واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية

واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية0%

واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 236

واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية

مؤلف: ثامر هاشم حبيب العميدي
تصنيف:

الصفحات: 236
المشاهدات: 22761
تحميل: 2911

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 236 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22761 / تحميل: 2911
الحجم الحجم الحجم
واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية

واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية

مؤلف:
العربية

٢٦ - زيد بن أرقم (ت / ٦٨ه‍):

أخرج الإمام أحمد بن حنبل (ت / ٢٤٠ه‍) في مسنده، من طريق ابن نمير، عن عطية العوفي قال: «سألت زيد بن أرقم فقلت له: إن ختناً لي حدثني عنك بحديث في شأن علي يوم غدير خم، فأنا اُحِبُّ أن أسمعه منك؟

فقال: انكم معشر أهل العراق فيكم ما فيكم، فقلت له ليس عليك مني بأس، فقال نعم، كنا بالجحفة فخرج رسول اللّه (ص) الينا ظهراً وهو آخِذ بعضد علي، فقال: ايها الناس ألستم تعلمون أني أولَى بالمؤمنين من أنفسهم، قالوا: بلى. قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه. قال: فقلت له: هل قال: (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه)؟ قال: إنما اخبرك كما سمعت»(١) .

ولا شك ان كتمان زيد لقوله (ص): «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه» كان تقية من عطية العوفي، ذلك لأن الاقرار بهذه العبارة يعني فضح اعداء الإمام علي، وانهم ممن يعاديهم اللّه، وهم ما أكثرهم في عهد زيد بن أرقم الذي امتد عمره حتى ادرك حكم مروان بن الحكم، وما يدل على تقيته من عطية العوفي، قوله لعطية: انكم معشر أهل العراق فيكم ما فيكم، اشارة إلى الفتن الكثيرة التي كانت تموج بها - يوم ذاك - أرض العراق، كما أن قول عطية له: ليس عليك مني بأس دليل آخر على فهم عطية ان زيداً يخشاه. ومما يؤكد ذلك ان ما كتمه زيد عن عطية قد رواه زيد عن نفسه كما في كثير من الطرق الصحيحة المنتهية إليه، وقد حققها العلامة الأميني في كتاب الغدير، وحسبك ان يكون من روى الحديث كاملاً عن زيد بن أرقم - كما في الغدير - الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، والنسائي في خصائصه، والدولابي في

____________________

(١) مسند أحمد ٤: ٣٦٨.

١٢١

الكنى والاسماء، والميبدي في شرح ديوان الإمام علي عليه السلام، والذهبي في تلخيص المستدرك، وفي ميزان الاعتدال، وابن الصباغ في الفصول، وابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول، والهيثمي في مجمع الزوائد من طريق أحمد والطبراني والبزاز، والخوارزمي الحنفي في المناقب، وابن عبد البر في الاستيعاب، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب، والسيوطي في مجمع الجوامع، وتاريخ الخلفاء والجامع الصغير، وابن حجر في تهذيب التهذيب، والتبريزي في مشكاة المصابيح، وعشرات غيرهم(١) .

ولهذا قال العلامة الأميني معلقاً: «إن زيداً اتقى ختنه العراقي، وهو يعلم ما في العراقيين من النفاق والشقاق يوم ذاك، فلم يبد بسره حتى أمن من بوادره فحدثه بالحديث»(٢) .

٢٧ - عبد اللّه بن عباس (ت / ٦٨ه‍):

لقد ورد عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى:(إلا أن تتَّقُوا مِنهُم تُقاةً) انه قال: «ما لهم يهرق دم مسلم ولم يستحل ماله»، وعنه أيضاً: «التقية باللسان ومن حمل على أمر يتكلم به وهو للّه معصية فتكلم مخافة على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا إثم عليه، انما التقية باللسان»(٣) .

وقد أخرج أبو حيان الاندلسي (ت / ٧٥٤ه‍) عن ابن عباس انه قال عن التقية: «انها مداراة ظاهرة، أي يكون المؤمن مع الكفار، وبين اظهرهم فيتقيهم

____________________

(١) راجع من اخرج الحديث بتمامه عن زيد بن أرقم في كتاب الغدير ١: ٣٠ - ٣٧.

(٢) الغدير: ١: ٣٨٠.

(٣) جامع البيان / الطبري ٦: ٣١٣ وما بعده.

١٢٢

بلسانه، ولا مودة لهم في قلبه»(١) .

وقال أيضاً: «فأما من أُكره فتكلم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه، فلا حرج عليه، لأن اللّه سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم»(٢) .

ومن تقية ابن عباس رضي اللّه عنه ما قاله الطحاوي الحنفي (ت / ٣٢١ه‍) واليك عين لفظه:

قال «حدثنا محمد بن عبد اللّه بن ميمون البغدادي، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عطاء قال: قال رجل لابن عباس رضي اللّه عنه: هل لك في معاوية أوتَرَ بواحدة (أي: صلى الوتر بركعة واحدة) - وهو يريد أن يعيب معاوية - فقال ابن عباس: أصاب معاوية».

ثم بين الطحاوي أن المروي عن ابن عباس ما يدل على انكاره صحة صلاة معاوية فقال: «إن أبا غسان مالك بن يحيى الهمداني حدثنا قال: حدثنا عبد الوهاب، عن عطاه قال: أخبرنا عمران بن حدير، عن عكرمة أنه قال: كنت مع ابن عباس عند معاوية نتحدث حتى ذهب هزيع من الليل، فقام معاوية فركع ركعة واحدة، فقال ابن عباس: من أين تُرى أخذها الحمار؟»

وأخرج من طريق أبي بكره مثله، ثم قال: وقد يجوز أن يكون قول

____________________

(١) تفسير البحر المحيط / أبو حيان الاندلسي ٢: ٤٢٣.

(٢) جامع البيان / الطبري ١٤: ١٢٢، وانظر الدر المنثور للسيوطي ١: ١٧٦، حيث اخرج ذلك عن ابن جرير الطبري، وابن حاتم من طريق العوفي، عن ابن عباس، كما اخرجه ابن حجر في فتح الباري ١٢: ٢٦٣، عن ابن جرير أيضاً.

١٢٣

ابن عباس: (أصاب معاوية) على التقية له، أي: أصاب في شيء آخر، لأنه كان في زمنه. لا يجوز عليه - عندنا - أن يكون ماض لفعل رسول اللّه (ص)، الذي قد علمه عنه صواباً»(١) ، ثم اخرج عن ابن عباس في الوتر انه ثلاث.

قلت: واحسن من هذا التأويل، ان يكون المفعول تقديره الخطأ لا الحق، فيكون الكلام: «أصاب معاوية الخطأ».

٢٨ - أبو سعيد الخدري (ت / ٧٤ه‍):

ذكر الاستاذ علي حسين من الباكستان في بحثه عن التقية(٢) تقية الصحابي أبي سعيد الخدري من ولاة الأمويين في تقديمهم الخطبة على الصلاة، مشيراً إلى صحيح البخاري - كتاب العيدين، باب الخروج إلى الصلاة من غير منبر، وصحيح مسلم كتاب الصلاة، وعمدة القاري، حديث رقم / ٩، وسنن أبي داود - كتاب الصلاة، باب الخطبة يوم العيد، حديث رقم / ١١٤٠، وسنن الترمذي - كتاب الفتن / ٣١، باب / ٢٦، وسنن ابن ماجة - كتاب الفتن / ٣٦، باب / ٢٠.

٢٩ - تقية جمع من الصحابة فيهم جابر الأنصاري (ت / ٧٨ه‍):

قال اليعقوبي (ت / ٢٨٤ه‍) عند الحديث عن خلافة الإمام علي عليه السلام ما نصه:

«ووجه معاوية بُسر بن أبي أرطاة، وقيل: ابن أرطاة العامري من بني

____________________

(١) شرح معاني الآثار / أبو جعفر الطحاوي ١: ٣٨٩ - باب الوتر.

(٢) راجع بحث الاستاذ علي حسين من الباكستان بعنوان: التقية عند أهل السنة نظرياً وتطبيقاً منشور في مجلة الثقافة الإسلامية العدد ٥١ - ٥٢ / ١٤١٤ه‍ - اصدار المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق.

١٢٤

عامر بن لؤي في ثلاثة آلاف رجل، فقال له سِر حتى تمر بالمدينة فاطرد أهلها، وأخف من مررت به، وانهب مال كل من أصبت له مالاً ممن لم يكن دخل في طاعتنا، وأوهِم أهل المدينة أنك تريد أنفسهم، وأنه لا براءة لهم عندك ولا عذر، وسر حتى تدخل مكة، ولا تعرض فيها لأحد، وأرهِب الناس فيما بين مكة والمدينة، واجعلهم شرادات، ثم امضِ حتى تأتي صنعاء، فإن لنا بها شيعة وقد جاءني كتابهم.

فخرج بُسر، فجعل لا يمرّ بحيٍّ من أحياء العرب إلا فعل ما أمر معاوية، حتى قدم المدينة، وعليها أبو أيوب الأنصاري فتنحى عن المدينة، ودخل بسر فصعد المنبر ثم قال:

يا أهل المدينة مثل السوء لكم:( قريَةً كانت آمِنَةً مُطمئنّةً يأتِيها رِزقُها رغداً مِن كُلِّ مكانٍ فكفرَت بِأنعُمِ اللّهِ فأذاقهَا اللّهُ لِباسَ الجُوعِ والخوفِ بِما كانُوا يصنَعُون ) (١) ، ألا وإنّ اللّه قد أوقع بكم هذا المثل، وجعلكم أهله. شاهت الوجوه، ثم ما زال يشتمهم حتى نزل!

قال فانطلق جابر بن عبد اللّه الأنصاري إلى اُمّ سلمة زوج النبي، فقال: إني خشيت أن أُقتل، وهذه بيعة ضلال؟

قالت: إذاً فبايع، فإن التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب، ويحضرون الأعياد مع قومهم.

وهدم بسر دوراً بالمدينة، ثم مضى حتى أتى مكة، ثم مضى حتى أتى

____________________

(١) النحل: ١٦ / ١١٢.

١٢٥

اليمن»(١) إلى آخر ما ذكره من جرائم بسر بن أرطاة.

وفي رواية ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي (ت / ٦٥٦ه‍) أكثر وضوحاً لتقية جميع الأنصار والمهاجرين من بسر.

قال: «.. ودخل بُسر المدينة، فخطب الناس وشتمهم وتهددهم يومئذ وتوعدهم، وقال: شاهت الوجوه! إنّ اللّه تعالى يقول:( وضربَ اللّهُ مثلاً قريَةً كانت آمِنَةً مُطمئنّةً يأتيِها رِزقُها ) الآية، وقد أوقع اللّه تعالى ذلك المثل بكم وجعلكم أهله - الى أن قال - ثم شتم الأنصار، فقال: يا معشر اليهود وابناء العبيد: بني زُرَيق، وبني النجار، وبني سَلِمة، وبني عبد الأشهل، أمَا واللّه لأُوقعنّ بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين.. ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه... وتفقد جابر بن عبد اللّه، فقال: ما لي لا أرى جابراً! يا بني سلمة لا أمان لكم عندي، أو تأتوني بجابر، فعاذ جابر باُم سلَمة - رضي اللّه عنها، فأرسلت إلى بُسر بن أرطاة، فقال: لا أؤمّنه حتى يبايع، فقالت له اُم سلمة: اذهب فبايع، وقالت لابنها عمر: اذهب فبايع، فذهبا فبايعاه»(٢) .

ثم روى عن وهب بن كيسان كيف ان جابراً توارى من بسر، وكيف عاد إليه فبايعه وفيه انه قال: «فلما امسيت دخلت على اُمّ سلمة فأخبرتها الخبر، فقالت: يا بنيّ، انطلق فبايع، إحقن دمك ودماء قومك، فإني قد أمرت ابن أخي ان يذهب فيبايع، واني لأعلم أنها بيعة ضلالُ»(٣) .

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ١٩٧ - ١٩٩.

(٢) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ٢: ٩ - ١٠.

(٣) شرح نهج البلاغة ٢: ١٠، وفي هامشه: «في تاريخ الطبري: فقال لها: ماذا ترين؟ إنّي خشيت أن اُقتل، وهذه بيعة ضلالة، فقالت: أرى أن تبايع، فإنّي قد أمرت ابني =

١٢٦

وهكذا كان جابر رضي اللّه عنه، يرى ان لا جناح عليه في طاعة الظالم اذا اكرهه على التقية، قال السرخسي الحنفي (ت / ٩٢ه‍): «وعن جابر رضي اللّه عنه، قال: لا جناح عليّ في طاعة الظالم إذا أكرهني عليها - أي: التقية -»(١) .

٣٠ - القاضي شريح (ت / ٧٨ه‍):

عندما أُدخل هانئ بن عروة رحمه اللّه على عبيد اللّه بن زياد والي الكوفة سنة ٦٠ه‍ طالبه بمسلم بن عقيل بن أبي طالب عليه السلام، وكان في داره ثم انتهى الامر إلى ان هشّم ابن زياد وجه هانئ رحمه اللّه بعمود من حديد واودعه السجن، قال المؤرخ لوط بن يحيى: «وبلغ عمرو بن الحجاج أنّ هانئاً قد قُتل، فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر، ومعه جمع عظيم، ثم نادى: أنا عمرو بن الحجاج، هذه فرسان مذحج ووجوهها لم تخلع طاعة ولم تفارق جماعة، وقد بلغهم أنّ صاحبهم يُقتل، فاعظموا ذلك.

فقيل لعبيد اللّه: هذه مذحج بالباب، فقال لشريح القاضي: ادخل على صاحبهم فانظر إليه، ثم اخرج فاعلمهم أنه حيّ لم يقتل، وأنك قد رأيته.

فدخل إليه شريح فنظر إليه».

وقد حدّثَ شريح إسماعيل بن طلحة عن تقيته في ذلك اليوم فقال: «دخلت على هانئ فلما رآني، قال: يا اللّه يا للمسلمين أهلَكَت عشيرتي؟ فأين أهل الدين؟ وأين أهل المصر؟ تفاقدوا يخلوني وعدوهم وابن عدوهم!!

والدماء تسيل على لحيته، إذ سمع الرجة على باب القصر، وخرجت،

____________________

= عمر بن أبي سلمة أن يبايع، وأمرت ختني عبد اللّه بن زمعة...».

(١) المبسوط / السرخسي ٢٤: ٤٧.

١٢٧

وأتبعني، فقال: يا شريح! إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إن دخل عليّ عشرةُ نفرٍ أنقذوني.

قال: فخرجت إليهم، ومعي حميد بن بكر الأحمري، أرسله معي ابن زياد - وكان من شُرطِه ممن يقوم على رأسه - وايم اللّه لولا مكانه معي لكنت أبلغت أصحابه ما أمرني به.

فلما خرجت إليهم، قلت: إنّ الأمير لما بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم، أمرني بالدخول إليه، فأتيته، فنظرت إليه، فأمرني أن القاكم وأن أعلمكم إنه حيّ، وإنّ الذي بلغكم في قتله كان باطلاً»(١) .

٣١ - تقية أنس بن مالك (ت / ٩٣ه‍):

قال القاضي الدمشقي (ت / ٧٧٢ه‍): «وفي صحيح البخاري: إن عبد اللّه بن عمر كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي، وكذلك أنس بن مالك، وكان الحجاج فاسقاً ظالماً»(٢) .

وقد مرّ في تقية عبد اللّه بن عمر قول النبي (ص):«ولا يؤمّ فاجر مؤمناً إلا أن يقهره بسلطان أو يخاف سوطه أو سيفه».

أقول: المعروف عن صلاة الأمويين انهم كانوا يسقطون منها البسملة عند قراءتهم سورة الفاتحة، لما روي في ذلك عن بعض الصحابة - ومنهم أنس بن مالك - أنه صلى خلف رسول اللّه (ص)، وخلف أبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم يسمع أحداً منهم يبسمل في صلاته.

____________________

(١) مقتل الحسين عليه السلام / لوط بن يحيى: ٣٩ - ٤٠.

(٢) شرح العقيدة الطحاوية / القاضي الدمشقي ٢: ٥٣٠.

١٢٨

وقد اثبت الرازي الشافعي بطلان جميع الوجوه التي احتج بها من ذهب إلى هذا الرأي من الفقهاء، واحتمل أن يكون خبر الصحابي أنس قد صدر تقية منه لانه كان يخشى الأمويين، لا سيما وانه ادرك من ظلمهم ما يزيد على خمسين سنة، ويؤيده ائتمامه بهم، وأنى للمأموم أن يخالف الإمام فيما يقرأ؟

قال الرازي الشافعي - في المسائل الفقهية المستنبطة من الفاتحة، في الجواب عن خبر أنس بن مالك أنه ليس البسملة من الفاتحة - ما نصه:

«والجواب عن خبر أنس من وجوه:

الأول: قال الشيخ أبو حامد الإسفرائيني: روي عن أنس في هذا الباب ست روايات. أما الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات:

احداها: قوله: صليت خلف رسول اللّه (ص)، وخلف أبي بكر، وعمر، وعثمان فكانوا يستفتحون الصلاةب‍(الحمدُ للّهِ ربِ العالَمِين).

وثانيتها: قوله: إنهم ما كانوا يذكرون(بِسمِ اللّه الرّحمين الرّحيمِ).

وثالثتها: قوله: لم أسمع أحداً منهم قال:(بسمِ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ)، فهذه الروايات الثلاث تقوي قول الحنفية، وثلاث اُخرى تناقض قولهم.

احداها: ما ذكرنا إنّ أنساً روى أن معاوية لما ترك(بِسمِ اللّهِ الرّحمنِ الرُحيمِ) في الصلاة، أنكر عليه المهاجرون والأنصار، وقد بينا إن هذا يدل على أن الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم.

وثانيتها: روى أبو قلابة، عن أنس أن رسول اللّه (ص)، وأبا بكر، وعمر كانوا يجهرونب‍(بِسمِ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ).

١٢٩

وثالثتها: إنه سُئِلَ عن الجهرب‍(بِسمِ اللّهِ الرّحمن الرّحيمِ)، والإسرار به؟ فقال: لا أدري هذه المسألة!

فثبت أنّ الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب، فبقيت متعارضة، فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل. وأيضاً ففيها تهمة أخرى، وهي: إن علياً عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية، فلما وصلت الدولة إلى بني أُمية بالغوا في المنع من الجهر (بها) سعياً في إبطال آثار علي عليه السلام.

فلعل أنساً خاف منهم، فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه، ونحن وإن شككنا في شيء فإنّا لا نشك أنه مهماً وقع التعارض بين قول أنس وابن المغفل، وبين قول علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي بقي عليه طول عمره، فإن الأخذ بقول علي أولى. فهذا جواب قاطع في المسألة»(١) ، انتهى الوجه الأول من كلام الرازي حرفاً بحرف.

قلت: إن ما احتمله الإمام الرازي من تقية الصحابي أنس في موافقته للأمويين على ترك البسملة في الصلاة، حقيقة واضحة لا مجرد احتمال، ويدل عليه قوله: لا أدري هذه المسألة، حين سئل عنها. وهذه هي تقية اُخرى منه ازاء السائل. إذ كيف يجهل الجهر من الإسرار بالبسملة، وهو قد عاش عصر النبي (ص)، وعصر الخلفاء الراشدين، فضلاً عن ملازمته للنبي الأكرم (ص) وخدمته، لولا انه أوجس خيفة من السائل؟

وبعد.. فلا تعجب إن قلت لك: إن الإمام الرازي قد ختم كتابه المحصل

____________________

(١) التفسير الكبير / الرازي ١: ٢٠٦ - في المسائل الفقهية المستنبطة من الفاتحة.

١٣٠

بقول سليمان بن جرير الزيدي - ولم يناقشه - وخلاصته: إن مفهوم التقية في الإسلام هو من وضع (أئمة الرافضة)(١) .

____________________

(١) محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والمتكلمين / الرازي: ٣٦٥، وانظر: الملل والنحل للشهرستاني ١: ١٥٩ - ١٦٠.

١٣١

١٣٢

موقف التابعين من التقية

التابع لغة، هو التالي، وقد اختلفوا في حده كثيراً، فمنهم من اشترط الصحبة للصحابي، ومنهم لم يشترط واكتفى باللقاء، واشترط بعضهم طول الملازمة، وآخر صفة السماع، وثالث التمييز، ومنهم من قيد التابع بإحسان.

والمهم هنا ان عصر التابعين قد انتهى بموت آخر التابعين خلف بن خليفة - على ما قيل - في سنة ثمانين ومائة، وقيل سنة احدى وثمانين ومائة، ولهذا سنتابع موقف رجالات هذا العصر من التقية ابتداءً من سنة (٥٠ه‍) وانتهاءً بسنة (١٧٩ه‍) وقد يكون من بينهم من لم يرَ صحابياً، ولكنه ادرك عصرهم الذي انتهى على رأس المائة الاُولى من الهجرة تقريباً. مراعياً بذلك ما وصل إليه تسلسل الموقف المتقدم، مع ملاحظة السبق الزمني لمواقف التابعين من التقية، وعلى النحو الآتي:

٣٢ - تقية بني ضبّة سنة (٥٠ه‍):

روى الطبري في تاريخه في حوادث سنة خمسين من الهجرة الشريفة

١٣٣

مطاردة زياد بن أبيه (ت / ٥٣ه‍) للفرزدق الشاعر العربي المشهور (ت / ١١٠ه‍)، وفي هذه السنة هام الفرزدق على وجهه في البراري مختفياً خائفاً من أن يدركه الطلب، لا سيما وقد أباح زياد دمه، إلى أنّ وصل الفرزدق إلى أخواله من بني ضبّة، ثم أدركه الطلب وهو فيهم، فأخفوه، وأنكروا - بعد أن سُئلوا عنه - أن يكون لهم علم به، وقالوا: ما رأيناه(١) .

ولم ينكر عليهم أحد - على طول التاريخ - بأنهم كذبوا وقالوا خلاف الواقع، بل على العكس كان قولهم هذا مما يستحسنه العقلاء في كل آن وزمان، وهو مما وجب عليهم شرعاً، وإلا لكانوا من الآثمين اتفاقاً، وهكذا كان للتقية فضلها في عصمة دم الفرزدق.

٣٣ - صعصعة بن صوحان (ت / ٥٦ه‍):

من كبار التابعين، شهد صفين مع علي عليه السلام، وكان يوصي بالتقية، فقد قال لاُسامة بن زيد الصحابي المعروف (ت / ٥٤ه‍): «خالص المؤمن وخالق الكافر، إنّ الكافر يرضى منك بالخلق الحسن»(٢) .

وهذا القول يؤكد صحة ما مرّ سابقاً، من أنّ التقية لا تكون خوفاً من المؤمن اطلاقاً، لأنّ المؤمنين إخوة، والمؤمن مرآة المؤمن، وإنما تكون من الكافر، بل ومن المسلم الذي تخشى بوادره ولا يطمأن إلى جانبه.

٣٤ - مسروق بن الأجدع (ت / ٦٤ه‍):

روي أنّ معاوية بن أبي سفيان (ت / ٦٠ه‍) كان قد بعث بتماثيل من صفر

____________________

(١) تاريخ الطبري ٣: ٢١٣ - في حوادث سنة ٥٠ه‍.

(٢) البحر المحيط / أبو حيّان ٢: ٤٢٣.

١٣٤

لكي تباع بأرض الهند، فمُرَّ بها على مسروق بن الأجدع، فقال: «واللّه لو أني أعلم انه يقتلني لغرّقتها، ولكني أخاف أن يعذبني فيفتنني، واللّه، لا أدري أي الرجلين معاوية: رجل قد زُيّن له سوء عمله، أو رجل يئس من الآخِرة، فهو يتمتع في الدنيا»(١) .

وهذا الكلام ما أصرحه في جواز التقية عند الخوف من الحاكم الظالم، ولو من غير القتل، وفيه إيماءة إلى أنّ التعذيب بالضرب والإهانة وما شابه ذلك هو أشد وقعاً على نفوس العلماء وأهل الفضل من القتل بالسيف ونحوه، على أن مسروقاً كان يرى: إن المكره على التقية اذا أباها حتى مات، دخل النار، وقد تقدم هذا في قول أبي حيان(٢) .

٣٥ - نجدة بن عويمر الخارجي (ت / ٦٩ه‍):

حكى الشهرستاني (ت / ٥٤٨ه‍) في ملله(٣) اختلاف نجدة بن عويمر، رأس فرقة النجدات من الخوارج مع نافع بن الأزرق (ت / ٦٥ه‍)، رأس فرقة الأزارقة من الخوارج أيضاً، في مشروعية التقية. فقال نافع: التقية لا تحل، وخالفه نجدة بن عويمر الحروري، وقال: التقية جائزة، واحتجّ بقوله تعالى:( إلا أن تتّقُوا مِنهُم تُقاةً ) (٤) وبقوله تعالى:( وقالَ رجُل مُؤمِن مِن آلِ فِرعونَ يكتُمُ إيمانَهُ ) (٥) ، وأثبت لنافع أنّ التقية مشروعة من لدن عليم حكيم.

____________________

(١) المبسوط / السرخسي ٢٤: ٤٦.

(٢) البحر المحيط / أبو حيان الأندلسي ٢: ٤٢٤.

(٣) الملل والنحل / الشهرستاني ١: ١٢٥.

(٤) آل عمران: ٣ / ٢٨.

(٥) غافر ٤٠ / ٢٨.

١٣٥

٣٦ - سعيد بن جبير (ت / ٩٤ه‍):

قال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت / ٢٢٤ه‍): «حدثنا مروان بن معاوية، عن حسان بن أبي يحيى الكِندي، قال: سألت سعيد بن جبير عن الزكاة؟ فقال: ادفعها إلى ولاة الأمر، فلما قام سعيد تبعته، فقلت: إنّك أمرتني أن أدفعها إلى ولاة الأمر وهم يصنعون بها كذا، ويصنعون بها كذا؟ فقال: ضعها حيث أمرك اللّه، سألتني على رؤوس الناس فلم أكُّن لأخبرك»(١) .

وبعد فلا أظن أنّ أحداً يشك في صحة تقية راهب التابعين سعيد بن جبير رضوان اللّه تعالى عليه.

٣٧ - سعيد بن المسيب (ت / ٩٤ه‍):

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام أيضاً: «حدثنا يزيد، عن همام بن يحيى، عن قتادة قال: سألت سعيد بن المسيب، إلى من أدفع زكاة مالي؟ فلم يجبني، قال: وسألت الحسن؟ فقال: ادفعها إلى السلطان»(٢) .

أقول: اذا كان رأي الحسن البصري (ت / ١١٠ه‍) هو هذا فعلاً فلا دلالة فيه على تقيته، ولكن على م يدل سكوت التابعي سعيد بن المسيب؟

____________________

(١) كتاب الاموال / أبو عبيد القاسم بن سلام: ٥٦٧ / ١٨١٣، باب دفع الصدقة إلى الاُمراء واختلاف العلماء في ذلك. وقد دلّني على تقية سعيد بن جبير هذه الاُستاذ الباكستاني علي حسين رستم في بحثه (التقية عند أهل السنة نظرياً وتطبيقياً) ص: ١٢٠ المنشور في مجلة الثقافة الإسلامية كما ذكرنا في مقدمة هذا البحث، وقد اعتمد الطبعة الثالثة من كتاب الأموال: ٥٠٨ / ١٨١١ بتحقيق الهراس، إلا انّي اعتمدت الطبعة الأُولى بتحقيق الهراس أيضاً.

(٢) كتاب الأموال: ٥٦٥ / ١٨٠١.

١٣٦

قال الدكتور محمد خليل هراس - في هامشه، معلقاً عليه -: «يظهر أنّ سعيداً رحمه اللّه كان لا يرى دفع الزكاة إلى ولاة بني اُمية، ولهذا سكت».

ومن تقيته أيضاً، ما أخرجه الحافظ أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة الزيدي الجارودي الحافظ (ت / ٣٣٣ه‍) في أول كتاب الولاية، عن شيخه إبراهيم بن الوليد بن حماد، عن يحيى بن يعلى، عن حرب بن صبيح عن ابن أُخت حميد الطويل، عن ابن جدعان، عن سعيد بن المسيب قال: «قلت لسعد ابن أبي وقاص: إني أُريد أن أسألك عن شيءٍ وإني أتَّقِيك؟ قال: سل عما بدا لك، فإنما أنا عمك، قال: قلت: مقام رسول اللّه (ص) فيكم يوم غدير خم؟ قال: نعم، قام فينا بالظهيرة، فأخذ بيد علي بن أبي طالب فقال:من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه. وعاد من عاداه، فقال أبو بكر وعمر: أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة».

قال العلامة الأميني بعد أن اورده - وتقية زيد بن أرقم لهذا الحديث كما مر -: «فإن الظاهر من هذه كلها انه كان بين الناس للحديث معنى لا يأمن معه راويه من أن يصيبه سوء أولدَتهُ العداوة للوصي - صلوات اللّه عليه - في العراق وفي الشام»(١) .

٣٨ - تقية الملايين من سيف الحجاج (ت / ٩٥ه‍):

لا يخفى أنّ التقية هي الباعث الأوّل والأخير للمؤمنين - الذين لا يجدون مفرّاً عنها - على إطاعتهم للمتسلّط الظالم والانقياد إلى أوامره، وهذا ممّا لا ينبغي الشك فيه، لأنّ تصوّر أيّ مبررٍ آخر لتلك الطاعة وذلك الانقياد، لا بدّ

____________________

(١) الغدير / الأميني ١: ٣٨٠.

١٣٧

وأن ترافقه التقية بشكل أو بآخر، وإلا لأصبحا (الطاعة والانقياد) تكريساً لنظرية وجوب طاعة الحاكم الظالم، تلك النظرية التي أنشأها شيخ الاُمويين لأسباب لا تخفى على كل باحث ذي عقل حرّ وتفكير سليم.

وما يهمّنا هنا هو كشف حقيقة التقية المليونية - إن صحّ التعبير - في هذا المثال الذي لم يكن هو الوحيد الكاشف عنها إذا علمنا أن لغة السيف هي أعرق في قاموس الاُمويّين من بروز الحجاج بن يوسف الثقفي على مسرح الأحداث السياسية في تاريخهم الدموي. حيث ولاه عبد الملك بن مروان (ت / ٨٦ه‍) - بعد أن أخمد ثورة ابن الزبير وقتله سنة (٧٤ه‍) - مكّة، والمدينة، والطائف ثمّ أضاف إليها العراق بمصريه (الكوفة والبصرة)، لا لفقه الحجاج وورعه وتقواه وسابقته، وإنّما لكونه سفاكاً سفاحاً من الطراز الأوّل الذي لا يرعى للّه إلاً ولا ذمة(١) .

ولقد كان الحجّاج يصرّح بقسوته المتناهية على أهالي هذه الأمصار الإسلامية، كما يظهر في الكثير من خطبه على منابر المسلمين وقد نقل بعضها ابن قتيبة الدينوري (ت / ٢٧٦ه‍) في عيون الأخبار، وسنذكر منها ما يقرّب صورة التقية (المليونية) إلى الأبصار.

الخطبة الاُولى: قال ابن قتيبة: «دخل الحجّاج بن يوسف الثقفي إلى البصرة، وهو متقلّد سيفاً، ومتنكّب قوساً عربية، فعلا المنبر ثمّ قال:

أنا ابن جَلا وطلاع الثنايا***متى أضع العمامة تعرفوني

____________________

(١) انظر: مروج الذهب / المسعودي ٣: ٣٧٥ - الباب: ٩٥ ففيه الشيء الكثير من فظائع الحجّاج.

١٣٨

إنّ أمير المؤمنين نكب عيدانه بين يديه فوجدني أمرّها عوداً وأصلبها مَكسِراً، فوجهني إليكم، ألا فواللّه لأعصبنكم عصب السلمة، ولألحونّكم لحو العود، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل حتّى تستقيم لي قناتكم، وحتّى يقول القائل: انج سعدُ، فقد قُتل سعيد...»(١) .

الخطبة الثانية: «أيّها الناس إنّي اُريد الحجّ، وقد استخلفت عليكم ابني هذا وأوصيته بخلاف ما أوصى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في الأنصار، إنّ رسول اللّه أوصى أن يُقبل من مُحسنهم، وأن يتجاوز عن مسيئهم، وإنّي أمرته ألا يَقبل من مُحسنكم، ولا يتجاوز عن مُسيئكم، ألا وأنّكم ستقولون بعدي مقالة لا يمنعكم من إظهارها إلا مخافتي، ستقولون بعدِي: لا أحسن اللّه له الصحابة ألا وإنّي معجل لكم الجواب. لا أحسنَ اللّهُ لكم الخلافة»(٢) .

الخطبة الثالثة: «سوطي سيفي، فنجاده في عنقي، وقائمه في يدي، وذبابه قلادة لمن اغترّ بي»(٣) .

خطبة اُخرى: وله خطبة اُخرى ذكر فيها من ألوان التهديد وأصناف الوعيد الشيء العجيب، مصرّحاً فيها بأنّه لا فرق عنده بين المعافى والسقيم، وبين من يطيعه أو يعصيه، فالمحسن والمسيء كلاهما سيان(٤) ، وكأنّ اللّه تعالى لم يقل في كتابه الكريم:( ولا تَزِرُ وازِرَة وِزرَ اُخرَى ) (٥) .

____________________

(١) عيون الأخبار / ابن قتيبة ٢: ٢٦٥.

(٢) م. ن ٢: ٢٦٧.

(٣) م. ن ٢: ٢٦٧.

(٤) م. ن ٢: ٢٦٧.

(٥) الأنعام: ٦ / ١٦٤.

١٣٩

هذه هي كلماته على ملايين المسلمين، فماذا كان جوابهم؟

إنّه السكوت المطبق، وكأنّ لسان حالهم يردّد:

للفتى عقل يعيش به***حيث يهدي ساقه قدمه

أو:

ما إن ندمت على سكوتي مرّةً***ولقد ندمت على الكلام مراراً

امّا من تجرّأ على الكلام منهم كعبد اللّه بن الأهتم التميمي فقد وصف الحجاج بن يوسف بأنّه مثل أنبياء اللّه تعالى!!

قال ابن قتيبة بعد أن أورد له خطبته التي ساوى فيها بين المحسن والمسيء: «فقام إليه عبد اللّه بن الأهتم التميمي فقال: أيّها الأمير أشهدُ أنّك اُوتيت الحكمة وفصل الخطاب، فقال له: كذبت ذاك نبي اللّه داود»(١) .

وممّا يستنتج من خطب الحجاج اُمور هي:

١ - انّه كان يشتم الناس من على منبره علناً، ويهددهم ويوعدهم قبل

____________________

(١) عيون الأخبار / ابن قتيبة ٢: ٢٦٤.

هذا وقد مرّ بي منذ زمن بعيد كلامٌ - غاب عنّي مصدره - خلاصته انّ عبد الملك بن مروان قد أوعز إلى الحجاج بقمع ثورة محمّد بن عبد الرحمن بن الأ شعث - على ما أظن - وأن يستعرض أنصارها من العراقيّين بعد إخمادها واحداً بعد واحد على أن يقرّوا على أنفسهم بأنّهم كفروا بعد الإيمان لأنّهم خرجوا على عبد الملك ويعلنوا توبتهم بين يدي الحجاج، ومن أبى يقتله، وقد فعل الحجّاج ذلك بهم، وأقرّوا على أنفسهم بالكفر بعد الإيمان وطلبوا قبول توبتهم من الحجاج، ولا معنى لهذا غير التقية. ومن طريف ما أتذكّره انّ شيخاً كبيراً كان من جملة من اُتي به ليقرّ بالكفر بعد الإيمان ويطلب التوبة، فقال الحجّاج - وقد أراد قتله -: لا أظنّ أنّ هذه الشيبة قد ارتدّت بعد الإسلام. فقال الشيخ - على الفور -: يا حجّاح لا تخدعني عن نفسي، انّي كنت مرتداً وها أنذا أتوب بين يديك، فضحك الحجاج وتركه.

١٤٠