من مدرسة الإمام علي (عليه السلام)

من مدرسة  الإمام علي (عليه السلام)0%

من مدرسة  الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 189

  • البداية
  • السابق
  • 189 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16910 / تحميل: 5130
الحجم الحجم الحجم
من مدرسة  الإمام علي (عليه السلام)

من مدرسة الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

دَفَعَهُ واجِبُهُ الديني لأنْ يُنَبِّهَ الرجلَ إلى وقت الفريضة بأنّه قد مَرَّ، وتأخَّرتْ الصلاةُ أكثر مِنْ عادتها.

فقام ووقف وأشار إلى زيادٍ أنّ الصلاة قد تأخّر موعدُها، فلا تَسْتَرْسِل في الخطبة، وتترك الواجب. ولكنّ زياداً لمْ يَعِرْ لحديثه أيَّ أهمِّيّة، بل استمرّ في الخُطبة، ولمْ ينفع معه تذكرةٌ مرّةً وثانيةً، بل استمرّ في الخطبة مِمّا اضطرَّه أنْ يأخُذ حَفْنَةً مِنْ حصى المسجد ويضرب بها وجهَ زيادٍ، ويلتفتُ إلى القوم ويصيح: شاهتْ الوجوه ذُلاًّ، يمنعكم زيادٌ صلاتَكم.

وكان هذا القدر كافياً في إثارة الناس وهياجهم، فقد وقف حِجْر وصلّى، وصلّى الناسُ معه، مِمّا اضطرّ زيادٌ أنْ ينزل مِنَ المنبر ويصلّي خائِباً فاشِلاً.

والى هنا، وقد توسعت الشُقّة بين الطرفين، وكانتْ هذه الحركة كافيةً لإثارة هذا الوالي القاسي، على مُعاقبة هذه المعارضة السافرة، التي يتزعَّمُهَا حِجْرٌ وجماعته.

وشمَّرَ زيادٌ عَنْ ساعديه لِكَبْح جِمَاح حِجْر وجماعته، لِيَقْبُرَها قبل أنْ يستفحِل أمرُها، فأخذ يُطارِد المعارضة، ويتّبع آثارها، وكان في مقدمة المطارَدِيْن حِجْر.

ودعا زيادٌ محمّدَ بن الأشعث، وقال له: لتأتِنِّي به، أو لأقطعنَّ كلّ نخلةٍ لك، وأهدم دورَك، ثُمّ لا تَسلم مِنّي، حتّى أُقطِّعُكَ إرْباً إرْباً.

وَجَدَّ الأشعث وصحبُه في طلب المعارضة، حتّى قبض عليهم، ومنهم حِجْر، وكانَ عددهم اثني عشر رجلاً، وأودعهم بالسجن

٤١

مُثْقَلِيْنَ بالحديد، ومُصَفَّدِيْنَ بالسلاسل.

ولم تَنْتَهِ الخطةُ إلى هذا الحدّ، فلا ينفع حقد الأمويين أنْ يبقى حِجْر وجماعته رهن السجن فحسب، بل لابُدّ لهم مِنْ صورةٍ ظاهريّةٍ، تبرز عليهم القتل والتلف.

وأشار زيادٌ إلى بعض جلاوزته؛ بأنْ يُنظّموا محضراً يتضمّن موقفَ حِجْرٍ وجماعته مِنَ العهد.

وكان ما أراد، فقد نظّم هذا المحضر بالسرعة، تلبيةً لعواطِف الأمير، وضمّ شهادة الكثير مِنْ وجوه الكوفة، الذين شرى ضميرهم بالمال، وعقيدتهم بالجاه، فتهالكوا على المـَحضَر مُوَقِّعِيْنَ؛ لينالوا جزائهم مِنْ زيادٍ، والرضا عنهم مِنْ معاوية.

وألقى زيادٌ نظرةً على المـَحضَر، فلمْ يعجبْه، فالتفتَ إلى مستشاره عمرو بن حريث قائلاً:

ما أظنُّ هذه شهادةً قاطعةً، وأُحب أنْ تكون الشهادة أقوى وأشد.

لقد كتبوا المـَحضَر، وماذا كتبوا؟ فقد خَطَّتْ أقلامُهم ما نَصُّهُ:

(إنّ حِجْراً جمع إليه الجموع، وأظهر شَتْم الخليفة، وعَيْب زيادٍ، ودعا إلى حرب أمير المؤمنين، وزعم أنّ هذا الأمر لا يصح إلاّ في آل أبي طالب، ووثب بالمصر، وأخرج عاملَ أمير المؤمنين، وأظهر عُذْرَ أبي تراب، ومنع الذمَّ عليه، والبراءة مِنْ عدوِّه وأهل حربه، وإنّ هؤلاء الذين معه همْ رؤوس أصحابه، وعلى مثل رأيه).

٤٢

كانتْ هذه الشهادة. ولكنّ زياداً لمْ يرَ في هذه الكلمات كفايةً لتحقيق مأربه. وأظهر الغضب في وجه أحد مرتزقته، وهو أبو بردة بن أبي موسى، وتَلَكَّأَ الرجلُ وتَلَعْثَمَ، واضطرب مثل السعفة في مهبِّ الريح، وتقدّم لسيِّدِهِ يكسب رضاه، فكتب:

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

(هذا ما شَهَدَ عليه أبو بردة بن أبي موسى لله ربّ العالمين، شَهَدَ أنّ حِجْر بن عَدِي خلع الطاعة، وفارق الجماعة، ولعن الخليفة، ودعا إلى الحرب، والفتنة، وجمع إليه الجموع؛ يدعوهم إلى نكث البيعة، وخلع أمير المؤمنين معاوية، وكفر بالله).

والى هنا قفزتْ البسمةُ على وجه زيادٍ، لقد رضا بهذا الأُسلوب وتهافتْ الموقِّعون يرسمون تواقيعهم على هذا المـَحْضَر الخطير، حتّى بلغ عددهم ما يزيد على السبعين وفي طليعتهم: عمر بن سعد بن أبي وقّاص وشمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي، وزجر بن قيس، وكلهم مِنْ أعيان الكوفة.

كان زياد يعتقد أنّ هذا المحضر يَحدّ مِنْ نشاط حِجْر، ويوقف ثورته على الحكم الأموي، وعرف غير حِجْر قصةَ المـَحضَر وخطورته، ولكنّ هذا العبد الطاهر كان كالحديد، لا يلين ولا يتأثّر مِنْ كلّ هذه الأساليب، التي ستكون له - بعد زمانٍ - حبلَ المـَقْصَلَةِ.

ولا نستغرب مِنْ حِجْر صموده في وجه الطغيان، ولا نستعظِم

٤٣

عليه صلابته، فقد سجل التأريخ له حياةً ملؤها البطولة، وهو الذي وقف في يوم الجمل، وصفّين، والنهروان، كما أنّه كان مع الجيش الإسلامي الذي فتح الشام إلى جانب المسلمين.

ودبّ اليأس إلى زياد عنْ استمالة حِجْر، وصمّم على تنفيذ خُطّته التي رسمها، فقد قبض على مجموعةٍ تضمُّ حِجْر وأُخوته في الجهاد، وأرسلهم إلى معاوية، ومعهم المـَحضَر الذي يُثبِت نَكْث البيعة للخليفة الأموي.

وكان زياد قد رحَّل هذه الصفوة إلى الشام على جِمالٍ غير موطَدة، وأوصى المـُكلّفين بهم أنْ يَصُبّوا على هذه المجموعة أنواع التعذيب، ووصلتْ القافلة إلى (مرج عذراء) في الشام، وقد أنهك السير أجسامهم.

وعلم معاوية بقدومهم: وكان في مجلسه، فداخله شيءٌ مِنَ الزهو، ولكنْ سرعان ما طفتْ على وجهه ظِلال غَيْمَة حُزْنٍ، تُرى ماذا خالج الطاغية؟. ولمـّ جبهته بتأثّرٍ، وهو لا يرفع نظره عَنِ الكتاب ومَحضَر الشهود، وطال به التفكير، فحاول أحد البِطانة الذي رافق الأسرى مِنَ الكوفة تبديد هذه السحابة مِنْ وجه سيِّده فالتفتَ اليه قائلاً، وهو يَفْتَعِل ظِلّ ابتسامةٍ:

يا أمير المؤمنين لقد أوصانا واليك زياد بأنْ نُضَيِّق الخناق على هؤلاء المسجونين، الذين خلعوا طاعة سيِّدنا معاوية في الطريق فأريناهم أنواع العذاب، وأثقلناهم بالحديد، وأتعبنا أجسامهم بالسفر، أَتُرِيدُ يا أبا يزيد أنْ تراهم، وقد أنزلناهم في خَرِبَة لا تقيهم مِنْ حَرٍّ أو بَرْدٍ، وسنذهب لجلبهم وإدخالهم عليك.

٤٤

وهنا أفاق معاوية مِنْ شِبْهِ ذُهُولٍ، والتفتَ إلى الكوفيّ وهو يَهْذر على هذا الجمع، لِيُدَلِّل كيف أدّى أمر سيِّده زياد، وصاح به كفى. كفى. لا أُريد أَنْ أرى حِجْر أو جماعته، دعوهم في سجنهم وأبعدوهم عَنْ وجهي لأرى فيهم رأيي.

كان معاوية يتمتّع بشيءٍ مِنَ الدهاء والتفكير، وكان يعلم مكانةَ حِجْر، وصحابته عند المسلمين، وهو مِنْ أفاضل صحابة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وما هي مكانته كانتْ عند الإمام علي (عليه السلام)، وما يتمتّع به مِنْ منزلةٍ عند المسلمين، وهو إذا أقدم على قَتْله فَمِنَ المؤكّد أنّ عملَه هذا سيُحدِث ردّ فعلٍ عكسيٍّ عند عامّة الناس، عَدَى المرتزِقة مِنْ حوالَيه التي تُحَبِّبُ له فعلته؛ لتغنم منه بالكثير مِنَ المال.

والتفتَ إلى مُقَرَّبيه، والغضب بادٍ على قسماته، وقال: لقد فعلها ابن مرجانة، تخلّص مِنْ أمرهم، وألقاهم علينا.. وعاد إلى تفكيره ووجومه، وفجأةً انتفض، وكأنّه أفاق مِنْ غَفْوَةٍ وصاح بِكَاتِبِهِ: خُذْ القلم والقِرطَاس واكتب لزياد:

(أمّا بعد فهمتُ ما ذكرتَ مِنْ أمر حِجْر وأصحابه، والشهادة عليهم، فأحياناً أرى أنّ قتلهم أفضل، وأحياناً أرى أنّ العفو عنهم أفضل مِنْ قَتْلِهِم، فماذا ترى والسلام).؟

ووصل الكتاب إلى والي الكوفة، وكاد يُصْعَق مِنْ هول الدهشة، لقد أرسلهم ليتخلّصَ منهم، ويأبى معاوية أنْ ينفذ فيهم أمره، كان ينتظر أنْ يُفْضَّ فيهم أمره، كان ينتظر أنْ يفضّ الكتاب، ويقرأ خبرهم فإذا

٤٥

بمعاوية يقول: أنا في حَيرة مِنْ أمرهم، فكتب إلى معاوية عاجلاً:

(أمّا بعد: فقد قرأتُ كتابك، وفهمتُ رأيك في حِجْر وأصحابه، فعجبتُ لاشتباه الأمر عليك فيهم، مع شهادة أهل مصرهم عليهم، وهم أعلم بهم، فإنْ كانتْ لك حاجةٌ في هذا المصر، فلا تَرُدَّنَّ حِجْراً وأصحابه إليّ، والسلام).

وقد لمس زيادٌ نقطة الضعف في معاوية، فثبّت في كتابه قوله (فإنْ كانتْ لك حاجةٌ في هذا المصر) ويكفي أنّ معاوية إذا قرأ هذه العبارة سينهار، وينفذ فيهم أمره..

وكان كما اعتقد، فما أنْ وقع نظر معاوية على هذه الفقرة مِنْ كتاب زيادٍ حتّى اربَدّ وجهُه واضطرب، ثمّ صاح لا حاجة بالإطالة في أمرهم اقتلوهم، اقتلوهم إلاّ أنْ يتبرّأوا مِنْ أبي تُراب.

وهرعتْ الجلاوزة إلى (مرج عذراء)، واستقبلهم القوم بقلوبٍ كلها الإيمان، وعقيدةٍ صادقةٍ يبعثها الإخلاص.

أُخِذ حِجْر وجماعته إلى (مرج عذراء) وسيوف البغي مسلولةً على رؤوسهم، حتّى وصلوا تلك القرية، فالتَفَتَ حِجْر إلى الأشجار الباسقِة، والخضرة اليانِعَة، التي تحيط بهذه القرية فحدثتْه نفسه بأشياء وأشياء، وسأل عنها فقالوا له: (مرج عذراء) فالتَفَتَ إلى أصحابه، وقد ارْتَسَمَ عليهم العَجَبُ وقال: الحمد لله، أَمَا والله إنّي لأَوّلُ مُسلمٍ ذَكَرَ اللهَ فيها وسبَّحَهُ، وأَوّلُ مُسلِمٍ

٤٦

نَبَحَ عليه كلابُها في سبيل الله، ثمّ أنا اليوم أُحْمَل إليها أيضاً مُصَفَّداً بالحديد.

ثم قال لإخوانه: قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ((يَا حِجْرُ تُقْتَلُ فِيْ مَحَبَّةِ عَلَيٍّ صَبْرَاً، فَإذَا وَصَلَ رَأْسُكَ إِلَى الأَرْضِ مَادَتْ وَأَنْبَعَتْ عَيْنُ مَاءٍ، فَغَسَلَتْ الرَّأْسَ)).

ومضى حِجْر يُحدّث إخوانه في العقيدة، عَنْ فضيلة الجهاد والصبر على الموت، والمثابرة على المجاهرة في الحقِّ، واسْتَمَعَ الصفوةُ الطيِّبون حديثَ حِجْر، وقلوبهم تشعُّ بالإيمان، وتنبضُ بالعقيدة، وهم لا يبالون أنْ وقعوا على الموت، أو وقع الموت عليهم، ما داموا على الحقِّ.

وأقبل جلاوزة معاوية، وسيوفهم مسلولةٌ، تقطُرُ حِقداً وبُغضاً، واستقبلهم القوم بصدورٍ رَحِبَةً، ووجوهٍ ضاحكةً مستبشِرةً.

وهلعتْ عيونُ الحاقدين، وهم يرَونَ هذه الصفوة لا يرهبها نذيرُ الموت، ولا يأخذ بِلُبِّهِمْ لَمْعُ السيوف، وإذا كان الكبار مِنْهم لا يهابون القتل في سبيل العقيدة والكرامة، فهذا أمرٌ غيرُ مُسْتَغْرَبٍ، ولكنَّ الذي يجلب الأنظار هو التفاني الرائع، الذي تجسّد في هذه المجموعة، وحتّى في الصغار أيضا، وتَقَبُّلُهُمْ للموت وهم في عُمْرِ الورود، تَعْبِقُ أشذاؤهم وتَشُعُّ أوراقهم.

فقد كان مع هذه الصفوة التي أرسلها زياد لقمةً لسيوف الأمويين، شابٌّ قد لَمّعَتْ وجْنَتَيْهِ حمرةُ الشباب ونضارةُ الصبا، ذلك هو (همام) فَلَذَة كَبِد حِجْر، فقد لازم أباه بأمرٍ مِنْ زياد، أصابه قسطٌ مِنَ العذاب مِمّا أصاب أباه وإخوانه. وقابل الفتى

٤٧

هذه الأيام القاسية كما يتحمّلها أيّ رجلٍ كبيرٍ، يحمِل في جَنْبَيه عقيدةً وإيماناً.

وعرض الجلاوزة المرتزِقة أمر معاوية بالقتل على هذه الصفوة، فلم تطفوا على قسماتهم علائم الدهشة والاستغراب، وكأنّهم على موعدٍ مع الحديث، ثم عرض الجلاوزة عَرْضَ معاوية عليهم أَنْ يعفيهم عَنِ القتل، إنْ تَبَرَّؤوا مِنْ موالاة عليّ بن أبي طالبٍ.

إنّ معاوية لا يهمّه أمر الدين، بِقَدْرِ ما يهمّه البراءةُ مِنْ موالاة عليٍّ، فحقده على بيت رسول الله حقدٌ قديمٌ، تثيره نعرات الجاهليّة؛ لذا قرّر أنْ يطلق سراح كلَّ مَنْ يتبرّأ مِنْ عليٍّ، إذْ جعل المقياس الديني هو البراءة مِنْ ابن عمِّ رسول الله وسبِّه، والنيل منه ومِنْ آله. وكأنّه تناسى معاوية ما رُوِيَ عَنِ الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ كلَّ مَنْ شَتَمَ واحداً مِنْ أصحابه، فهو دجّال، وعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين.

ولكنّ هذا الرجل الحاقِد، كان لا يستقر حتّى يَبُح في شتم عليٍّ (عليه السلام) لأَنّه لا يطيق اسم عليٍّ، وذِكْرَهُ.

فقد نقلتْ المصادر: أنّ معاوية سمع مرّة أَنّ عبد الله بن العباس بن عبد المطلب قد رُزِقَ ولداً، فهنَّاه، وسأله عَنِ اسمه وكنيته؟

فقال له: سَمَّيْتُهُ عليّاً، وكنيته أبو الحسن..

فأَرْبَدَ وجه معاوية، وغضب غضباً شديداً، والتفتَ إلى عبد الله بن العبّاس، وهو يصيح، لا تجمع علينا الاسم والكنية، إنْ كان ولابدّ، فاحذف أحدها.

٤٨

هكذا كان برغم الأمويين مع عليٍّ وآل عليّ، وهو يقول: حتّى يربو عليه الصغير، ويهرم عليه الكبير.

فعرض الجلاوزة طلبهم على هؤلاء المحكومين بالإعدام وخابتْ الظنون، وتهشّمتْ الآمال، فقد أنكر حِجْر وجماعته هذا الطلب منهم، وأمطروهم بوابلٍ مِنْ شتْمِ الأمويين.

ولكن رُسُل معاوية قد تعلّموا مِنْ سيِّدهم المباغتةَ والمجامَلةَ، فلمـّا لمْ يَرَوا بُدَّاً مِنْهم أمروا حِجْراً، وإخوانه بأنْ يحفروا لأنفسهم قبوراً.

وطفحتْ البشرى على وجه هذا العبد الصالح، وشكر الله على هذه النعمة، وما أنْ أَتَمّ الجميع عملهم مِنْ حفر قبورهم، اعتقد جماعةُ معاوية أنّ هذا الأمر سيبعث فيهم حبّ البقاء، فكرّروا عليهم عرض معاوية بالبراءة مِنْ عليٍّ فسخِروا مِنْهم، وضحكوا عليهم.

وقدّموا لحِجْرٍ، وصحبه، وولده أكفانهم فلبسوها استعداداً للموت، وصلّوا ركعتين، وما أنْ أتمَّ حِجْرٌ حتّى تقدّم له السيّاف - وولده يقف قبالته - لا يدريان مِنْ سيكون أوّلهما ضحيةً، الأب، أم الابن، وقبل أنْ يرفع السيّاف يدَه أشار إليه حِجْر، فسأله أحدهم عمّا يريد؟ قال له حِجْر: إذا كنتَ قد أمرتَ بقتل ولدي أمْ لا.. قال: نعم إلاّ إذا تبرّأ مِنْ عليٍّ، فالتفتَ حِجْر إلى السيّاف، طالِبَاً أنْ يُنفِّذ الحكم بولده قبله، وكان ما أراد.

كلُّ شيءٍ يمكن التغلّب عليه إلاّ العاطفة، وكلُّ عاطفةٍ يمكن السيطرة عليها، إلاّ عاطفة الأُبوّة والبنوّة. ليس مِنَ السهل أنْ

٤٩

يرى الأَبُ فَلَذَةَ كَبِدِهِ يَلْتَهِمُهُ السيف، وهو راضٍ بهذا، ولكنّ حِجْر فضّل هذا الموقف، وسيطر على أعصابه، وتغلب على عاطفتِهِ في سبيل عقيدته. لماذا؟

لقد سُئِلَ حِجْر، وهو في خِضَمّ الصراع النفسي عَنْ هذا الدافع الداخلي الذي حدا به إلى مثل هذا الطلب العنيف، فأجاب بكلّ صلابةٍ وإيمانٍ: (خفتُ أنْ يرى ولدي هولَ السيف على عنقي، فيرجع عَنْ ولاية عليٍّ (عليه السلام) فلا نجتمع في دار المـُقام، التي وعد الله بها الصابرين).

وتدحرج رأس الفتى أمام عين والده، وتلوّى الجسد اليافِع يبحث في الأرض مِنْ ثُقْل المأساة، والأب الصابر يرمق هذا المنظَر المؤلِم، ويرفع يديه للسماء شاكِراً هذه النعمة. نعمةَ الجهاد والصبر.. إنّ ولده ذَهَبَ، ولمْ يتقاعس عَنْ عقيدته، ويزحَف المـُثْقَل بالحديد إلى الرأس، ينفض عنه الترابَ والدمَ، ويطبع على جبينه قبلةً، يُوْدِعُهَا كَلِمَاً في أعماق الإنسان مِنْ لوعةٍ (بيّض الله وجهك كما بيّضتَ وجهي عِنْد رسول الله).

ما أثبت العقيدة عند حِجْر، وما أركزها في نفسه. منظرٌ داميٌّ تنهار أمامه العواطفُ البشرية، ويتهادى على عتبته الكبرياء، ولكنّ حِجْراً مِنْ نوعٍ آخر، يتمتّع بقابليّةٍ عاليةٍ تكاد تكون فريدةً، لمْ يتمتّع بها إلاّ الصالحون مِنْ عباد الله، واطمأنّ الرجل بعد هذا، وقفزتْ على ثغره ابتسامة الإيمان، وانجابتْ عَنْ صدره ظلمةٌ، كانتْ تنخَر في أعماقه. وجلاوزة معاوية على

٥٠

مَقْرُبَةٍ مِنْ هذا المنظر، ينظرون وفي أعماقهم إكبارٌ وتعظيمٌ لهذه التضحية الغالية. وتقدّم أحدهم مِنْ حِجْر، اعتقاداً منه بأنّ الوقت غَيّر مِنْ نفسه شيئاً، وقال له:

ابرأ مِنْ عليٍّ وقد أَعِدُ لك معاوية جميع ما تريد إنْ فعلتَ، ولكنْ هيهات، فنفسيّة حِجْر أعظم مِنْ أنْ تزعزعها أهوالٌ وأهوالٌ.

ثم التفتَ إلى أصحابه فقال: إذا قُتِلْتُ فلا تفكّوا عنِّي قيودي، ولا تغسِّلوا دمي، وادفنوني في ثيابي، فإنّي أرغب أنْ أُلاقِي معاوية غداً عند الحساب على حالتي.

وتقدم إليه الجلاوزة ونفّذوا فيه أمر طاغيتهم.

وانتهتْ حياة هذا العبد الصالح المجاهد في سبيل عقيدته.

وأُخْبِرَ معاوية بذلك، فَغَمَّ وَعَلَتْهُ موجةُ حُزْنٍ، وتَمْتَمَ: ما أنا وحِجْر لولا أمر زيادٍ، وبقيتْ في نفسه لوعةٌ كانتْ تظهر عليه فيردِّد: (يومي مِنْ حِجْر بن عَدِي يومٌ طويلٌ)، وهكذا تأسفُ الطواغيتُ، ولكنْ حين لا ينفع الندم.

وانعقد مجلس معاوية. وتوافد إليه الناس، فرحين مستبشرين، أو في الحقيقة يحاولون إظهار الفرحة وتصنع الاستبشار أمام معاوية بنصره الكبير، فقد تمكّنَ مِنْ سَحْق العناصر الكبيرة مِنْ مُعارِضيه في الكوفة، بقتل حِجْر وأصحابه.

يا أمير المؤمنين: أَرَأَيْتَ صُنْع الله بأعدائك.

وكتم معاويةُ في نفسه اللوعة، وطبع على شفتيه ظل ابتسامة، ولمْ يحاول أنْ يُجيب.

٥١

فتقدّم آخرٌ إليه، يا معاوية: أصحاب أبي تراب لمْ يبقَ منهم بعد إلاّ النَزْر القليل، ولابدّ لزيادٍ أنْ يقتصَّ آثارهم، ويريح آل أبي سفيان مِنْ ظلهم. ولمْ يُجِبْ معاويةُ، فالصراع في أعماقه كبيرٌ وكبيرٌ.

ويَلحُّ عليه قومُه بالحديث، وهو يحاوِل أنْ يلوذ بالصمتِ، وأخيراً قال: لقد أخبرني الجلاّدون بأنّ حِجْراً لمْ يطمئن حتّى قدّم ولدَه إلى القتل، وشاهد رأسه يتدحرج، هنالك تقدّم السيّاف بنفسه، أتعرفون لماذا فعل الرجل هذا الفعل وأقدم على هذا الأمر الخطير؟

ووَجَمَ الجالسون عن الجواب. إنّه لإقدامٌ كبيرٌ جدّاً.

ونظرات معاوية تدور عليهم، تكاد تعصرهم عصراً، ولمـّا رأى أنّ الجواب خَمَدَ على أفواههم، قال: إنّه فعل ذلك؛ خشية أنْ تأخذَ الرقةُ الطفلَ ويسيطر الخوفُ على مشاعره، فنتمكّن من الاستيلاء عليه، والاستفادة مِنْ معلوماته، لأنّه كان واسطة الارتباط بين أقطاب المعارضة على صغر سِنّه.

هذه هي التضحية في سبيل العقيدة.

ثم التفت إلى جُلاّسِهِ وقال: ولمْ يكنْ هذا هو كلّ الموقف، لقد أخبرني الجلاّدون بِأنّ حِجْراً، وأصحابه حفروا بأنفسهم قبورهم ولبسوا أكفانهم، وتقدّموا للموت بقلوبٍ ثابتةٍ، إيماناً منهم بأنّهم وصاحبهم على الحقّ، وأنّ غيرهم على الباطل.

وسكت معاوية عَنِ الحديث فقد عَلَتْه صفرةٌ داكِنةٌ، ثمّ زفرةٌ، وقال: لو كنتُ أملِك أمثال حِجْر في صحابتي عدداً

٥٢

لتمكّنْتُ أنْ أفرض سيطرة الأمويين مِنْ أول الدنيا إلى آخرها، ولكنْ هيهاتَ وهيهاتَ.

أينَ لي حِجْر وأمثال حِجْر يُضحّون بأنفسهم في سبيل عقيدتهم بكلّ صلابةٍ، كما نراهم يُضحّون.

ثمّ يُغَيِّمُ في موجةِ حزنٍ، ويُتَمْتِم طويلاً يكاد لا يُسمَع، حتّى القريب منه، ثمّ يتعالى ذلك الصدى، وإذا به يقول: (إنّ يومي مِنْ حِجْر بن عَدِي يومٌ طويلٌ).

٥٣

٥٤

عَبْدُ اللهِ بْن بديل

٥٥

٥٦

ونشر الليلُ أبراده، واجتمعتْ مجالس السحر تطوي وحشةَ المساء بحلوِ الحديث، وأهمّ الأخبار.. وكانتْ رَحْبَةُ الكوفة لمْ تَنْسَ بعد حلقاتِ الماضين، وقد جُمِعَتْ عليه الصحابة والتابعين وقد حَصَرَتْ أكثرهم حروب الأيّام، وصراع الحق والباطل، وحقد الأمويين على العلويين.

ولمْ يكنْ ذلك الحِقد بالشيء البسيط الذي يمكنُ أنْ يُقتَلع فتخبو جذوتُه، إنّما عمقه أكثر ممّا يتصوّر، ويمكنُ أنْ نقف على مدى عمقِهِ، عندما نستمع إلى مطرف بن المغيرة بن شعبة - وأبوه أحد أعوان معاوية الأشدّاء - يقول:

(وفدتْ مع أبي - المغيرة - إلى معاوية، فكان أبي يأتيه فيتحدّث عنده، ثمّ ينصرف إلَيّ، فيَذْكُرُ معاويةَ، ويَذْكُرُ عَقْلَهُ، ويعجب مِمّا يرى مِنْه.. حتّى إذا جاء ذات ليلة فأمسَكَ عَنِ العشاء، فرأيتُهُ مُغْتَمَّاً، فانتظرتُهُ ساعةً، وظننتُ أنّه لشيءٍ حَدَثَ فينا، أو في عملنا. فقلتُ له: مالي أراك مُغْتَمَّاً منذ الليلة؟ قال: يا بني إنّي جئتُ مِنْ عِنْد أخبث الناس، قلتُ له: وما ذاك؟ قال: ذهبتُ لمعاوية وقلتُ له وقد خلوتُ به: إنّك قد بلغتَ مُنَاك يا أمير المؤمنين، فلو أظهرتَ عَدْلاً، وبَسَطْتَ خيراً، فإنّك قد كَبُرْتَ، ولو نظرتَ إلى إخوانك مِنْ بني هاشم، فوصلتَ

٥٧

أرحامهم، فو الله ما عندهم اليوم شيءٌ تخافه. فقال لي: (هيهات هيهات، مَلَكَ أخو تَيْمٍ فَعَدَلَ، وفعل ما فعل، فو الله ما عدا أنْ هلك، فهلك ذِكْرُهُ، إلاّ أنْ يقول قائلٌ: أبو بكرٍ. ثمّ مَلَكَ أخو عَدِيّ، فاجتهد، وشَمّرَ عشر سنين فو الله ما عدا أنْ هلك، فهلك ذِكْرُهُ إلاّ أنْ يقول قائلٌ: عُمَر.. ثمّ مَلَكَ أخونا عثمان، فَمَلَكَ رجلٌ لمْ يكنْ أحدٌ في مثل نَسَبِهِ، فَعَمِلَ ما عَمِل، وعُمِلَ به، فو الله ما عدا أنْ هلك، فهلك ذِكْرُهُ، وذِكْرُ ما فُعِلَ بِهِ.. وإنّ أخا هاشم يُصرَخ به في كلّ يومٍ خمسُ مراتٍ أشهد أنّ محمداً رسولُ الله. فأيُّ عَمَلٍ يبقى مع هذا، لا أمّ لك، والله إلاّ دَفْنَاً، دَفْنَاً)..

هكذا كان حقد البيت الأموي بالنسبة لآل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذين فضّلهم اللهُ على العالمين، وجعلهم مِنْ أهل بيتٍ، أذْهَبَ عنه الرِجْسَ، وطَهَّرَهُ تَطْهِيْرَاً..

وسَكَتَ المـُتَحَدِّثُ قليلاً، وهو كأنّه يستعرِض الأحداث في ذهنه، ويتذكرها وينتقي أكثرها عِبرةً..

وضمّتْ الحلقة فيمنْ ضمّتْ عدداً يهمُّهم أخبار الأمجاد مِنْ مدرسة الإمام عليٍّ (عليه السلام) أولئك الذين بلغ بهم الإيمان بهذا البيت الطاهر إلى حدِّ التفاني.. وكان المتحدِّث يقطع أوصال الليل بالحكايات والعِبَر.

وقال: ولْيكنْ حديثنا الليلة عَنْ بطل مِنْ الأبطال، ومؤمِنٍ رائعِ الإيمان ومجاهدٍ بين يَدَي الإمام عليٍّ (عليه السلام) سجّل تأريخه بأنصع صفحةٍ.

٥٨

هو: عبد الله بن بديل بن ورقاء بن عبد العزيز بن ربيعة الخزاعي..

سيّدٌ مِنْ سادات خزاعة، وبطلٌ مِنْ صفّين، وصحابيٌّ رافق القائد الأوّل، رسولَ الله في بعض غزواته: كحُنَيْن، والطائف وتبوك..

وهو لمْ يتخطَّ عتبة الشباب إلاّ بقليلٍ، فقد حمل السلاح مجاهداً بين يدي الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثُمّ انحاز إلى ابن عمِّه عليّ بن أبي طالبٍ، يُتَابِعُهُ متابعةَ الظلّ.

حتّى كان يوم صفّين، وابن بديل فارسٌ مُعلَّم لا يخفى أثره، فإنّ إيمانه بقضيته كانتْ أكبر مِنْ كلِّ شيءٍ لديه، فلا يَهُمّ إذنْ لو تعرّض لمخاطر الحرب، أو تعرّض للموت، ما دام هو الحقّ.

وقبل أنْ تَلتَحِم الجيوش، وتلمع السيوف، وقف هذا الرجل المجاهد خطيباً في قومه، وسيفه مشهورٌ في يده:

(ألا إنّ معاوية ادعى ما ليس له، ونازع الأمر أهلَه، ومَنْ ليس مثله، وجادل بالباطل ليدحض به الحقّ، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب، وزيّنَ لهم الضلالة، وزرع في قلوبهم حبّ الفِتنة، ولبّس عليهم الأُمور، وزادهم رِجساً إلى رِجسهم، وأنتم والله على نورٍ، وبرهانٍ مبينٍ.. قاتِلوا الطغاة الجفاة، قاتلوهم ولا تَخْشَوهم، وكيف تخشوهم، وفي أيديكم كتابُ ربِّكم ظاهرٌ مبينٌ:( أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ) ..

٥٩

لقد قاتَلْتُهُم مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والله ما همْ في هذه بأزكى ولا أتقى، ولا أَبَرَّ، انهضوا إلى عدوِّ الله، وعدوِّكم..).

كانَ معاوية وصَحْب معاوية، وفي مقدَّمتهم عمرو بن العاص، على علمٍ أنّهم على الباطل، ولكنّ الدنيا، وعليها يتكالب المتكالِبون.

فقد نقلتْ الرواية: إنّ معاوية طلب إلى ابن العاص أنْ يُسَوِّي صفوفَ أهل الشام، فقال له عمرو: على أنَّ لي حكمي، إنْ قَتَلَ اللهُ ابن أبي طالب، واستوثقت لك البلاد. فقال معاوية: أليس حكمك في مصر؟ قال ابن العاص: وهل مصر تكون عِوَضَاً عَنِ الجنّة، وقتل ابن أبي طالب ثمناً لعذاب النّار، الذي( لاَ يُفَتّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) ؟ فقال معاوية: إنّ لك حُكْمَكَ أبا عبد الله إنْ قُتِلَ ابن أبي طالب، رويداً لا يسمع أهل الشام كلامك).

وهذا الحوار الذي يحتوي المقايضة بين معاوية وابن العاص، ويعطينا صورةً واضحةً عَنْ مدى إيمان الرجلين بقضيَّتِهم المـُفْتَعَلَةِ، ألا وهي الثأر لعثمان، فلم يكنْ موضوع عثمان إلاّ جسراً نَصَبَهُ معاويةُ وبِطَانَتُهُ، مِنْ أجل البلوغ إلى أهدافهم، ومطامعهم الدنيويّة.

في حين أنّنا نلمـَسُ في أصحاب الإمام عليٍّ الإيمانَ الصحيح، والصدق والإخلاص في أقوالهم، وأفعالهم، وهمْ مِنْ أجل هذا لا يبالون، أَوَقَعَ الموتُ عليهم، أَمْ وقعوا على الموتِ..

٦٠