الرافد في علم الاصول

الرافد في علم الاصول0%

الرافد في علم الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 342

  • البداية
  • السابق
  • 342 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32087 / تحميل: 4599
الحجم الحجم الحجم
الرافد في علم الاصول

الرافد في علم الاصول

مؤلف:
العربية

بالذات ولا ضرورة للبحث عن ذلك.

ب ـ إنهم ذكروا أن الضابط الفاصل بين المسألة الأصولية وغيرها هو استغناؤها عن ضم قانون آخر لها في عملية الاستنباط وإن اختلف تعبير العلمين في ذلك ، حيث قال النائيني (قده) اصولية المسألة بوقوعها كبرى في دليل الاستنباط التي لو انضمت لها صغراها لأفادت الحكم الشرعي الكلي(١) ، وذلك لاخراج القاعدة الرجالية فإنّها قانون مساهم في استنباط الحكم الشرعي ، ولكنها لا تقع كبرى في الاستنباط بل هي محققة لصغرى دليل الاستنباط وهي حجية الخبر.

بينما الاستاذ السيد الخوئي قال : « المسألة الأصولية ما كانت كافية في استنباط الحكم بدون ضم قانون أصولي آخر لا صغروياً ولا كبروياً »(٢) ، وذلك كاف في إخراج القاعدة الرجالية لأنها لا يكتفى بها في الاستنباط بدون قانون أصولي ، سواءاً وقع كبرى الدليل أم صغراه ، فلا حاجة لقيد الكبروية. ومن هذا الضابط الفاصل بين المسألة الأصولية وغيرها نتصيد موضوع علم الأصول ومحور بحوثه ، وهو القانون الممهد لاستنباط الحكم الشرعي بدون ضم قانون آخر له وإن لم يصرح العلمان بذلك بل قالا بعدم وجود الموضوع.

ج ـ إن هذا المسلك متحد مع ما قبله في القول بعدم وجود موضوع واحد بالذات لعلم الأصول ، حيث نفاه المسلك الأول بامتناع الموضوع الواحد بالحقيقة الجامع للموضوعات المتباينة بالذات وهي موضوعات المسائل ، ونفاه المسلك الثاني بعدم الدليل العقلي والعقلائي على ضرورة وجود الموضوع لكل علم فضلاً عن وحدته بالحقيقة ، ومن ذلك علم الأصول.

وأيضاً المسلكان متحدان في وجود الجامع العرضي ، وهو حيثية الاضافة

__________________

(١) أجود التقريرات ٣٠١.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ا : ٨.

١٢١

للغرض من العلم التي عبر عنها المسلك الأول بإقامة الحجة على حكم العمل ، وعبر عنها الثاني باستنباط الحكم الشرعي الكلي. بل هما متحدان أيضاً في حقيقة هذا الغرض نفسه ، حيث أن إقامة الحجة على حكم العمل هي عملية استنباط الحكم الشرعي ، والمراد بمفهوم الاستنباط في كلمات الاستاذ السيد الخوئي (قده) ما يشمل إثبات المنجزية والمعذرية تجاه الحكم الواقعي كما في الأصول العملية وإن لم تكن نتيجته تحديد الحكم الشرعي كما في الأدلة الاجتهادية.

نعم يختلف المسلكان في قيد الاستغناء عن ضم قانون آخر في مقام الاستنباط ، حيث لم يقيد به المسلك الأول وقيد به المسلك الثاني.

ويلاحظ على هذا المسلك ملاحظتان :

الأولى : ذكرنا سابقاً أن العبارة المعروفة « موضوع كل علم الخ » لا تدل الا على تفسير الموضوع بعد الفراغ عن وجوده ، ولا تدل على لزوم وجوده ولا على وحدته أصلاً ، وذكرنا سابقاً أن من الملازمات العقلية المدركة بالعقل النظري توقف الفائدة العلمية والعملية لأي علم على وجود موضوع له بمعنى المحور لأبحاثه ومفاهيمه.

الثانية : إن التعريف المطروح لموضوع الأصول لا ينطبق على موضوعات مسائله حتى عرضاً ، وذلك لأن من المسائل الأصولية المهمة بحث صغريات أصالة الظهور ، كالبحث في ظهور المشتق في خصوص المتلبس أو الأعم ، والبحث عن ظهور صيغة الأمر في الوجوب وعدمه ، والبحث عن ظهور صيغة الشرط في المفهوم وعدمه وأمثال ذلك ، مع أن مرحلة الاستنباط للحكم لا تعتمد على هذه القوانين فقط بل تتوقف على ضم كبرى حجية الظهور لها أيضاً ، فلا يصدق على هذه المسائل أنها قوانين ممهدة لاستنباط الحكم الشرعي بدون ضم قانون أصولي آخر إليها.

١٢٢

وأجاب الأعلام عن هذه الملاحظة بوجهين :

الأول : ما في فوائد الأصول ، من كون هذه المباحث المتعلقة بصغرى أصالة الظهور مباحث لغوية خارجة عن موضوع الأصول موضوعاً ، وإنّما بحث عنها علماء الأصول لمدخليتها في مقام الاستنباط من جهة وعدم تنقيح علماء اللغة والأدب لها من جهة أخرى ، والا فلا فرق بين البحث عن ظهور صيغة الأمر في الوجوب وبين البحث عن ظهور لفظ الصعيد في مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب ، الا أن المثال الثاني منقح في كتب اللغة دون الأول(١) .

الثاني : ما في تعليقة أجود التقريرات(٢) ، وبيانه يتضح في ثلاثة أمور :

أ ـ إن الضابط المذكور للمسألة الأصولية أو موضوع الأصول ، وهو استغناؤه في مقام الاستنباط عن قانون أصولي آخر يشاركه في عملية الاستنباط لا يراد به الموجبة الكلية بمعنى الاستغناء في جميع الموارد ، بل أخذ هذا الضابط على نحو القضية المهملة ولو في بعض الموارد ، فالحاجة لقانون أصولي مشارك في بعض نماذج الاستنباط لا يسلخ المسألة الأصولية عن أصوليتها ما دامت تستغتي في بعض النماذج الأخرى ، والا فكما أن مباحث صغريات أصالة الظهور تفتقر في مرحلة الاستنباط لضم كبرى حجية الظهور لها ، فكذلك نفس كبرى حجية الظهور تفتقر أحياناً لكبرى أصولية أخرى مشاركة لها في عملية الاستنباط ككبرى حجية خبر الثقة ، ومع ذلك فهذا لا يخرجها عن كونها مسألة أصولية عند من يراها كذلك.

ب ـ إن قانون حجية الظهور ميثاق عقلائي لا ريب فيه ولذلك لم يقل

__________________

(١) فوائد الأصول ١ : ٢٦.

(٢ ) أجود التقريرات ١ : ٣.

١٢٣

فيه أحد بالسالبة الكلية ، فحينئذٍ من اللغو إدخاله في المباحث الأصولية وجعله من موضوعات علم الأصول للفراغ عن حجيته عند المجتمع العقلائي ، إذن فافتقار مباحث صغريات أصالة الظهور لهذه الكبرى دائماً في مقام الاستنباط لا يخرج هذه المباحث عن كونها أصولية ، لكونها لم تفتقر لقانون أصولي آخر بل احتاجت لقانون عقلائي مسلم به عند العقلاء.

ج ـ كما ذكرنا في الأمر السابق أنه لا نزاع كبروي في أصالة الظهور بل النزاع صغروي في ثلاثة جوانب :

١ ـ في دخول ظواهر الكتاب تحت كبرى حجية الظهور وعدمه.

٢ ـ في دخول الظاهر بالنسبة لغير المقصود بالافهام تحت الكبرى المذكورة وعدمه.

٣ ـ في دخول الظهور مطلقاً حتى مع الظن بالخلاف أو عدم الظن بالوفاق تحت الكبرى المذكورة وعدمه.

وبعد وضوح كون الخلاف صغروياً فلو ارتفع في مورد لصح الاعتماد عليه في مقام الاستنباط بدون حاجة لضم قانون أصولي مشارك له ، فمثلاً لو وردت صيغة أمر في خبر مقطوع الصدور ، بحيث لا يشمله النزاع في ظواهر الكتاب ، ولا يحتاج الاعتماد عليه لكبرى حجية خبر الثقة لكونه قطعياً ، وكان سامع الخبرمن أمثال زرارة وجميل بحيث لا نحتاج لمسألة حجية الظهور بالنسبة لغير المقصود بالافهام وعدمها ، وقد حصل لهذا السامع الظن على وفق الظهور الذي يكون لازمه عدم الظن بالخلاف ، فلا يشمله النزاع الصغروي الثالث أيضاً.

فحينئذٍ يتم استنباط الحكم في مثل هذا المورد اعتماداً على قانون أصولي واحد وهو ظهور صيغة الأمر في الوجوب مثلاً بدون ضم قانون أصولي آخر ، إذ المفروض انتفاء النزاع الصغروي في هذا المورد ، والحاجة لكبرى حجية

١٢٤

الظهور لا تخل بأصولية المسألة كما ذكرنا في الأمر الثاني ، لعدم كونها من قوانين علم الاصول.

فيكون قانون ظهور صيغة الأمر في الوجوب أصولياً مندرجاً تحت ضابط المسألة الأصولية وموضوع علم الأصول ، واحتياجه في الجوانب الثلاثة من النزاع الصغروي لقانون أصولي آخر لا يخرجه عن أصوليته ، لما ذكرنا من أن ضابط الاستغناء عن القانون الآخر لم يؤخذ على نحو الموجبة الكلية.

ويمكن المناقشة في ذلك بثلاثة وجوه :

أ ـ إن عدم وجود قائل بالسالبة الكلية في حجية الظهور لا يخرجها عن كونها أصولية ما دام مناط الأصولية موجوداً فيها ، وهو وقوعها كبرى في مقام الاستنباط بدون حاجة لضم كبرى أصولية إليها ، كما أن عدم القول بالسلب الكلي لا يجعل البحث عن كبرى حجية الظهور في علم الأصول لغواً ، فإن موضوع هذه الكبرى غير محدد سعة وضيقاً ، فيصح البحث عنه من حيث سعته وشموله للظاهر بالنسبة لغير المقصود بالافهام أم لا ، وللظهور مع عدم الظن بوفاقه أو مع الظن بخلافه أم لا ، وأمثال تلك البحوث ، وهذا المقدار من البحث كاف في أصولية الكبرى وعدم لغوية عدها في ضمن علم الأصول.

ب ـ إن اعتبار المسائل الباحثة عن صغريات أصالة الظهور من علم الأصول ، بناءاً على اعتماد مقام الاستنباط عليها من دون ضم كبرى أصولية أخرى في أمثال المورد السابق الجامع بين كون الخبر مقطوع الصدور وكون سامعه مقصوداً بالافهام وواجداً للظن بالوفاق ، إنما هو اعتماد على مورد نادر بل معدوم في العصور المتاخرة التي هي عصور تدوين علم الأصول وتطوره وبروز معالمه ، وليس من الحسن في الاعتبار العقلائي لمقام التصنيف ، والتدوين الاعتماد على موارد نادرة لإدخال بحث في ضمن علم معين أو إخراج عنه.

ج ـ كما أمكن إدخال بحوث صغريات أصالة الظهور في علم الأصول

١٢٥

لاستناد الاستنباط لها أحياناً ـ كما في المورد السابق ـ بدون ضم كبريات أصولية أخرى ، كذلك يمكن إدخال كثير من البحوث اللغوية في علم الأصول بنفس الملاك المذكور ، فمثلاً ظهوركلمة الصعيد وظهوركلمة لا ينبغي أو لا يصلح وما شاكل قد تعد من المسائل الأصولية أيضاً ، لأنها قد ترد في خبر مقطوع الصدور مع كون سامعه مقصوداً بالافهام وواجداً للظن بالوفاق فلا يحتاج مقام الاستنباط بعد الاعتماد عليها الا لكبرى حجية الظهور ، والمفروض كونها قانوناً عقلائياً مسلماً لا مسألة أصولية فينطبق الضابط للمسألة الأصولية ولموضوع علم الأصول عليها ، مع أنه لم يقل بذلك أحد من الأصوليين.

الا أن يقال في جواب ذلك بوجود الفارق بين الظهورات المبحوث عنها في علم الأصول وبين الظهورات التي يتعرض لها الفقيه في مقام استنباط الحكم الشرعي ، وهو ما أشار له صاحب الكفاية ـ في مبحث البراءة عند حصر الأصول العملية في الأصول الأربعة المعروفة وعدم شمولها لمثل قاعدة الطهارة ـ من كون الأصول الأربعة عنصراً مشتركاً في عمليات الاستنباط للحكم الشرعي بخلاف قاعدة الطهارة فهي عنصر خاص بباب الطهارة دون غيره ، فكذلك في محل كلامنا فإن الظهورات المبحوث عنها في الأصول كظهور صيغة الأمر وظهور المشتق عناصر مشتركة بين عمليات الاستنباط بخلاف ظهور لفظ الصعيد مثلاً فهو خاص بباب التيمم دون غيره(١) ، فلا وجه لقياس الظهورات اللغوية على بحوث صغريات أصالة الظهور.

ولكن مع ذلك يمكن الملاحظة على ذلك من زاويتين :

الأولى : إنه ينبغي أن يقال في تحديد المسألة الأصولية وموضوع علم الأصول أن أصولية القانون متقومة بقيدين ، عدم اختصاصه بباب دون آخر

__________________

(١) الكفاية : ٣٣٧.

١٢٦

واستغنائه في مقام الاستنباط عن إضافة قانون آخر إليه ، فراراً من الإشكال على ذلك بأن بعض القوانين الدخيلة في مقام الاستنباط مشتركة بين الأبواب الفقهية ولكنها لا تستغني عن إضافة كبرى أصولية إليها كقواعد علم الرجال ، وبعض القوانين المستننية عن إضافة قانون أصولي لها في مقام الاستنباط قوانين لغوية كظهور لفظ الصعيد في مطلق وجه الأرض مثلاً وهي غير مشتركة بين أبواب الفقه ، الا أنهم اكتفوا في تعريف المسألة الأصولية بقيد الاستغناء دون الاشتراك.

الثانية : إن عنصر الاشتراك المأخوذ مائزاً بين القانون الأصولي وغيره إن أريد به الدخول في جميع الأبواب الفقهية فهولا ينطبق على قانون من القوانين الأصولية أصلاً ، وإن أريد به الدخول في كثير من الأبواب الفقهية اندرج في ذلك بعض الظهورات اللغوية المتكررة في عدة أبواب فقهية كظهور كلمة ـ يحرم ـ أو لا بأس وأمثال ذلك ، مع أنها ليست من صميم المسائل الأصولية.

المسلك الرابع : ما طرحه السيد البروجردي (قده) ، وهو أن موضوع علم الأصول هو « القانون الذي يعد حجة في الفقه » ، وهذا هو مختارنا أيضاً وسنطرحه بما يوافق مبانينا وأفكارنا ، فنقول قبل توضيح المسلك المذكور هناك عدة تنبيهات :

أ ـ إن كثيراً من الأعلام تجشم إضافة قيود وحذف قيود أخرى من تعريف علم الأصول وتعريف موضوعه بهدف المحافظة على التصنيف الموجود لعلم الأصول فعلاً ، بحيث لا تخرج منه مسألة فيه حسب التصنيف الحاضر ولا تدخل له مسألة لم تدون فيه حسب التصنيف المذكور ، مع أن هذا التصنيف والتدوين خصوصاً على أيدي المتأخرين لم يخضع لضوابط مسلمة عند الجميع ، بحيث يكون ملزماً لنا أن لا نعرف المسألة الأصولية تعريفاً لا يتفق معه طرداً أو عكساً ، مع وضوح استطرادية كثيرمن البحوث فيه كمبحث لا ضرر وقاعدة

١٢٧

اليد وأصالة الصحة وأشباهها.

ب ـ قد ذكرنا فيما سبق أن وحدة العلم وحدة اعتبارية متقومة بالاعتبار الناشىء عن مراعاة تمام المصالح والجهات الدخيلة في جعل الوحدة المذكورة ، وحينئذٍ فلا معنى للتخطئة والاختلاف في الوحدة الاعتبارية بل يكون الخلاف راجعاً لمنشأ الاعتبار ، وهو انحفاظ المصالح والأهداف المنشودة في الوحدة الاعتبارية نفسها ، ولا مانع حينئذٍ من اختلاف الانظار في حدود المسألة الأصولية نتيجة للاختلاف في أقرب الاعتبارات لحفظ المصالح والأهداف المطلوبة.

ج ـ المسلك المذكور وهو كون موضوع علم الأصول عبارة عن القانون المتخذ حجة في الفقه يرشدنا لأمور :

أولاً : إن التعريف جامع ذاتي بين جميع المسائل الأصولية إذ لا تخلو مسألة كما سيأتي الا وموضوع البحث فيها ـ بمعنى محور البحث فيها ـ هو الحجة في الفقه ، سواءاً كان هذا المحور موضوعاً في المسألة أو محمولاً فيها ، إذن لا مانع من كون موضوع علم الأصول جامعاً ذاتياً بين المسائل.

وثانياً : بما أن موضوع علم الأصول هو القانون المتخذ حجة في الفقه فتعريف علم الأصول هو العلم الباحث عن القانون المعتبر حجة في الفقه.

وثالثاً : يتبين من خلال تعريف موضوع علم الأصول الفارق بين المسألة الأصولية وغيرها من المسائل المساهمة في عملية الاستنباط ، فالمسألة الأصولية هي القانون الذي قد يعد حجة في الفقه.

توضيح التعريف : ويتضمن ذكر ثلاثة أمور :

١ ـ إن المقصود بالحجة في التعريف هو المصطلح اللغوي ، وهو ما يصح الاحتجاج به من المولى على العبد وهو المعبر عنه بالمنجزية ومن العبد على المولى وهو المعبر عنه بالمعذرية ، لا المصطلح المنطقي وهو الحد الأوسط الذي يكون

١٢٨

واسطة في إثبات النتيجة ، ولذلك يشمل المفهوم المذكور حتى الأصول العملية فإنّها وإن لم تكن واسطة في إثبات نتائج معينة لكنها تفيد المنجزية كقاعدة الاشتغال وتفيد المعذرية كقاعدة البراءة ، فهي مندرجة تحت عنوان الحجة.

٢ ـ إن تعريف موضوع علم الأصول ب‍ « القانون المعد حجة في الفقه » هو الظاهر من كلمات المتقدمين ، فقد قال الشافعي في رسالته : « بأن الموضوع هو البيان »(١) ، عبر عنه السيد المرتضى في الذريعة بدليل الفقه ، قال : « اعلم أن الكلام في أصول الفقه إنما هو في الحقيقة كلام في أدلة الفقه »(٢) ، والقدماء هم الأقرب لبداية بذرة علم الأصول ومعرفة واقع هذا العلم.

٣ ـ لقد سبق منا في أول الكتاب أن قدمنا أطروحتنا في تصنيف علم الأصول على أساس الاعتبار وألوانه وتفاصيله ، والآن نقدم أطروحة أخرى في تصنيف علم الأصول وتبويبه على أساس الحجية لارتباطها بمبحثنا ، وهو تحديد موضوع علم الأصول.

فنقول إن للحجية ثلاث مجالات :

أ ـ مجال الاحتمال.

ب ـ مجال الكشف.

ج ـ مجال الميثاق العقلائي.

ومحور الحجية في كل مجال يختلف عنه في المجال الآخر ، فمحور الحجية في مجال الاحتمال نفس الاحتمال بقطع النظر عن حيثية الكشف فيه ، بمعنى أن الاحتمال في حد ذاته هل يملك الباعثية والزاجرية ولو لأهمية المحتمل وخطورته وان كان الاحتمال موهوماً أم لا ، ومحور الحجية في مجال الكشف هو درجة الحكاية والكشف عن الواقع ، فخبر الثقة مثلاً عندما نبحث عنه نقول بأنه متى يعتمد العقلاء والشرع المقدس على هذه الوسيلة من حيث درجة

__________________

(١) الرسالة : ٢١.

(٢) الذريعة ١ : ٧.

١٢٩

كاشفيتها عن الواقع ، فالمدار فيه على مستوى الحكاية والكشف.

كما أن الكشف على نوعين : كشف عقلي وكشف حسي ، ومقصودنا بالأول : ادراك العقل النظري للواقع عبر وسيلة معينة ، فإن الإنسان إذا سمع خبر الثقة مع معرفته بحكم الاستقراء المبني على حساب الاحتمالات أن خبر الثقة غالب المطابقة للواقع حصل له في ذهنه إدراك راجح بصدق الخبر ، وهذا ما نعبر عنه بالكشف العقلي.

ومقصودنا بالكشف الحسي : الشعور الوجداني بالشيء ، فمثلاً إذا مارس الإنسان عمل الكتابة فإن له توجهاً وجدانياً حال الكتابة وشعوراً باستمرارية العمل وتواصله ، والشعور الوجداني بالشيء غير التوجه العقلي له ، كذلك لو نظر الإنسان لصورة حديقة معينة ثم أطبق عينيه فإنه يشعر وجداناً كأن الصورة ما زالت أمام بصره ، ولو كان الإنسان في مكان صاخب بالأصوات والأضواء ثم انتقل لمكان هادئ فإنه يشعر وجداناً كأنه ما زال في موجة الصخب والضجيج ، وهذا ما نعبر عنه بالكشف الحسي الوجداني الذي ربطنا به قاعدة الاستصحاب ، حيث أن الإنسان إذا تيقن بوجود شيء عن أي طريق فإنه يبقى له شعور وجداني ببقاء ذلك الشيء بعد فترة طويلة.

وكذلك قاعدة الفراغ والتجاوز ، حيث أن الإنسان إذا مارس عملاً من الأعمال فكما يلتفت للعمل بعقله وفكره فكذلك يكون له شعور وجداني ارتكازي بمسيرة العمل ، بحيث لو غاب الالتفات العقلي عن العمل فالشعور النفسي يبقى موجوداً ، فهل مثل هذا الكشف الوجداني الحسي حجة أم لا ؟ وأما محور الحجية في مجال الميثاق العقلائي فهي نفس بناء العقلاء سلوكاً وإرتكازاً ، فإن العقلاء قد يعتمدون على الظواهر مثلاً لا من باب الكشف ودرجته ولا من باب المقارنة بين درجة الاحتمال وأهمية المحتمل لتحصيل الوثوق النفسي ، بل من باب انسجام هذا الاعتماد والبناء مع مصالحهم ونظامهم. إذن

١٣٠

فهذه المجالات تختلف في محور الحجية فيها.

المجال الأول في الاحتمال :

إن العقلاء في معاملاتهم العامة والخاصة يمارسون عملية المقارنة بين درجة الاحتمال ودرجة المحتمل ، والشرع الشريف قد اعتبر أحكامه بمنزلة مقاصد الإنسان ، فكما يتعامل الإنسان ، مع مقاصده الخاصة والعامة بالتأمل في درجة الاحتمال والمحتمل فكذلك يتعامل مع الأحكام الشرعية المحتملة بمقتضى اقرار الشرع وإمضائه.

والاحتمال ينقسم لخمسة أقسام :

أ ـ الاحتمال بدرجة لا تحتمل الخلاف أصلاً وهو المعبر عنه بالقطع الذي ذهب معظم علماء الأصول للقول بحجيته الذاتية ، ونحن نقول بالحجية العقلائية كما سيأتي بحثه في محله.

ب ـ الاحتمال الواصل لدرجة يكون احتمال الخلاف احتمالاً وهمياً لا يعتنى به ، وهذا هو المعبر عنه بالاطمئنان والوثوق الشخصي ، وهو حجة بنظرنا إذا كان ناشئأ عن دليل حساب الاحتمالات وتراكمها حول محور واحد ، وهو الذي نصطلح عليه باليقين الموضوعي في مقابل اليقين الذاتي الناشىء عن العوامل المزاجية والشخصية.

ج ـ الاحتمال المستند للعلم الاجمالي ، فإن العلم الاجمالي المتعلق بالجامع يعطي للاحتمال الموجود في الاطراف المحصورة قوة نفسية تكون باعثة وزاجرة للإرادة عند العقلاء ، وهذا ما يعبر عنه بمباحث العلم الاجمالي.

د ـ الاحتمال المعتمد على أهمية المحتمل ، فقد يكون الاحتمال في ذاته ضعيفاً لكنه يعد رادعاً وباعثاً عقلائياً نظراً لأهمية المحتمل نفسه ، سواءاً علمت أهمية المحتمل ببيان الشرع نفسه أم علمت من خلال ثقافة المجتمع نفسه ، كما في موارد الدماء والأعراض والأموال ، وهذا هو المعبر عنه بأصالة الاحتياط.

١٣١

ه‍ ـ الاحتمال الساذج وهو على لونين :

١ ـ احتمال لا يعتمد على قوة في نفسه ولا قوة في محتمله ، لعدم بيان الشارع لأهميته وهو المسمى بالبراءة العقلية ، أو لبيان الشارع عدم اهميته وهو المسمى بالبراءة الشرعية ، فنحن نعتقد عدم حجية هذا الاحتمال خلافاً للمدرسة الأخبارية التي تعتقد بحجيته ، بلحاظ ان النزاع بين المدرستين ليس نزاعا كبروياً بل الجميع متفق على كبرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وإنّما النزاع صغروي وهو هل أن احتمال التكليف بيان أم لا ، فذهبت المدرسة الأخبارية إلى كونه بياناً نظراً لاعتضاد هذا الاحتمال بأهمية المحتمل ، حيث أن المحتمل هو التكليف المولوي الصادر عن المولوية الذاتية لا عن المولوية الاعتبارية ، وهذا بنظرهم كاف لاعطاء الاحتمال درجة من المحركية والباعثية ، وهو ما لا نوافق عليه.

٢ ـ الاحتمال المصطدم باحتمال آخر معاكس له بنفس الدرجة من القوة في الاحتمال ، لوجود يقين بأصل الحكم على نحو مانعة الخلو ، وهذا مورد أصالة التخيير التي وقع البحث فيها حول حجية أحد الاحتمالين لقوة محتمله اعتماداً على قانون أن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، أو عدم حجية شيء لعدم صدق البيان على شيء منهما. إذن ظهر لنا من خلال هذا العرض أن البحث في مجال الاحتمال كله يدور حول الحجية وعدمها.

مجال الكشف : والكشف على قسمين :

١ ـ الكشف العقلي :

٢ ـ الكشف الحسي.

الكشف العقلي : إن المجتمع العقلائي في اعتماده على الكشف يتخذ تصرفين ، فتارة يقوم بتتميم الكشف ، وتارة يقوم بتطبيق المكشوف.

الأول : تتميم الكشف : وهو في موارد حجية الحجج كالشهرة والاجماع

١٣٢

المنقول والظن الانسدادي وقول اللغوي وخبر الثقة في الأحكام والبينة في الموضوعات ، ففي هذه الموارد يوجد مسلكان :

١ ـ المسلك التجزيئي ، وهو الذي يرى أن هذه العناوين يعبر كل واحد منها عن حجة مستقلة ، فخبرالثقة مثلاً له درجة من الكشف والعقلاء من أجل تنظيم مصالحهم العامة يتممون هذه الدرجة ويعتبرونه كاشفاً تاماً بمستوى العلم اعتماداً على وثاقة المخبر ، بغض النظر عن قوانين المقارنة بين الاحتمال والمحتمل التي سبق عرضها في المجال الأول ، وهذا هو المسلك المشهور.

٢ ـ المسلك الموضوعي وهو مختارنا ، وفحواه أن أغلب هذه العناوين ما هي الا مقدمات تكوينية لحصول الاطمئنان والوثوق ، والحجية لهذا الاطمئنان لا لمقدماته ، فمثلاً خبر الثقة بعد دراسة وثاقة رواته ودراسة مقارنة مضمونه مع القواعد العامة وقد ينضم لذلك الشهرة الفتوائية أو الاجماع المنقول يحصل للفقيه الوثوق بالحكم المستفاد منه ، والحجية لهذا الوثوق الموضوعي المستند لدليل حساب الاحتمالات وجمع القرائن حول محور واحد لا لخبر الثقة أو الشهرة أو الاجماع بل هذه مجرد قرائن تولد قوة الاحتمال وتاكده. وبناءاً على هذا المسلك الثاني يدخل البحث في باب الحجج والامارات في مجال الاحتمال لا مجال الكشف.

ومما يرتبط ببحث خبر الثقة بحث تعارض الأدلة الشرعية ، فإنه بحث عن حجية أحد المتعارضين إما بنحو تتميم الكشف وإما بنحو حجية الوثوق.

الثاني : تطبيق المكشوف : لا إشكال في كاشفية العلم الاجمالي عن الجامع بين الأطراف ، ولكن الذي أصبح مثار البحث عند الأصوليين هو هل أن كشف العلم الاجمالي عن الجامع يعد بنظر المجتمع العقلائي كشفاً عن الفرد بحيث يعتبرون التكليف المحتمل في الفرد متنجزاً ، أم لا وهذا ما يسمى بالكشف العقلائي للعلم الاجمالي في مقابل الكشف الذاتي ، وعلى هذا

١٣٣

الأساس يتم البحث في العلم الاجمالي أيضاً فإذن مباحث العلم الاجمالي يصح تناولها من زاويتين : ١ ـ زاوية الاحتمال. ٢ ـ زاوية الكشف حسب اختلاف المباني.

الكشف الحسي : إن الخلاف في حجية الاستصحاب وعدمها راجع للخلاف في اعتبار الكشف الاحساسي وعدمه ، بيان ذلك : أن الإنسان ـ كما يقول علماء النفس ـ مخلوق إحسامي يعتمد على إحساسه كثيراً ، فهو يتأثر بالشخص الذي يراه منذ النظرة الأولى ويتعامل معه على ضوء تلك النظرة ، وقد يرى طفلاً صغيراً بدرجة معينة من التفكير فيتعامل معه بمستوى درجته حتى بعد كبره وصيرورته من العلماء مثلاً ، فهذا الاعتماد على النظرة الأولى اعتماد على كشف إحساسي لا على كشف عقلي ، أي انه اعتماد على شعور وجداني باستمرار النظرة الأولى.

فهل العقلاء يعتمدون على الكشف الاحساسي السابق ويرونه ممتداً في عمود الزمن أم لا ؟

هذه هي اطروحتنا في بحث الاستصحاب. وربما يرتبط بذلك أيضاً بحث قاعدة الفراغ والتجاوز ، فإن الإنسان إذا مارس عملاً معيناً فالتفاته الحسي للعمل أثناء أدائه قد يكون اقوى من تركيزه العقلي عليه أو ذهوله العقلي عنه ، ولعل هذا فحوى ما في النصوص من قوله7 : « هو حين وضوئه أذكر منه حين يشك »(١) . بمعنى أن شعوره الوجداني باداء العمل أثناء أدائه حجة يعتمد عليها.

مجال الميثاق العقلائي : وهو البحث عن كل إمارة تبانى عليها العقلاء لأجل مصالحهم لا بملاك الكشف النوعي ، وقد يمثل له ببحث الظهور ، فإن

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧١ / ١٢٤٩.

١٣٤

البحث عن الظهور راجع إلى أن المجتمع العقلائي. هل يرى الإنسان ملزماً بما يظهر من كلامه أو فعله أو سكوته أم لا ، فالقول بأن صيغة الأمر مثلاً ظاهرة في الوجوب العيني التعيني معناه أن الميثاق العقلائي قائم على الالزام والالتزام بذلك عند صدور صيغة الأمر.

فهم يتعاملون مع الظواهر على نحو الموضوعية لا على نحو الطريقية ، فلا يركزون على حصول الوثوق الشخصي وعدمه ، وإنّما تركيزهم على درجة تفاعل العرف مع النص وأنها هل تبلغ مستوى انقياد المجتمع العقلائي لها أم لا ، سواءاً وقع البحث في المدلول المطابقي للظاهر كالبحث في طهور صيغة الأمر في الوجوب وعدمه ، أم في المدلول التضمني كالبحث في أن العام المخص حجة في الباقي أم لا ، أم في المدلول الالتزامي كالبحث في أن الأمر بالشيء هل يدل على حرمة ضده ووجوب مقدمته أم لا.

وأما الربط بين هذه البحوث وموضوع علم الأصول ـ وهو القانون المعتبر حجة في الفقه ـ فتوضيحه أن البحث في الظواهر على نوعين :

أ ـ ما يكون محور البحث فيه هو الحجية وعدمها.

ب ـ ما يكون راجعاً لذلك مع الواسطة ، فمن النوع الأول البحث عن حجية العام قبل الفحص ، وحجية العام المخصص في الباقي ، وحجية الاطلاق الاثباتي في كاشفيته عن الاطلاق الثبوتي ، أو كاشفيته عن إرادة الحصة كاطلاق صيغة الأمر الدال على الحصة التعينية من الوجوب ، ومن النوع الثاني مباحث ظهور الجملة الشرطية في المفهوم ، وظهور صيغة الأمر في الوجوب.

وهذه البحوث وإن كانت صغروية في النظر الظاهر لكنها راجعة للبحث عن الحجية أيضاً ، فالجملة الشرطية مثلاً لا إشكال عند الأصوليين في أصل دلالتها على المفهوم ولكن الكلام عندهم بأن تلك الدلالة هل هي بدرجة الاشعار أم أنها بدرجة الظهور المعتبر حجة عند العقلاء بحيث يرتبون عليه

١٣٥

الآثار ، فالبحث بالنتيجة راجع للحجية.

كما أن الكلام في صيغة الأمر أيضاً يمكن ارجاعه لتلك النكته ، وذلك لأن أصل ظهور صيغة الأمر في الالزام لا نزاع فيه عند العرف ، ومما يكشف عن ذلك أننا نلاحظ أن الشارع المقدس يتوصل لبيان المفردات القانونية الأخرى كالوجوب الشرطي والحرمة الشرطية مثلاً بصيغة الأمر والنهي مما يكشف عن الفراغ عن دلالتها على أصل الالزام بالفعل أو الترك ، باعتبار أن المفردات القانونية كالوجوب المولوي والشرطي لم تكن متداولة في اللغة العربية في زمان الجاهلية وصدر الاسلام ، ولم توضع جهة تشريعية للقيام بوضع هذه المفردات كالمجاميع اللغوية في العصر الحاضر.

فكان الشارع إذا أراد بيان الشرطية استخدم نفس صيغة الأمر التي يستخدمها في البعث المولوي ، فيقول :( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) (١) ، ويقول :( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) (٢) وإذا اراد بيان المانعية استخدم صيغة النهي أو مادته نحو: « نهي النبي عن بيع الغرر »(٣) و « لا تبع ما ليس عندك » وذلك مما يكشف عن تسليم أصل الدلالة في الأمر والنهي على الالزام ، ولذلك تستخدمان في بيان الالزام الشرطي أيضاً ، فيعود البحث عن ظهور الأمر والنهي في الوجوب والحرمة للبحث عن كون هذا الظهور بمستوى الحجية أم لا ؟ ولكن قد يقال بأنه بعد تسليم كبرى حجية الظهور فالبحث في درجة الظهور وكونها بمقدار الحجية أم لا بحث صغروي يدور حول الظهور نفسه لا أنه

__________________

(١) الطلاق ٦٥ : ١.

(٢) المائدة ٥ : ٦.

(٣) عوالي اللآلي ٢ : ٢٤٨ / ١٧ ، سنن البيهقي ٥ : ٣٣٨.

١٣٦

بحث كبروي دائر حول الحجية وعدمها فأما أن يلتزم بما ذكره المحقق النائيني (قده) من كون هذه البحوث بحوثاً لغوية بحثها الأصوليون لعدم تنقيح أهل اللغة لها وإما ان يلتزم بما ذكره صاحب الكفاية من اعتبار كون المسألة الأصولية عنصراً عاماً لكثير من موارد الاستنباط وهو الذي عبرنا عنه بالقانون فإن عنوان القانون والقاعدة لا يصدق على ظهور لفظ الصعيد مثلاً فهو مسألة لغوية ولكنه يصدق على ظهور صيغة الأمر لعمومها لكثير من موارد الاستنباط فتعد مسألة أصولية. والحاصل أنه ظهر من خلال استعراضنا للبحوث الأصولية بحسب التصنيف الذي طرحناه أن موضوع علم الأصول ومحور أبحاثه هو القانون الذي يستخدم حجة في مجال الاستنباط.

ويمكن أن يقال أيضاً بأن موضوع علم الأصول ومحور أبحاثه هو الاعتبار القانوني وعوارضه وأحكامه لما ذكرناه ني بحث منهج علم الأصول بأن المنهج المقترح هو دوران البحث في علم الأصول مدار الاعتبار القانوني بالتفصيل السابق.

١٣٧

المبحث الحادي عشر

ميزان المسألة الأصولية

بعد تعرفنا على موضوع علم الأصول يتبين لنا الميزان في أصولية المسألة والفارق الجوهري بينها وبين غيرها ، وهو عبارة عن القانون المبحوث في حجيته لمرحلة الاستنباط ، وبهذا يحصل امتيازها عن المسألة اللغوية والرجالية والفقهية.

امتيازها عن المسألة اللغوية : إن المسألة اللغوية محققة للموضوع والمسألة الأصولية هي القانون الاستدلالي بعد تنقيح الموضوع وأما الفاصل بين البحث عن ظهور صيغة الأمر في الوجوب بحيث يعد بحثاً أصولياً وبين البحث في ظهور لفظ الصعيد بحيث يعد بحثاً لغوياً فهو أحد أمرين :

١ ـ إن البحث في صيغة الأمر وإن كان يبدو كونه بحثاً في صغرى أصالة الظهور الا أن لب الكلام ومرجعه للبحث عن الحجية ، بمعنى أن أصل دلالة الصيغة على الالزام مسلمة ولكن هل هي بدرجة الاشعار أم بدرجة تباني العقلاء على الالزام والالتزام بدلالتها ، وهذا هو معنى الحجية ، بخلاف البحث في لفظ الصعيد فإنه بحث عن أصل الظهور والدلالة ، سواءاً ترتب عليه حكم شرعي أم لا ، وهذا بحث لغوي. وقد سبق النقاش في ذلك.

٢ ـ إن أخذ عنوان القانونية في تعريف المسألة الأصولية يخرج البحث عن ظهور لفظ الصعيد مما يعد بحثاً لغوياً عن حريم علم الأصول ، وذلك لأن مثل

١٣٨

ظهور صيغة الأمر لتكرره في الأبواب الفقهية كان البحث عنه في كل مسألة فقهية غير منسجم مع طبيعة البحث العلمي ، فالمناسب افراد بحث عنه مستقل عن الفقه ، وذلك ما تم في علم الأصول.

بينما ظهور لفظ الصعيد مثلاً لكونه زاوية خاصة من باب فقهي معين فهو لا يشكل قانوناً عاماً لعدة أبواب فقهية حتى يعد من المسائل الأصولية ، ولذلك لو قمنا باستقراء الروايات المعصومية وحصلنا على صيغ كثيرة الورود والتكرر في مجالات الاستنباط كان من المناسب عدها من المسائل الأصولية أيضاً بحيث تبحث بشكل مستقل عن الفقه ، كما يدعى ذلك في مثل لفظ ـ لا ينبغي ـ ولفظ ـ لا يصلح ـ ولفظ ـ لا بأس ـ ونحوها ، فإن حصر مباحث الألفاظ والظهورات في الصيغ المعروفة في علم الأصول استقرائي لا عقلي ، هذا بغض النظر عن الأمر السابق وهو كون البحث فيها راجعاً للبحث في الحجية ولو لباً.

امتيازها عن المسألة الرجالية : إن القواعد الرجالية نحو مراسيل الثلاثة ، ونحو قاعدة أصحاب الاجماع ، ونحو هل ترحم الامام يفيد الوثاقة أم لا ، وكذلك البحوث الرجالية الجزئية كالبحث عن وثاقة المعلى بن خنيس مثلاً ، إنما هي تنقيح لصغرى قانون الاستنباط لا لكبراه ، فإننا نحتاج في مقام الاستنباط إلى احراز الصغرى وهي وثاقة الخبر بأي قاعدة رجالية كانت ، ثم نحتاج لتمامية الكبرى وهي حجية خبر الثقة أو حجية الوثوق لنصل إلى نتيجة الاستنباط ، فالقاعدة الأصولية هي بنفسها القانون الموصل لنتيجة الاستنباط بينما القاعدة اللغوية والرجالية تساهم في تحقيق موضوع هذا القانون وصغراه لا أنها هي القانون الاستدلالي.

امتيازها عن المسألة الفقهية : إن المسائل الفقهية على نوعين :

أ ـ ما لا ربط بينه وبين البحث عن الحجية فيكون خروجه عن حريم

١٣٩

علم الأصول واضحاً ، فمثلاً هناك قاعدة نسميها بقاعدة لا تنقض السنة الفريضة بحسب اطروحتنا وبحسب اطروحة بقية الفقهاء تسمى قاعدة ـ لا تعاد ـ وهذه القاعدة مفادها الاجزاء وعدمه لا أن مفادها الحجية في عملية الاستنباط.

بيان ذلك : إن القاعدة المذكورة وردت في حديث أوله : « لا تعاد الصلاة الا من خمسة » وآخره : « والتشهد سنة والقراءة سنة ولا تنقض السنة الفريضة »(١) ، وقد أخذ الفقهاء بصدر الرواية فقالوا بأن مفادها إثبات قاعدة خاصة بالصلاة ، وهي عدم اعادة الصلاة عند وقوع الخلل في غير الخمسة واعادتها عند وقوع الخلل في الخمسة المذكورة.

ونحن أخذنا بذيلها ، ومفاده تأسيس قاعدة عامة لكل مركب عبادي يتألف من فرائض وسنن ، فالفرائض ما فرضه الله في كتابه والسنن هي ما جعله النبي6 ولو على نحو الوجوب.

وذكر الصلاة في أول الحديث من باب التطبيق لا الحصر ، ومؤدى القاعدة المذكورة نفي الارتباط المطلق بين الفرائض والسنن ، فلو أخل أحد بالسنن لعذر فعمله صحيح دون ما لو كان اخلاله بغير عذر. وهذه القاعدة بنظرنا هي مفتاح باب الاجزاء حين امتثال الأمر الاضطراري أو الظاهري ، فإن اجزاء الناقص عن الكامل خلاف القاعدة ، ولكن لدلالة الصحيحة على نفي الارتباط بين الفرائض والسنن في صورة العذر يقال بالاجزاء.

وبهذا اللحاظ تخرج القاعدة المذكورة عن ضابط المسألة الأصولية ، إذ البحث فيها حول حكم معين وهو الاجزاء وعدمه وليس البحث عن حجيتها في مقام الاستنباط حتى تعد مسألة أصولية. كما أن بحث الاجزاء خارج عن

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٤٧٠ ـ ٤٧١ / ٧٠٩٠.

١٤٠