فرائد الاصول الجزء ٢

فرائد الاصول0%

فرائد الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 438

  • البداية
  • السابق
  • 438 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23298 / تحميل: 4680
الحجم الحجم الحجم
فرائد الاصول

فرائد الاصول الجزء 2

مؤلف:
العربية

الصفحة ٨٠٣

والغرض من إطالة الكلام هنا أن بعضهم تخيل: أن المرجحات المذكوره في كلماتهم للخبر من حيث السند او المتن، بعضها يفيد الظن القوي، وبعضها يفيد الظن الضعيف، وبعضها لا يفيد الظن أصلا.

فحكم بحجية الاوليين واستشكل في الثالث، من حيث أن الاحوط الاخذ بما فيه المرجح، ومن إطلاق أدلة التخييرن وقوى ذلك بناء على أنه لا دليل على الترجيح بالامور التعبدية في مقابل إطلاقات التخيير.

وأنت خبير بأن جميع المرجحات المذكورة مفيدة للظن الشأني بالمعنى الذي ذكرنا.

وهو أنه لو فرض القطع بكذب أحد الخبرين كان إحتمال كذب المرجوح أرجح من صدقه.

وإذا لم يفرض العلم بكذب أحد الخبرين فليس في المرجحات المذكورة ما يوجب الظن بكذب أحد الخبرين، ولو فرض أن شيئا منها كان في نفسه موجبا للظن بكذب الخبر كان مسقطا للخبر عن درجة الحجية ومخرجا للمسأله عن التعارض، فيعد ذلك الشئ موهنا لا مرجحا، إذ فرق واضح عند التأمل بين ما يوجب في نفسه مرجوحية الخبر وبين ما يوجب مرجوحيته بملاحظة التعارض وفرض عدم الاجتماع.

وأما ما يرجع إلى المتن فهي أمور: منها: الفصاحة، فيقدم الفصيح على غيره، لان الركيك أبعد من كلام المعصوم، عليه السلام، إلا أن يكون منقولا بالمعنى.

ومنها: الافصحية، ذكره جماعة خلافا للاخرين.

وفيه تأمل، لعدم كون الفصيح بعيدا عن كلام المعصوم الامام، ولا الافصح أقرب إليه في مقام بيان الاحكام الشرعية.

ومنها: إضطراب المتن، كما في بعض روايات عمار.

ومنها كون أحدهما منقولا باللفظ والاخر منقولا بالمعنى، إذ يحتمل في المنقول بالمعنى أن يكون المسموع من الامام، عليه السلام، لفظا مغايرا لهذا اللفظ المنقول إليه.ومرجع الترجيح بهذه إلى كون متن أحد الخبرين أقرب صدورا من متن الاخر.

وعلل بعض المعاصرين الترجيح لمرجحات المتن بعد أن عد هذه منها بأن مرجع ذلك إلى الظن بالدلالة.

وهو مما لم يختلف فيه علماء الاسلام وليس مبنيا على حجية مطلق الظن المختلف فيه.

ثم ذكر في المرجحات المتن النقل باللفظ والفصاحة والركاكة، والمسموع من الشيخ بالنسبة إلى

٤٠١

الصفحة ٨٠٤

المقروء عليه، والجزم بالسماع من المعصوم، عليه السلام، على غيره، وكثيرا من أقسام مرجحات الدلالة، كالمنطوق والمفهوم والخصوص والعموم ونحو ذلك.

وأنت خبير بأن مرجع الترجيح بالفصاحة والنقل باللفظ إلى رجحان صدور أحد المتنين بالنسبة إلى الاخر.

فالدليل عليه هو الدليل على إعتبار رجحان الصدور، وليس راجعا إلى الظن في الدلالة المتفق عليه بين علماء الاسلام.

وأما مرجحات الدلالة، فهي من هذا الظن المتفق عليه، وقد عدها من مرجحات المتن جماعة كصاحب الزبذة وغيره.

والاولى ما عرفت، من أن هذه من قبيل النص الظاهر والظاهر والاظهر، ولا تعارض بينهما ولا ترجيح في الحقيقة، بل هي من موارد الجمع المقبول، فراجع.

وأما الترجيح من حيث وجه الصدور بأن يكون احد الخبرين مقرونا بشئ يحتمل من أجله أن يكون الخبر صادرا على وجه المصلحة المقتضية لبيان خلاف حكم الله الواقعي من تقية أو نحوها من المصالح.

وهي وإن كانت غير محصورة في الواقع إلا أن الذي بأيدينا أمارة التقية، وهي مطابقة ظاهر الخبر لمذهب أهل الخلاف، فيحتمل صدور الخبر تقية عنهم احتمالا غير موجود في الخبر الاخر.

قال في العدة: (إذا كان رواة الخبرين متساويين في العدد عمل بأبعدهما من قول العامة وترك العمل بما يوافقه)(١)، إنتهى.

وقال المحقق في المعارج، بعد نقل العبارة المتقدمة عن الشيخ: (والظاهر أن احتجاجه في ذلك برواية رويت عن الصادق، عليه السلامن وهو إثبات مسالة علمية بخبر الواحد.

ولا يخفى عليك ما فيه، مع أنه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة كالممفيد وغيره.

فإن احتج بأن الابعد لا يحتمل إلا التقوى، والموافق للعامة يحتمل التقية، فوجب الرجوع إلى ما لا يحتمل.

____________________

(١) عدة الاصول ص ٦٠.

٤٠٢

الصفحة ٨٠٥

قلنا: لا نسلم أنه لا يحتمل إلا الفتوى، لانه كما جاز الفتوى لمصلحة يراها الامام، عليه السلام، كذلك يجوز الفتوى بما يحتمل التأويل لمصلحة يعلمها الامام، عليه السلام، وإن كنا لا نعلم ذلك.

فإن قال: إن ذلك يسد باب العمل بالحديث.

قلنا: إنما نصير إلى ذلك على تقدير التعارض وحصول مانع يمنع من العمل لا مطلقا فلا يلزمم سد باب العمل)(١)، إنتهى كلامه رفع مقامه.

* * *

أقول: توضيح المرام في هذا المقام أن ترجيح أحد الخبرين بمخالفة العامة يمكن أن يكون بوجوه:

أحدها: مجرد التعبد، كما هو ظاهر كثير من أخباره، ويظهر من المحقق إستظهاره من الشيخ قدس سرهما.

الثاني: كون الرشد في خلافهمم، كما صرح به في غير واحد من الاخبار المتقدمة ورواية علي بن أسباط: (قال: قلت للرضا عليه السلام: يحدث الامر، لا أجد بدا من معرفته، وليس في البلد الذي انا فيه أحد أستفتيه من مواليك.

فقال: إئت فقيه البلد واستفته في أمرك.فإذا افتاك بشئ فخذ بخلافه.فإن الحق فيه)(٢).

وأصرح من ذلك كله خبر أبي إسحاق الارجاني: (قال: قال أبوعبدالله، عليه السلام: أتدري لم أمرتم بالاخذ بخلاف ما يقوله العامة؟ فقلت: لا أدري.

فقال: إن عليا، صلوات الله عليه، لم يكن يدين الله بشئ إلا خالف عليه العامة، إرادة لابطال أمره، وكانوا يسألونه، صلوات الله عليه، عن الشئ الذي لا يعلمونه.فإذا أفتاهم بشئ جعلوا له ضدا من عندهم ليلبسوا على الناس)(٣).

الثالث: حسن مجرد المخالفة لهم.

فمرجع هذا المرجح ليس الاقربية إلى الواقع، بل هو نظير ترجيح دليل الحرمة على الوجوب، ودليل الحكم الاسهل على غيره.

ويشهد لهذا الاحتمال بعض الروايات، مثل قوله عليه السلام في مرسلة داود بن الحصين: (إن من وافقنا خالف عدونا، ومن وافق عدونا في قول أو عمل فليس منا ولا نحن منه)(٤).

____________________

(١) معارج الاصول، ص ١٥٦.

(٢) عيون أخبار الرضا، ج ١، ص ٢٧٥.

(٣) علل الشرائع، ج ٢، ص ٢١٨.

(٤)

٤٠٣

الصفحة ٨٠٦

ورواية الحسين بن خالد: (شيعتنا: المسلمون لامرنا، الآخذون بقولنا، المخالفون لاعدائنا.

فمن لم يكن ذلك فليس منا.

فيكون حالهم حال اليهود الوارد فيهم قوله صلى الله عليه وآله: خالفوهم ما استطعتم)(١).

الرابع: الحكم بصدور الموافق تقية.

ويدل عليه قوله عليه السلام في رواية: (ما سمعته مني يشبه قول الناس ففيه التقية، وما سمعته مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه)(٢).

بناء على أن المحكي عنه، عليه السلام، مع عدالة الحاكي كالمسموع منه، وأن الرواية مسوقة لحكم المتعارضين، وأن القضية غالبية، لكذب الدائمة.

أما (الوجه الاول)، فمع بعده عن مقام ترجيح أحد الخبرين المبني اعتبارهما على الكشف النوعي، ينافيه التعليل المذكور في الاخبار المستفيضة المتقدمة.

ومنه يظهر ضعف (الوجه الثالث)، مضافا إلى صريح رواية أبي بصير عن ابي عبدالله عليه السلام، قال: (ما أنتم والله على شئ مما هو فيه، ولا هم على شئ مما أنتم فيه، فخالفوهم، فإنهم ليسوا من الحنفية على شئ)(٣) فقد فرع الامر بمخالفتهم على مخالفة أحكامهم للواقع، لا مجرد حسن المخالفة.

فتعين (الوجه الثاني)، لكثرة ما يدل عليه من الاخبار.

أو (الوجه الرابع)، للخبر المذكور وذهاب المشهور.

إلا أنه يشكل (الوجه الثاني): بأن التعليل المذكور في الاخبار بظاهره غير مستقيم، لان خلافهم ليس حكما واحدا حتى يكون هو الحق.وكون الحق والرشد فيه بمعنى وجوده في محتملاته لا ينفع في الكشف عن الحق.

نعم ينفع في الابعديه عن الباطل لو علم أو احتمل غلبة الباطل على أحكامهم وكون الحق فيها نادرا.ولكنه خلاف الوجدان.ورواية أبي بصير المتقدمة وإن تأكد مضمونها بالحلف.

لكن لا بد من توجيهها، فيرجع الامر إلى التعبد بعلة الحكم، وهو أبعد من التعبد بنفس الحكم.

و (الوجه الرابع): بأن دلالة الخبر المذكور عليه لا يخلو عن خفاء، لاحتمال أن يكون المراد من شباهة أحد الخبرين بقول الناس كونه متفرعا على قواعدهم الباطلة.

مثل تجويز الخطأ على المعصومين من الانبياء والائمة، عليهم السلام، عمدا أو سهوا والجبر والتفويض ونحو ذلك.

وقد أطلق

____________________

(١) صفات الشيعة، ص ٤٥.

(٢) تهذيب الاحكام، ج ٨، ص ٩٨.

(٣) وسائل الشيعة، ج ١٨، ص ٨٥.

٤٠٤

الصفحة ٨٠٧

الشباهة على هذا المعنى في بعض أخبار العرض على الكتاب والسنة، حيث قال: (فإن أشبههما فهو حق، وإن لم يشبههما فهو باطل) وهذا الحمل أولى من حمل القضيه على الغلبة لا الدوام بعد تسليم الغلبة.

ويمكن دفع الاشكال في (الوجه الثاني) عن التعليل في الاخبار: بوروده على الغالب من إنحصار الفتوى في المسألة على الوجهين، لان الغالب أن الوجوه في المسألة إذا كثرت كانت العامة مختلفين، ومع إتفاقهم لا يكون في المسألة وجوه متعددة.

ويمكن أيضا الالتزام بما ذكرنا سابقا، من غلبة الباطل في أقوالهم، على ما صرح به في رواية الارجاني المتقدمة.

وأصرح منها ما حكي عن أبي حنيفة من قوله: (خالفت جعفرا في كل ما يقول إلا أني لا أدري أنه يغمض عينيه في الركوع والسجود او يفتحهما).وحينئذ فيكون خلافهم أبعد من الباطل.

ويكن توجبه (الوجه الرابع): بعدم إنحصار دليله في الرواية المذكوره، بل الوجه فيه هو ما تقرر في باب التراجيح واستفيد من النصوص والفتاوى من حصول الترجيح بكل مزية في احد الخبرين يوجب كونه أقل أو أبعد إحتمالا لمخالفة الواقع من الاخر.

ومعلوم أن الخبر المخالف لا يحتمل فيه التقية، كما يحتمل في الموافق، على ما تقدم من المحقق قدس سره، فمراد المشهور من حمل الخبر الموافق على التقية ليس كون الموافقة أمارة على صدور الخبر تقية، بل المراد أن الخبرين لما إشتركا في جميع الجهات المحتملة لخلف الواقع عدى إحتمال الصدور تقية المختص بالخبر الموافق تعين العمل بالمخالف وانحصر محمل الخبر الموافق المطروح في التقية.

وأما ما أورده المحقق من معارضة إحتمال التقية بإحتمال الفتوى على التأويل ففيه: أن الكلام فيما إذا إشترك الخبران في جميع الاحتمالات المتطرقة في السند والمتن والدلالة، فإحتمال الفتوى على التأويل مشترك.

كيف ولو فرض إختصاص الخبر المخالف بإحتمال التأويل وعدم تطرقه في الخبر الموافق، كان اللازم إرتكاب التأويل في الخبر المخالف، لما عرفت من أن النص والظاهر لا يرجع فيهما إلى المرجحات.

وأما ما أجاب به صاحب المعالم عن الايراد بأن إحتمال التقية في كلامهم أقرب وأغلب ففيه، مع إشعاره بتسليم ما ذكره المحقق من معارضة إحتمامل التقية في الموافق بإحتمال التأويل،

____________________

(١) تفسير العياشي، ج ١، ص ٩، ح ٧، وسائل الشيعة، ج ١٨، ص ٨٩، ح ٣٣٣٦٥.

٤٠٥

الصفحة ٨٠٨

مع ما عرفت من خروج ذلك عن محل الكلام، منع أغلبية التقية في الاخبار من التأويل.

ومن هنا يظهر: أنا ما ذكرنا من الوجه في رجحان الخبر المخالف مختص بالمتباينين.

وأما في ما كان من قبيل العامين من وجه بأن كان لكل واحد منهما ظاهر يمكن الجمع بينهما بصرفه عن ظاهره دون الاخر.فيدور الامر بين حمل الموافق منهما على التقية والحكم بتأويل أحدهما ليجتمع مع الاخر.

مثلا إذا ورد الامر بغسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه، وورد كل شئ يطير لا بأس بخرئه وبوله، فدار الامر بين حمل الثاني على التقية وبين الحكم بتخصيص أحدهما لا بعينه، فلا وجه لترجيح التقية، لكونها في كلام الائمة ن عليهم السلام، أغلب من التخصيص.

فالعمدة في الترجيح بمخالفه العام، بناء على ما تقدم من جريان هذا المرجح.

وشبهه في هذا القسم من المتعارضين هو ما تقدم من وجوب الترجيح، لكون مزية في أحد المتعارضين.

وهذا موجود فيما نحن فيه، لان إحتمال مخالفة الظاهر قائم في كل منهما والمخالفة للعامة مختص بمزية مفقودة في الاخر، وهو عدم إحتمال الصدور.

فتلخص مما ذكرنا: أن الترجيح بالمخالفة من أحد وجهين، على ما يظهر من الاخبار.

أحدهما: كونه أبعد عن الباطل وأقرب إلى الواقع، فيكون مخالفة الجمهور نظير موافقه المشهور من المرجحات المضمونية، على ما يظهر من أكثر أخبار هذا الباب.

والثاني: من جهة كون المخالف ذا مزية، لعدم إحتمال التقية.ويدل عليه ما دل على الترجيح بشهرة الرواية معللا بأنه لا ريب فيه بالتقريب المتقدم سابقا.ولعل الثمرة بين هذين الوجهين يظهر لك في ما يأتي إن شاء الله تعالى.

٤٠٦

الصفحة ٨٠٩

بقي في هذا المقام أمور:

الاول: أن الخبر الصادر تقية، يحتمل أن يراد به ظاهره فيكون من الكذب المجوز لمصلحة، ويحتمل أن يراد منه تأويل مختف على المخاطب فيكون من قبيل التورية.

وهذا أليق بالامام، عليه السلام، بل هو اللائق له، إذا قلنا بحرمة الكذب مع التمكن من التورية.

الثاني: أن بعض المحدثين، كصاحب الحدائقن وإن لم يشترط في التقيه موافقة الخبر لمذهب العامة، لاخبار تخيلها دالة على مدعاه سليمة عما هو صريح في خلاف ما ادعاه، إلا أن الحمل على التقية في مقام الترجيح لا يكون إلا مع موافقة أحدهما، إذ لا يعقل حمل أحدهما بالخصوص على التقية، إذا كانا مخالفين لهم.

فمراد المحدث المذكور ليس الحمل على التقية مع عدم الموافقة في مقام الترجيح.

كما أورده عليه بعض الاساطين في جملة المطاعن على ما ذهب إليه من عدم إشتراط الموافقة في الحمل على التقية.

بل المحدث المذكور لما أثبت في المقدمة الاولى من مقدمات الحدائق خلو الاخبار عن الاخبار المكذوبة، لتنقيحها وتصحيحها في الازمنة المتأخره، بعد أن كانت مغشوشة مدسوسة، صح للقائل ان يقول: فما بال هذه الاخبار المتعارضة التي لا تكاد تجتمع.

فبين في المقدمة الثانية دفع هذا السؤال بأن معظم الاختلاف من جهة إختلاف كلمات الائمه، عليهم السلام، مع المخاطبين، وأن الاختلاف إنما هو منهم، عليهم السلام، واستشهد على ذلك بأخبرا زعمها دالة على أن التقية كما تحصل ببيان ما يوافق العامة، كذلك تحصل بمجرد إلقاء الخلاف بين الشيعة كيلا يعرفوا فيؤخذ برقابهم.

وهذا الكلام ضعيف، لان الغالب إندفاع الخوف بإظهار الموافقه مع الاعداء.

وأما الاندفاع بمجرد رؤية الشيعة مختلفين منع إتفاقهم على مخالفتهم فهو وإن أمكن حصوله أحيانا لكنه نادر جدا، فلا يصار إليه في جل الاخبار المختلفة، مضافا إلى مخالفته لظاهر قوله، عليه السلام، في الرواية

٤٠٧

الصفحة ٨١٠

المتقدمة: (ما سمعت مني يشبه قول الناس ففيه التقية، وما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه).

فالذي يقتضيه النظر على تقدير القطع بصدور جميع الاخبار التي بأيدينا على ما توهمه بعض الاخباريين، والظن بصدور جميعها إلا قليل في غاية القلة، يقتضيه الانصاف ممن إطلع على كيفية تنقيح الاخبار وضبطها في الكتب وهو أن يقال: إن عمدة الاختلاف إنما هي كثره إرادة خلاف الظواهر في الاخبار إما بقرائن متصلة اختفت علينا من جهة تقطيع الاخبار او نقلها بالمعنى أو منفصلة مختفية من جهة كونها حالية معلومة للمخاطبين أو مقالية إختفت بالانطماس، وإما بغير القرينة لمصلحة يراها الامام، عليه السلام، من تقية، على ما اخترناه من أن التقيه، على وجه التورية أو غير التقية من المصالح الاخر.

وإلى ما ذكرنا ينظر ما فعله الشيخ، قدس سره، في الاستبصار من إظهار إمكان الجمع بين متعارضات الاخبار بإخراج أحد المتعارضين أو كليهما عن ظاهره إلى معنى بعيد.

* * *

وربما يظهر من الاخبار محامل وتأويلات أبعد بمراتب مما ذكره الشيخ تشهد بأن ما ذكره الشيخ من المحامل غير بعيد عن مراد الامام، عليه السلام، وإن بعدت عن ظاهر الكلام إلا أن يظهر فيه قرينة عليها: فمنها: ما روي عن بعضهم صلوات الله عليهم: (لما سأله بعض أهل العراق وقال: كم آية تقرأ في صلاة الزوال؟ فقال عليه السلام: ثمانون.ولم يعد السائل.

فقال عليه السلام: هذا يظن أنه من أهل الادراك.

فقيل له عليه السلام: ما أردت بذلك ومان هذه الايات؟ فقال: أردت منها ما يقرأ في نافلة الزوال، فإن الحمد والتوحيد لا يزيد على عشر آيات، ونافله الزوال ثمان ركعات)(١).

ومنها: ما روي من: (أن الوتر واجب)، فلما فرغ السائل واستفسر، قال عليه السلام: (إنما عنيت وجوبها على النبي، صلى الله عليه وآله وسلم)(٢).

ومنها: تفسير قولهم عليهم السلام: (لا يعيد الصلاة ففيه بخصوص الشك بين الثلاث والاربع)(٣).

ومثله تفسير وقت الفريضة في قولهم، عليهم السلام: (لا تطوع في وقت الفريضة)(٤)،

____________________

(١) الكافي (الفروع)، ج ٣، ص ٣١٤.مع اختلاف.

(٢) راجع: تهذيب الاحكام، ج ٢، ص ١٢١ و ٢٤٣.

(٣) تهذيب الاحكام، ج ٢، ص ١٩٣.المقنع، ص ٩.

(٤) تهذيب الاحكام، ج ٢ ص ٣٤٠.

٤٠٨

الصفحة ٨١١

بزمان قول المؤذن: (قد قامت الصلاة)، إلى غير ذلك مما يطلع عليه المتتبع.

ويؤيد ما ذكرنا من أن عمدة تنافي الاخبار ليس لاجل التقيه ما ورد مستفيضا من عدم جواز رد الخبر وإن كان مما ينكر ظاهره، حتى إذا قال للنهار إنه ليل ولليل إنه نهار، معللا ذلك بأنه يمكن أن يكون له محمل لم يتفطن السامع له فينكره فيكفر من حيث لا يشعر، فلو كان عمدة التنافي من جهة صدور الاخبار المنافية بظاهرها لما في أيدينا في الادلة تقيه، لم يكن في إنكار كونها من الامام عليه السلام مفسدة، فضلا عن كفر الراد.

الثالث: إن التقية قد تكون من فتوى العامة، وهو الظاهر من إطلاق موافقة العامة في الاخبار.

وأخرى من حيث أخبارهم التي رووها.

وهو المصرح به في بعض الاخبار.لكن الظاهر أن ذلك محمول على الغالب من كون الخبر مستندا للفتوى.

وثالثة من حيث علمهم.

ويشير إليه قوله، عليه السلام، في المقبولة المتقدمة: (ما هو إليه أميل قضاتهم وحكامهم).

ورابعة بكونه أشبه بقواعدهم وأصول دينهم وفروعه، كما يدل عليه الخبر المتقدم، وعرفت سابقا قوة إحتمال التفرع على قواعدهم الفاسدة ويخرج الخبر حنيئذ عن الحجية ولو مع عدم المعارض، كما يدل عليه عموم الموصول.

الرابع: أن ظاهر الاخبار كون المرجح موافقة جميع الموجودين في زمان الصدور او معظمهم على وجه يصدق الاستغراق العرفي.

فلو وافق بعضهمم بلا مخالفة الباقين فالترجيح به مستند إلى الكلية المستفادة من الاخبار من الترجيح بكل مزية.

وربما يستفاد من قول السائل في المقبولة: (قلت: يا سيدي ! هما معا موافقان للعامة)، أن المراد بما وافق العاممة أو خالفهمم في المرجح السابق يعم ما وافق البعض أو خالفه.

ويرده أن ظهور الفقرة الاولى في إعتبار الكل أقوى من ظهور هذه الفقره في كفاية موافقة البعض، فيحمل على إرادة صورة عدم وجود هذا المرجح في شئ منهما وتساويهما من هذه الجهة، لا صورة وجود المرجح في كليهما وتكافؤهما من هذه الجهة.

وكيف كان، فلو كان كل واحد موافقا لبعضهم مخالفا لاخرين منهم وجب الرجوع إلى ما يرجح في النظر ملاحظة التقية منه.

وربما يستفاد ذلك من أشهرية فتوى أحد البعضين في زمان الصدور ويعلم ذلك بمراجعة أهل

٤٠٩

الصفحة ٨١٢

النقل والتأريخ.

فقد حكي عن تواريخهمم: (إن عامة أهل الكوفة كان عملهم على فتاوى أبي حنيفة وسفيان الثوري ورجل آخر، وأهل مكة على فتاوى إبن جريح، وأهل المدينة على فتاوى مالك، وأهل البصرة على فتاوى عثمان وسوار وأهل الشام على فتاوى الاوزاعي والوليد، وأهل مصر على فتاوى الليث بن سعيد، وأهل خراسان على فتاوى عبدالله بن المبارك الزهري.

وكان فيهم أهل الفتاوى من غير هؤلاء، كسعيد بن المسيب وعكرمة وربيعة الرأي ومحمد بن شهاب الزهري.

إلى أن استقر رأيهم بحصر المذاهب في الاربعة سنة خمس وستين وثلاثمائة)، كما حكي(١).

وقد يستفاد ذلك من الامارات الخاصة، مثل قول الصادق، عليه السلام، حين حكي له فتوى إبن أبي ليلى في بعض مسائل الوصية: (أما قول إبن أبي ليلى فلا أستطيع رده)(٢).

وقد يستفاد من ملاحظة أخبارهم المروية في كتبهم.

ولذا أنيط الحكم في بعض الروايات بموافقة أخبارهم.

الخامس: قد عرفت أن الرجحان بحسب الدلالة لا يزاحمه الرجحان بحسب الصدور، وكذا لا يزاحمه هذا الرجحان، أي الرجحان من حيث جهة الصدور.

فإذا كان الخبر الاقوى دلالة موافقا للعامة قدم على الاضعف المخالف، لما عرفت من أن الترجيح بقوة الدلالكة من الجمع المقبول الذي هو مقدم على الطرح.

أما لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصدور بأن كان الارجح صدورا موافقا للعامة، فالظاهر تقديمه على غيره وإن كان مخالفا للعامة، بناء على تعليل الترجيح بمخالفة العامة بإحتمال التقية في الموافق، لان هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعا، كما في المتواترين، أو تعبدا كما في الخبرين بعد عدم إمكان التعبد بصدور أحدهما وترك التعبد بصدور الاخر.وفيما نحن فيه يمكن ذلك بمقتضى أدلة الترجيح من حيث الصدور.

فإن قلت: إن الاصل في الخبرين الصدور، فإذا تعبدنا بصدورهما إقتضى ذلك الحكم بصدور الموافق تقية، كما يقتضي ذلك الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما دلالة ن فيكون هذا المرجح نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدما على الترجيح بحسب الصدور.

____________________

(١) الوحيد البهبهاني، الفوائد القديمة، ص ١٢١.

(٢) الكافي (الفروع)، ج ٧، ص ٦٢.

٤١٠

الصفحة ٨١٣

قلت: لا ممعنى للتعبد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعين على التقية لانه إلقاء لاحدهما في الحقيقة.

ولذا لو تعين حمل خير غير معارض على التقية على تقدير الصدور لم يشمله أدلة التعبد بخبر العادل.

نعم لو علم بصدور خبرين لم يكن بد من حمل الموافق على التقية وإلغائه.

وأما إذا لم يعلم بصدورهما، كما في ما نحن فيه من المتعارضين، فيجب الرجوع إلى المرجحات الصدورية.

فإن أمكن ترجيح أحدهما وتعينه من حيث التعبد بالصدور دون الاخر تعين، وإن قصرت اليد عن هذا الترجيح كان عدم احتمال التقية في أحدهما مرجحا.

فمورد هذا المرجح تساوي الخبرين من حيث الصدور، إما علما كما في المتواترين، أو تعبدا كما في المتكافئين من الآحاد.

وأما ما وجب فيه التعبد بصدور أحدهما المعين دون الآخر، فلا وجه لاعمال هذا المرجح فيه، لان جهة الصدور متفرع على أصل الصدور.

والفرق بين هذا الترجيح في الدلالة المتقدم على الترجيح بالسند أن التعبد بصدور الخبرين على أن يعمل بظاهر أحدهما وبتأويل الآخر بقرينة ذلك الظاهر ممكن غير موجب لطرح دليل أو أصل، بخلاف التعبد بصدورهما.

ثم حمل أحدهما على التقية الذي هو في معنى الغايه وترك التعبد به.

هذا كله على تقدير توجيه الترجيح بالمخالفة بإحتمال التقية.

أما لو قلنا بأن الوجه في ذلك كون المخالف أقرب إلى الحق وأبعد عن الباطل، كما يدل عليه جملة من الاخبار، فهي من المرجحات المضمونية، وسيجئ حالها مع غيرها.

٤١١

الصفحة ٨١٤

المرجحات الخارجية... القسم الاول: ما يكون غير معتبر في نفسه

فمن الاول شهرة أحد الخبرين، إما من حيث رواته، بأن إشتهر روايته بين الرواة، بناء على كشفها عن شهرة العمل أو إشتهار الفتوى به ولو مع العلم بعدم إستناد المفتين إليه.

ومنه كون الراوي له أفقه من رواي أخر في جميع الطبقات أو في بعضها، بناء على أن الظاهر عمل الافقه به.

ومنه مخالفة أحد الخبرين للعامة، بناء على ظاهر الاخبار المستفيضة الواردة في وجه الترجيح بها.

ومنه كل أمارة مستقلة غير معتبرة وافقت مضمون أحد الخبرين إذاكان عدم إعتبارها لعدم الدليل، لا لوجود الدليل على العدم، كالقياس.

ثم الدليل على الترجيح بهذا النحو من المرجح ما يستفاد من الاخبار من الترجيح بكل ما يوجب أقربية أحدهما إلى الواقع وإن كان خارجا عن الخبرين، بل يرجع هذا النوع إلى المرجح الدخلي، فإن أحد الخبرين إذا طابق أمارة ظنية فلازمه الظن بوجود خلل في الآخر إما من حيث الصدور أو من حيث جهة الصدور، فيدخل الراجح فيما لا ريب فيه والمرجوح فيما فيه الريب، وقد عرفت أن المزية الداخلية قد تكون موجبة لانتفاء إحتمال في ذيها موجود في الآخر، كقلة الوسائط ومخالفة العامة، بناء على الوجه السابق، وقد توجب بعد الاحتمال الموجود في ذيها بالنسبة إلى

____________________

(١) جاء في بعض النسخ: المقام الثالث في المرجحات الخارجية وقد أشرنا.

٤١٢

الصفحة ٨١٥

الاحتمال الموجود في الآخر، كالاعدلية والاوثقية.والمرجح الخارجي من هذا القبيل.

غاية الامر عدم العلم تفصيلا بالاحتمال القريب في أحدهما البعيد في الآخر، بل ذون المزية داخل في الاوثق المنصوص عليه في الاخبار.

ومن هنا يمكن أن يستدل على المطلب بالاجماع المدعى في كلام جماعة على وجوب العمل بأقوى الدليلين، بناء على عدم شمولها للمقام، من حيث أن الظاهر من أقواهما أقواهما في نفسه ومن حيث هو، لا مجرد كون مضمونه أقرب إلى الواقع لموافقة أمارة خارجية.

فيقال في تقريب الاستدلال: إن الامارة موجبة لظن خلل في المرجوح مفقود في الراجح، فيكون الراجح أقوى إجمالا من حيث نفسه.

فإن قلت: إن المتيقن من النص ومعاقد الاجماع إعتبار المزية الداخلية القائمة بنفس الدليل.

وأما الامارة الخارجية التي دل الدليل على عدم العبرة بها من حيث دخولها في ما لا يعلم، فلا إعتبار بكشفها عن الخلل في المرجوح.

ولا فرق بينه وبين القياس في عدم العبرة بها في مقام الترجيح كمقام الحجية، هذا.

مع أنه لا معنى لكشف الامارة عن خلل في المرجوح، لان الخلل في الدليل من حيث أنه دليل قصور في طريقيته والمفروض تساويهما في جميع ماله مدخل في الطيقية.

ومجرد الظن بمخالفة خبر للواقع لا يوجب خللا في ذلك، لان الطريقية ليست منوطة بمطابقة الواقع.

قلت: أما النص، فلا ريب في عموم التعليل في قوله عليه السلام: (لان المجمع عليه لا ريب فيه)، وقوله: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، لما نحن فيه.

بل قوله: (فإن الرشد فيما خالفهم)، وكذا التعليل في رواية الارجاني: (لم أمرتم بالاخذ بخلاف ما عليه العامة)، وارد في المرجح الخارجي، لان مخالفه العامة نظير موافقة المشهور.

وأما معقد الاجماعات، فالظاهر أن المراد منه: الاقرب إلى الواقع والارجح مدلولا، ولو بقرينة ما يظهر من العلماء قديما وحديثا من إناطة الترجيح بمجرد الاقربية إلى الواقع.كإستدلالهم على الترجيحات بمجرد الاقربية إلى الواقع.

مثل ما سيجئ من كلماتهم في الترجيح بالقياس.

ومثل الاستدلال على الترجيح بموافقة الاصل بأن الظن في الخبر الموافق له أقوى، وعلى الترجيح بمخالفة الاصل بأن الغالب تعرض الشارع لبيان ما يحتاج إلى البيان.

وإستدلال المحقق على ترجيح أحد المتعارضين بعمل أكثر الطايفة بأن الكثرة أمارة الرجحان والعمل بالراجح واجب.

وغير ذلك مما يجده المتتبع في كلماتهم.

مع أنه يمكن دعوى حكم العقل بوجب العمل بالاقرب إلى الواقع في ما كان حجيتها من حيث الطريقية، فتأمل.

٤١٣

الصفحة ٨١٦

بقي في المقام أمران أحدهما: أن الامارة التي قام الدليل على المنع عنها بالخصوص، كالقياس، هل هي من المرجحات أم لا؟ ظاهر المعظم العدم، كما يظهر من طريقتهم في كتبهم الاستدلالية في الفقه.

وحكى المحقق في المعارج عن بعض القول بكون القياس مرجحا، قال: (وذهب ذاهب إلى أن الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمنه أحدهما، كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر.

ويمكن أن يحتج لذلك بأن الحق في أحد الخبرين، فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما فتعين العمل.

وإذا كان التقدير تقدير التعارض، فلا بد في العمل بأحدهما من مرجح، والقياس يصلح أن يكون مرجحا لحصول الظن به، فتعين العمل بما طابقه.

لا يقال: أجمعنا على أن القياس مطروح في الشريعة.

لانا نقول: بمعنى أنه ليس بدليل، لا بمعنى أنه لا يكون مرجحا لاحد الخبرين.

وهذا، لان فائدة كونه مرجحا كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض، فيكون العمل به لا بذلك القياس.وفيه نظر)(١)، إنتهى.وما إلى ذلك بعض سادة مشايخنا المعاصرين.

والحق خلافه، لان رفع الخبر المرجوح بالقياس عمل به حقيقة، كرفع العمل بالخبر السليم عن المعارض والرجوع معه إلى الاوصول.

وأي فرق بين رفع القياس لوجوب العمل بالخبر السليم عن المعارض وجعله كالمعدوم حتى يرجع إلى الاصل وبين رفعه لجواز العمل بالخبر المكافئ لخبر آخر وجعله كالمعدوم حتى يتعين العمل بالخبر الاخر.

ثم إن الممنوع هو الاعتناء بالقياس مطلقا.

ولذا إستقرت طريقة اصحابنا على هجره في باب الترجيح، ولم نجد موضعا منهم يرجحونه به.

ولولا ذلك لوجب تدوين شروط القياس في الاوصول ليرجح به في الفروغ.

____________________

(١) معارج الاصول، ص ١٨٦.

٤١٤

الصفحة ٨١٧

الثاني: في مرتبة هذا المرجح بالنسبة إلى المرجحات السابقة.

فنقول: أما الرجحان من حيث الدلالة، فقد عرفت غير مرة تقدمه على جميع المرجحات.

نعم لو بلغ المرجح الخارجي إلى حيث يوهن الارجح دلالة فهو يسقطه عن الحجية ويخرج الفرص عن تعارض الدليلين.ومن هنا قد يقدم العام المشهور والمعتضد بالامور الخارجية على الخاص.

وأما الترجيح من حيث السند، فظاهر مقبولة إبن حنظلة تقديمه على المرجح الخارجي.

لكن الظاهر أن الامر بالعكس، لان رجحان السند إنما اعتبر لتحصيل الاقرب إلى الواقع، فإن الاعدل أقرب إلى الصدق من غيره، بمعنى أنه لو فرض العلم بكذب أحد الخبرين كان المظنون صدق الاعدل وكذب العادل.

فإذا فرض كون خبر العادل مظنون المطابقة للواقع وخبر الاعدل مظنون المخالفة، فلا وجه لترجيحه بالاعدلية.

وكذلك الكلام في الترجيح بمخالفة العامة بناء على أن الوجه فيه هو نفي إحتمال التقية.

٤١٥

الصفحة ٨١٨

القسم الثاني: ما يكون معتبرا في نفسه

وأما القسم الثاني، وهو ما كان مستقلا بإعتبار ولو خلي المورد عن الخبرين، فقد أشرنا إلى أنه على قسمين، الاول ما يكون معاضدا لمضمون أحد الخبرين، والثاني ما لا يكون كذلك.

فمن [ القسم ] الاول الكتاب والسنة، والترجيح بموافقتهما مما تواتر به الاخبار واستدل في المعارج على ذلك بوجهين: (أحدهما أن الكتاب دليل مستقل فيكون دليلا على صدق مضمون الخبر.

ثانيهما أن الخبر المنافي لا يعمل به لو انفرد عن المعارض فما ظنك به معه)(١)، إنتهى.

وغرضه الاستدلال على طرح الخبر المنافي، سواء قلنا بحجيته مع معارضته لظاهر الكتاب أم قلنا بعدم حجيته، فلا يتوهم التنافي بين دليليه.

ثم إن توضيح الامر في هذا المقام يحتاج إلى تفصيل اقسام ظاهر الكتاب أو السنة المطابق لاحد المتعارضين.

فنقول: إن ظاهر الكتاب إذا لوحظ مع الخبر المخالف فلا يخلو عن صور ثلاث: الاولى: أن يكون على وجه لو خلي الخبر المخالف له عن معارضة المطابق له كان مقدما عليه، لكونه نصا بالنسبة إليه، لكونه أخص منه أو غير ذلك، بناء على تخصيص الكتاب بخبر الواحد، فالمانع عن التخصيص حينئذ أخصل منه أو غير ذلك، بناء على تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، فالمانع عن التخصيص حينئذ إبتلاء الخاص بمعارضة مثله.

كما إذا تعارض: أكررم زيدا العالم، ولا تكرم زيدا العالم.

وكان في الكتاب عموم يدل على وجوب إكرام العلماء.

ومقتضى القاعدة في هذا المقام أن يلاحظ أولا جميع ما يمكن أن يرجع به الخبر المخالف

____________________

(١) معارج الاصول ص ١٤٥.

٤١٦

الصفحة ٨١٩

للكتاب على المطابق له.

فإن وجد شئ منها رجح المخالف به وخصص به الكتاب، لان المفروض إنحصار المانع عن تخصيصه به في إبتلائه بمزاحمة الخبر المطابق للكتاب، لانه مع الكتاب من قبيل النص والظاهر، وقد عرفت أن العمل بالنص ليس من باب الترجيح، بل من باب العمل بالدليل والقرينة في مقابلة أصالة الحقيقة، حتى لو قلنا بكونها من باب الظهور النوعي.

فإذا عولجت المزاحمة بالترجيح صار المخالف كالسليم عن المعارض، فيصرف ظاهر الكتاب بقرينة الخبر السليم ولو لم يكن هناك مرجح.

فإن حكما في الخبرين المتكافئين بالتخيير، إما لانه الاصل في المتعارضين، وإما لورود الاخبار بالتخيير، كان اللازم التخيير، وأن له أن يأخذ أن يأخذ بالمطابق وأن يأخذ بالمخالف، فيخصص به عموم الكتاب، لما سيجئ من أن موافقة أحد الخبرين للاصل لا يوجب رفع التخيير، وإن قلنا بالتساقط او التوقف كان المرجح هو ظاهر الكتاب.

فتلخص أن الترجيح بظاهر الكتاب لا يتحقق [ بمقتضى القاعدة ] في شي ء من فروض هذه الصورة.

الثانية: أن يكون على وجه لو خلي الخبر المخالف له عن معارضه لكان مطروحا لمخالفة الكتاب.

كما إذا تباين مضمونهما كلية.

كما لو كان ظاهر الكتاب في المثال المتقدم وجوب إكرام زيد العالم.

واللازم في هذه الصورة خروج الخبر المخالف عن الحجية رأسا، لتواتر الاخبار ببطلان الخبر المخالف للكتاب والسنة والمتيقن من المخالفة هذا الفرد، فيخرج الفرض عن تعارض الخبرين، فلا مورد للترجيح في هذه الصورة أيضا، لان المراد به تقديم أحد الخبرين لمزية فيه، لا لما يسقط الاخر عن الحجية.

وهذه الصورة عديمة المورد فيما بأيدينا من الاخبار المتعارضة.

الثالثة: أن يكون على وجه لو خلي المخالف له عن المعاررض لخالف الكتاب، لكن لا عن وجه التباين الكلي، بل يمكن الجمع بينهما بصرف أحدهما عن ظاهره.

وحينئذ، فإن قلنا بسقوط الخبر المخالف بهذه المخالفة عن الحجية كان حكمها حكم الصورة الثانية، وإلا كان الكتاب مع الخبر المطابق بمنزلة دليل عارض الخبر المخالف، والترجيح حينئذ بالتعاضد وقطعية سند الكتاب.

فالترجيح بموافقة الكتاب منحصر في هذه الصورة الاخيرة.

لكن هذا الترجيح مقدم على الترجيح بالسند، لان أعدلية الراوي في الخبر المخالف لا تقاوم قطعية سند الكتاب الموافق للخبر الاخر، وعلى الترجيح بمخالفة العامة، لان التقية غير متصورة في الكتاب الموافق للخبر الموافق للعامة، وعلى المرجحات الخارجية، لان الامارة المستقلة المطابقة للخبر الغير المعتبرة لا تقاوم الكتاب المقطوع الاعتبار.

ولو فرضنا الامامرة المذكورة مسقطة لدلالة الخبر

٤١٧

الصفحة ٨٢٠

والكتاب المخالفين لها عن الحجية، لاجل القول بتقييد إعتبار الظواهر بصورة عدم قيام الظن الشخصي على خلافها خرج المورد عن فرض التعارض.

ولعل ما ذكرنا هو الداعي للشخ، قدس سره، في تقديم الترجيح بهذا المرجح على جميع ما سواه من المرجحات وذكر الترجيح بها بعد فقد هذا المرجح.

إذا عرفت ما ذكرنا علمت توجه الاشكال فيما دل من الاخبار العلاجية على تقديم بعض المرجحات على موافقة الكتاب، كمقبولة إبن حنظلة.

بل وفي غيرها مما اطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب والسنة، من حيث أن الصورة الثالثة قليلة الوجود في الاخبار المتعارضة.

والصورة الثانية أقل وجودا بل معدومة، فلا يتوهم حمل تلك الاخبار عليها وإن لم تكن من باب ترجيح أحد المتعارضين بسقوط المخالف عن الحجية مع قطع النظر عن التعارض.

ويمكن إلتزام دخول الصورة الاولى في الاخبار التي اطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب، فلا يقل موردها.

وما ذكر من ملاحظة الترجيح بين الخبرين المخصص أحدهما لظاهر الكتاب ممنوع.

بل نقول: إن ظاهر تلك الاخبار ولو بقرينة لزوم قلة المورد بل عدمه، وبقرينة بعض الروايات الدالة على رد بعض ما ورد في الجبر والتفويض بمخالفة الكتاب مع كونه ظاهرا في نفيهما أن الخبر المعتضد بظاهر الكتاب لا يعارضه الخبر الاخر وإن كان لو إنفرد رفع اليد به عن ظاهر الكتاب.وأما الاشكال المختص بالمقبولة من حيث تقديم بعض المرجحات على موافقة الكتاب.فيندفع بما أشرنا إلى سابقا من أن الترجيح بصفات الراوي منها من حيث كونه حاكما.

وأول المرجحات الخبرية فيه هي شهرة إحدى الروايتين وشذوذ الاخرى.

ولا بعد في تقديمه على موافقة الكتاب ثم إن الدليل المستقل المعاضد لاحد الخبرين حكمه حكم الكتاب والسنة في الصورة الاولى.

وأما في الصورتين الاخيرتين فالخبر المخالف له يعارض مجموع الخبر الاخر والدليل المطابق له، والترجيح هنا بالتعاضد لا غير.

وأما القسم الثاني، وهو ما لا يكون معاضدا لاحد الخبرين، فهي عدة أمور: منها: الاصل، بناء على كون مضمونه حكم الله الظاهري، إذ لو بني على إفادة الظن بحكم الله الواقعي كان من القسم الاول.

ولا فرق في ذلك بين الاصول الثلاثة، أعني أصالة البراء‌ة

٤١٨

الصفحة ٨٢١

والاحتياط والاستصحاب.

لكن يشكل الترجيح بها، من حيث أن مورد الاصول ما إذا فقد الدليل الاجتهادي المطابق أو المخالف.

فلا مورد لها إلا بعد فرض تساقط المتعارضين لاجل التكافؤ، والمفروض أن الاخبار الستفيضة دلت على التخيير مع فقد المرجح.فلا مورد للاصل في تعارض الخبرين رأسا، فلا بد من التزام عدم الترجيح بها.

وإن الفقهاء إنما رجحوا بأصالة والاستصحاب في الكتب الاستدلالية من حيث بنائهم على حصول الظن النوعي بمطابقة الاصل.

وأما الاحتياط، فلم يعلم منهمم الاعتماد عليه، لا في المقام الاسناد ولا في مقام الترجيح.

وقد يتوهم أن ما دل على ترجيح التخيير مع تكافؤ الخبرين معارض بما دل على الاصول الثلاثة، فإن مورد الاستصحاب عدم اليقين، بخلاف الحالة السابقة، وهو حاصل مع تكافؤ الخبرين.

ويندفع:: بان ما دلك على الاصل، فإن مؤداه جواز العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة والالتزام بإرتفاعها.

فكما أن ما دل على تعيين العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة مع سلامته عن المعارض حاكم على دليل الاستصحاب، كذلك يكون الدليل الدال على جواز العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة المكافئ لمعارضه حاكما عليه من غير فرق أصلاة، مع أنه لو فرض التعارض المتوهمم كان اخبار التخيير أولى بالترجيح وإن كانت النسبة عموما من وجه، لانها أقل موردا، فيتعين تخصيص أدلة الاصول، مع أن التخصيص في أخبار التخيير يوجب إخراج كثير مواردها بل أكثرها، بخلاف تخصيص أدلة الاصول.

مع أن بعض اخبار التخيير ورد في مورد جريان الاصول، مثل مكاتبة عبدالله بن محمد الواردة في فعل ركعتي الفجر في المحمل، ومكاتبة الحميري المروية في الاحجاج الواردة في التكبير في كل إنتقال من حال إلى حال من أحوال الصلاة.

ومما ذكرنا ظهر فساد ما ذكره بعض من عاصرناه في تقديم الموافق للاصل على المخالف، من أن العمل بالموافق موجب للتخصيص فيما دل على حجية المخالف، والعمل بالمخالف مستلزم للتخصيص فيما دل على حجية الموافق وتخصيص الاخر فيما دل على حجية الاصول، وأن الخبر الموافق يفيد ظنا بالحكم الواقعي، والعمل بالاصل يفيد الظن بالحكم الظاهري فيتقوى به الخبر الموافق، وأن الخبرين يتعارضان ويتساقطان، فيبقى الاصل سليما عن المعارض.

٤١٩

الصفحة ٨٢٢

بفي هنا شئ وهو أنهم إختلفوا في تقديم المقرر وهو الموافق للاصل على الناقل وهو الخبر المخالف له.

والاكثر من الاصوليين، منهم العلامة، قدس سره، وغيره، على تقديم الناقل.

بل حكي هذا القول عن جمهور الاصوليين، معللين ذلك بأن الغالب فيما يصدر من الشارع الحكم بما يحتاج إلى البيان ولا يستغنى عنه بحكم العقل.

مع أن الذي عثرنا عليه في الكتب الاستدلالية الفرعية الترجيح بالاعتضاد بالاصل، لكن لا يحضرني الان مورد لما نحن فيه، أعني المتعارضرين الموافق أحدهما للاصل.فلا بد من التتبع.

ومن ذلك كون أحد الخبرين متضمنا للاباحة والاخر مفيدا للحظر، فإن المشهور تقديم الحاظر على المبيح.

بل يظهر من محكي عن بعضهم عدم الخلاف فيه، وذكروا في وجهه ما لا يبلغ حد الوجوب، ككونه متيقنا في العمل، إستنادا إلى قوله صلى الله عليه وآله: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)(١)، وقوله: (ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال)(٢).

وفيه: أنه لو تم هذا الترجيح لزم الحكم بأصالة الحرمة عند دوران الامر بينها وبين الاباحة، لان وجود الخبرين لا مدخل له في هذا الترجيح، فإنه من مرجحات أحد الاحتمالين، مع أن المشهور تقدم الاباحة على الحظر.

فالمتجه ما ذكره الشيخ، قدس سره، في العدة من إبتناء المسألة على أن الاصل في الاشياء الاباحة أو الحظر أو التوقف.

حيث قال: (وأما ترجيح أحد الخبرين على الاخر من حيث أن أحدهما يتضمن الحظر والاخر الاباحة والاخذ بما يقتضي الحظر أو الاباحة.

فلا يمكن الاعتماد عليه على ما نذهب إليه من الوقف، لان الحظر والاباحة جميعا عندنا مستفادان من الشرع، ولا ترجيح بذلك، وينبغي لنا الوقف بينهما جميعا أو يكون الانسان مخيرا في العمل بأيهما شاء)(٣)، إنتهى.

ويمكن الاستدلال لترجيح الحظر بما دل على وجوب الاخذ بما فيه الاحتياط من الخبرين وإرجاع ما ذكروه من الدليل في ذلك.

فالاحتياط وإن لم يجب الاخذ به في الاحتمالين المجردين عن الخبر إلا أنه يجب الترجيح به عند تعارض الخبرين.

____________________

(١) عوالي اللئالي، ج ٣، ص ٣٣٠.

(٢) عوالي اللئالي، ج ٢، ص ١٣١.

(٣) عدة الاصول، ص ٦٢

٤٢٠