من مدرسة الإمام علي (عليه السلام)

من مدرسة  الإمام علي (عليه السلام)0%

من مدرسة  الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 189

  • البداية
  • السابق
  • 189 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16787 / تحميل: 5072
الحجم الحجم الحجم
من مدرسة  الإمام علي (عليه السلام)

من مدرسة الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من مدرسة الإمام علي (عليه السلام)

محمّد بحر العلوم

١

٢

السيرة والتأريخ (٢)

مِنْ مَدْرَسَةِ الإمَامِ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَلامُ)

مُحَمّد بَحْر العلوم

دار الزهراء (عليها السلام)

للطباعة والنشر والتوزيع

بيروت - لبنان

٣

الطبعة الأولى

طبعت في بيروت - لبنان

١٣٩٣هـ - ١٩٧٣م

حقوق الطبع محفوظة للناشر

٤

رنة عطرٍ ودنيا نورٍ

لمْ تكنْ هذه الصفوة المـُجاهِدة - التي أتَحَدَّثُ عنْها في هذا الكتاب - بحاجةٍ لأَنْ أكشفَ سرَّاً عنْها، كيف قدَّمتْ نفسَها قُرباناً في مِحراب العقيدة، فتأريخُها شامخٌ في حياة الإسلام.

ولمْ يكنْ عرضي لِسيْرتِهم العَطِرة، الغرض مِنْه التعريف بشخصيَّاتِهم الفَذَّة، والتمجيد بمآثرهم الخالدة، فقد سجَّلوا لأنْفِسِهم صفحة شَرَفٍ مُشْرِقَةً، لا تَبْلَى مدى الأيّام.

ولمْ يكنْ حديثي عَن الحُقْبة الزاخرة بالمآسي المحزنة، والأحداث الدامية التي عاشَهَا المـُخْلِصون لعقيدتهم بالشيء الجديد، على أسماع القُرَّاء، فقد كُتِبَ عَنْهم الكثير.

إنّما الحقيقةُ أبْعدُ مِنْ هذا كلِّه..

الصراع العنيف الذي يدور بين الخير والشر في العالم الإسلامي، يُهدِّد الأُمَّةَ بالفناء.

والتياراتُ الوافدة على الفكر الإسلامي - بِكُلِّ مآسِيها

٥

وآلامِها وما تَعْقبَها مِنْ نتائجَ وخِيْمَةٍ - لها أَثَرُها الكبير على تَضْلِيْل الإنْسان المـُسْلِم وتَمْزيقِهِ.

والمدنيَّةُ الحديثةُ التي تزحف على المسلمين، لِتَمْتَصَّ قِيَمَهُم الأخلاقيَّة ومُثلهم العُلْيا، تُنْذِرُ بكثفات الخطر الزاحِف ومدى تأثيرِهِ في روحيّة الفَرْد والمـُجْتَمَع.

هذه العوامِلُ تَحمِلُ في طَيَّاتِها أكثرَ مِنْ خطرٍ وشرٍّ على المـُجتمع الإنْساني، في الوطن الإسلاميِّ الكبير.

وفي هذه الحال لابُدَّ مِن العمل الفعّال الجَمَاعِي، في مُحاولةٍ جَريْئةٍ لإخراج أنْفسِنا كمسلمين أوّلاً، وكأفْرادٍ للمـُجْتمع الإسلاميِّ ثانياً، مِنْ هذه الدوَّامَة وهذا الخطر.

وشيءٌ طبيعيٌّ، أنْ يكونَ العملُ غيرُ المنظّم، الذي لا يَبْتَنِي على إيمانٍ وصِدقٍ، وتَضْحيةٍ وفِداءٍ للقضيّة التي يعملُ مِنْ أَجْلِها، لا ينتهي إلى نتيجةٍ مَرْضِيَّةٍ.

وإذا كنَّا مُصَمِّمِيْنَ على حَمْل راية العمل، والزَحْف في المسيرة المقدَّسَةِ لمـُقابَلةِ الأعداء، فَلْتَكُنْ سيرةُ هذه الصفوة مِقْيَاسَاً لنا في أعمالِنا. ومتى استطعنا أَنْ نكونَ كما كانُوا، مِنْ صِدْقٍ وإيْمَانٍ لعقيدتِهم، ونَقِفَ كما وقفوا في سبيل قَضِيَّتِهم المـُقدَّسة، ونُضَحِّيَ كما ضَحَّوا بإخلاص مِنْ أجْلِ عقيدتِهم، فَحَتْمَاً سَنَصِلُ إلى غايتِنا المـُقَدَّسَة.

ولهذا فحديثي عَنْ هذه الصفوةِ المجاهدةِ، وعَرْضِي لسيرتِهم

٦

العَطِرَة، ما هو إلاّ رسمٌ بَيَانِيٌّ للأُمَّةِ في حياتها الجهادية ومسؤوليّة أفرادِها القياديّة، وإذا وجَدْنا أنفسَنا على اسْتِعْدادٍ كاملٍ لنكونَ كهؤلاء، فَعِنْدَ ذاك يُمْكِنُ أَنْ نكونَ دعاةً صالِحِين في رسالةِ الدعوةِ المقدَّسَةِ، والعملِ الصالحِ، والتسديد مِن الله سبحانه.

بَعْدَ هذا:

أَمَلِي أَنْ أَكُونَ مَعَ القُرَّاء الكِرَام خفيفُ الظِل، وقد قَدَّمْتُ لهم - بالإضافةِ إلى ما سَبَقَ - نَمَاذِجَ حَيَّةً للأبطال، الذين كان لهم شَرَفُ الانتماء إلى (مدرسةِ الإمامِ عليٍّ (عليه السلام)). فَبَقِيَتْ ذِكْرَاُهم خالدةً، بِرَنَّة عِطْرٍ، ودُنْيَا نُورٍ.

ورجائي مِن العليِّ القدير أَنْ يَأْخُذَ بِيَدِي لإتمام هذه السِلْسِلَةِ، ويساعد (دَارُ الزَهْرَاءِ) الغرّاء على مُواكَبَةِ المـَسِيْرَة الإسلاميّة، ويُوفِّق صاحبَها لتحقيق أَمَانِيْهِ، وهو مِنْ وراء القَصْد.

١/ ربيع الأول/ ١٣٩٣هـ

مُحَمَّد السيِّد عَلِي بَحْر العُلُوْمِ

٧

٨

عَمَّار بْن يَاسِر

٩

١٠

- لِمَاذا يُعَذَّبُ هؤلاء يا أبتاه؟!

- إنَّ هؤلاء حَادُوا عَنْ آلهتِنا، ودَانُوا بغير دينِنا، واتبعوا محمّداً.

- محمّد.. ومَنْ هو محمّد يا أبتاه؟!.

- محمّد: فتى عبد المـُطَّلِب، يَتِيْمُ أبيه، فقيرُ قومِهِ. كَفَلَهُ عَمُّهُ أبو طالب، وتولَّى تربِيَتَه بَعْد جَدِّهِ، جَدُّهُ عبد المـُطَّلِب.

- وَلِمَ ذلك؟.

- لأَنَّ والدَهُ عبدالله تُوُفِّيَ عَنْه، وهو بَعْد لَمَّا تَكْتَحِل عَيْنَاه بِنَعِيْم الحياة.

- أبتاه، ماذا يريد هذا اليتيم؟ وبِمَاذا جَاءَ؟

- يُقَال: إنّه دعا إلى دينٍ: يُوجِبُ عبادةَ الله وحده، لا شريك له.

- وماذا في ذلك؟.

- ماذا في ذلك؟!، ذلك يعني أَنّ أصنامَنا يجب أَنْ تزولَ، حيث لا مبرِّرَ لوجودِها بَعْد.

- ثُمَّ ما يُرِيد بَعْدَ هذا ؟

- لا أدري، أراك كثيرَ الكلام، أُسْكُتْ، ولا تَتَحَدَّثْ

١١

بهذا الحديث، بل تَنَاسَاه، نَعَمْ تَنَاسَاه يا بُنَي، فإنِّي أخشى عليك مِنْ عذابِ قُرَيْشٍ.

- يا أبتاه دَعْنِي أَتَقَدَّمُ لهذه الزمرة التي أخذَتْ بيدها مَكَاوِيَ الحديد؛ لِتَطْعَنَ بِحَرِّ نارها جلودَ هذه الأجساد الهَزِيْلَة، التي تَضَوَّرَتْ مِنَ الألم بين أيديها.

- حَذَارِ... حَذَارِ.

أُتْرُكْهُم يا ولدي، دَعْنَا وشَأْنَنَا، مَاَلَنا وهذه الأُمور؟.

هَيَّا بِنَا، هَيَّا... هَيَّا.

- لماذا لَمْ يتركوهم وشَأْنَهم، لِيَعْبُدُوا ما يَعْبُدُونَ؟

- أَجُنِنْتَ؟! كيف ترضى قُرَيْشٌ أنْ تُصَابَ آلِهَتُها بِالْبَوَار؟.

بني، إنّ خطر الإسلام على الجاهليّة عظيمٌ.

- يا أبتاه. رُحْمَاكَ، لي رَغْبَةٌ مُلِحَّةٌ في أَنْ أَذْهَبَ إلى محمّدٍ فَأَسْمَع مِنْهُ ما يُريد.

- لا.. لا... قالَها الأبُ، وهو يَزْأَرُ مِنَ الغضب، وَكَمَّ فَمَ وَلَدِهِ؛ كي لا يَسْتَمِرّ في الحديث.

ثم الْتَفَتَ يُمْنَةً ويُسْرَةً، وهو يخشى أنْ يَقِفَ أحدٌ على حَدِيْثَهُمَا.

ثم حاول أنْ يتحدّث، فَمَاتَتْ الكلماتُ على شَفَتَيْهِ، وهو يَرْتَعِدُ خوفاً ودهشةً.

- ما بِكَ يا أبتاه؟.

١٢

وغابَ الوالدُ في تفكيرٍ عميقٍ، وبَدَتْ عَلائِمُ الاستفهام جَلِيَّةً على قَسَمَاتِ وَجْهِهِ، تُرَى ماذا أصاب والدَه؟ فقد بدا في حالةٍ عصبيّةٍ لِلْغَايَةِ.

وَفَضَّلَ السكوت رَيْثَمَا تَهْدَأ حالةُ الشيخِ. ما إنْ رأى والَده قد عاد إلى صوابِهِ، واسْتَرْجَعَ وَضْعَهُ الاعتيادي، حتّى الْتَفَتَ إليه ثانِيَةً قائلاً:

أبتاه: هل تَعِدُنِي أنْ أَذْهَبَ إلى محمّد، أبتاه: يَحْدُونِي مَيْلٌ شديدٌ لأَنْ أعرفَ أهدافَ دعوتِه، ولأتَبَيَّنَ حقيقة خطرها على آلهة قُرَيش.

انتفض الأب مِنْ مكانه، وهو يضطرب مِنَ الخوف والوَجَلِ وصَاحَ بِوَلَدِهِ: دَعْنَا نسير، دَعْنَا نَذْهَب إلى البيت، لنستريح مِنْ شَرِّ هذا اليوم.

وفي طريق عودتِهِما إلى البيت مَرَّا على جماعةٍ تَحْمِلُ السياطَ وتَلْهَبُ بها ظهورَ ثلاثةِ أشخاصٍ مِنْ بينهم امرأةٌ واحدةٌ، وقد تَجَمْهَرَ عليهم جمعٌ يَتَضاحكون ويَتَصايَحون.

يا عمّار: أينَ رَبُّ محمّد لِيُنْجِيْكَ مِنْ هذا العذاب؟... قالها أحدُهم ساخِرَاً، وكان أحدُ الجَلاوِزَةِ المـَوْكُولِيْنَ بالتعذيب.

وعمّارٌ كالحديد يَتَدَرَّع بالإيمان، ويتحلّى بالصبر، عيناه شاخِصَتَان إلى السماء، وشَفَتَاهُ تَلْهَجَان( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) .

١٣

وما أنْ سَمِعَ أبو جَهْلٍ هذه الكلمات، تَرُفّ على شفاه عمّار، حتّى هَجَمَ عليه ثانِيَةً - والغضب يتطاير شرره مِنْ عينيه - وانْقَضَّ على عمّار يفتحُ فَكَّيْهِ لِيَقْطَعَ لسانَه، لقد هَالَهُ أنْ يسمعَ مِنْهُ هذه الكلماتِ.

فيَسْتَقْبِلُهُ بعضُ أصحابه، وهم يتضاحكون...

وتقبل الرجلُ مِنْ زمرته شكرَهم، وعيناه لا يرفَعُها عَنْ هذه الأجساد الثلاثة المطروحة بين أيدي جلاوزته، تَلْهَبُهَا سِيَاطُهُم المـَحْمُومَةُ، وتُمَزِّقَهُم حِرَابُهُم الحاقِدةُ.

ويَلْتَمُّ شملُ الصفوة الخَيِّرَة مِنَ المسلمين في حَلَقَةٍ تضمُّ نبيِّ الرحمة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو يُعِيد على أسماعهم آياتٍ مِنْ كتاب الله المجيد.

كانَ العددُ لا يتجاوزُ الأصابِعَ، وقد تعذَّر حضورُ ياسر وزوجتِهِ، وَوَلَدِهِمَا عمّار، حيثُ أنَّ عذاب المشركين كان لا يزالُ يَنْصَبُّ عليهم صَبَّاً، دون رحمةٍ ولا شَفَقَةٍ.

ويَعْلَمُ الرسولُ بِكُلِّ ما يجري على هذا النَّفَر المـُسْتَضْعَف مِنْ أصحابِهِ، فَلَمْ يملِكُ لهم مِنَ الأمرِ إلاّ أنْ يرفعَ يدَه للدعاء ((مَنْ عَادَى عَمَّارَاً عَادَاهُ اللهُ، وَمَنْ أَبْغَضَ عَمَّارَاً أَبْغَضَهُ اللهُ)).

ولمْ يَقِفْ عذابُ القوم عِنْد حَدٍّ، فقد فاقَ كلَّ وَصْفٍ، وكانَ عمّار سابِعُ مَنْ أَسْلَمَ وآمَنَ بدعوة محمّد، وكان عذابُ الجاهليّة يتفاقمُ عليه، كُلَّما رأتْ أَنَّ هذا الرجل قد تَدَرَّعَ بالصبر.

١٤

ولكنّ عمّاراً كان ولا يزال فوق هذه الهَمَجِيَّة مِنَ العذاب، فقد تحدّاها بِقُوّة أعلى مِنْ أَنْ تَنْهَار على دَكَّة المشركين، إنّما هي صلابة الإسلام، وإيمانُ محمّد، تَبْعَثَانِهِ على التفاني في سبيل عَقِيْدَتِهِ.

كان عمّارٌ حليفاً لبني مخزومٍ، وكان يرجو أَنْ ينالَ مِنْ محالَفَتِهِ هذه بعضَ الراحةِ والطمأنينةِ، ولكنّ بني مخزومٍ هي التي قَدَّمَتْهُ قُرْبَانَاً مُقَيَّدَاً إلى بِسَاط التعذيب على يد المشركين مِنْ أمثالِ أبي سُفْيَان، وَعُتْبَة، وأبي جَهْلٍ، وغيرهم.

ونادى مُنَادِي المسلمين بالهجرة إلى الحبشة، فقد أصبح شبحُ الموتِ أقربُ مِنَ الظِّلِّ إلى أصحاب رسول الله، وكانَ عمَّارٌ أحدَ أفراد هذه القافِلَة الصغيرة مِنْ رجال الإسلام.

وَرَمَقَ الركبَ - وهو يَجِدُّ سيرَه حثيثاً؛ ليبعد عَنْ واقعِ الظالمين - أحدُ أعوان الزمرة والطاغية، فَذَهَبَ وأشاعَ النبأَ لدى القومِ، وَهُمْ في فَنَاءِ البيت:

أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَكْبَاً - مِنْ أَصحاب محمّد - قد غادرَ أبوابَ مَكَّةَ، وسوف يَهْرُبُ ويَفْلِتْ مِنْ بينِ أَيْدِيْنَا، وحاول البعضُ أنْ يقوم بما يلزم مِنْ عَرْقَلَةِ سَفَر هذه الصفوة، وَلَكِنْ هيهاتَ فقد سَلِمَ الركبُ بنفسه مِنْ أَنْ يَقَعَ فَرِيْسَةً لدى الأعداء.

وفي مساءٍ رائعٍ - رائعٌ بعبير التضحيات - وَدَّعَ عمّارٌ البقِيَّةَ الباقِيَةَ مِنْ أهل بيته بعد أنْ قُتِلَ أبواه في ساحة التعذيب وترك المدينةَ.

ترك المدينةَ بُرْهَةً مِنَ الزمَنِ، ولكنّ ذِكْرَى إِنْسَانِيَّة محمّد

١٥

لَمْ تُبَاِرحْ مُخَيَّلَتِه، وآياتُ الله البيِّنات تَمُورُ في أجواء نفسه وتنطوي الأيّام عَجْلَى، وانْطَوَتْ معها الصفحةُ مِنَ الذكريات ولكنّها عادتْ حيّةً مَنْشُورةً بعد زمانٍ، زمانٍ قليلٍ، بعد أنْ عاد أصحابُ الرسول مِنَ الحبشة إلى يثرب، مدينةِ الرسولِ.

عادوا وأكاليلَ الغارِ تُتَوِّجُ حياتَهم، وأَعْلام النصر تَرَكَّزَتْ في رُبُوْعِهِم.

وعمّارٌ... ذلك الرجل الذي استمرّ طيلةَ حياتهِ يُدافِعُ ويُنَافِحُ عَنِ الإسلام، ويَذُبُّ عَنْ كيانِهِ بجهادٍ متواصلٍ، ينتظرُ - وهو على موعد -.

ينتظرُ اللحظةَ الحاسمةَ - التي خَلّدَتْ وجودَه - مِنْ حياته وهو يردِّدُ دائماً قولَ الرسول:

((يَا عَمَّارُ آخِرُ شَرَابٍ لَكَ مِنَ الدُنْيَا ضَيَاحٌ مِنَ اللَبَنِ)).

وترتبِطُ حياةُ الصحابيِّ الجليل بعليّ بنِ أبي طالبٍ ارتباطاً وثيقاً، فقد كانتْ كلماتُ الرسولِ الأعظم خالدةً في ابن عَمِّهِ وَرَفِيْقُ دَعْوَتِهِ، وهي تَنْفُذُ إلى أعماق الإنسان كَنُوْرِ الفجرِ وَسَحَرِ المـَطَرِ..

((يَا عَلِيُّ: لا يَعْرِفُ اللهَ إلاّ أنَا وَأَنْتَ، وَلا يَعْرِفُنِيْ إلاّ اللهُ وأَنْتَ، ولا يعرفك إِلاّ اللهُ وَأَنَا)).

وتَرُفُّ هذه الكلماتُ الزاهرةُ نَدِيَّةً في أُذُنَيْهِ، وَيَسْتَوْعِبُ تفكيرُه النَيِّرُ هذا القول: ((وَلا يَعْرِفُكَ - يا علي - إِلاّ اللهُ وأَنَا)).

ولماذا لا يكونُ مِنْ عليٍّ بمنزلة العِطْرِ للوَرْدِ، والشروق

١٦

للأمل.. وهو الذي تقول عَنْهُ عائشةٌ: (ما مِنْ أَحَدٍ مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أشاءُ أَنْ أَقُوْلَ فيه إِلاّ قُلْتُ، إِلاّ عمّار بن ياسر، فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: ((مُلِئَ عمَّارٌ إِيْمَانَاً إِلَى أَخْمَصَ قَدَمَيْهِ)) ).

ولم تكنْ هذه الصِلَةُ بِالْحَدِيْثَةِ بعد رسولِ اللهِ، كلا، فَعَمَّارٌ كانَ مع رسول الله في كلِّ حُرُوْبِهِ، وفي كلِّ أيَّامِهِ، وكانَ يسمعُ عندما يقولُ كلمةً عَنْ عَلِيٍّ فيحفظها، وعندما يَشْهَدُ عليَّاً وهو يخوضُ غِمَارَ الموت في سبيل الدعوة بإيمانٍ وعقيدةٍ، فَتَنْسَابُ الشهادةُ مِنَ الرسولِ في حَقِّهِ، فَيَلْقَفُهَا عمّارٌ وِسَامَاً لا يعلوه وسامٌ.

وعليٌّ لمْ يكنْ أقلَّ مَعْرِفَةٍ بِعَمَّارٍ مِنْ غيره.. فقد مَلَئَ هذا الرجلُ المـُجَاهِد الصابِر المـُمْتَحَن قلبَه وإعْجابَه.. وليس بالغريب أنْ يُصْبِحَ أبو اليقظان مِنْ أصحابه أكثرَ قُرْبَاً، وأَشَدَّ الْتِصَاقَاً لعليٍّ، وصيِّ رسول الله، وإمام المسلمين..

واقتطعتْ السنون مِنْ أيّامِها حُلْوِهَا وَمُرِّهَا، خيرِها وشرِّها، وعمّارٌ في خِضَمِّهَا صَلْدَاً لا تَهُزُّهُ الأحداث، ولمْ تَجْرُفْهُ الإغراء، وإذا مَرَّتْ به أيّام محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صَعْبَةُ المِرَاس لاقى في سبيل الدعوة كلّ أنواعِ التعذيب والأذى، حتّى ذَكَرَ أنَّه: (كان يُعَذَّبُ حتّى لا يَدْرِي ما يقول). فإنّ أيّامَ عليٍّ (عليه السلام) لَمْ تَكُنْ أقلَّ مِنْهَا مِحْنَةً. مِنْ يَومِ أَنْ غَمِضَتْ فيه عينُ الرسولِ، حتّى يوم استشهد في ساحةِ صِفِّيْن. وكان مع هذا كلِّه يُمَثِّلُ الإنسانَ المـُجَرِّبَ

١٧

والفكر الوقّاد، والشخصيّة الفذَّة، لا تأخُذُهُ في الله لَوْمَةُ لائِمٍ.. وقد وقف فيها إلى جانِب إمامه؛ يفتح في نفسه أُفُقَاً رائِعاً لأَبْعَادِهِ الكريمة، ومِنْ فِكْرِهِ، رَأْيَاً صائِبَاً لِمَا تقتضيه مصلحةُ الإسلام..

إنّه امتحانٌ عسيرٌ تَمُرُّ به الصفوةُ الطيبة مِنْ هؤلاء الأَفْذَاذ، الذين اتخذوا مِنْ عليٍّ - بعد الرسول الأعظم - مدرسةً تُنِيْرُ لهم الطريقَ، وتُبَدِّدُ لهم حُلْكَةَ المسيرة..

وإذا زهدَ عليٌّ في هذه الدنيا، بحيث لم يُعْطِها مِنْ نفسه قُلامَةَ ظِفْرِهِ، فقد كان عمّارٌ على هذا الخطِّ، عندما وُلِّيَ الكوفة في عهد عمر بن الخطاب، سار فيها سَيْرَاً لنْ تَجِدَهُ إلاّ عند أمير المؤمنين (عليه السلام) مِنَ العدل، وإحقاق الحق، ومكافحةِ الباطلِ وعدم الاهتمام بِمَظْهَرِ الدنيا، حتّى يقول الراوي، وهو مِنْ أهل الكوفة: (رَأَيْتُ عَمَّارَ بن ياسر، وهو أَمِير الكوفة يشتري مِنْ قِثَّائِهَا، ثُمّ يربِطُهَا بِحَبْلٍ ويَحْمِلُهَا فوق ظهره، ويمضي بها إلى داره)!!!.

ولَمْ يَكُنْ عسيرٌ على عمّار أنْ يَتَجَبَّرَ وَيَتَكَبَّرَ، ويمشي خلفه الخَدَمُ والحَشَمُ في الكوفة وهو والي الكوفة، وأمير الجيش، ومُقَرِّبُ الخلفاء، لكنْ لَمْ يكنْ هذا أبداً.. فهو مِنْ مدرسةِ ذلك الإمام الذي يقول للدنيا غُرِّي غَيْرِي، أَمَّا هو فَفِيْ ذاتِ الله خَشِنٌ.. ويعملُ ويأكلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، ولا تَطْمَعُ نفسُهُ إلى بيضاء وصفراء..

١٨

وطلعتْ شمسٌ، وغَرُبَتْ شمسٌ، وعلى الشفاهِ أكثرُ مِنْ سُؤَال؟ مَتَى تَتَحَقَّقُ نبوءةُ الصادقِ الأمينِ، وهو( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى‏* ) .

((وَيْحَ ابْنَ سُمَيَّة، تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ)).

وتبقى هذه الكلمةُ الخالِدةُ في آذان المسلمين حَيَّةً، تنتظر اللحظةَ الحاسمة.. وعمّار قد ذَرَفَ على التسعين مِنْ عُمُرِهِ، أو تجاوزها بِقَلِيْلٍ. والأيّام حافلةٌ بالحوادث، وكلّ يومٍ له فيه حسابٌ.

ولكنّه يومٌ ولا كالأيّام، يَزْخَرُ بالأَحداث ويمطر بالمآسي.. فمعاوية بن أبي سفيان قد دفعتْه الغيرةُ المـُفْتَعَلَةُ للأَخْذِ بِثْأرِ عثمان ولمْ تكنْ الحقيقةُ، إنّما هو التضليلُ للسُذَّجِ مِنَ الناس.

ولمْ يكنْ الواقعُ إلاّ ما قَالَهُ أبوه بالأمس، حينما تولَّى الخلافةَ عثمان، وَالْتَفَّ حوله مِنَ الأَمويين: يَخْضِمُونَ مالَ اللهِ خَضْمَ الإبِل، فَيَلْتَفِتُ أبو سفيان، وقد أرهقتْه السنون وأتْعَبَهُ الحقدُ، يقول لآله المجتمعين حول الخليفة: فوالّذي يَحْلِفُ به أبو سفيان لا جَنَّةَ ولا نَارَ، تلاقفوها يا بَنِي أُمَيَّة.

ومعاوية على هذا الأساس خطَّطَ، وفي هذا الضوء سار.. واليوم قد حان فيه الانقضاض، وعليٌّ بيده الخلافةُ، وهو يعلمـُ أَنّ ابن أبي طالبٍ صَعْبُ المِرَاس لمْ يخضع للعاطِفَة، ولا يَنْقاد للمـُقْتَضَيَات، والناس لا يسعدهم هذا اللون مِنَ المسيرة، فَلْيَقْتَطِفْ المناسبةَ، ويَسْتَغِلْ الفرصةَ، وَوَقْتَهَا حَانَ.

١٩

وَلْيرفع شعارَ (يا لِثَأْر عثمان) وليكنْ مِنْ قميصه المـُدْمَى ما يُعْلِنُ الحربَ ويُلْهِبُ الفتنةَ، ويُثِيْرُها عِجَاجَةً تأكلُ الأخضرَ واليابسَ.

وفِعْلاً كانَ مَا أَرَاد..

وعمّار، وأَمْثَال عمّار لمْ يكونوا بالسُذَّج ولا المـُغَفَّلِيْنَ، فقد عَرِفُوا الحقيقةَ الكامِنَةَ وراء ثورةِ طاغِيَةِ الأَمَوِيِّيْنَ، فالحقد الدفِيْن بين الهاشميين والأمويين لمْ تخمدْهُ الأَيّامُ، فهي جذوةٌ تأْكُلُ قلوبَ الحاقِدِين، وتَمْتَصُّ رُؤَاهُ.

وإذا كانتْ (صفينٌ) بعد حَفْنَةٍ مِنَ الأيّام، مرّت ثقيلةَ السير مَكْدُودَةَ الضوء، فقد تَفَتَّحَتْ الجِرَاحُ شموخاً، وَتَعَمْلَقَ الجِهاد عُنْفَاً.. وليس غير السيف بين هذين المـُعَسْكَرَيْنِ حَكَمَاً.

ويَقِفُ عمَّارٌ - وهو الرجل الذي واكَبَ الأحداث، وعرف مقاصِدَها بِكُلِّ رَوِيَّةٍ - وسط قومه خاطِبَاً، ومُوَجِّهَاً:

(انهضوا معي عباد الله إلى قومٍ يزعمون أنّهم يطلبون بِدَمِ ظالمٍ، إنّما قتله الصالحون المـُنْكِرُونَ للعُدْوَان، الآمرون بالإحسان. فقال هؤلاء الذين لا يُبَالُونَ إِذا سَلُمَتْ لهم دنياهم ولو دُرِسَ هذا الدين: لِمَ قَتَلْتُمُوه؟ فقلنا: لإحداثه، فقالوا: إنّه يُحْدِثُ شيئاً، وذلك لأنّه مَكَّنَهُم مِنَ الدنيا، فهم يأكلونها ويَرْعَوْنَهَا ولا يُبَالون لو انْهَدَمَتْ الجبالُ.

والله ما أظنُّهم يطلبون بِدَمٍ، ولكنّ القومَ ذاقوا الدنيا فاسْتَحَلُّوْهَا، واستمرؤها وعلموا أنّ صاحب الحق لو وَلِيَهُم لَحَالَ بَيْنَهُم وبين ما يأكلون ويَرْعَونَ مِنْها.

٢٠