلام.

كما يظهر من بعضها، فيظهر منها: أن المراد ترك العمل وإرجاء الواقعة إلى لقاء الامام، عليه السلام، لا العمل فيها بالاحتياط.

ثم إن حكم الشارع في تلك الاخبار بالتخيير في تكافؤ الخبرين لا يدل على كون حجية الاخبار من باب السببية، يتوهم أنه لولا ذلك لاوجب التوقف، لقوة إحتمال أن يكون التخيير حكما ظاهريا عمليا في مورد التوقف، لا حكما واقعيا من تزاحم الواجبين، بل الاخبار المشتملة على الترجيحات وتعليلاتها أصدق شاهد على ما استظهرناه، من كون حجية الاخبار من باب الطريقية، بل هو أمر واضح.

ومراد من جعلها من باب الاسباب عدم إناطتها بالظن الشخصي، كما يظهر من صاحب المعالم، رحمه الله، في تقرير دليل الانسداد.

ثم المحكي عن جماعة، بل قيل إنه مما لا خلاف فيه، أن التعادل إن وقع للمجتهد في عمل نفسه كان مخيرا في عمل نفسه، وإن وقع للمفتي لاجل الافتاء فحكمه أن يخير المستفتي فيتخير في العمل كالمفتي.ووجه الاول واضح.

وأما وجه الثاني، فلان نصب الشارع للامارات وطريقيتها يشمل المجتهد والمقلد، إلا أن المقلد عاجز عن القيام بشروط العمل بالادلة من حيث تشخيص مقتضاها ودفع موانعها.

فإذا أثبت ذلك المجتهد جواز العمل بكل من الخبرين المتكافئين المشترك بين المقلد والمجتهد، تخير المقلد كالمجتهد، ولان إيجاب مضمون أحد الخبرين على المقلد لم يقم عليه دليل، فهو تشريع، ويحتمل أن يكون التخيير للمفتي، فيفتي بما اختار، لانه حكم للمتحير، وهو المجتهد.

ولا يقاس هذا بالشك الحاصل للمجتهد في بقاء الحكم الشرعي، مع أن حكمه وهو البناء على الحالة السابقة مشترك بينه وبين المقلد، لان الشك هناك في نفس الحكم الفرعي المشترك وله حكم مشترك.والتحير هنا في الطريق إلى الحكم.فعلاجه بالتخيير مختصر بمن يتصدى لتعيين الطريق.كما ان العلاج بالترجيح مختص به.

فلو فرضنا أن راوي أحد الخبرين عند المقلد أعدل وأوثق من الاخر، لانه أخبر واعرف به، مع تساويهما عند المجتهد أو إنعكاس الامر عنده، فلا عبرة بنظر المقلد.وكذا لو فرضنا تكافؤ قول اللغويين في معنى لفظ الرواية.فالعبرة بتحير المجتهد، لا تحير

٣٦١

الصفحة ٧٦٤

المقلد بين حكم يتفرع على أحد القولين وآخر يتفرع على آخر.والمسألة محتاجة إلى التأمل، وإن كان وجه المشهور.

هذا حكم المفتي.

وأما الحاكم والقاضي، فالظاهر، كما عن جماعة، أنه يتخير أحدهما فيقضي به، لان القضاء والحكم عمل له لا للغير فهو المخير، ولما عن البعض: من أن تخير المتخاصمين لا يرفع معه الخصومة.

ولو حكم على طبق إحدى الامارتين في واقعة، فهل له الحكم على طبق الاخرى في واقعة أخرى؟ المحكي عن العلامة، رحمه الله، وغيره، الجواز، بل حكي نسبته إلى المحققين، لما عن النهاية، من: (أنه ليس في العقل ما يدل على خلاف ذلك.

ولا يستبعد وقوعه، كما لو تغير إجتهاده، إلا أن يدل دليل شرعي خارج على عدم جوازه.

كما روي أن النبي، صلى الله عليه وآله، قال لابي بكر: لا تقض في الشئ الواحد بحكمين مختلفين)(١).

أقول: يشكل الجواز، لعدم الدليل عليه، لان دليل التخيير إن كان الاخبار الدالة عليه، فالظاهر أنها مسوقة لبيان وظيفة المتحير في إبتداء الامر، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى حال المتحير بعد الالتزام بأحدهما.

وأما العقل الحاكم بعدم جواز طرح كليهما فهو ساكت من هذه الجهة، والاصل عدم حجية الاخر بعد الالتزام بأحدهما.

كما تقرر في دليل عدم جواز العدول عن فتوى مجتهد إلى مثله.

نعم لو كان الحكم بالتخيير في المقام من باب تزاحم الواجبين كان الاقوى إستمراره، لان المقتضي له في السابق موجود بعينه.

بخلاف التخيير الظاهري في تعارض الطريقين، فإن إحتمال تعيين ما التزمه قائم، بخلاف التخيير الواقعي، فتأمل.

وإستصحاب التخيير غير جار، لان الثابت سابقا ثبوت الاختيار لمن لم يتخير، فإثباته لمن اختار والتزم إثبات للحكم في غير موضوعه الاول.

وبعض المعاصرين، رحمه الله، استجود هنا كلام العلامة، رحمه الله، مع أنه منع عن العدول عن أمارة إلى أخرى وعن مجتهد إلى آخر، فتدبر.

ثم إن حكم التعادل في الامارات المنصوبة في غير الاحكام، كما في أقوال أهل اللغة وأهل الرجال، يوجب التوقف، لان الظاهر إعتبار من حيث الطريقية إلى الواقع، لا السببية المختصة وإن لم يكن منوطا بالظن الفعلي.

وقد عرفت أن اللازم في تعادل ما هو من هذا القبيل التوقف

٣٦٢

الصفحة ٧٦٥

والرجوع إلى ما يقتضيه الاصل في ذلك المقامم.

إلا أنه إن جعلنا الاصل من المرجحات، كما هو المشهور وسيجئ، لم يتحقق التعادل بين الامارتين إلا بعد عدم موافقة شئ منهما للاصل، والمفروض عدم جواز الرجوع إلى الثالث، لانه طرح للامارتين.

فالاصل الذي يرجع إليه هو الاصل في المسألة المتفرعة على مورد التعارض.

كما لو فرضنا تعادل أقوال أهل اللغة في معنى الغناء أو الصعيد أو الجذع من الشاة في الاضحية، فإنه يرجع إلى الاصل في المسألة الفرعية.بقي هنا ما يجب التنبيه عليه خاتمة للتخيير ومقدمة للترجيح.

وهو أن الرجوع إلى التخيير غير جائز إلا بعد الفحص التام عن المرجحات، لان مأخذ التخيير إن كان هو العقل الحاكم بأن عدم إمكان الجمع في العمل لا يوجب الا طرح البعض، فهو لا يستقل بالتخيير في المأخوذ والمطروح إلابعد عدم مزية في أحدهما اعتبرها الشارع في العمل.

والحكم بعدمها لا يمكن إلا بعد القطع بالعدم أو الظن المعتبر أو إجراء أصالة العدم التي لا تعتبر فيها له دخل في الاحكام الشرعية الكلية إلا بعد الفحص التام، مع أن أصالة العدم لا تجدي في إستقلال العقل بالتخيير، كما لا يخفى.

وإن كان مأخذه الاخبار، فالمتراء‌ى منها من حيث سكوت بعضها عن جميع المرجحات وإن كان جواز الاخذ بالتخيير إبتداء، إلا أنه يكفي في تقييدها دلالة بعضها على الاخر على وجوب الترجيح ببعض المرجحات المذكورة فيها المتوقف على الفحص عنها المتممة فيما لم يذكر فيها من المرجحات المعتبرة بعدم القول بالفصل بينها منها.

هذا، مضافا إلى لزوم الهرج والمرج، نظير ما يلزم من العمل بالاصول العملية واللفظية قبل الفحص.

هذا، مضافا إلى الاجمامع القطعي، بل الضروررة، من كل من يرى وجوب العمل بالراجح من الامارتين، فإن الخلاف وإن وقع من جماعة في وجوب العمل بالراجح من الامارتين وعدم وجوبه، لعدم إعتبار الظن في أحد الطرفين، إلا أن من أوجب العمل بالراجح اوجب الفحص عنه ولم يجعله واجبا مشروطا بالاطلاع عليه.

وحينئذ فيجب على المجتهد الفحص التام عن وجود المرجح لاحدى الامارتين.

٣٦٣

الصفحة ٧٦٦

المقام الثاني في التراجيح

الترجيح تقديم إحدى الامارتين على الاخرى في العمل، لمزية لها عليها بوجه من الوجوه.

وفيه مقامات:

الاول في وجوب ترجيح لاحد الخبرين بالمزية الداخلية أو الخارجية الموجودة فيه.

الثاني في ذكر المزايا المنصوصة والاخبار الواردة.

الثالث في وجوب الاقتصار عليها أو التعدي إلى غيرها.

الرابع في بيان المرجحات من الداخلية والخارجية.

أما المقام الاول [ وهو ترجيح أحد الخبرين بالمزية الداخلية أو الخارجية ] فالمشهور فيه وجوب الترجيح.

وحكي عن جماعة منهم الباقلاني والجبائيان، عدم الاعتبار بالمزية وجريان حكم التعادل.

ويدل على المشهور مضافا إلى الاجماع المحقق والسيرة القطعية والمحكية عن الخلف والسلف وتواتر الاخبار بذلك أن حكم المتعارضين من الادلة على ما عرفت بعد عدم جواز طرحهما معا إما التخيير لو كانت الحجية من باب الموضوعية والسببية، وإما التوقف لو كانت حجيتها من باب الطريقية.

ومرجع التوقف أيضا إلى التخيير إذا لم نجعل الاصل من المرجحات أو فرضنا الكلام في مخالفي الاصل، إذ على تقدير الترجيح بالاصل يخرج صورة مطابقة أحدهما للاصل عن مورد التعادل.

فالحكم بالتخيير على تقدير فقده أو كونه مرجعا، بناء على أن الحكم في المتعادلين مطلقا التخيير، لا الاصل المطابق لاحدهما.

٣٦٤

الصفحة ٧٦٧

والتخيير إما بالنقل وإما بالعقل.أما النقل فقد قيد فيه التخيير بفقد المرجح، وبه يقيد ما اطلق فيه التخيير.

وأما العقل في يدل على التخيير بعد إحتمال اعتبار الشارع للمزية وتعيين العمل بذيها.

ولا يندفع هذا الاحتمال بإطلاق أدلة العمل بالاخبار لانها في مقام تعيين العمل بكل من المتعارضين مع الامكان.

لكن صورة التعارض ليست من موارد إمكان العمل بكل منهما وإلا لتعين العلمل بكليهما.

والعقل إنما يستفيد من ذلك الحكم المعلق بالامكان عدم جواز طرح كليهما، لا التخيير بينهما.

وإنما يحكم بالتخيير بضميمة أن تعيين أحدهمام ترجيح بلا مرجح.

فإن إستقل بعدم المرجح حكم بالتخيير، لانه نتيجة عدم إمكان الجمع وعدم جواز الطرح وعدم وجود المرجح لاحدهما.

وإن لم يستقل بالمقدمة الثالثة توقف عن التخيير، فيكون العمل بالراجح معلوم الجواز والعمل بالمرجوح مشكوكه.

فإن قلت: أولا إن كون الشئ مرجحا، مثل كون الشئ دليلا، يحتاج إلى دليل، لان التعبد بخصوص الراجح إذا لم يعلم من الشارع كان الاصل عدمه، بل العمل به مع الشك يكون تشريعا، كالتعبد بما لم يعلم حجيته.

وثانيا إذا دار الامر بين وجوب احدهما على التعين وأحدهما على البدل، فالاصل براء‌ة الذمة عن خصوص الواحد المعين، كما هو مذهب جماعة في مسألة دوران الامر بين التخيير والتعيين.

قلت: أما كون الترجيح كالحجية أمرا يجب ورود التعبد به الشارع فمسلم.

إلا أن الالتزام بالعمل بما علم جواز العمل به من الشارع من دون إستناد الالتزام إلى إلزام الشارع إحتياط لا يجري فيه ما تقرر في وجه حرمة العمل بما وراء العلم، فراجع.

نظير الاحتياط بإلتزام ما دل أمارة غير معتبرة على وجوبه مع إحتمامل الحرمة أو العكس.

وأما إدراج المسألة في مسألة دوران المكلف به بين أحدهما المعين وأحدهما على البدل، ففيه: أنه لا ينفع بعدما اخترنا في تلك المسألة وجوب الاحتياط وعدم جريان قاعدة البراء‌ة.

والاولى منع إدراجها في تلك المسألة، لان مرجع الشك في المقام إلى الشك في جواز العمل بالمرجوح.

ولا ريب أن مقتضى القاعدة المنع عما لم يعلم جواز العمل به من الامارات.

وهي ليست مختصة بما إذا شك في أصل الحجية إبتداء، بل تشمل ما إذا شك في الحجية الفعلية مع إحراز الحجية الشأنية، فان المرجوح وإن كان حجة في نفسه إلا أن حجيته فعلا مع معارضة الراجح بمعنى جواز العمل به فعلا غير معلوم.فالاخذ به والفتوى بمؤداه تشريع محرم بالادلة الاربعة، هذا.

والتحقيق: أنا إن قلنا بأن العمل بأحد المتعارضين في الجملة مستفاد من حكم الشارع به

٣٦٥

الصفحة ٧٦٨

بدليل الاجماع والاخبار العلاجية، كان اللازم بالراجح وطرح المرجوح وإن قلنا بأصالة البراء‌ه عند دوران الامر في المكلف به بين التعيين والتخيير، لما عرفت من أن الشك في جواز العمل بالمرجوح فعلا، ولا ينفع العمل به عينا في نفسه مع قطع النظر عن المعارض، فهو كأمارة لم يثبت حجيتها أصلا.

وإن لم نقل بذلك، بل قلنا بإستفادة العمل بأحد المتعارضين من نفس أدلة العمل بالاخبار: فإن قلنا بما اخترناه من أن الاصل التوقف، بناء على إعتبار الاخبار من باب الطريقية والكشف الغالبي عن الواقع، فلا دليل على وجوب الترجيح بمجرد قوة في أحد الخبرين، لان كلا منهما جامع لشرائط الطريقية، والتمانع يحصل بمجرد ذلك، فيجب الرجوع إلى الاصول الموجودة في تلك المسألة إذا لم يخالف كلا المتعارضين، فرفع اليد عن مقتضى الاصل المحكم في كل ما لم يكن طريق فعلي على خلافه بمجرد مزية لم يعلم إعتبارها لا وجه له، لان المعارض المخالف بمجرده ليس طريقا فعليا، لابتلائه بالمعارض الموافق للاصل والمزية الموجودة لم يثبت تأثيرها في دفع المعارض.

وتوهم: (إستقلال العقل بوجوب العمل بأقرب الطريقين إلى الواقع وهو الراجح)، مدفوع: بأن ذلك إنما هو فيما كان بنفسه طريقا، كالامارات المعتبرة لمجرد إفادة الظن.

وأما الطرق المعتبرة شرعا من حيث إفادة نوعها الظن وليس إعتبارها منوطا بالظن، فالمتعارضان المفيدان منها بالنوع للظن في نظر الشارع سواء.

وما نحن فيه من هذا القبيل، لان المفروض أن المعارض المرجوح لم يسقط من الحجية الشأنية كما يخرج الامارة المعتبرة بوصف الظن عن الحجية إذا كان ممعارضها أقوى.

وبالجملة، فإعتبار قوة الظن في الترجيح في تعارض ما لم ينط إعتباره بإفادة الظن أو بعدم الظن على الخلاف لا دليل عليه.

وإن قلنا بالتخيير، بناء على إعتبار الاخبار من باب السببية والموضوعية، فالمستفاد بحكم العقل من دليل وجوب العمل بكل من المتعارضين مع الامكان كون وجوب العمل بكل منهما عينا مانعا عن وجوب العمل بالاخر كذلك.

ولا تفاوت بين الوجوبين في المانعية قطعا.

ومجرد مزية أحدهما على الاخر بما يرجع إلى أقربيته إلى الواقع لا يوجب كون وجوب العمل بالراجح مانعا عن وجوب العمل بالمرجوح دون العكس، لان المانع بحكم العقل هو مجرد الوجوب والمفروض وجوده في المرجوح.

وليس في هذا الحكم العقلي إهمال وإجمال وواقع مجهول حتى يحتمل تعيين الراجح ووجوب طرح المرجوح.

وبالجملة، فحكم العقل بالتخيير نتيجة وجوب العمل بكل منهمام في حد ذاته، وهذا الكلام

٣٦٦

الصفحة ٧٦٩

مطرد في كل واجبين متزاحمين.

نعم لو كان الوجوب في أحدهما آكد والمطلوبية فيه أشد استقل العقل عند التزاحم بوجوب ترك غيره وكون وجوب الاهمم مزاحما لوجوب غيره من دون عكس.وكذا لو احتمل الاهمية في أحدهما دون الاخر.

وما نحن فيه ليس كذلك قطعا، فإن وجوب العمل بالراجح من الخبرين ليس آكد من وجوب العمل بغيره، هذا.

وقد عرفت فيما تقدم أنا لا نقول بأصالة التخيير في تعارض الاخبار، بل ولا غيرها من الادلة، بناء على أن الظاهر من أدلتها وأدلة حكم تعارضها كونها من باب الطريقية، ولازمه التوقف والرجوع إلى الاصل المطابق لاحدهما أو أحدهما المطابق للاصل، إلا أن الدليل الشرعي دل على وجوب العمل بأحد المتعارضين في الجملة.

وحيث كان ذلك بحكم الشرع فالمتيقن من التخيير هو صورة تكافؤ الخبرين.

أما مع مزية أحدهما على الاخر من بعض الجهات فالمتيقن هو جواز العمل بالراجح.

وأما العمل بالمرجوح فلم يثبت، فلا يجوز الالتزام، فصار الاصل وجوب العمل بالمرجح، وهو أصل ثانوي، بل الاصل فيما يحتمل كونه مرجحا الترجيح به، إلا أن يرد عليه إطلاقات التخيير، بناء على وجوب الاقتصار في تقييدها على ما علم كونه مرجحا.

وقد يستدل على وجوب الترجيح: بأنه لولا ذلك لاختل نظم الاجتهاد، بل نظام الفقه، من حيث لزوم التخيير بين الخاص والعام والمطلق والمقيد وغيرهمام من الظاهر والنص المتعارضين.

وفيه: أن الظاهر خروج مثل هذه المعارضات عن محل النزاع، فإن الظاهر لا يعد معارضا للنص، إما لان العمل به لاصالة عدم الصارف المندفعة بوجود النص، وإما لان ذلك لا يعد تعارضا في العرف.

ومحل النزاع في غير ذلك.

وكيف كان، فقد ظهر ضعف القول المزبور وضعف دليله المذكور له، وهو عدم الدليل على الترجيح بقوة الظن.

وأضعف من ذلك ما حكي عن النهاية: (من إحتجاجه بأنه لو وجوب الترجيح بين الامارات في الاحكام لوجب عند تعارض البينات.والتالي باطل، لعدم تقديم شهادة الاربعة على الاثنين).

وأجاب عنه، في محكي النهاية والمنية: (بمنع بطلان التالي وأنه يقدم شهادة الاربعة على الاثنين.

سلمنا، لكن عدم الترجيح في الشهادة ربما كان مذهب أكثر

٣٦٧

الصفحة ٧٧٠

الصحابة والترجيح هنا مذهب الجميع)(١)، إنتهى.

ومرجع الاخير إلى أنه لولا الاجماع حكمنا بالترجيح في البينات أيضا.ويظهر ما فيه مما ذكرنا سابقا.

فإنا لو بنينا على أن حجية البينة من باب الطريقية، فاللازم مع التعارض التوقف والرجوع إلى ما يقتضيه الاصول في ذلك المورد من التحالف أو القرعة أو غير ذلك.

ولو بني على حجيتها من باب السببية الموضوعية، فقد ذكرنا أنه لا وجه للترجيح بمجرد أقربية أحدهما إلى الواقع، لعدم تفاوت الراجح والمرجوح في الدخول فيما دل على كون البينة سببا للحكم على طبقها.

وتمانعهما مستند إلى مجرد سببية كل منهما، كما هو المفروض، فجعل أحدهما مانعا دون الاخر لا يحتمله العقل.

ثم إنه يظهر من السيد الصدر الشارح للوافية الرجوع في المتعارضين من الاخبار إلى التخيير أو التوقف والاحتياط وحمل أخبار الترجيح على الاستحباب.

حيث قال، بعد إيراد إشكالات على العمل بظاهر الاخبار: (إن الجواب عن الكل ما أشرنا إليه، من أن الاصل التوقف في الفتوى والتخيير في العمل إن لم يحصل من دليل آخر العلم بعدم مطابقة أحد الخبرين للواقع، وأن الترجيح هو الافضل والاولى)(٢).ولا يخفى بعده عن مدلول أخبار الترجيح.

وكيف يحمل الامر بالاخذ بمخالف العامة وطرح ما وافقهم على الاستحباب، خصوصا مع التعليل بأن الرشد في خلافهم، وأن قولهم في المسائل مبني على مخالفة أمير المؤمنين، عليه السلام، فيما يسمعونه منه.

وكذا الامر بطرح الشاذ النادر وبعدم الاعتناء والالتفات إلى حكم غير الاعدل والافقه من الحكمين.

مع أن في سياق تلك المرجحات موافقة الكتاب والسنة ومخالفتهما، ولا يمكن حمله على الاستحباب.

فلو حمل غيره عليه لزم التفكيك، فتأممل.

وكيف كان، فلا شك أن التفصي عن الاشكالات الداعية له إلى ذلك أهون من هذا الحمل، لما عرفت من عدم جواز الحمل على الاستحاب.

ثم لو سلمنا الامر بين تقييد أخبار التخيير وبين حمل أخبار الترجيح على الاستحباب، فلو لم يكن الاول أقوى وجب التوقف.

فيجب العمل بالترجيح، لما عرفت: من أن حكم الشارع بأحد المتعارضين إذا كان مرددا بين التخيير والتعيين وجب إلتزام ما احتمل تعيينه.

____________________

(١) النهاية، ص..، مخطوط.

(٢) شرح الوافية، ص..، مخطوط.

٣٦٨

الصفحة ٧٧١

المقام الثاني في ذكر الاخبار الواردة في أحكام المتعارضين وهي أخبار

الاول: ما رواه المشايخ الثلاثة بإسنادهم عن عمر بن حنظلة: (قال: سألت أبا عبدالله، عليه السلام، عن رجلين من أصحابنا، يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحل ذلك؟.

قال عليه السلام: من تحاكم اليهم في حق أو باطل، فإنما تحاكم إلى الطاغوت.

وما يحكم له فإنما ياخذه سحتا وإن كان حقه ثابتا، لانه أخذ بحكم الطاغوت وإنما أمر الله أن يكفر به.

قال الله تعالى: (ويتحاكمون إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به).

قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكما، فإني قد جعلته عليكم حاكما.

فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنما بحكم الله استخف وعلينا قد رد، والراد علينا الراد على الله، وهو على حد الشرك بالله.

قلت: فإن كان كل رجل يختار رجلا من أصحابنا، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما، فاختلفا في ما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟.

قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما.ولا يلتفت إلى ما يحكم به الاخر.

قلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا، لا يفضل واحد منهما على الاخر؟ قال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه

٣٦٩

الصفحة ٧٧٢

بين أصحابك، فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه.

وإنما الامور ثلاثة، أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد حكمه إلى الله.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك.

فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم.

قال: قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به، ويترك ما خالف الكتاب والسنة ووافق العامة.

قلت: جعلت فداك ! أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والاخر مخالفا، بأي الخبرين يؤخذ؟ قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد.

فقلت: جعلت فداك ! فإن وافقهم الخبران جميعا.

قال: ينظر إلى ما هم أميل إليه حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالاخر.

قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا.

قال: إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك.

فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات)(١).

وهذه الرواية الشريفة وإن لم تخل عن الاشكال بل الاشكالات، من حيث ظهور صدرها في التحكيم لاجل فصل الخصومة وقطع المنازعة، فلا يناسبها التعدد ولا غفلة الحكمين عن التعارض الواضح لمدرك حكمه، ولا إجتهاد المترافعين وتحريهما في ترجيح مستند احد الحكمين على الاخر، ولا جواز الحكم من أحدهما بعد حكم الاخر مع بعد فرض وقوعهما دفعة، معه أن الظاهر حنيئذ تساقطهما، والحاجة إلى حكم ثالث ظاهرة بل صريحة في وجوب الترجيح بهذه المرجحات بين المتعارضين، فإن تلك الاشكالات لا تدفع هذا الظهور بل الصراحة.

نعم يرد عليه بعض الاشكالات في ترتب المرجحات، فإن الظاهر الرواية تقديم الترجيح من

____________________

(١) الكافي (الاصول)، ج ١، ص ٦٧.

٣٧٠

الصفحة ٧٧٣

حيث صفات الراوي على الترجيح بالشهرة والشذوذ.

مع ان عمل العلماء قديما وحديثنا على العكس على ما يدل عليه المرفوعة الاتية، فإن العلماء لا ينظرون عند تعارض المشهور والشاذ إلى صفات الراوي أصلا.

اللهم إلا أن يمنع ذلك، فإن الراوي إذا فرض كونه أفقه وأصدق وأورع، لم يبعد ترجيح روايته وإن انفرد بها على الرواية المشهورة بين الرواة، لكشف إختياره إياها مع فهمه وورعه عن إطلاعه على قدح في الرواية المشهورة، مثل صدورها عن تقية أو تأويل لم يطلع على غيره، لكمال فقاهته وتنبهه لدقائق الامور وجهات الصدور.

نعم مجرد أصدقية الراوي وأورعيته لا يوجب ذلك، ما لم ينضم إليه الافقهية، هذا.

ولكن الرواية مطلقة، فتشمل الخبر المشهور روايته بين الاصحاب حتى بين من هو أفقه من هذا المتفرد برواية الشاذ وإن كان هو افقه من صاحبه المرضي بحكومته.مع أن أفقهية الحاكم بإحدى الروايتين لا تستلزم أفقهية جميع رواتها.

فقد يكون من عداه مفضولا بالنسبة إلى رواة الاخرى، إلا أن ينزل الرواية على غيرها هاتين الصورتين.

وبالجملة، فهذا الاشكال أيضا لا يقدح في ظهور الرواية بل صراحتها في وجوب الترجيح بصفات الراوي وبالشهرة من حيث الرواية وبموافقة الكتاب ومخالفة العامة.نعم المذكور في الرواية الترجيح بإجتماع صفات الراوي من العدالة والفقاهة والصداقة والورع.لكن الظاهر إرادة بيان جواز الترجيح بكل منها.ولذا لم يسأل الراوي عن صورة وجود بعض الصفات دون بعض أو تعارض الصفات بعضها مع بعض، بل ذكر في السؤال أنهما، معا، عدلان مرضيان لا يفضل أحدهما على صاحبه.فقد فهم أن الترجيح بمطلق التفاضل.وكذا يوجه الجمع بين موافقة الكتاب والسنة ومخالفة العامة مع كفاية واحدة منها إجماعا.

الثاني: ما رواه إبن أبي جمهور الاحسائي في عوالي اللئالي عن العلامة مرفوعا إلى زرارة: (قال: سألت أبا جعفر، عليه السلام، فقلت: جعلت فداك ! ياتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ فقال عليه السلام: يا زرارة! خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر.

فقلت: يا سيدي ! إنهما معا مشهوران مأثوران عنكم.

فقال: خذ بمام يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك.

فقلت: إنهما معا عدلان مرضيان موثقان.

٣٧١

الصفحة ٧٧٤

فقال: إنظر ما وافق منهما العامة فاتركه وخذ بما خالف، فإن الحق فيما خالفهم.

قلت: ربما كان موافقين لهم أو مخالفين: فكيف أصنع؟ قال: إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الاخر.

قلت: فإنهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له، فكيف أصنع؟ فقال: إذن فتخير أحدهما وتأخذ به ودع الاخر)(١).

الثالث: ما رواه الصدوق بإسناده عن أبي الحسن الرضا، عليه السلام، في حديث طويل: قال فيه: (فما ورد عليكم من حديثين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله.

فما كان في كتاب الله موجودا حلالا او حراما، فاتبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوهما على سنن رسول الله، صلى الله عليه وآله.

فما كان في السنة موجودا منهيا عنه نهي حرام او مأمورا به عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أمر إلزام، فاتبعوا ما وافق نهي النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وأمره.

وما كان في السنة نهي إعافة أو كراهة ثم كان الخبر خلافه فذلك رخصة في ما عافه رسول الله، صلى الله عليه وآله، وكرهه ولم يحرمه.

فذلك الذي يسع الاخذ بهما جميعا وبأيهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتباع والرد إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله، وما لم تجدوه في شئ من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه، فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم.

وعليكم بالكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا)(٢).

الرابع: ما عن رسالة القطب الراوندي بسنده الصحيح عن الصادق عليه السلام: (إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فذروه.

فإن لم تجدوه في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة.فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه).

الخامس: ما بسنده أيضا عن الحسين السري قال: أبوعبدالله عليه السلام:

____________________

(١) عوالي اللئالي، ج ٤، ص ١٣٣.

(٢) عيون اخبار الرضا، ج ١، ص ٢٠، ح ٤٥.

(٣) وسائل الشيعة، ج ١٨، ص ٨٤.

٣٧٢

الصفحة ٧٧٥

إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم)(١).

السادس: ما بسنده أيضا عن الحسن بن الجهم في حديث: (قلت له يعني العبد الصالح، عليه السلام -: يروى عن أبي عبدالله، عليه السلام، شئ ويروى عنه أيضا خلاف ذلك.

فبأيهما نأخذ؟ قال: خذ بما خالف القوم.وما وافق القوم فاجتنبه).

السابع: ما بسنده أيضا عن محمد بن عبدالله: (قال: قلت للرضا عليه السلام: كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ قال: إذا ورد عليكم خبران مختلفان، فانظروا ما خالف منهما العامة فخذوه، وانظروا ما يوافق أخبارهم فذروه).

الثامن: ما عن الاحتجاج بسنده عن سماعة بن مهران: (قال قلت لابي عبدالله عليه السلام: يرد علينا حديثان، واحد يأمرنا بالاخذ به والآخر ينهانا.

قال: لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأل.

قلت: لا بد أن نعمل بواحد منهما.

قال: خذ بما خالف العامة).

التاسع: ما عن الكافي بسنده عن المعلى بن خنيس: (قال: قلت لابي عبدالله عليه السلام: إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ؟ قال: خذوا به حتى يبلغكم عن الحي، فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله.

قال: ثم قال أبوعبدالله عليه السلام: إنا والله لا ندخلكم إلا فيما يسعكم).

العاشر: ما عنه بسنده إلى الحسين بن المختار، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبدالله عليه السلام: (قال: يا أبا عمرو ! أرأيت لو حدثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثم جئت بعد ذلك تسألني عنه، فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك، بأيهما كنت تأخذ؟ قلت: بأحدثهما وأدع الآخر.

قال: قد أصبت يا أبا عمرو، أبى الله إلا أن يعبد سرا.

أما والله، لئن فعلتم ذلك، إنه لخير لي ولكم.أبى الله لنا في

____________________

(١) وسائل الشيعة، ج ، ص ٨٥.

(٢) وسائل الشيعة، ج ١٨، ص ٨٥.

(٣) وسائل الشيعة، ج ١٨، ص ٨٦.

(٤) الاحتجاج، ص ١٩٥.

(٥) الكافي، (الاصول)، ج ١، ص ٦٧.

(٦) الكافي (الاصول)، ج ١، ص ٢١٨.

٣٧٣

الصفحة ٧٧٦

دينه إلا التقية).

الثاني عشر: ما عنه بسنده الموثق عن محمد بن مسلم: (قال: قلت لابي عبدالله عليه السلام: ما بال أقوام يروون عن فلان عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لا يتهمون بالكذب، فيجئ منكم خلافه.

قال: إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن).

الثالث عشر: ما بسنده الحسن عن أبي حيون مولى الرضا عليه السلام: (إن في أخبارنا محكما كمحكم القرآن ومتشابها كمتشابه القرآن.

فردوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا).

الرابع عشر: ما عن معاني الاخبار بسنده عن داود بن قرقد: (قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: أنتم افقه الناس إذا عرفتم معانى كلامنا.إن الكلمه لتنصرف على وجوه.فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب).

وفي هاتين الروايتن الاخيرتين دلالة على وجوب الترجيح بحسب قوة الدلالة.هذا ما وقفنا عليه من الاخبار الدالة على التراجيح.إذا عرفت ما تلوناه عليك من الاخبار، فلا يخفى عليك أن ظواهرها متعاضة، فلا بد من علاج ذلك.

والكلام في ذلك يقع في مواضع.

الاول: في علاج تعارض مقبولة إبن حنظلة ومرفوعا زرارة.

حيث أن الاولى صريحة في تقديم الترجيح بصفات الراوي على الترجيح بالشهرة، والثانية بالعكس.

هي وإن كانت ضعيفة السند إلا أنها موافقة لسيرة العلماء في باب الترجيح، فإن طريقتهم مستمرة على تقديم المشهور على الشاذ.

والمقبولة وإن كانت مشهورة بين العلماء حتى سميت مقبولة، إلا أن عملهم على طبق المرفوعة وإن كانت شاذة من حيث الرواية، حيث لم توجد مرويه في شئ من جوامع الاخبار المعروفة، ولم يحكها إلا إبن أبي جمهور عن العلامة مرفوعا إلى زرارة.

إلا أن يقال: إن المرفوعة تدل على تقديم المشهور رواية على غيره، وهي هنا المقبولة، ولا دليل على الترجيح بالشهرة العملية.

مع أنا نمنع أن عمل المشهور على تقديم الخبر المشهور رواية على غيره إذا كان الغير أصح منه من حيث صفات الراوي، خصوصا صفة الافقهية.

____________________

(١) الكافي (الاصول)، ج ١، ص ٦٤.

(٢) عيون اخبار الرضا، ج ١، ص ٢٩٠.

(٣) معاني الاخبار، ص ١.

٣٧٤

الصفحة ٧٧٧

ويمكن أن يقال: إن السؤال لما كان عن الحكمين كان الترجيح فيهما من حيث الصفات.

فقال عليه السلام: (الحكم ما حكم به أعدلهما.إلخ)، مع أن السائل ذكر: (انهما اختلفا في حديثكم).

ومن هنا اتفق الفقهاء على عدم الترجيح بين الحكام إلا بالفقاهة والورع.

فالمقبولة نظير رواية داود بن الحصين الواردة في إختلاف الحكمين من دون تعرض الراوي، لكون منشأ إختلافهما الاختلاف في الروايات.

حيث قال عليه السلام: (ينظر إلى أفقههما وأعلمهما وأوروعهما فينفذ حكمه).وحينئذ فيكون الصفات من مرجحات الحكمين.

نعم لمام فرض الراوي تساويهما أرجعه الامام، عليه السلام، إلى ملاحظة الترجيح في مستنديهما وأمره بالاجتهاد والعمل في الواقعة على طبق الراجح من الخبرين مع إلغاء حكومة الحكمين كلاهما.

فأول المرجحات الخبرية هي الشهرة بين الاصحاب فينطبق على المرفوعة.

نعم قد يوررد على هذا الوجه: أن اللازم على قواعسد الفقهاء الرجوع مع تساوي الحاكمين إلى اختيار المدعي.

ويمكن التفضي عنه بمنع جريان هذشا الحكم في قاضي التحكيم.وكيف كان فهذا التوجيه غير بعيد.

الثاني ان الحديث الثامن، وهي رواية الاحتجاج عن سماعة، يدل على وجوب التوقف أولا، ثم مع عدم إمكانه يرجع إلى الترجيح بموافقة العامة ومخالفتهم.

وأخبار التوقف على ما عرفت وستعرف محمولة على صورة التمكن من العلم، فتدل الرواية على أن الترجيح بمخالفة العامة بل غيرها من المرجحات إنما يرجع اليها تعد العجز عن تحصيل العلم فغى الواقعة بالرجوع إلى الامام، عليه السلام، كما ذهب إليه بعض.

وهذا خلاف ظاهر الاخبار الامرة بالرجوع إلى المرجحات ابتداء بقول مطلق، بل بعضها صريح في ذلك حتى مع التمكن من العلم، كالمقبولة الامرة بالرجوع إلى المرجحات ثم بالارجاء حتى يلقى الامام، فيكون وجوب الرجوع إلى الامام بعد فقد المرجحات.

والظاهر لزوم طرحها، لمعارضتها بالمقبولة الراجحة عليها، فيبقى إطلاقات الترجيح سليمة.

الثالث ان مقتضى القاعدة تقييد إطلاق ما اقتصر فيها على بعض المرجحات بالمقبولة، إلا انه قد يستبعد ذلك لورود تلك المطلقات في مقام الحاجة، فلابد جعل المقبولة كاشفة عن قرينة متصلة فهم منها الامام، عليه السلام، أن مراد الراوي تساوي الروايتين من سائر الجهات، كما

٣٧٥

الصفحة ٧٧٨

يحمل إطلاق أخبار التخيير على ذلك.

الرابع ان الحديث الثانى عشر الدال على نسخ الحديث بالحديث، على تقدير شموله للروايات الامامية، بناء على القول بكشفهم، عليهم السلام، عن الناسخ الذى أودعه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عندهم، هل هو مقدم على باقي الترجيحات او مؤخر؟ وجهان، من أن النسخ من جهات التصرف (في الظاهر)، لانه من قبيل تخصييص الازمان، ولذا ذكروه في تعارض الاحوال، وقد مر وسيجئ تقديم الجمع بهذا النحو على الترجيهات الاخر، ومن أن النسخ على فرض ثبوته في غاية القلة، فلا يعتنى به في مقام الجمع ولايحكم به العرف.

فلابد من الرجوع إلى المرجحات الاخر، كما إذا امتنع الجمع.

وسيجئ بعض الكلام في ذلك.

الخامس: ان الروايتين الاخيرين ظاهرتان في وجوب الجمع بين الاقوال عن الائمة، صلوات الله عليهم، برد المتشابه إلى المحكم.

والمراد بالمتشابه بقرينة قوله (ولاتتبعوا متشابهها فتضلوا)، هو الظاهر الذى اريد منه خلافه، اذ المتشابه اما المجمل واما المؤول.ولا معنى للنهي عن اتباع المجمل.فالمراد إرجاع الظاهر إلى النص او إلى الاظهر.

وهذا المعنى لما كان مركوزا في أذهان أهل اللسان ولم يحتج إلى البيان في الكلام المعلوم الصدور عنهم، فلا يبعد إرادة ما يقع من ذلك في الكلمات، المحكميه عنهم باسناد الثقات، التي نزلت منزله المعلوم الصدور.

فالمراد أنه لا يجوز المبادرة إلى طرح الخبر المنافي لخبر آخر أرجح منه إذا أمكن رد المتشابه منها إلى المحكم، وأنت فقيه من تأمل في أطراف الكلمات المحكية عنهم ولم يبادر إلى طرحها، لمعارضتها بما هو أرجح منها.

والغرض من الروايتين الحث على الاجتهاد واستفراغ الوسع في معاني الروايات وعدم المبادرة إلى طرح الخبر بمجرد مرجح لغيره عليه.

٣٧٦

الصفحة ٧٧٩

المقام الثالث في عدم جواز الاقتصار على المرجحات المنصوصة فنقول: اعلم أن حاصل ما يستفاد من مجموع الاخبار بعد الفراغ عن تقديم الجمع المقبول على الطرح، وبعد ما ذكرنا من أن الترجيح بالاعدلية وأخواتها إنما هو بين الحكمين مع قطع النظر عن ملاحظة مستندهما هو أن الترجيح أولا بالشهرة والشذوذ ثم بالاعدليه والاوثقيه ثم بخالفة العامه ثم بخالفة ميل الحكام.

واما الترجيح بموافقة الكتاب والسنة فهو من باب اعتضاد أحد الخبرين بدليل قطعي الصدور ولا أشكال في وجوب الاخذ به، وكذا الترجيح بموافقة الاصل.

ولاجل ما ذكر لم يذكر ثقة الاسلام ن رضوان الله عليه، في مقام الترجيح ن في ديباجة الكافي سوى ما ذكر، فقال: (اعلم يا أخي أرشدك الله، أنه لا يسع أحدا تمييز شئ مما اختلفت الرواية فيه من العلماء، عليهم السلام، برأيه إلا على ما أطلقه العالم، عليه السلام، بقوله (اعرضوهما على كتاب الله عزوجل.

فما وافق كتاب الله عزوجل فخذوه، وما خالف كتاب ابقبه عزوجل فذروه)، وقوله عليه السلام: (دعوا ما وافق القوم، فان الرشد في خلافهم)، وقوله عليه يالسلام (خذوا بالمجمع عليه، فان المجمع عليه مما ريب فيه).

ونحن لانعرف من جميع ذلك إلا أقله ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم، عليه السلام، وقبول ما وسع من الامر فيه بقوله (بأيهما أخذتهم من باب التسليم وسعكم)(١)، انتهى.

ولعله ترك الترجيح بالاعدلية والاوثقية، لان الترجيح بذلك مركوز في أذهان الناس غير محتاج إلى التوقيف.

____________________

(١) الكافي (الاصول)، ج ١، ص ٨.

٣٧٧

الصفحة ٧٨٠

وحكى عن بعض الاخباريين: أن وجه إهمال هذا المرجح كون أخبار كتابه كلها صحيحة.

وقوله: (ولا نعلم من ذلك إلا أقله)، إشارة إلى أن العلم بمخالفة الرواية للعامة في زمن صدورها او كونها مجمعا عليها (قليل).والتعويل على الظن بذلك عار عن الدليل.

وقوله: (لانجد شيئا أحوط ولاأوسع، الخ)، أما أوسعية التخيير فواضح.

وأما وجه كونه أحوط مع أن الاحوط التوقف والاحتياط في العمل فلا يبعد ان يكون من جهة أن في ذلك ترك العمل بالظنون التي لم يثبت الترجيح بها والافتاء بكون مضمونها هو حكم الله لاغير، وتقييد إطلاقات التخيير والتوسعة من دون نص مقيد.

ولذا طعن غير واحد من الاخباريين على رؤساء المذهب ن مثل المحقق والعلامة، بأنهم يعتمدون في الترجيحات على امور اعتمدها العامة في كتبهم مما ليس في النصوص منه عين ولا أثر.

قال المحدث البحراني، قدس سره، في هذا المقام من مقدمات الحدائق: (إنه قد ذكر علماء الاصول من الترجيحات في هذا المقام ما لا برجع أكثرها إلى محصول.

والمعتمد عندنا ما ورد من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله، من الاخبار المشتمله على وجوه الترجيحات)(١)، انتهى.

اقول: قد عرفت أن الاصل بعد ورود التكليف الشرعي بالعمل بأحد المتعارضين هو العمل بما يحتمل أن يكون مرجحا في نظر الشارع، لان جواز العمل بالمرجوح مشكوك حينئذ.

نعم لو كان المشرجع بعد التكافؤ هو التوقف والاحتياط، كان الاصل عدم الترجيح إل بما علم كونه مرجحا.

لكن عرفت أن المختار مع التكافؤ هو التخيير.

فالاصل هو العمل بالراجح، إلا أن يقال: إن إطلاقات التخيير حاكمة على هذا الاصل.

فلا بد للمعتدي من المرجحات الخاصة المنصوصة من أحد أمرين، إما أن يستنبط من النصوص ولو بمعونة الفتاوى وجوب العمل بكل مزية توجب اقربية ذيها إلى الواقع، وإما أن يستظهر من إطلاقات التخيير الاختصاص بصورة التكافؤ من جميع الوجوه.

والحق: أن تدقيق النظر في أخبار الترجيح يقتضي التزام الاول.

كما أن التأمل الصادق في أخبار التخيير يقتضي التزام الثاني.

ولذا ذهب جمهور المجتهدين إلى عدم الاقتصار على المرجحات الخاصة، بل ادعى بعضهم ظهور الاجماع وعدم ظهور الخلاف على وجوب العمل بالراجح من

____________________

(١) الحدائق الناضرة، ج ١، ص ٩٠.

٣٧٨

الصفحة ٧٨١

الدليلين بعد أن حكى الاجماع عليه من جماعة.

وكيف كان، فما يمكن استفادة هذا المطلب منه فقرات من الروايات: منها: الترجيح بالاصدقية في المقبولة وبالاوثقية في المرفوعة.

فان اعتبار هاتين الصفتين ليس إلا لترجيح الاقرب إلى مطابقة الواقع في الناظر في المتعارضين من حيث انه أقرب من غير مدخلية خصوصية سبب، وليستا كالاعدلية والافقهية تحتملان لاعتبار الاقربية الحاصلة من السبب الخاص وحينئذ، فنقول: إذا كان أحد الراويين أضبط من الاخر او أعرف بنقل الحديث بالمعنى او شبه ذلك.

فيكون أصدق وأوثق من الواري الاخر، ونتعدى من صفات الراوي المرجحة إلى صفات يارواية الموجبة لاقربية صدورها، لان أصدقية الراوي وأوثقيته لم تعتبر في الراوي إلا من حيث حصول صفة الصدق والوثاقة في الروايه.

فاذا كان أحد الخبرين منقولا باللفظ والاخر منقولا بالمعنى كان الاول أقرب إلى الصدق وأولى بالوثوق.

ويؤيد ما ذكرنا: ان الراوي بعد سماع الترجيح بمجموع الصفات لم يسأل عن صورة وجود بعضها وتخالفها في الروايتين.

وإنما سأل عن حكم صورة تساوي الراويين في الصفات المذكورة وغيرها حتى قال: (لا يفضل أحدهما على صاحبه)، يعني بمزيه من المزايا أصلا.

فلولا فهمه: - أن كل واحد من هذه الصفات وما يشبهها مزية لم يكن وقع للسؤال عن صورة عدم مزية فيهما رأسا، بل ناسبه السؤال عن حكم عدم إجتماع الصفات، فافهم.

ومنها: تعليله، عليه السلام، الاخذ بالمشهور بقوله: (فإن المجمع عليه لا ريب فيه).

توضحى ذلك: أن معنى كون الرواية مشهورة كونها معروفة عند الكل، كما يدل عليه فرض السائل كليهما مشهورين.

والمراد بالشاذ مما لا يعرفه إلا القليل.

ولا ريب أن المشهور بهذا المعنى ليس قطعي المتن والدلالة حتى يصير مما لا ريب فيه.

وإلا لم يمكن فرضهما مشهورين ولا الرجوع إلى صفات الراوي قبل ملاحظة الشهرة ولا الحكم بالرجوع مع شهرتهما إلى المرجحات الاخر.فالمراد بنفي الريب نفيه بالاضافة إلى الشاذ.

ومعناه: أن الريب المحتمل في الشاذ غير محتمل فيه.

فيصير حاصل التعليل ترجيح المشهور على الشاذ بأن في الشاذ إحتمالا لا يوجد في المشهور، ومقتضى التعدي عن مورد النص في العلة وجوب الترجيح بكل ما يوجب كون أحد الخبرين أقل إحتمالا لمخالفة الواقع.

ومنها: تعليلهم، عليهم السلام، لتقديم الخبر المخالف للعامة بأن الحق والرشد في خلافهم، وأن ما وافقهم فيه التقية، فإن هذا كلها قضايا غالبية لا دائمية.فيدل بحكم التعليل على وجوب ترجيح

٣٧٩

الصفحة ٧٨٢

كل ما كان معه أمارة الحق والرشد وترك ما فيه مظنة خلاف الحق والصواب.

بل الانصاف: أن مقتضى هذا التعليل كسابقه وجوب الترجيح بما هو أبعد عن الباطل من الاخر، وإن لم يكن عليه أمارة المطابقة، كما يدل عليه قوله عليه السلام: (ما جاء‌كم عنا من حديثين مختلفين فقسمهما على كتاب الله وأحاديثنا، فإن أشبههما فو حق، وإن لم يشبههما فهو باطل)، فإنه لا توجيه لهاتين القضيتين إلا ما ذكرنا من إرادة الابعدية عن الباطل والاقربية إليه.

ومنها: قوله عليه السلام: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، دل على أنه إذا دار الامر بين أمرين في أحدهما ريب ليس في الاخر ذلك الريب يجب الاخذ به، وليس المراد نفي مطلق الريب، كما لا يخفى.

وحينئذ فإذا فرض أحد المتعارضين منقولا بلفظه والاخر منقولا بالمعنى وجب الخذ بالاول، لان إحتمال الخطأ في النقل بالمعنى منفي فيه.وكذا إذا كان أحدهما أعلى سندا لقلة الوسائط.

إلى غير ذلك من المرجحات النافية للاحتمال الغير المنفي في طرف المرجوح.

____________________

(١) تفسير العياشي، ج ١، ص ٩، ح ٧ وسائل الشيعة، ج ١٨، ص ٨٩، ح ٣٣٣٦٥.

٣٨٠