فرائد الاصول الجزء ٢

فرائد الاصول0%

فرائد الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 438

  • البداية
  • السابق
  • 438 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23295 / تحميل: 4680
الحجم الحجم الحجم
فرائد الاصول

فرائد الاصول الجزء 2

مؤلف:
العربية

الصفحة ٤٤٣

رأسا بالمخالفة القطعية.

فلا وجه لالتزام حرمة المخالفة القطعية ويقبح عقاب الجاهل المقصر على ترك الواجبات الواقعية وفعل المحرمات، كما هو المشهور.

ودعوى: (أن مرادهم تكليف الجاهل في حال الجهل برفع الجهل والاتيان بالواقع.نظير تكليف الجنب بالصلاة حال الجنابة، لا التكليف بإتيانه مع وصف الجهل.فلا تنافي بين كون الجهل مانعا والتكليف في حاله.

وإنما الكلام في تكليف الجاهل مع وصف الجهل، لان المفروض فيما نحن فيه عجزه عن تحصيل العلم)، مدفوعة برجوعها حينئذ إلى ما تقدم من دعوى كون عدم الجهل من شروط وجود المأمور به نظير الجنابة، وقد تقدم بطلانها.

وأما النقل، فليس فيه ما يدل على العذر، لان أدلة البراء‌ة غير جارية في المقام، لاستلزام إجرائها جواز المخالفة القطعية، والكلام بعد فرض جرمتها.

بل في بعض الاخبار ما يدل على وجوب الاحتياط.

مثل صحيحة عبدالرحمن المتقدمة في جزاء الصيد: (إذا أصبتم مثل هذا ولم تدروا، فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا)(١)، وغيرها.

فإن قلت: إن تجويز الشارع لترك أحد المحتملين والاكتفاء بالاخر يكشف عن عدم كون العلم الاجمالي علية تامة لوجوب الاطاعة حينئذ، كما عن عدم تجويز الشارع للمخالفة مع العلم التفصيلي دليل على كون العلم التفصيلي علة تامة لوجوب الاطاعة.

وحينئذ فلا ملازمة بين العلم الاجمالي ووجوب الاطاعة، فيحتاج إثبات الوجوب إلى دليل آخر غير العلم الاجمالي.

وحيث كان مفقودا فأصل البراء‌ة يقتضي عدم وجوب الجميع وقبح العقاب على تركه لعدم البيان.

نعم لما كان ترك الكل معصية عند العقلاء حكم بتحريمها، ولا تدل حرمة المخالفة القطعية على وجوب الموافقة القطعية.

قلت: العلم الاجمالي كالتفصيلي علية تامة لتنجز التكليف بالمعلوم، إلا أن المعلوم إجمالا يصلح لان يجعل أحد محتمليه بدلا عنه في الظاهر.

فكل مورد حكم الشارع بكفاية أحد المحتملين للواقع إما تعيينا كحكمه [ بالاخذ ] بالاحتمال المطابق للحالة السابقة، وأما تخييرا كما في موارد التخيير بين الاحتمالين، فهو من باب الاكتفاء عن الواقع بذلك المحتمل، لا الترخيص لترك الواقع بلا بدل في الجملة.

فإن الواقع إذا علم به إرادة المولى بشئ وصدور الخطاب عنه إلى العبد وإن لم يصل

____________________

(١) تهذيب الاحكام، ج ٥، ص ٤٦٦ الكافي، ج ٤، ص ٣٩١ بحار الانوار، ج ٢، ص ٢٥٩.

٤١

الصفحة ٤٤٤

إليهم، لم يكن بد عن موافقته، إما حقيقة بالاحتياط وإما حكما بفعل ما جعله الشارع بدلا عنه، وقد تقدم الاشارة إلى ذلك في الشبهة المحصورة.

ومما ذكرنا يظهر عدم جواز التمسك في المقام بأدلة البراء‌ة، مثل رواية الحجب والتوسعة ونحوهما، لان العمل بها في كل من الموردين بخصوصه يوجب طرحها بالنسبة إلى أحدهما المعين عند الله تعالى المعلوم وجوبه، فإن وجوب واحدة من الظهر والجمعة أو من القصر والاتمام مما لم يحجب الله علمه عنا، فليس موضوعا عنا ولسنا في سعة منه.

فلا بد إما من الحكم بعدم جريان هذه الاخبار في مثل المقام مما علم وجوب شئ إجمالا، وإما من الحكم بأن شمولها للواحد المعين المعلوم وجوبه ودلالتها بالمفهوم على عدم كونه موضوعا عن العباد وكونه محمولا عليهم ومأخوذين به و ملزمين عليه دليل علمي بضميمة حكم العقل بوجود المقدمة العلمية على وجوب الاتيان بكل من الخصوصيتين.

فالعلم بوجوب كل منهما لنفسه وإن كان محجوبا عنا إلا أن العلم بوجوبه من باب المقدمة ليس محجوبا عنا.

ولا منافاة بين عدم وجوب الشئ ظاهرا لذاته ووجوبه ظاهرا من باب المقدمة.

كما لا تنافي بين عدم الوجوب النفسي واقعا وثبوت الوجوب الغيري كذلك.

واعلم أن المحقق القمي، رحمه الله وبعد ما حكى عن المحقق الخوانساري الميل إلى وجوب الاحتياط في مثل الظهر والجمعة والقصر والاتمام قال: (إن دقيق النظر يقتضي خلافه، فإن التكليف بالمجمل المحتمل لافراد متعددة بإرادة فرد معين عند الشارع مجهول عند المخاطب مستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة الذي اتفق أهل العدل على إستحالته.

وكل ما يدعى كونه من هذا القبيل فيمكن منع، إذ غاية ما يسلم في القصر والاتمام والظهر والجمعه وأمثالها أن الاجماع وقع على أن من ترك الامرين بأن لا يفعل شيئا منهما يستحق العقاب، لا أن من ترك أحدهما المعين عند الشارع المبهم عندنا بأن ترك فعلهما مجتمعين يستحق العقاب.

ونظير ذلك مطلق التكليف بالاحكام الشرعية، سيما في أمثال زماننا على مذهب اهل الحق من التخطئة، فإن التحقيق أن الذي ثبت علينا بالدليل هو تحصيل ما يمكننا تحصيله من الادلة الظنية، لا تحصيل الحكم النفس الامري في كل واقعة.ولذا لم نقل بوجوب الاحتياط وترك العمل بالظن الاجتهادي من أول الامر.

٤٢

الصفحة ٤٤٥

نعم لو فرض حصول الاجماع أو ورود النص على وجوب شئ معين عند الله تعالى مردد عندنا بين أمور من دون إشتراط بالعلم به المستلزم ذلك الفرض لاسقاط قصد التعيين في الطاعة لتم ذلك.

ولكن لا يحسن حينئذ قوله - يعني المحقق الخوانساري -، فلا يبعد القول بوجوب الاحتياط حينئذ، بل لا بد من القول باليقين والجزم بالوجوب.ولكن من أين هذا الفرض وأنى يمكن إثباته)(١)، إنتهى كلامه رفع مقامه.

وما ذكره، قدس الله سرة، قد وافق فيه بعض كلمات ذلك المحقق التي ذكرها في مسألة الاستنجاء بالاحجار.

حيث قال بعد كلام له: والحاصل: إذا ورد نص أو إجماع على وجوب شئ معين معلوم عندنا أو ثبوت حكم إلى غاية معلومة عندنا، فلا بد من الحكم بلزوم تحصيل اليقين أو الظن بوجود ذلك الشئ المعلوم حتى يتحقق الامتثال إلى أن قال: - وكذا إذا ورد نصر أو إجماع على وجوب شئ معين في الواقع مردد في نظرنا بين أمور، وعلم أن ذلك التكليف غير مشروط بشئ من العلم بذلك الشئ مثلا أو على ثبوت حكم إلى غاية معينة في الواقع مرددة عندنا بين أشياء، وعلم أيضا عدم إشتراطه بالعلم وجب الحكم بوجوب تلك الاشياء المردد فيها في نظرنا وبقاء ذلك الحكم إلى حصول تلك الاشياء.

ولا يكفي الاتيان بواحد منها في سقوط التكليف وكذا حصول شئ واحد من الاشياء في إرتفاع الحكم المعين إلى أن قال: - وأما إذا لم يكن كذلك، بل ورد نص مثلا على أن الواجب الشئ الفلاني، ونص آخر على أن هذا الواجب شئ آخر، أو ذهب بعض الامة إلى وجوب شئ وبعض آخر إلى وجوب شئ آخر دونه، وظهر بالنص والاجماع في الصورتين أن ترك ذينك الشيئين معا سبب لاستحقاق العقاب، فحينئذ لم يظهر وجوب الاتيان بهما حتى يتحقق الامتثال، بل الظاهر الاكتفاء بواحد منهما، سواء إشتركا في أمر أو تباينا بالكلية.وكذا

____________________

(١) القوانين المحكمة، ص ٢٦٧.

٤٣

الصفحة ٤٤٦

الكلام في ثبوت الحكم إلى غايه معينة)(١)، إنتهى كلامه رفع مقامه.وأنت خبير بما في هذه الكلمات من النظر.

أما ما ذكره الفاضل القمي، رحمه الله، من حديث التكليف المجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة فلا دخل له في المقام، إذ لا إجمال في الخطاب أصلا.

إنما طرء الاشتباه في المكلف به من جهة تردد ذلك الخطاب المبين بين أمرين وإزالة هذا التردد العارض من جهة أسباب إختفاء الاحكام غير واجبة على الحكيم تعالى حتى يقبح تأخيره عن وقت الحاجة، بل يجب عند هذا الاختفاء الرجوع إلى ما قرره الشارع كلية في الوقائع المختفية، وإلا فما يقتضيه العقل من البراء‌ة والاحتياط.

ونحن ندعي أن العقل حاكم بعد العلم بالوجوب والشك في الواجب وعدم الدليل من الشارع على الاخذ بأحد الاحتمالين المعين أو المخير والاكتفاء به من الواقع بوجوب الاحتياط حذرا من ترك الواجب الواقعي، وأين ذلك من مسألة التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة، مع أن التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت العمل لا دليل على قبحه إذا تمكن المكلف من الاطاعة ولو بالاحتياط.

وأما ما ذكره تبعا للمحقق المذكور: (من تسليم وجوب الاحتياط إذا قام الدليل على وجوب شئ معين في الواقع غير مشروط بالعلم به).

ففيه: أنه إذا كان التكليف بالشئ قابلا لان يقع مشروطا بالعلم ولان يقع منجزا غير مشروط بالعلم بالشئ، كان ذلك إعترافا بعدم قبح التكليف بالشئ المعين المجهول، فلا يكون العلم شرطا عقليا.

وأما إشتراط التكليف به شرعا فهو غير معقول بالنسبة إلى الخطاب الواقعي، فإن الخطاب الواقعي في يوم الجمعة، سواء فرض قوله: (صل الظهر) أم فرض قوله) (صل الجمعة)، لا يعقل أن يشترط بالعلم بهذا الحكم التفصيلي.

نعم بعد إختفاء هذا الخطاب المطلق يصح أن يرد خطاب مطلق.

كقوله: (اعمل بذلك الخطاب ولو كان عندك مجهولا، وائت بما فيه ولو كان غير معلوم)، كما يصح أن يرد خطاب مشروط وأنه لا يجب عليك ما اختفى عليك من التكليف في يوم الجمعة وأن وجوب إمتثاله عليك مشروط بعلمك به تفصيلا.

ومرجع الاول إلى الامر بالاحتياط، ومرجع الثاني إلى البراء‌ة عن الكل إن أفاد نفي وجوب الواقع رأسا المستلزم لجوازم المخالفة القعطية، وإلى نفي ما علم إجمالا بوجوبه وإن أفاد نفي

____________________

(١) مشارق الشموس في شرح الدروس، ص ٧٧.

٤٤

الصفحة ٤٤٧

وجوب القطع بإتيانه وكفاية إتيان بعض ما يحتمل.

فمرجعه إلى جعل البدل للواقع والبراء‌ة عن إتيان الواقع على ما هو عليه.

لكن دليل البراء‌ة على الوجه الاول ينافي العلم الاجمالي المعتبر بنفس أدلة البراء‌ة المغياة بالعلم، وعلى الوجه الثاني غير موجود، فيلزم من هذين الامرين أعني وجوب مراعاة العلم الاجمالي وعدم وجود دليل على قيام أحد المحتملين مقام المعلوم إجمالا حكم العقل بوجوب الاحتياط، إذ لا ثالث لذينك الامرين، فلا حاجة إلى أمر الشارع بالاحتياط.

ووجوب الاتيان بالواقع غير مشروط بالعلم التفصيلي به، مضافا إلى ورود الامر بالاحتياط في كثير من الموارد.

وأما ما ذكره: (من إستلزام ذلك الفرض أعني تنجز التكليف بالامر المردد من دون إشتراط بالعلم به لاسقاط قصد التعيين في الطاعة).

ففيه: أن سقوط قصد التعيين إنما حصل بمجرد التردد والاجمال في الواجب، سواء قلنا فيه بالبراء‌ة والاحتياط، وليس لازما لتنجز التكليف بالواقع وعدم إشتراطه بالعلم.

فإن قلت: إذا سقط قصد التعيين لعدم التمكن فبأيهما ينوي الوجوب والقربة.

قلت: له في ذلك طريقان: أحدهما أن ينوي بكل منهما الوجوب والقربة لكونه بحكم العقل مامورا بالاتيان بكل منهما.

وثانيهما أن ينوي بكل منهما حصول الواجب به أو بصاحبه تقربا إلى الله تعالى، فيفعل كلا منهما، لتحصيل الواجب الواقعي وتحصيله لوجوبه والتقرب به إلى الله تعالى، فملخص ذلك أني أصلي الظهر، لاجل تحقق الفريضة الواقعية به أو بالجملة التي أفعل بعدها أو فعلت قبلها قربة إلى الله تعالى، وملخص ذلك أني أصلي الظهر إحتياطا قربة إلى الله تعالى.وهذا الوجه هو الذي ينبغي أن يقصد.

ولا يرد: أن المعتبر في العبادة قصد التقرب والتعبد بها بالخصوص، ولا ريب أن كلا من الصلاتين عبادة، فلا معنى لكون الداعي في كل منهما التقرب المردد بين تحققه به أو بصاحبه.لان القصد المذكور إنما هو معتبر في العبادات الواقعية دون المقدمية.

وأما الوجه الاول، فيرد عليه: أن المقوصد إحراز الوجه الواقعي، وهو الوجوب الثابت في أحدهما المعين.

ولا يلزم من نية الوجوب المقدمي قصده.

وأيضا فالقربة غير حاصلة بنفس فعل أحدهما ولو بملاحظة وجوبه الظاهري، لان هذا الوجوب مقدمي، ومرجعه إلى وجوب تحصيل العلم بفراغ الذمة ودفع إحتمال ترتب ضرر العقاب بترك بعض منهما.وهذا الوجوب إرشادي، لا تقرب فيه أصلا.

٤٥

الصفحة ٤٤٨

نظير أوامر الاطاعة، فإن إمتثالها لا يوجب تقربا.

وإنما المقرب نفس الاطاعة، والقرب هنا أيضا نفس الاطاعة الواقعية المرددة بين الفعلين، فافهم، فإنه لا يخلو عن دقة.

ومما ذكرنا يندفع توهم أن الجميع بين المحتملين مستلزم لاتيان غير الواجب على جهة العبادة، لان قصد القربة المعتبر في الواجب الواقعي لازم المراعاة في كلا المحتملين ليقطع بإحرازه في الواجب الواقعي.

ومن المعلوم أن الاتيان بكل من المحتملين بوصف أنها عبادة مقربة يوجب التشريع بالنسبة إلى ما عدا الواجب الواقعي فيكون محرما.فالاحتياط غير ممكن في العبادات.

وإنما يمكن في غيرها من جهة أن الاتيان بالمحتملين لا يعتبر فيهما قصد التعيين والتقرب، لعدم إعتباره في الواجب الواقعي المردد، فيأتي بكل منهما لاحتمال وجوبه.

ووجه إندفاع هذا التوهم مضافا إلى أن غاية ما يلزم من ذلك عدم التمكن من تمام الاحتياط في العبادات، حتى من حيث مراعاة قصد التقرب المعتبر في الواجب الواقعي من جهة إستلزامه للتشريع المحرم.

فيدور الامر بين الاقتصار على أحد المحتملين وبين الاتيان بهما مهملا، لقصد التقرب في الكل فرارا عن التشريع.

ولا شك أن الثاني أولى، لوجوب الموافقة القطعية بقدر الامكان.

فإذا لم يمكن الموافقة بمراعاة جميع ما يعتبر في الواقعي في كل من المحتملين اكتفي بتحقق ذات الواجب في ضمنها أن إعتبار قصد التقرب والتعبد في العبادة الواجبة واقعا لا يقتضي بقصده في كل مهما.

كيف وهو غير ممكن، وإنما يقتضي بوجوب قصد التقرب والتعبد في الواجب المردد بينهما بأن يقد في كل منهما أني أفعله ليتحقق به أو بصاحبه التعبد بإتيان الواجب الواقعي.

وهذا الكلام بعينه جار في قصد الوجه المعتبر في الواجب، فإنه لا يعتبر قصد ذلك الوجه خاصة في خصوص كل منهما بأن يقصد أني أصلي الظهر لوجوبه، ثم يقصد أني أصلي الجمعة لوجوبها، بل يقصد أني أصلي الظهر، لوجوب الامر الواقعي المردد بينه وبين الجمعة التي أصليها بعد ذلك او صليتها قبل ذلك.

والحاصل: أن نية الفعل هو قصده على الصفة التى هو عليها التي بإعتبارها صار واجبا، فلا بد من ملاحظة ذلك في كل من المحتملين.

فإذا لاحظنا ذلك فيه وجدنا الصفة التي هو عليها الموجبة للحكم بوجوبه هو إحتمال تحقق الواجب المتعبد به والمتقرب به إلى الله تعالى في ضمنه، فيقصد هذا المعنى.

والزائد على هذا المعنى غير موجود فيه، فلا معنى لقصد التقرب في كل منهما بخصوصه، حتى يرد أن التقرب والتعبد بما لم يتعبد به الشارع تشريع محرم.

٤٦

الصفحة ٤٤٩

نعم هذا الايراد متوجه على ظاهر من اعتبر في كل من المحتملين قصد التقرب والتعبد به بالخصوص، لكنه مبني أيضا على لزوم ذلك من الامر الظاهري بإتيان كل منهما عبادة، فيكون كل منهما واجبة في مرحلة الظاهر.

كما إذا شك في الوقت أنه صلى الظهر أم لا، فإنه يجب عليه فعلها فينوي الوجوب والقربة وإن احتمل كونها في الواقع لغوا غير مشروع.

فلا يرد عليه ايراد التشريع إذ التشريع إنما يلزم لو قصد بكل منهما، أنه الواجب واقعا المتعبد به في نفس الامر.

ولكنك عرفت أن مقتضى النظر الدقيق خلاف هذا البناء، وأن الامر المقدمي خصوصا الموجود في المقدمة العلمية التي لا يكون الامر بها إرشاديا، لا يوجب موافقة التقرب ولا يصير منشأ لصيرورة الشئ من العبادات إذا لم يكن في نفسه [ منها ].

وقد تقدم في مسألة (التسامح في أدلة السنن) ما يوضح حال الامر بالاحتياط.

كما أنه قد إستوفينا في بحث (مقدمة الواجب) حال الامر المقدمي وعدم صيرورة المقدمة بسببه عبادة، وذكرنا ورود الاشكال من هذه الجهة على كون التيمم من العبادات على تقدير عدم القول برجحانه في نفسه كالوضوء، فإنه لا منشأ حنيئذ لكونه منها إلا الامر المقدمي به من الشارع.

فإن قلت: يمكن إثبات الوجوب الشرعي المصحح لنية الوجه والقربة [ في المحتملين ]، لان الاول منهما واجب بالاجماع ولو فرارا عن المخالفة القطعية، والثاني واجب بحكم الاستصحاب المثبت للوجوب الشرعي الظاهري، فإن مقضتى الاستصحاب بقاء الاشتغال وعدم الاتيان بالواجب الواقعي وبقاء وجوبه.

قلت: أما المحتمل المأتي به أولا فليس واجبا في الشرع لخصوص كونه ظهرا أو جمعة.

وإنما وجب لاحتمال تحقق الواجب به الموجب للفرار عن المخالفة أو للقطع بالموافقة إذا أتى معه بالمحتمل الآخر.

وعلى أي تقدير فمرجعه إلى الامر باحراز الواقع ولو إحتمالا.

وأما المحتمل الثاني فهو أيضا ليس إلا بحكم العقل من باب المقدمة.

وما ذكر من (الاستصحاب)، فيه بعد منع جريان الاستصحاب في هذا المقام من جهة حكم العقل من أول الامر بوجوب الجميه إذ بعد الاتيان بأحدهما يكون حكم العقل باقيا قطعا، وإلا لم يكن حاكما بوجوب الجميع وهو خلاف الفرض -: أن مقتضى الاستصحاب وجوب البناء على بقاء الاشتغال حتى يحصل اليقين بإرتفاعه.

أما وجوب تحصيل اليقين بإرتفاعه فلا يدل عليه الاستصحاب.وإنما يدل عليه العقل المستقل بوجوب القطع بتفريغ الذمة عند إشتغالها.وهذا معنى الاحتياط، فمرجع الامر إليه.

٤٧

الصفحة ٤٥٠

وأما إستصحاب وجوب ما وجب سابقا في الواقع أو إستصحاب عدم الاتيان بالواجب الواقعي، فشئ منهما لا يثبت وجوب المحتمل الثاني حتى يكون وجوبه شرعيا إلا على تقدير القول بالاصول المثبتة وهي منفية، كما قرر في محله.

ومن هنا ظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين إستصحاب عدم فعل الظهر وبقاء وجوبه على من شك في فعل، فإن الاستصحاب بنفسه مقتض هناك لوجوب الاتيان بالظهر الواجب في الشرع على الوجه الموظف من قصد لوجوب والقربة وغيرهما.

ثم إن تتمة الكلام فيما يتعلق بفروع هذه المسألة تأتي في الشبهة الموضوعية إن شاء الله تعالى.

٤٨

الصفحة ٤٥١

المسألة الثانية ما إذا إشتبه الواجب في الشريعة بغيره من جهة إجمال النص بأن يتعلق التكليف الوجوبي بامر مجمل.

كقوله: (أئتني بعين)، وقوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)، بناء على تردد الصلاة الوسطى بين صلاة الجمعة كما في بعض الروايات، وغيرها كما في بعض آخر.

والظاهر أن الخلاف هنا بعينه الخلاف في المسألة الاولى، والمختار فيها هو المختار هناك، بل هنا أولى، لان الخطاب هنا تفصيلا متوجه إلى المكلفين، فتأمل.

وخروج الجاهل لا دليل عليه، لعدم قبح تكليف الجاهل بالمراد من المأمور به إذا كان قادرا على إستعلامه من دليل منفصل.فمجرد الجهل لا يقبح توجه الخطاب.

ودعوى: (قبح توجهه إلى العاجز عن إستعلامه تفصيلا القادر على الاحتياط فيه بإتيان المحتملات)، أيضا ممنوعة، لعدم القبح فيه أصلا.

وما تقدم من البعض من منع التكليف بالمجمل، لاتفاق (العدلية) على إستحالة تأخير البيان، قد عرفت منع قبحه أولا، وكون الكلام فيما عرض له الاجمال ثانيا.

ثم إن المخالف في المسألة ممن عثرنا عليه هو الفاضل القمي، رحمه الله، والمحقق الخوانساري في ظارهر بعض كلماته، لكنه، قدس سره، وافق المختار في ظاهر بعضها الاخر.

قال - في مسألة التوضي بالماء المتشبه بالنجس، بعد كلام له في منع التكليف في العبادات إلا بما ثبت من أجزائها وشرائطها ما لفظه: (نعم لو حصل يقين المكلف بأمر ولم يظهر معنى ذلك الامر، بل يكون مرددا بين أمور، فلا يبعد القول بوجوب تلك الامور جميعا حتى يحصل اليقين بالبراء‌ة)(١)، إنتهى.

____________________

(١) مشارق الشموس في شرح الدروس، ص ٢٨٢.

٤٩

الصفحة ٤٥٢

ولكن التأمل في كلامه يعطي عدم ظهور كلامه في الموافقة، لان الخطاب المجمل الواصل إلينا لا يكون مجملا للمخاطبين.فتكليف المخاطبين بما هو مبين.وأما نحن معاشر الغائبين فلم يثبت اليقين بل ولا الظن بتلكليفنا بذلك الخطاب.

فمن كلف به لا إجمال فيه عنهده، ومن عرض له الاجمال لا دليل على تكليفه بالواقع المردد، لان إشتراك غير المخاطبين معهم فيما لم يتمكنوا من العلم به عين الدعوى.

فالتحقيق أن هنا مسألتين: إحداهما إذا خوطب شخص بمجمل هل يجب عليه الاحتياط أو لا؟ الثانية أنه إذا علم تكليف الحاضرين بامر معلوم لهم تفصيلا وفهموه من خطاب هو مجمل بالنسبة إلينا معاشر الغائبين، فهل يجب علينا تحصيل القطع بالاحتياط بإتيان ذلك الامر أم لا.والمحقق حكم بوجوب الاحتياط في الاول دون الثاني.

فظهر من ذلك أن مسألة إجمال النص إنما يغاير المسألة السابقة، أعني عدم النص فيما فرض خطاب مجمل متوجه إلى المكلف، إما لكونه حاضرا عند صدور الخطاب وإما للقول بإشتراك الغائبين مع الحاضرين في الخطاب.

أما إذا كان الخطاب للحاضرين وعرض له الاجمال بالنسبة إلى الغائبين، فالمسألة من قبيل عدم النص لا إجمال النص، إلا أنك عرفت أن المختار فيهما وجوب الاحتياط.

[ المسألة ] الثالثة ما إذا إشتبه الواجب بغيره لتكافؤ النصين كما في بعض مسائل القصر والاتمام.

فالمشهور فيه التخيير، لاخبار التخيير السليمة عن المعارض حتى ما دل على الاخد بما فيه الاحتياط، لان المفروض عدم موافقة شئ منهما للاحتياط، إلا أن يستظهر من تلك الادلة مطلوبية الاحتياط عند تصادم الادلة.

لكن قد عرفت فيما تقدم أن أخبار الاحتياط لا تقاوم سندا ولا دلالة لاخبار التخيير.

٥٠

الصفحة ٤٥٣

[ المسألة ] الرابعة ما إذا اشبه الواجب بغير الحرام من جهة إشتباه الموضوع كما في صورة إشتباه الفائتة أو القبلة أو الماء المطلق.

والاقوى هنا أيضا وجوب الاحتياط، كما في الشبهة المحصورة، لعين ما مر فيها من تعلق الخطاب بالفائتة واقعا مثلا، وإن لم يعلم تفصيلا.ومقتضاه ترتب العقاب على تركها ولو مع الجهل.

وقضية حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل وجوب المقدمة العلمية والاحتياط بفعل جميع المحتملات.

وقد خالف في ذلك الفاضل القمي، رحمه الله، فمنع وجوب الزائد على واحدة من المحتملات مستندا في ظاهر كلامه إلى ما زعمه جامعا لجميع صور الشك في المكلف به من قبح التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة.

وأنت خبير بأن الاشتباه في الموضوع ليس من التكليف بالمجمل في شئ، لان المكلف به مفهوم معين طرأ الاشتباه في مصداقه لبعض العوارض الخارجية، كالنسيان ونحوه، والخطاب الصادر لقضاء الفائتة عام في المعلومة تفصيلا والجهولة.

ولا مخصص له بالمعلومة لا من العقل ولا من النقل، فيجب قضاؤها، ويعاقب على تركها مع الجهل كما يعاقب مع العلم.

ويؤيد ما ذكرنا ما ورد من وجوب قضاء ثلاث صلوات على من فاتته فريضة معللا ذلك ببراء‌ة الذمة على كل تقدير، فإن ظاره التعليل يفيد عموم مراعاة ذلك في كل مقام إشتبه عليه الواجب.

ولذا تعدى المشهور عن مورد النص وهو تردد الفائتة بين رباعية وثلاثية وثنائية - إلى الفريضة الفائتة من المسافر المرددة بين ثنائية وثلاثية، فاكتفوا فيها بصلاتين.

٥١

الصفحة ٤٥٤

وينبغي التنبيه على أمور الاول: أنه يمكن القول بعدم وجوب الاحتياط في مسألة إشتباه القبلة ونحوها مما كان الاشتباه الموضوعي في شرط من شروط الواجب، كالقبلة واللباس وما يصح السجود عليه وشبهها، بناء على دعوى سقوط هذه الشروط عند الاشتباه ولذا أسقط الحلي وجوب الستر عند إشتباه الساتر الطاهر بالنجس وحكم بالصلاة عاريا بل النزاع فيما كان من هذا القبيل ينبغي أن يكون على هذا الوجه، فإن القائل بعدم وجوب الاحتياط ينبغي أن يقول بسقوط الشروط عند الجهل، لا بكفاية الفعل مع إحتمال الشرط، كالصلاة المحتمل وقوعها إلى القبلة بدلا عن القبلة الواقعية.

ثم الوجه في دعوى سقوط الشرط الجهول إما إنصراف أدلته إلى صورة العلم به تفصيلا.

كما في بعض الشروط، نظير إشتراط الترتب بين الفوائت، وإما دوران الامر بين إهمال هذا الشرط المجهول وإهمال شرط آخر، وهو وجود مقارنة العمل لوجهه بحيث يعلم بوجوب الواجب وندب المندوب حين فعله.

وهذا يتحقق مع القول بسقوط الشرط المجهول.وهذا هو الذي يظهر من كلام الحلي.وكلا الوجهين ضعيفان.

أما الاول، فلان مفروض الكلام ما إذا ثبت الوجوب الواقعي للفعل بهذا الشرط وإلا لم يكن من الشك في المكلف به، للعلم حينئذ بعدم وجوب الصلاة إلى القبلة الواقعية المجهولة بالنسبة إلى الجاهل.

وأما الثاني، فلان ما دل على وجوب مقارنة العمل بقصد وجهه والجزم مع النية إنما يدل عليه مع التمكن.

ومعنى التمكن القدرة على الاتيان به مستجمعا للشرائط جازما بوجه من الوجوب والندب حين الفعل.

أما مع العجز عن ذلك فهو المتعين للسقوط دون الشرط المجهول الذي اوجب العجز عن الجزم بالنية.

والسر في تعيينه للسقوط هو أنه إنما لوحظ إعتباره في الفعل المستجمع

٥٢

الصفحة ٤٥٥

للشرائط، وليس إشتراطه في مرتبة سائر الشرائط، بل متأخرا عنه.

فإذا قيد إعتباره بحال التمكن سقط حال العجز، يعني العجز عن إتيان الفعل الجامع للشرائط مجزوما به.

الثاني: إن النية في كل من الصلوات المتعددة على الوجه المتقدم في مسألة الظهر والجمعة.

وحاصله: أنه ينوي في كل منهما فعلهما إحتياطا لاحراز الواجب الواقعي المردد بينها وبين صاحبها تقربا إلى الله على أن يكون التقرب علة للاحراز الذي جعل غاية للفعل.ويترتب على هذا أنه لا بد من أن يكون حين فعل أحدهما عازما على فعل الاخر.

إذ النية المذكورة لا تتحقق بدون ذلك، فإن من قصد الاقتصار على أحد الفعلين ليس قاصدا لامتثال الواجب الواقعي على كل تقدير، نعم هو قاصد لامتثاله على تقدير مصادفة هذا المحتمل له لا مطلقا.وهذا غير كاف في العبادات المعلوم وقوع التعبد بها.

نعم لو احتمل كون الشئ عبادة كغسل الجنابة إن احتمل الجنابة اكتفى به بقصد الامتثال على تقدير تحقق الامر به.

لكن ليس هنا تقدير آخر يراد منه التعبد على ذلك التقدير.فغاية ما يمكن قصده هنا هو التعبد على طريق الاحتمال.

فهذا غاية ما يمكن قصده هنا، بخلاف ما نحن فيه مما علم فيه ثبوت التعبد باحد الامرين، فإن لا بد فيه من الجزم بالتعبد.

الثالث: إن الظاهر أن وجوب كل من المحتملات عقلي لا شرعي، لان الحاكم بوجوبه ليس إلا العقل من باب وجوب دفع العقاب المحتمل على تقدير ترك أحد المحتملين، حتى أنه لو قلنا بدلالة أخبار الاحتياط أو الخبر المتقدم في الفائتة على وجوب ذلك كان وجوبه من باب الارشاد.

وقد تقدم الكلام من ذلك من فروع للاحتياط في الشك في التكليف.

وأما إثبات وجوب التكرار شرعا في ما نحن فيه بالاستصحاب وحرمة نقض اليقين بغير اليقين شرعا فقد تقدم في المسألة الاولى عدم دلالة الاستصحاب على ذلك إلا بناء على أن المتسصحب يترتب عليه الامور الاتفاقية المقارنة معه.وقد تقدم إجمالا ضعفه وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيلا.

وعلى ما ذكرنا، فلو ترك المصلي المتحير في القبلة أو الناسي لفائتة جميع المحتملات لم يستحق إلا عقابا واحدا، وكذا لو ترك أحد المحتملات واتفق مصادفته للواجب الواقعي، ولو لم يصادف لم

٥٣

الصفحة ٤٥٦

يستحق عقابا من جهة مخالفة الامر به.نعم قد يقال بإستحقاقه العقاب من جهة التجري.وتمام الكلام فيه قد تقدم.

الرابع: لو إنكشف مطابقة ما أتى به للواقع قبل فعل الباقي أجزأ عنها، لانه صلى الصلاة الواقعية قاصدا للتقرب بها إلى الله تعالى وإن لم يعلم حين الفعل أن المقرب هو هذا الفعل، إذ لا فرق بين أن يكون الجزم بالعمل ناشيا عن تكرار الفعل أو ناشيا عن إنكشاف الحال.

الخامس: لو فرض محتملات الواجب غير محصورة لم يسقط الامتثال في الواجب المردد بإعتبار شرطه كالصلاة إلى القبلة المجهولة وشبهها قطعا، إذ غاية الامر سقوط الشرط، فلا وجه لترك المشروط رأسا.

وأما في غيره مما كان نفس الواجب مرددا، فالظاهر أيضا عدم سقوطه ولو قلنا بجواز إرتكاب الكل في الشبهة الغير المحصورة، لان فعل الحرام لا يعلم هناك به إلا بعد الارتكاب، بخلاف ترك الكل هنا، فإنه يعلم به مخالفة الواجب الواقعي حين المخالفة.

وهل يجوز الاقتصار على واحد، إذ به يندفع محذور المخالفة أم يجب الاتيان بما تيسر من المحتملات؟ وجهان، من أن التكليف بإتيان الواقع ساقط، فلا مقتضي لايجاب مقدماته العلمية، وإنما وجب الاتيان بواحد فرارا من المخالفة القطعية، ومن أن اللازم، بعد الالتزم بحرمة مخالفة الواقع، مراعاته مهما أمكن.

وعليه بناء العقلاء في أوامرهم العرفية.

والاكتفاء بالواحد التخييري عن الواقع إنما يكون منع نص الشارع عليه.

وأما مع عدمه وفرض حكم العقل بوجوب مراعاة الواقع فيجب حتى يقطع بعدم العقاب، إما لحصول الواجب وإما لسقوطه بعدم تيسر الفعل، وهذا لا يحصل إلا بعد الاتيان بما تيسر.وهذا هو الاقوى.

وهذا الحكم مطرد في كل مورد وجد المانع من الاتيان ببعض غير معين من المحتملات ولو طرأ المانع من بعض معين منها.

ففي الوجوب كما هو المشهور إشكال من عدم العلم بوجود الواجب بين الباقي، والاصل البراء‌ة.

٥٤

الصفحة ٤٥٧

السادس: هل تشرط في تحصيل العلم الاجمالي بالبراء‌ة بالجمع بين المشتبهين عدم التمكن من الامتثال التفصيلي بإزالة الشبهة أو إختياره ما يعلم به البراء‌ة تفصيلا، أم يجوز الاكتفاء به وإن تمكن من ذلك، فلا يجوز إن قدر على تحصيل العلم بالقبلة أو تعيين الواجب الواقعي من القصر والاتمام أو الظهر والجمعة الامتثال بالجمع بين المشتبهات وجهان بل قولان.ظاهر الاكثر الاول، لوجوب إقتران الفعل المأمور به عندهم بوجه الامر.

وسيأتي الكلام في ذلك عند التعرض بشروط الطهارة والاحتياط إن شاء الله تعالى.

ويتفرع على ذلك أنه لو قدر على العلم التفصيلي من بعض الجهات وعجز عنه من جهة أخرى، فالواجب مراعاة العلم التفصيلي من تلك الجهة فلا يجوز إن قدر على الثوب الطاهر المتيقن وعجز عن تعيين القبلة تكرار الصلاة في الثوبين إلى أربع جهات، لتمكنه من العلم التفصيلي بالمأمور به من حيث طهارة الثوب إن لم يحصل مراعاة ذلك العلم التفصيلي على الاطلاق.

السابع: لو كان الواجب المشتبه أمرين مترتبين شرعا، كالظهر والعصر المرددين بين القصر والاتمام أو بين الجهات الاربع، فهل يعتبر في صحة الدخول في محتملات الواجب اللاحق الفراغ اليقيني من الاول بإتيان جميع محتملاته، كما صرح به في الموجز وشرحه والمسالك والروض والمقاصد العلية، أم يكفي فيه فعل بعض محتملات الاول، بحيث يقطع بحصول الترتيب بعد الاتيان بمجموع محتملات المشتبهين، ما عن نهاية الاحكام والمدارك فيأتي بظهر وعصر قصرا، ثم بهما تماما قولان، متفرعان على القول المقدم في الامر السادس، من وجوب مراعاة العلم التفصيلي مع الامكان، مبنيان على أنه هل يجب مراعاة ذلك من جهة نفس الواجب.

فلا يجب إلا إذا أوجب إهماله ترددا في أصل الواجب، كتكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين على أربع جهات فإنه يوجب ترددا في الواجب زائدا على التردد الحاص من جهة إشتباه القبلة.

فكما

٥٥

الصفحة ٤٥٨

يجب رفع التردد مع الامكان كذلك يجب تقليله.

أما إذا لم يوجب إهماله ترددا زائدا في الواجب، فلا يجب، كما في ما نحن فيه، فإن الاتيان بالعصر المقصورة بعد الظهر المقصورة لا يوجب ترددا زائدا على التردد الحاصل من جهة القصر والاتمام، لان العصر المقصورة إن كانت مطابقة للواقع كانت واجدة لشرطها، وهو الترتب على الظهر، وإن كانت مخالفة للواقع لم ينفع وقوعها مترتبة على الظهر الواقعية، لان الترتب إنما هو بين الواجبين واقعا.

ومن ذلك يظهر عدم جواز التمسك بأصالة بقاء الاشتغال بالظهر وعدم فعل الواجب الواقعي.

وذلك لان المترتب على بقاء الاشتغال وعدم فعل الواجب عدم جواز الاتيان بالعصر الواقعي، وهو مسلم، ولذا لا يجوز الاتيان حينئذ بجميع محتملات العصر، وهذا المحتمل غير معلوم أنه العصر الواقعي.

والمصحح للاتيان به هو المصحح لاتيان محتمل الظهر المشترك معه في الشك وجريان الاصلين فيه أو أن الواجب مراعاة العلم التفصيلي من جهة نفس الخصومة المشكوكة في العبادة وإن لم يوجب إهماله ترددا في الواجب، فيجب على المكلف [ العمل التفصيلي ] عند الاتيان بكون ما يأتي به هو نفس الواجب الواقعي.

فإذا تعذر ذلك من بعض الجهات لم يعذر في إهماله من الجهة المتمكنة.

فالواجب على العاجز عن تعيين كون صلاة العصر قصرا أو تماما العلم الفصيلي بكون المأتي به مترتبا على الظهر، ولا يكفي العلم بترتبه على تقدير صحته.هذا كله مع تنجز الامر بالظهر والعصر دفعة واحدة في الوقت المشترك.

أما إذا تحقق الامر بالظهر فقط في الوقت المختص ففعل بعض محتملاته، فيمكن أن يقال بعدم الجواز نظرا إلى الشك في تحقق الامر بالعصر، فكيف يقدم على محتملاتها التي لا تجب إلا مقدمة لها، بل الاصل عدم الامر، فلا يشرع الدخول في مقدمات الفعل.

ويمكن أن يقال: إن أصالة عدم الامر إنما يقتضي عدم مشروعية الدخول في المأمور به و محتملاته التي تحتمله على تقدير عدم الامر واقعا.كما إذا صلى العصر إلى غير الجهة التي صلى الظهر.أما ما لا يحتمله إلا على تقدير الامر، فلا يقتضي الاصل المنع عنه، كما لا يخفى.

٥٦

الصفحة ٤٥٩

القسم الثاني: فيما إذا دار الامر في الواجب بين الاقل والاكثر

ومرجعه إلى الشك في جزئية شئ للمأمور به وعدمها.

وهو على قسمين، لان الجزء المشكوك إما جزء خارجي، أو جزء ذهني وهو القيد وهو على قسمين، لان القيد إما منتزع من أمر خارجي مغاير للمأمور به في الوجود الخارجي فيرجع إعتبار ذلك القيد إلى إيجاب ذلك الامر الخارجي كالوضوء الذي يصير منشأ للطهارة المقيد بها الصلاة، وإما خصوصية متحدة في الوجود مع المأمور به، كما إذا دار الامر بين وجوب مطلق الرقبة أو رقبة خاصة، ومن ذلك دوران الامر بين إحدى الخصال وبين واحدة معينة منها.

والكلام في كل من القسمين في أربع مسائل.

أما مسائل القسم الاول وهو الشك في الجزء الخارجي ف‍

[ المسألة ] الاولى منها أن يكون ذلك مع عدم النص المعتبر في المسألة

فيكون ناشيا من ذهاب جماعة إلى جزئية الامر الفلاني، كالاستعاذة قبل القراء‌ة في الركعة الاولى مثلا، على ما ذهب إليه بعض فقهائنا.

وقد إختلف في وجوب الاحتياط هنا، فصرح بعض متأخري المتأخرين بوجوبه، وربما يظهر من كلام بعض القدماء كالسيد، رحمه الله، والشيخ، لكن لم يعلم كونه مذهبا لهما، بل ظاهر كلماتهم الاخر

٥٧

الصفحة ٤٦٠

خلافه.

وصريح جماعة إجراء أصالة البراء‌ة وعدم وجوب الاحتياط.

والظاهر أنه المشهور بين العامة والخاصة المتقدمين منهم والمتأخرين، كما يظهر من تتبع كتب القوم، كالخلاف والسرائر وكتب الفاضلين والشهيدين والمحقق الثاني ومن تأخر عنهم.

بل الانصاف: أنه لم أعثر، في كلمات من تقدم على المحقق السبزوارى، على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الاجزاء والشرائط، وإن كان فيهم من يختلف كلامه في ذلك، كالسيد والشيخ الشهيد، قدس سره.وكيف كان فالمختار جريان اصل البراء‌ة.

لنا على ذلك حكم العقل وما ورد من النقل أما العقل فلاستقلاله بقبح مؤاخذة من كلف بمركب لم يعلم من أجزائه إلا عدة أجزاء ويشك في أنه هو هذا أو له جزء آخر، وهو الشئ الفلاني، ثم بذل جهده في طلب الدليل على جزئية ذلك الامر فلم يقتدر، فأتى بما علم وترك المشكوك خصوصا مع إعتراف المولى بأنه ما نصبت لك عليه دلالة، فإن القائل بوجوب الاحتياط لا ينبغي أن يفرق في وجوبه بين أن يكون الامر لم ينصب دليلا أو نصب واختفى.

غاية الامر أن ترك النصب من الامر قبيح.وهذا لا يرفع التكليف بالاحتياط عن المكلف.

فإن قلت: إن بناء العقلاء على وجوب الاحتياط في الاوامر العرفية الصادرة من الاطباء أو الموالي، فإن الطبيب إذا أمر المريض بتركيب معجون فشك في جزئية شئ له مع العلم بأنه غير ضار له فتركه المريض مع قدرته عليه إستحق اللوم.وكذا المولى إذا أمر عبده بذلك.

قلت: أما أوامر الطبيب بهي إرشادية، ليس المطلوب فيها إلا إحراز الخاصية المترتبة على ذات المأمور به، ولا يتكلم فيها من حيث إلاطاعة والمعصية، ولذا لو كان بيان ذلك الدواء بجملة خبرية غير طلبية كان اللازم مراعاة الاحتياط فيها وإن لم يترتب على مخالفته وموافقته ثواب أو عقاب.

والكلام في المسألة من حيث قبح عقاب الامر على مخالفة المجهول وعدمه.

وأما أوامر الموالي الصادرة بقصد الاطاعة، فنلتزم فيها بقبح المؤاخذة إذا عجز العبد عن تحصيل العلم بجزء فاطلع عليه المولى وقدر على رفع جهله ولو على بعض الوجوه الغير المتعارفة إلا أنه إكتفى بالبيان المتعارف فأختفى على العبد لبعض العوارض.

٥٨

الصفحة ٤٦١

نعم قد يأمر المولى بمركب يعلم أن المقصود منه تحصيل عنوان يشك في حصوله إذا أتى بذلك المركب بدون ذلك الجزء المشكوك.

كما إذا أمر بمعجون وعلم أن المقصورد منه إسبال الصفراء بحيث كان هو المأمور به في الحقيقة أو علم أنه الغرض من المأمور به.فإن تحصيل العلم بإتيان المأمور به لازم كما سيجئ في المسألة الرابعة.

فإن قلت: إن الاوامر الشرعية كلها من هذا القبيل لابتنائها على مصالح في المأمور به، فالمصلحة فيها إما من قبيل العنوان في المأمور به أو من قبيل الغرض.

وبتقرير آخر: المشهور بين العدلية أن الواجبات الشرعية إنما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقلية.

فاللطف إما هو المأمور به حقيقة أو غرض للامر، فيجب تحصيل العلم بحصول اللطف ولا يحصل إلا بإتيان كل ما شك في مدخليته.

قلت: أولا مسألة البراء‌ة والاحتياط غير مبنية على كون كل واجب فيه مصلحة وهو لطف في غيره، فنحن نتكلم فيها على مذهب الاشاعرة المنكرين للحسن والقبح رأسا، أو مذهب بعض العدلية المكتفين بوجود المصلحة في الامر وإن لم يكن في المأمور به.

وثانيا إن نفس الفعل من حيث هو ليس لطفا، ولذا لو أتي به [ لا ] على وجه الامتثال لم يصح ولم يترتب عليه لطف ولا أثر آخر من آثار العبادة الصحيحة.بل اللطف إنما هو في الاتيان به على وجه الامتثال.

وحينئذ فيحتمل أن يكون اللطف منحصرا في إمتثاله التفصيلي مع معرفة وجه الفعل ليوقع الفعل على وجه.

فإن من صرح من العدلية بكون العبادات السمعية إنما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقلية قد صرح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب إقترانه به.وهذا متعذر فيما نحن فيه، لان الاتي بالاكثر لا يعلم أنه الواجب أو الاقل المتحقق من ضمنه.ولذا صرح بعضهم كالعلامة، رحمه الله.

ويظهر من آخر منهم وجوب تميز الاجزاء الواجبة من المستحبات لنوقع كلا على وجهه.

وبالجملة، فحصول اللطف بالفعل المأتي به من الجاهل فيما نحن فيه غير معلوم [ وإن أحرز الواقع ] بل ظاهرهم عدمه، فلم يبق عليه إلا التخلص من تبعة مخالفة الامر الموجه عليه، فإن هذا واجب عقلي في مقام الاطاعة والمعصية، ولا دخل له بمسألة اللطف، بل هو جار على فرض عدم اللطف وعدم المصلحة في المأمور به رأسا.

وهذا التخلص يحصل بالاتيان بما يعلم أن مع تركه يستحق العقاب والمؤاخذة وأما الزائد فيقبح المؤاخذة عليه مع عدم البيان.

فإن قلت: إن ما ذكر في وجوب الاحتياط في المتبائنين بعينه موجود هنا.وهو أن المقتضي وهو

٥٩

الصفحة ٤٦٢

تعلق الوجوب الواقعي بالامر الواقعي المردد بين الاقل والاكثر موجود، والجهل التفصيلي به لا يصلح مانعا لا عن لا عن المأمور به ولا عن توجه الامر كما تقدم في المتباينين حرفا بحرف.

قلت: نختار هنا أن الجهل مانع عقلي عن توجه التكليف بالمجهول إلى المكلف، لحكم العقل بقبح المؤاخذة على ترك الاكثر المسبب عن ترك الجزء المشكوك من دون بيان، ولا يعارض بقبح المؤاخذة على ترك الاقل من حيث هو من دون بيان، إذ يكفي في البيان المسوغ للمؤاخذة عليه العلم التفصيلي بأنه مطلوب للشارع بالاستقلال أو في ضمن الاكثر، ومع هذا العلم لا يقبح المؤاخذة.

وما ذكر في المتبائنين سندا لمنع كون الجهل مانعا من إستلزامه لجواز المخالفة القطعية وقبح خطاب الجاهل المقصر، وكونه معذورا بالنسبة إلى الواقع، مع أنه خلاف المشهور أو المتفق عليه غير جار فيما نحن فيه.

أما الاول، فلان عدم جواز المخالفة القطعية لكونها مخالفة معلومة بالتفصيل، فإن وجوب الاقل بمعنى إستحقاق العقاب بتركه معلوم تفصيلا وإن لم يعلم أن العقاب لاجل ترك نفسه أو لترك ما هو سبب في تركه وهو الاكثر.

فإن هذا العلم غير معتبر في إلزام العقل بوجوب الاتيان، إذ مناط تحريك العقل إلى فعل الواجبات وترك المحرمات دفع العقاب.ولا يفرق في تحريكه بين علمه بأن العقاب لاجل هذا الشئ أو لما هو مستند إليه.

وأما عدم معذورية الجاهل المقصر، فهو للوجه الذي لا يعذر من أجله الجاهل بنفس التكليف المستقل، وهو العلم الاجمالي بوجود واجبات ومحرمات كثيرة في الشريعة، وأنه لولاه لزم إخلال الشريعة، لا العلم الاجمالي الموجود في المقام، إذ الموجود في المقام علم تفصيلي، وهو وجوب الاقل، بمعنى ترتب العقاب على تركه وشك في أصل وجوب الزائد ولو مقدمة.

وبالجملة، فالعلم الاجمالي فيما نحن فيه غير مؤثر في وجوب الاحتياطن لكون أحد طرفيه معلومخ الالزام تفصيلا والاخر مشكوك الالزام رأسا.

ودوران الالزام في الاقل بين كونه مقدمة أو نفسيا لا يقدح في كونه معلوما بالتفصيل، لما ذكرنامن أن العقل يحكم بوجوب القيام بما علم إجمالا أو تفصيلا إلزام المولى به على أي وجه كان، ويحكم بقبح المؤاخذة على ما شك في إلزامه.

والمعلوم إلزامه تفصيلا هو الاقل والمشكوك إلزامه رأسا هو الزائد، والمعلوم إلزامه إجمالا هو الواجب النفسي المردد بين الاقل والاكثر.

ولا عبرة به بعد إنحلاله إلى معلوم تفصيلي ومشكوك كما في كل معلوم إجمالي كان كذلك.

كما لو علم إجمالا بكون أحد الانائين اللذين أحدهما المعين نجس خمرا، فإنه يحكم بحلية الطاهر منهما.

والعلم الاجمالي لا يؤثر في وجوب الاجتناب عنه.

٦٠