من مدرسة الإمام علي (عليه السلام)

من مدرسة  الإمام علي (عليه السلام)0%

من مدرسة  الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 189

  • البداية
  • السابق
  • 189 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16901 / تحميل: 5127
الحجم الحجم الحجم
من مدرسة  الإمام علي (عليه السلام)

من مدرسة الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وابن بديل، عندما يندفع هذا الاندفاع لم يكنْ إلاّ مثلاً حياً لأصحاب عليٍّ (عليه السلام) الذي عَرَفوا أبا الحسنين حقّ معرفتِه، وأنّ القتال إلى جانبه واجبٌ، لأنّه إمامُ زمانِهِم، وبيعتُهُ في رَقَبَتِهِم.

بالإضافة إلى أنّ هذه الصفوة مِنْ أصحاب عليٍّ (عليه السلام) كانوا - في الحقيقة - مِثالاً رائعاً في وفائهم، وإيمانهم، ونستطيعُ أنْ نلمسَ الصورةَ الرائعةَ، التي أبرزها أحد أصحاب عليٍّ - وأيضاً - في صِفّين.

ذلك هو: أثال بن حجل بن عامر المذحجي، فقد نادى الأشتر يوماً مِنْ أيّام صِفِّين في أصحابه: أَمَا مِنْ رجلٍ يَشْرِي نفسَه لله؟. فخرج أثال بن حجل بن عامر، فنادى بين العسكريين: هل مِنْ مُبَارِز؟.

فدعا معاوية - وهو لا يعرفه - أباه حجل بن بن عامر - وكان مِنْ أصحابه، فقال: دونك الرجل.. فبرز كلُّ واحدٍ منهما إلى صاحبه، فبدره الشيخُ بِطَعْنَةٍ، وطعنه الغلامُ، وانتسبا فإذا هو ابنه، فنزلا، فاعتنق كلُّ واحدٍ منهما صاحبَه وبَكَيَا، فقال له الأبُ: يا بُنَي، هَلُمَّ إلى الدنيا ؟ فقال له الغلام: يا أبي هَلُمَّ إلى الآخرة.. ثُمّ قال: يا أبتِ، والله لو كان مِنْ رأيي الانصراف إلى أهل الشام، لوجب عليك أنْ يكون مِنْ رأيك لي أنْ تَنْهاني، وَاسَوْأَتَاه. فماذا أقول لعليٍّ وللمؤمنين الصالحين ؟ كُنْ على ما أنت عليه، وأنا على ما أنا عليه.

٦١

فانصرف حجل إلى صفِّ الشام، وانصرف ابنُه أثال إلى أهل العراق، فَخَبَّرَ كلُّ واحدٍ منهما أصحابه.

وقال حجل في ذلك:

إنّ حجل بنَ عامِرٍ وأثالا

أصبحا يُضْرَبَانِ في الأمثالِ

أقْبَلَ الفارسُ المـُدَجَّجُ في النقع

أثالُ يدعو يُريد نِزَالي

دونَ أهلِ العراقِ يَخْطُرُ كالفَحْلِ

على ظَهْرِ هَيْكَلٍ ذيال

فَدَعَانِيْ لَهُ ابنُ هندٍ ومازَالَ

قَلِيْلاً في صَحْبِهِ أَمْثَالِي

فَتَنَاوَلْتُهُ بِبَادِرَةِ الرُمْحِ

وَأَهْوَى بأسمر عسال

فأطعنا وذاك مِنْ حَدَثِ الدهر

عظيمٌ، فتىً بشيخ بجال(١)

شَاجِراً بالقناةِ صدر أبيه

وعزيزٌ عَلَيَّ طعن أثال

لا أُبالي حينَ اعترضتُ أثالا

وأثال كذاك ليس يُبَالِي

فافترقْنا على السلامة

والنفسُ يَقِيْهَا مؤخّرُ الآجالِ

لا يراني على الهدى وأراه

مِنْ هُدَاي على سبيل ضَلالِ

وانتهى الشعرُ إلى أصحاب عليٍّ (عليه السلام) فردّ عليه ولدُهُ أثال قائلاً:

إنَّ طَعْنِيْ وَسْطَ العَجَاجَةِ حِجْلاً

لمْ يكنْ في الذي نَوَيْتُ عقوقا

كنتُ أرجو به الثواب مِنْ الله

وكَوْنِي مَعَ النبيِّ رفيقا..

لمْ أزل أنصر العراق على الشا

م أراني بِفْعْلِ ذاك حقيقا

قال أهلُ العراقِ إذْ عَظُمَ الخطبُ

ونقّ المبارزون نقيقاً

مِنْ فتىً يَسْلُكُ الطريقَ إلى الله

فكنْتُ الذي سَلَكْتُ الطريقا

حاسرُ الرأسِ لا أُريد سوى المو

ت أرى الأعظمَ الجليلَ دقيقا

____________________

(١) البجال: الكبير.

٦٢

فإذا فارسٌ تَقَحَّمَ في الرو

ع حذباً مثل السحوق عَتِيْقَا(١)

فبداني حجلٌ ببادرة الطعن

وما كنتُ قبلها مسبوقا

فتلقّيتُهُ بِعَالِيَة الرمْحِ

كلانا يُطَاوِلُ العيُّوقا

أَحْمُدُ الله ذا الجلالة والقدرة

حمداً يُزيدُني توفيقا

إذ كففتُ السنانَ عنه ولمْ اد

ن فتيلاً منه، ولا تفروقا(٢)

قلت للشيخ: لستُ أكفر نعما

ك لطيف الغذاء والتفنيقا(٣)

غيرَ أَنِّي أخافُ أنْ تدخل النا

ر، فلا تعصني، وكُنْ لي رَفِيْقَا

وكذا قال لي فغرّب تغريباً

وشرّقتُ راجِعاً تشريقا(٤)

ولعلّنا لَمَسْنَا في أبيات أثال مدى الإيمان بعقيدته، وهو مُطْمَئِنٌ تمام الاطمئنان أنّه على الحقّ، ويرجو الثواب مِنْ وراء جهاده هذا.

وكلّ أصحاب عليٍّ (عليه السلام) على وتيرةٍ واحدةٍ، لا فرق بين الصغير والكبير منهم، فإذا ما رأينا أثال، وهو غلام يافع، كما تشير الرواية إلى ذلك، فلا نستغرب بعد ذلك على ابن بديل - وهو الصورة المثلى للإنسان المجاهد، وهو القائد لجيش المشاة لعليٍّ (عليه السلام) - أنْ يضجر مِنْ طول الانتظار للقتال، وأخوه عبد الرحمن إلى جانبه، فيُكَلِّم الإمام في البراز فيوافق، وبرز وزحف ومَنْ مَعَهُ مِنْ جيشه، وعليه درعان، ويحمِلُ سَيْفَيْنِ، وهو يُنْشِدُ:

____________________

(١) الحذب: الضخم. السحوق: النخلة الطويلة.

(٢) التفروق: قمع التمر.

(٣) التفنيق: التنعيم.

(٤) راجع شرح النهج - ابن أبي الحديد: ٢/٤٤٨ - ٤٤٩ .

٦٣

لمْ يبقَ غير الصبر والتوكّل

والتِّرس، والرمح، وسيف مصقل

تم التمشّي في الرعيل الأوّل

مَشْيَ الجمال في حياض المنهل

وحمل ابن بديل ومعه الأبطال الذين بايعوه على الموت يشقون الصفوف يطلبون معاوية، وهو يدفع بإخوانه المقاتلين إلى حيث معاوية، يبغي قتله، وشعر ابنُ أبي سفيان بالخطر فصاح بالجموع المحتشِّدة حوله: ويْلَكُم، الصخر والحجارة إذا عجزتم عَنِ السلاح. فَرَضَخَهُ الناسُ بالصخر والحجارة، حتّى أثخنوه فسقط ، فأقبلوا عليه بسيوفهم فقتلوه.

وجاء معاوية ووقف عليه، وأراد أنْ يُمثِّل به، ومنعه بعضُ مَنْ رافقه، فقال: اكشفوا عَنْ وجهه،فأنّا لا نُمثِّل به قد وهبناه، فكشفوا عَنْ وجهه، فقال معاوية: هذا كبش القوم وربِّ الكعبة، اللهمّ اظفرني بالأشتر، والله ما مَثَل هذا إلاّ كما قال الشاعر:

أَخُوْ الحَرْب إنْ عَضَّتْ بِهِ الحَرْبُ عَضَّهَا

وإنْ شَمَّرتْ عَنْ سَاقِهَا الحربُ شَمّرَا

وَيَحْمِي إذَا مَا المـَوْتُ كانَ لِقَاؤُهُ

قَدَى الشِّبْر يَحْمِي الأنف أنْ يَتَأَخّرا

كليثٍ هِزَبْرٍ كانَ يَحْمِي ذِمَارُهُ

رَمَتْهُ المنايا قَصْرهَا فَتَقَطَّرَا..

وَمَسْحَةٌ مِنْ إعجابً وذهولً رَفَّتْ على سُحْنَة معاوية، وعيناه مَشْرُوْدَتَانِ إلى ابن بديل، وقد مزّقَتْهُ السيوف والحجارة، ثمّ

٦٤

انكفأ، وهو يقول: إنّ نساء خزاعة، لو قدرتْ على أنْ تقاتلني - فضلاً عن رجالها - لفعلت، فكيف بهذا البطل!!

وبلغ النبأ إلى الإمام علي (عليه السلام)، فأسرع إلى ساحة المعركة يكشف المحاربين عَنْ طريقه، حتّى وصل إلى جثمان ابن بديل ووقف عليه متاثِّراً، وهو يشدّ جراحه، واحدةً تلو الأُخرى ثمّ قال:

(جَزَاكُمْ اللهُ خَيْرَاً، أَدَّيْتُمْ مَا عَلَيْكُمْ، وَبَقِيَ مَا عَلَيْنَا).

وإلى جانب آخر مِنَ المعركة كان أخوه عبد الرحمن بن بديل قد وقع قتيلاً في تلك الحملة.

وهكذا تلاقتْ أرواحهما، متعانِقةً تصعد إلى بارئها راضيةً مرضيَةً، وهو جزاء المجاهدين..

وسكتَ المتحدِّث، حيث انقضى مِنَ الليل أكثره، وتعرف السامرون، ولكنّ ذكرى ابن بديل بقِيَتْ كضوء القمر، ينعش الليل بأنواره مِنَ الدهور

٦٥

٦٦

مَيْثًمُ التمَّار

٦٧

٦٨

في مساءٍ ضاحِكٍ مِنْ ليالي الكوفة العامِرة، والناس تتحدّث عَنْ أيّامها وحروبها، وفي مجلسٍ لبني أسد، وقد احتشد القوم فيه يقضون عمر النهار، مرّ فارسٌ وقورٌ عليه طهارة الصالحين وسيماء الزعماء، فاستَقْبله زعيم بني أسد حبيب بن مظاهر، حتّى التقتْ أعناق فرسيهما، وتحدّثا طويلاً، وكأنّ الفراق قد زادهما شوقاً للاجتماع، وتساءلتْ العيون عَنِ القادم؟ فقيل:

إنّه ميثم بن يحيى التمّار صاحب أمير المؤمنين ومِنْ مدرسته الخالدة (عليه السلام) وأمينه على أسراره، يلتقي بزميله في الولاء حبيب بن مظاهر، فزحفتْ الأسماع لهما تَسْتَرِق حديثهما، وكلّها لهفةٌ؛ لمعرفة ما يدور بينهما.

قال حبيبٌ وابتسامة هادئة تتهادى على شفتيه:

(لكأنِّي بشيخٍ أصلع، ضخم البطن، يبيع البطِّيخ عند دار الرزق، قد صلب في حبّ أهل بيت نَبِيِّه، وتُبْقَر بطنُه على الخشبة).

وأشرق وجه ميثم، وهو يستمِع إلى حديث صاحبه وقال:

(وكأنِّي برجلٍ أحمر له ضفيرتان، يخرج لنصرة ابن بنت نَبِيِّه فَيُقْتَل ويُجَال برأسه بالكوفة).

٦٩

وافترق الفارِسان كلّ إلى جِهَةٍ.

وحملق الجالسون، وزموا شفاههم، وحبسوها على بسمةٍ ساخِرَةٍ كادتْ تنطلق لولا احترامهم للزعيم، وضيفه.

وانطلقتْ البسمة الساخرة واضحةً، بعد أنْ غابا عَنِ المجلس وتَهَامَسَ القوم، وقالوا فيما قالوا: (ما رأينا أحداً أكذب مِنْ هذين الفارِسَيْن).

وبينما هم يتحدّثون بهذا ونحوه إذْ أقبل عليهم شيخٌ وقورٌ ذو هيبةٍ وجلالةٍ، فطلب صاحبيه ميثماً وحبيباً، فقيل له إنّهما افترقا وأعادا عليه حديثهما بالتفصيل فضحك، وقال:

(رحم الله ميثماً إنّه نسي أنْ يقول ويزداد في عَطاء الذي يجيء بالرأس مائة درهم) ثمُّ ترك المجلس وذَهَبَ.

وتعالتْ التمتمات، والابتسامات مِنْ جديدٍ، وقال بعضهم: هذا والله أكذبهم.. وتساءل مَنْ يعرفه؟ فقيل له إنّه: رشيد الهجري.

وتفرّق المجلس على حديث هؤلاء الثلاثة، والشكُّ يُخَامِر مَنْ يخامر منهم، وموجةٌ مِنْ استهزاءٍ تطفو على وجوه البعض، مِنْ أُولئك الذين لا يعرفون علاقة هذه الصفوة بالإمام، أو يعرفونها ولا يعرفون واقع الإمام، وتجسّد هذا اللغط حتّى انقلب إلى سؤالٍ واستفهامٍ، قال احدهم يخاطِبُ صاحبه: أرأيتهم كيف أصبحوا يُخْبِرُون بالمـُغَيّبات؟ وكأنِّي بهم عَنْ قريب يدّعون النبوّةَ.

ودارتْ ضِحْكَةٌ ساخِرةٌ وسط القوم، وعلا صوت مِنْ

٧٠

زاوية المجلس - يَنُم عَنْ حقدٍ دفينٍ -: هؤلاء هم أصحاب أبي تراب.

ولكنّ جذور الإيمان لمْ تنعدِم عند بعض الجالسين، مهما انصهروا في دوّامة الزمن، وهم مِمَّنْ صَحِبوا الإمام، ونَهَلُوا مِنْ بعض معارفه، فقد ثقلت عليه هذه السخرية اللاذِعَة، وهذا الأُسلوب النابِي من ان تُلاك به هذه الصفوة مِنْ حواريِّ الإمام فالتفتَ إلى المتكلِّم، وفي نظراته سيلٌ مِنْ عِتَابٍ وقال:

على مَهْلَكَ، لقد ذهبتْ بك الظنون بعيداً بحقِّ هؤلاء. أَمَا كانَ الأجْدَرُ بك أنْ تفكِّر، قليلاً ثُمّ تَحْكُم. إنّي لا اشكّ أَنَّ ما تحدّثَ به ميثم، وحبيب، ورشيد هي أشياء سوف تَحْدُثُ بعد، والإخبار بالمـُغَيّبات مِنْحَةٌ إلهيّةٌ مَنَحَهَا اللهُ أنبيائه، ورسله، والإمام عليٌّ أكثر الناس صِلَةً بابن عمّه رسول الله، وكاتِم سِرّه وأمِيْنه. وأيّ مانِعٍ لرسول الله أنْ يُوقِف عليّاً على أحوال صحابته، ويكشِف له عَنْ هذه الأُمور وأمثالها، وقد رأينا الكثير مِنَ الوقائع التي أشار إليها في كلامه قد تحقَّقَتْ بعد زمانٍ، وعَهْدنا ليس ببعيدٍ بِقصّة (ذي الثدية مِنْ يوم النهروان) وإخباره عَنِ ابن عمّه بأنّ (عمّاراً تقتُلُهُ الفئةُ الباغِيَة) وغير هذا كثيرٌ، فلا تكنْ قاسِيَاً على الصالحين مِنْ عباد الله.. وأشاح الرجل بوجهه عنه حياءً، ودُفِنَتْ الضحكة بين طيّات وجهه المـُتَجَعِّدَة.

وانتشر الحديث، فَنَسِيَهُ قوم، وحَفِظَهُ آخرون، وتَطلَّعوا إلى نتائجه يرقبون ما وراء الأحداث، وما يخبِّئُهُ الغدُ المظلِم، لأمثال هؤلاء مِنْ صحابة عليٍّ، ومشايعيه.

٧١

ومضى زمانٌ، وأقبل زمانٌ، ومرّتْ أحداثٌ، وتَلَتْهَا أحداثٌ، وكان مِنْ أَشَقِّهَا أنْ يتولّى إمارةَ الكوفة عبيدُ الله بن زيادٍ، وكان مِنْ أهمِّ ما تبنّاه هو القضاء على البقيّة الباقية مِنَ الصفوة المـُعَارِضة لسياستهم الأمويّة، بعد أنْ تولّى أبوه مهمّة القضاء على أكثرهم في الكوفة - مهد الإسلام وعاصمة الإمام - وكان لسان البقيّة الباقية ميثم التمّار.

وما كان لميثم، وأصحاب ميثم أنْ يصبروا على أساليب القوم في الحُكْم، ويسكتوا على التلاعب بالأحكام الإسلاميّة، وبمقدَّرات الأُمّة؛ لذا فقد سار ميثم على رأس تظاهرةٍ كبيرةٍ مِنَ المؤمنين، لِيُبَلِّغُوا الوالي مفارقاتِ حُكْمِهِ، وكان هو لسان القوم، وتحدّث ما شاء له الحديث - بصبرٍ وصلابةٍ - وقد أغاظ حديثُه خصمَه اللدود عمرو بن حُرَيْث، فأدنا رأسه مِنْ أميره - والحقد يَنزُّ مِنْ عَيْنَيْهِ - ليهمسَ في أُذُنِهِ:

أصلح الله الأمير أتعرف هذا المـُتَكَلِّم؟

قال ابنُ زيادٍ: لا.

فقال ابنُ حريث: هذا ميثم التمّار، الكذّاب، مولى الكذاب علي بن أبي طالبٍ.

دُهِشَ الأمير الأموي، وشدّ على أسنانه، واستوى جالِسَاً والتَفَتَ إلى ميثم قائلاً: ما يقول؟ وأشار إلى ابن حريث.

قال ميثم: كذب هذا الرجل، بل أنا الصادِق، مولى الصادِق عليّ بن أبي طالبِ، أمير المؤمنين حقّاً، فاحمرّتْ عَيْنَا

٧٢

ابن زيادٍ مِنَ الألم، وصاح بميثم: قُمْ واصعد المِنْبَر، وتبرَّأْ مِنْ عليٍّ واذكر مَسَاوِئُهُ، وإلاّ قطعتُ يديك، ورِجْلَيْك، وصَلَبْتُكَ. فانسابتْ دموعُ ميثم مُنْهَمِرَةً على لِحْيَتِهِ الطاهرة.

وظنّ زيادٌ أنّ هذه الدموع وليدة الخوف والجزع، فالتَفَتَ إليه قائلاً: بَكِيْتَ مِنَ القول دون الفعل؟

فقال: والله ما بكيتُ مِنَ القول، ولا مِنَ الفعل، ولكنْ بكيتُ مِنْ شَكّ ٍخامرني يوم أخبرني سيِّدي ومولاي.

فافتعل ابنُ زيادٍ ابتسامةً وقال: وما قال لك صاحِبُك؟

قال ميثم: قال إمامي عليٌّ (عليه السلام): ((وَاللهِ لَيُقْطَعَنَّ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ، وَلِسَانُكَ، وَلَتُصْلَبَنَّ عَاشِرَ عَشْرَةٍ، أَقْصَرُهُمْ خَشَبَة وَأَقْرَبُهُمْ مِنَ المـُطَهَّرَةِ، وَتُعَلَّقُ عَلَى بَابِ عَمْرو بْنَ حُرَيْث))، فقلتُ: ومَنْ يفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين؟ قال: ((يَأْخُذُكَ العُتُلُّ الزَّنِيْمُ ابْنُ الأَمَةِ الفَاجِرَةِ عَبْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ)).

واستشاط ابن زيادٍ غضباً، واحتَقَنَ وجهه، ونَطَّتْ عروقُهُ، وصرخ قائلاً: لِنُخَالِفُهُ ونُكذِّب صاحبَك. قال ميثم: كيف تخالفه؟ والله ما أخبرني إلاّ عَنِ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولقد عرفتُ الموضع الذي أصلب فيه، وأنّي أوّل خّلْقِ الله أُلْجَمُ في الإسلام.

فقال عبيد الله: والله لأَقْطَعَنَّ يديك، ورجليك، ولأَدَعَنَّ لسانَك؛ حتّى أُكذِّبُكَ، وأُكذِّبُ مولاك، وزحف عبيد الله مِنْ على سريره، وهو يهدر من الغضب، وصاح بجلاّدِيْه اقطعوا يَدَيْه ورجلَيْه وأَرِيْحُوْنِي مِنْه، وكان ما أراد.

٧٣

ثُمّ أمر بإخراجه وصَلْبِهِ على باب عمرو بن حريث، واحتشد الناس على ميثم، وهو يعالِج جِرَاحه، وطافتْ في نفسه أُمْنِيَاتٌ كما دارتْ برأسه أفكارٌ، وأفكارٌ، وتصارع في نفسه عامِلان: حَقّ وباطل. لقد لاقى كلَّ هذا الضيم؛ لأنّه مِنْ شيعة عليٍّ.. وبولائه نال هذا الجزاء الصارِم، والآنَ وقد وصل إلى هذا الحدِّ، والموتُ قد تجسّد له، وقد أَنْشَبَ أنيابه فيه، وبَيْنَهُ وبين النهاية المـُظْلِمَة كلمةٌ تُنِيْرُ الدنيا، في خِضَمِّ الحياة الأمويّة السوداء، وإنْ كان قد فقد يديه ورجليه، ولكنّ إيمان الرجل بعقيدته، وإخلاصه لإمامه، وصدقه في موقفه.. كلّ هذه العوامِل كانتْ أقوى مِنْ وَسَاوِس لَمْ تَلْقَ مكاناً في نفس هذا الإنسان المتفاني في حبّ آل البيت.

ولمس في نفسه بقايا مِنْ عزمٍ، فصمَّمَ أنْ لا يدعها تذهب سُدَى، وقرَّرَ أنْ يختِمَها بذكر فضائل الإمام عليٍّ (عليه السلام)، وهَدَرَ كالبُرْكَان يُحَدِّثُ الناس عَنْ فضائل عليٍّ وعدلِه، ما وسعه البيان، والناس تستمع وتودِّعُهُ بكلّ إكبارٍ وتقديرٍ.

وسمع عمرو بن حريث هذا الموقف الصارِخ - والذي بطبيعته يجلب انتباه المستمعين - فاضطرب، وهرول عائداً إلى مجلس أميره، وقد عَلَتْ وجهَهُ صُفْرَةٌ باهِتَةٌ، ووقف قِبَالَة ابن زيادٍ، يَلْهَثُ مِنَ الإعياء، ودهش الطاغيةُ لأمْرِهِ، وما ارتسم عليه مِنْ خوفٍ، واضطرابٍ، وصاح به: مالك يابن حريث، هل وقعتْ الواقعة؟ ماذا وراءك قل ولا تنتظر؟

وتدحرجتْ الكلماتُ مِنْ فَمِ ابن حريث ساهِمَةً وَاجِمَةً:

٧٤

أصلح الله الأمير، بَادِرْ إلى ميثم، مَنْ يقطعُ لِسَانَهُ ويُرِيْحُ بني أُميّة منه، فإنِّي لستُ آمناً أنْ تتغيّر قلوبُ أهل الكوفة فينقلبوا عليك، لقد أخذ يتحدّث عَنْ فضائل عليٍّ، ويذكِّر الناسَ بِعَدْلِه، وحُكْمه وقُرْبِهِ مِنْ رسول الله.

وهال ابنُ زيادٍ هذا الأمر، وجَنَّ جُنُونَهُ، وأمر بسيّاف أنْ يُبَادر لِقَطْعِ لِسَانه، وبعد لأي قصير وصل السيّاف إلى ميثم والناس تبتعد عَنْه رُعْباً، وعيونهم تهرع خلفه تطلُّعاً، ووقف قبالة ميثم، وغرق في تفكيرٍ، وتَمْتَمَ في نفسه:

ماذا يخيفك يا أمير مِنْ هذا الجريح الذي سيلفظ أنفاسه بعد قليلٍ.

ولَمْ يُطِلْ التفكيرَ بالجلاّد. بل تقدّم إليه، وألقى عليه أمر ابن زيادٍ، فأشرق وجهُ ميثم، وتَهَلَّلَتْ أساريرُه، وأعجب الحاضرون منه، فشعر الجريح بهذا المعنى، فقال: لا تعجبوا لقد زعم ابن الأَمَة الفاجِرة عبيد الله أنْ يُكَذِّبَنِي، ويكذِّب مولاي، لقد خاب ظنُّه، وتاه فأله، هاك لساني يا سيّاف ونفِّذْ فيه أمر أميرك، وسيجزي الله الصابرين.

ونُفِّذَ ما أراد.

ومرّتْ على ميثم ساعةٌ يعالِجُ نفسه، ورغم آلامِهِ لَمْ يتغيَّر في صلابته، ثُمّ أسلم نفسه إلى ربِّه شاكِيَاً ظلمـَ الأمويين وجور طُغَاتِهِم.

ونَشَرَ الليلُ أبرادَه حزينةً كئيبةً قد اتَّشَحَتْ أبرادها بحمرة الدم، وتحدّث القوم في مجالس الكوفة، لقد صدق زعيم بني أسد،

٧٥

حبيب بن مظاهر بقوله: (لَكأَنِّي بشيخٍ أصلع، ضخم البطن يبيع البطِّيخ عند دار الرزق، قد صُلِبَ في حبِّ أهل بيت نبيه، تُبْقَر بطنُه على الخشبة).

وحسب القوم أنّ ميثماً مات، وانتهتْ أخباره. وخاب ظنُّهم، فإنّ ذكرى ميثم باقيةٌ مع الشمس لا تبلى، لأنّ صاحبها مِمَّنْ أخلص لعقيدته، وجاهد في سبيلها، ووقف في وجه الظالمين دون خشيةٍ ورهبةٍ، آثر الآخرةَ على الدنيا، فقال كلمتَه بصدقٍ ووفاءٍ، وعَزْمٍ..

٧٦

عَمْرو بْن الحَمِق

٧٧

٧٨

كانتْ صفوةٌ مِنَ الكوفة قد عاهدتْ الله أنْ تَخْلُصَ في إسلامها، وتحفظَ لرسوله غَيْبَتَه في أهل بيته، تُدَافِعُ عَنْ كرامتهم مهما كلَّفهم الأمر.

واجتمع سمَّار الكوفة يوماً في جُنْحِ الليل، يتّخِذون مِنْ رُحْبَة مسجدها مكاناً لسمرهم، يقطعون به ثُقْلَ الليل الجاثِم بِرَهْبَتِهِ وسوادِه.

وكانَ الحُكْمَ حينذاك قد آل لمعاوية بعد صُلْحِ الحسن (عليه السلام) وأعلنَ زعيمُ الأمويين ابن أبي سفيان عَمّا يُكِنُّهُ مِنْ روحٍ حاقِدةٍ تَحْمِلُ كلَّ معاني الحِقْد تجاه عليٍّ، وأهل بيته (عليهم السلام).

وينعقدُ مجلسٌ يضمُّ صفوةً مِنَ الكوفيين في ليلةٍ داكِنَةٍ، يتصيَّدون بها أخبار معاوية، وأحداثه الجديدة، وظلّ مِنْ وجومٍ لا يفارق ذلك المجلس.

ماذا عندك يا أبا عبد الرحمن مِنْ جديدٍ؟.

ويَلتفِتُ حِجْر بن عَدِي إلى سائله عمرو بن الحَمِق الخُزاعي قائلاً له:

لقد علمتُ اليوم أنّ معاوية وَلَّى على الكوفة المغيرةَ بن شعبة، وأوصاه بمطاردتنا والتنكيل بِنَا، وإنْزال أقسى العقوبات في حَقِّنَا.

٧٩

وضحك الجميع، وغمز كلٌّ للآخر يذكِّره، بأنّ يومَه لَقريبٌ.

وتَمُرُّ أيّام ليستْ بالطويلة المديدة، وإذا بالوالي الجديد يَصِل الكوفة، ويُسَلِّم عليه الناس، وهو يُحَدِّقُ في القادِمِين، وشِلَّةٌ مِنْ حَوْلِهِ تُعَرِّفُهُ بالقَوم، وتزوِّدُهُ بالمعلومات، وإنْ كانتْ كَذِبَاً، وهو يَهِزُّ رأسَه علامةَ القبول والتصديق.

وفي زَحْمَةِ المـُرَحِّبِين تدخلُ جماعةٌ، وعلى وجوهها شيءٌ مِنَ الضيق، وتُسَلِّمُ على الوالي، ولمْ تَزِدْ في التملُّق له، ولمْ تَطُلْ المـَكْثَ عنده، وغادروا مَجْلِس المغيرة، وعيون المرتزِقَة مِنْ حوله، وحاشيته تُمَهِّدُ أطماعها، فتسيل في أَخْيِلَتِهَا ذهباً وهّاجاً تَدَّخِرُهُ على أجداث هذه الصفوة الطاهِرَة.

ويَقِفُ كوفيٌّ، وهو يحاول أن يَظْهَرَ بمظهرِ الجدِّ والرَّزَانَةِ، ويهمس في أُذُنِ المغيرة: أَعَرَفْتَهُمْ يا أمير؟ إنّ هؤلاء هُمْ صحابة أبي ترابٍ، ولا تَنْسَ وصيةَ معاوية فيهم. وقبل أنْ يَتِمَّ كلامه حتّى وقف إلى جانبه عمرو بن حريث، يَحْمِلُ المغيرةَ على هذه الصحابة بأُسلوبٍ آخر، ولونٍ أَشَد.

ويمتدُّ الزمنُ قليلاً بحياة الوالي، وتبدأُ الخطوط الأُولى مِنَ المعارضة لسياسته، فهو لا يفتأ أنْ يُنَفِّذَ أمر سيِّده معاوية، في كلِّ مناسبةٍ يَسُبّ عليّاً وأصحابَه، إرضاءاً لابن آكلة الأكباد. ومِنْ جانبٍ آخر أخذ دُعاةُ الإسلام وصحابتُهُ تَجْهَرُ بالمعارضة له، وتقابله بنكران أعمال معاوية والأمويين.

حتّى كانتْ ليلةٌ، اجتمعوا فيها، فأخبرهم عمرو بن الحَمِق:

٨٠