مَقْرُبَةٍ مِنْ هذا المنظر، ينظرون وفي أعماقهم إكبارٌ وتعظيمٌ لهذه التضحية الغالية. وتقدّم أحدهم مِنْ حِجْر، اعتقاداً منه بأنّ الوقت غَيّر مِنْ نفسه شيئاً، وقال له:
ابرأ مِنْ عليٍّ وقد أَعِدُ لك معاوية جميع ما تريد إنْ فعلتَ، ولكنْ هيهات، فنفسيّة حِجْر أعظم مِنْ أنْ تزعزعها أهوالٌ وأهوالٌ.
ثم التفتَ إلى أصحابه فقال: إذا قُتِلْتُ فلا تفكّوا عنِّي قيودي، ولا تغسِّلوا دمي، وادفنوني في ثيابي، فإنّي أرغب أنْ أُلاقِي معاوية غداً عند الحساب على حالتي.
وتقدم إليه الجلاوزة ونفّذوا فيه أمر طاغيتهم.
وانتهتْ حياة هذا العبد الصالح المجاهد في سبيل عقيدته.
وأُخْبِرَ معاوية بذلك، فَغَمَّ وَعَلَتْهُ موجةُ حُزْنٍ، وتَمْتَمَ: ما أنا وحِجْر لولا أمر زيادٍ، وبقيتْ في نفسه لوعةٌ كانتْ تظهر عليه فيردِّد: (يومي مِنْ حِجْر بن عَدِي يومٌ طويلٌ)، وهكذا تأسفُ الطواغيتُ، ولكنْ حين لا ينفع الندم.
وانعقد مجلس معاوية. وتوافد إليه الناس، فرحين مستبشرين، أو في الحقيقة يحاولون إظهار الفرحة وتصنع الاستبشار أمام معاوية بنصره الكبير، فقد تمكّنَ مِنْ سَحْق العناصر الكبيرة مِنْ مُعارِضيه في الكوفة، بقتل حِجْر وأصحابه.
يا أمير المؤمنين: أَرَأَيْتَ صُنْع الله بأعدائك.
وكتم معاويةُ في نفسه اللوعة، وطبع على شفتيه ظل ابتسامة، ولمْ يحاول أنْ يُجيب.