كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١٧

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 286

كتاب شرح نهج البلاغة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف:

الصفحات: 286
المشاهدات: 39840
تحميل: 4249


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 286 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39840 / تحميل: 4249
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 17

مؤلف:
العربية

فكوني على الواشين لداء شغبة

كما أنا للواشي ألد شغوب

قال بل أكون كما قال القائل:

و إذا الواشي وشى يوما بها

نفع الواشي بما جاء يضر

و قال العباس بن الأحنف:

ما حطك الواشون من رتبة

عندي و لا ضرك مغتاب

كأنهم أثنوا و لم يعلموا

عليك عندي بالذي عابوا

قوله ع و لا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل و يعدك الفقر مأخوذ من قول الله تعالى( اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اَللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً ) قال المفسرون الفحشاء هاهنا البخل و معنى يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ يخيل إليكم أنكم إن سمحتم بأموالكم افتقرتم فيخوفكم فتخافون فتبخلون قوله ع فإن البخل و الجبن و الحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله كلام شريف عال على كلام الحكماء يقول إن بينها قدرا مشتركا و إن كانت غرائز و طبائع مختلفة و ذلك القدر المشترك هو سوء الظن بالله لأن الجبان يقول في نفسه إن أقدمت قتلت و البخيل يقول إن سمحت و أنفقت افتقرت و الحريص يقول إن لم أجد و أجتهد و أدأب فاتني ما أروم و كل هذه الأمور ترجع إلى سوء الظن بالله و لو أحسن الظن الإنسان بالله و كان يقينه صادقا لعلم أن الأجل مقدر و أن الرزق مقدر و أن الغنى و الفقر مقدران و أنه لا يكون من ذلك إلا ما قضى الله تعالى كونه

٤١

شَرُّ إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ لِلْأَشْرَارِ لِلْأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً وَ مَنْ شَرِكَهُمْ فِي اَلآْثَامِ فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ اَلْأَثَمَةِ وَ إِخْوَانُ اَلظَّلَمَةِ وَ أَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ اَلْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَ نَفَاذِهِمْ وَ لَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وَ أَوْزَارِهِمْ وَ آثَامِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ وَ لاَ آثِماً عَلَى إِثْمِهِ أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَئُونَةً وَ أَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً وَ أَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً وَ أَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً فَاتَّخِذْ أُولَئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَ حَفَلاَتِكَ ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ اَلْحَقِّ لَكَ وَ أَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اَللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ نهاه ع ألا يتخذ بطانة قد كانوا من قبل بطانة للظلمة و ذلك لأن الظلم و تحسينه قد صار ملكة ثابتة في أنفسهم فبعيد أن يمكنهم الخلو منها إذ قد صارت كالخلق الغريزي اللازم لتكرارها و صيرورتها عادة فقد جاءت النصوص في الكتاب و السنة بتحريم معاونة الظلمة و مساعدتهم و تحريم الاستعانة بهم فإن من استعان بهم كان معينا لهم قال تعالى( وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ اَلْمُضِلِّينَ عَضُداً ) و قال( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ ) و جاء في الخبر المرفوع ينادى يوم القيامة أين من بري لهم أي الظالمين قلما

٤٢

أتي الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج فقال له ما تقول في الحجاج قال و ما عسيت أن أقول فيه هل هو إلا خطيئة من خطاياك و شرر من نارك فلعنك الله و لعن الحجاج معك و أقبل يشتمهما فالتفت الوليد إلى عمر بن عبد العزيز فقال ما تقول في هذا قال ما أقول فيه هذا رجل يشتمكم فإما أن تشتموه كما شتمكم و إما أن تعفوا عنه فغضب الوليد و قال لعمر ما أظنك إلا خارجيا فقال عمر و ما أظنك إلا مجنونا و قام فخرج مغضبا و لحقه خالد بن الريان صاحب شرطة الوليد فقال له ما دعاك إلى ما كلمت به أمير المؤمنين لقد ضربت بيدي إلى قائم سيفي أنتظر متى يأمرني بضرب عنقك قال أ و كنت فاعلا لو أمرك قال نعم فلما استخلف عمر جاء خالد بن الريان فوقف على رأسه متقلدا سيفه فنظر إليه و قال يا خالد ضع سيفك فإنك مطيعنا في كل أمر نأمرك به و كان بين يديه كاتب للوليد فقال له ضع أنت قلمك فإنك كنت تضر به و تنفع اللهم إني قد وضعتهما فلا ترفعهما قال فو الله ما زالا وضيعين مهينين حتى ماتا و روى الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين قال لما خالط الزهري السلطان كتب أخ له في الدين إليه عافانا الله و إياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو الله لك و يرحمك فقد أصبحت شيخا كبيرا و قد أثقلتك نعم الله عليك بما فهمك من كتابه و علمك من سنة نبيه و ليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء فإنه تعالى قال( لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ ) و اعلم أن أيسر ما ارتكبت و أخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم و سهلت سبيل الغي بدنوك إلى من لم يؤد حقا و لم يترك باطلا حين أدناك اتخذوك أبا بكر قطبا تدور

٤٣

عليه رحى ظلمهم و جسرا يعبرون عليه إلى بلائهم و معاصيهم و سلما يصعدون فيه إلى ضلالتهم يدخلون بك الشك على العلماء و يقتادون بك قلوب الجهلاء فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك و ما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا من حالك و دينك و ما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا اَلصَّلاةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) يا أبا بكر إنك تعامل من لا يجهل و يحفظ عليك من لا يغفل فداو دينك فقد دخله سقم و هيئ زادك فقد حضر سفر بعيد و( ما يخفى على الله من شي‏ء في الأرض و لا في السماء ) و السلام : وَ الْصَقْ بِأَهْلِ اَلْوَرَعِ وَ اَلصِّدْقِ ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلاَّ يُطْرُوكَ وَ لاَ يَبْجَحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ فَإِنَّ كَثْرَةَ اَلْإِطْرَاءِ تُحْدِثُ اَلزَّهْوَ وَ تُدْنِي مِنَ اَلْعِزَّةِ وَ لاَ يَكُونَنَّ اَلْمُحْسِنُ وَ اَلْمُسِي‏ءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لِأَهْلِ اَلْإِحْسَانِ فِي اَلْإِحْسَانِ وَ تَدْرِيباً لِأَهْلِ اَلْإِسَاءَةِ وَ أَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ

٤٤

قوله و الصق بأهل الورع كلمة فصيحة يقول اجعلهم خاصتك و خلصاءك قال ثم رضهم على ألا يطروك أي عودهم ألا يمدحوك في وجهك و لا يبجحوك بباطل لا يجعلوك ممن يبجح أي يفخر بباطل لم يفعله كما يبجح أصحاب الأمراء الأمراء بأن يقولوا لهم ما رأينا أعدل منكم و لا أسمح و لا حمى هذا الثغر أمير أشد بأسا منكم و نحو ذلك و قد جاء

في الخبر احثوا في وجوه المداحين التراب و قال عبد الملك لمن قام يساره ما تريد أ تريد أن تمدحني و تصفني أنا أعلم بنفسي منك و قام خالد بن عبد الله القسري إلى عمر بن عبد العزيز يوم بيعته فقال يا أمير المؤمنين من كانت الخلافة زائنته فقد زينتها و من كانت شرفته فقد شرفتها فإنك لكما قال القائل:

و إذا الدر زان حسن وجوه

كان للدر حسن وجهك زينا

فقال عمر بن عبد العزيز لقد أعطي صاحبكم هذا مقولا و حرم معقولا و أمره أن يجلس و لما عقد معاوية البيعة لابنه يزيد قام الناس يخطبون فقال معاوية لعمرو بن سعيد الأشدق قم فاخطب يا أبا أمية فقام فقال أما بعد فإن يزيد ابن أمير المؤمنين أمل تأملونه و أجل تأمنونه إن افتقرتم إلى حلمه وسعكم و إن احتجتم إلى رأيه أرشدكم و إن اجتديتم ذات يده أغناكم و شملكم جذع قارح سوبق فسبق و موجد فمجد

٤٥

و قورع فقرع و هو خلف أمير المؤمنين و لا خلف منه فقال معاوية أوسعت يا أبا أمية فاجلس فإنما أردنا بعض هذا

و أثنى رجل على علي ع في وجهه ثناء أوسع فيه و كان عنده متهما فقال له أنا دون ما تقول و فوق ما في نفسك و قال ابن عباس لعتبة بن أبي سفيان و قد أثنى عليه فأكثر رويدا فقد أمهيت يا أبا الوليد يعني بالغت يقال أمهى حافر البئر إذا استقصى حفرها فأما قوله ع و لا يكونن المحسن و المسي‏ء عندك بمنزلة سواء فقد أخذه الصابي فقال و إذا لم يكن للمحسن ما يرفعه و للمسي‏ء ما يضعه زهد المحسن في الإحسان و استمر المسي‏ء على الطغيان و قال أبو الطيب:

شر البلاد بلاد لا صديق بها

و شر ما يكسب الإنسان ما يصم

و شر ما قبضته راحتي قنص

شهب البزاة سواء فيه و الرخم

و كان يقال قضاء حق المحسن أدب للمسي‏ء و عقوبة المسي‏ء جزاء للمحسن : وَ اِعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ وَالٍ رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَ تَخْفِيفِهِ اَلْمَئُونَاتِ عَلَيْهِمْ وَ تَرْكِ اِسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ اَلظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ فَإِنَّ حُسْنَ اَلظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلاً وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ

٤٦

وَ لاَ تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ وَ اِجْتَمَعَتْ بِهَا اَلْأُلْفَةُ وَ صَلَحَتْ عَلَيْهَا اَلرَّعِيَّةُ وَ لاَ تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ مَاضِي تِلْكَ اَلسُّنَنِ فَيَكُونَ اَلْأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا وَ اَلْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا وَ أَكْثِرْ مُدَارَسَةَ اَلْعُلَمَاءِ وَ مُنَاقَشَةَ اَلْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلاَدِكَ وَ إِقَامَةِ مَا اِسْتَقَامَ بِهِ اَلنَّاسُ قَبْلَكَ خلاصة صدر هذا الفصل أن من أحسن إليك حسن ظنه فيك و من أساء إليك استوحش منك و ذلك لأنك إذا أحسنت إلى إنسان و تكرر منك ذلك الإحسان تبع ذلك اعتقادك أنه قد أحبك ثم يتبع ذلك الاعتقاد أمر آخر و هو أنك تحبه لأن الإنسان مجبول على أن يحب من يحبه و إذا أحببته سكنت إليه و حسن ظنك فيه و بالعكس من ذلك إذا أسأت إلى زيد لأنك إذا أسأت إليه و تكررت الإساءة تبع ذلك اعتقادك أنه قد أبغضك ثم يتبع ذلك الاعتقاد أمر آخر و هو أن تبغضه أنت و إذا أبغضته انقبضت منه و استوحشت و ساء ظنك به قال المنصور للربيع سلني لنفسك قال يا أمير المؤمنين ملأت يدي فلم يبق عندي موضع للمسألة قال فسلني لولدك قال أسألك أن تحبه فقال المنصور يا ربيع إن الحب لا يسأل و إنما هو أمر تقتضيه الأسباب قال يا أمير المؤمنين و إنما أسألك أن تزيد من إحسانك فإذا تكرر أحبك و إذا أحبك أحببته فاستحسن

٤٧

المنصور ذلك ثم نهاه عن نقض السنن الصالحة التي قد عمل بها من قبله من صالحي الأمة فيكون الوزر عليه بما نقض و الأجر لأولئك بما أسسوا ثم أمره بمطارحة العلماء و الحكماء في مصالح عمله فإن المشورة بركة و من استشار فقد أضاف عقلا إلى عقله و مما جاء في معنى الأول قال رجل لإياس بن معاوية من أحب الناس إليك قال الذين يعطوني قال ثم من قال الذين أعطيهم و قال رجل لهشام بن عبد الملك إن الله جعل العطاء محبة و المنع مبغضة فأعني على حبك و لا تعني في بغضك : وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَلرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْضٍ وَ لاَ غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فَمِنْهَا جُنُودُ اَللَّهِ وَ مِنْهَا كُتَّابُ اَلْعَامَّةِ وَ اَلْخَاصَّةِ وَ مِنْهَا قُضَاةُ اَلْعَدْلِ وَ مِنْهَا عُمَّالُ اَلْإِنْصَافِ وَ اَلرِّفْقِ وَ مِنْهَا أَهْلُ اَلْجِزْيَةِ وَ اَلْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ اَلذِّمَّةِ وَ مُسْلِمَةِ اَلنَّاسِ وَ مِنْهَا اَلتُّجَّارُ وَ أَهْلُ اَلصِّنَاعَاتِ وَ مِنْهَا اَلطَّبَقَةُ اَلسُّفْلَى مِنْ ذَوِي اَلْحَاجَاتِ وَ اَلْمَسْكَنَةِ وَ كُلٌّ قَدْ سَمَّى اَللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ وَ وَضَعَ عَلَى حَدِّهِ وَ فَرِيضَتِهِ فَرِيضَةً فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ص عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اَللَّهِ حُصُونُ اَلرَّعِيَّةِ وَ زَيْنُ اَلْوُلاَةِ وَ عِزُّ اَلدِّينِ وَ سُبُلُ اَلْأَمْنِ وَ لَيْسَ تَقُومُ اَلرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِهِمْ ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اَللَّهُ لَهُمْ مِنَ اَلْخَرَاجِ اَلَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ وَ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَ يَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِهَذَيْنِ اَلصِّنْفَيْنِ إِلاَّ بِالصِّنْفِ اَلثَّالِثِ مِنَ اَلْقُضَاةِ وَ اَلْعُمَّالِ

٤٨

وَ اَلْكُتَّابِ لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ اَلْمَعَاقِدِ وَ يَجْمَعُونَ مِنَ اَلْمَنَافِعِ وَ يُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ اَلْأُمُورِ وَ عَوَامِّهَا وَ لاَ قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلاَّ بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِي اَلصِّنَاعَاتِ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ وَ يُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ وَ يَكْفُونَهُمْ مِنَ اَلتَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ مِمَّا مَا لاَ يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ ثُمَّ اَلطَّبَقَةُ اَلسُّفْلَى مِنْ أَهْلِ اَلْحَاجَةِ وَ اَلْمَسْكَنَةِ اَلَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَ مَعُونَتُهُمْ وَ فِي اَللَّهِ لِكُلٍّ سَعَةٌ وَ لِكُلٍّ عَلَى اَلْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ وَ لَيْسَ يَخْرُجُ اَلْوَالِي مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اَللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِالاِهْتِمَامِ وَ اَلاِسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَ تَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَى لُزُومِ اَلْحَقِّ وَ اَلصَّبْرِ عَلَيْهِ فِيمَا خَفَّ عَلَيْهِ أَوْ ثَقُلَ قالت الحكماء الإنسان مدني بالطبع و معناه أنه خلق خلقة لا بد معها من أن يكون منضما إلى أشخاص من بني جنسه و متمدنا في مكان بعينه و ليس المراد بالمتمدن ساكن المدينة ذات السور و السوق بل لا بد أن يقيم في موضع ما مع قوم من البشر و ذلك لأن الإنسان مضطر إلى ما يأكله و يشربه ليقيم صورته و مضطر إلى ما يلبسه ليدفع عنه أذى الحر و البرد و إلى مسكن يسكنه ليرد عنه عادية غيره من الحيوانات و ليكون منزلا له ليتمكن من التصرف و الحركة عليه و معلوم أن الإنسان وحده لا يستقل بالأمور التي عددناها بل لا بد من جماعة يحرث بعضهم لغيره الحرث و ذلك الغير يحوك للحراث الثوب و ذلك الحائك يبني له غيره المسكن و ذلك البناء يحمل له

٤٩

غيره الماء و ذلك السقاء يكفيه غيره أمر تحصيل الآلة التي يطحن بها الحب و يعجن بها الدقيق و يخبز بها العجين و ذلك المحصل لهذه الأشياء يكفيه غيره الاهتمام بتحصيل الزوجة التي تدعو إليها داعية الشبق فيحصل مساعدة بعض الناس لبعض لو لا ذلك لما قامت الدنيا فلهذا معنى قوله ع إنهم طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض و لا غناء ببعضها عن بعض ثم فصلهم و قسمهم فقال منهم الجند و منهم الكتاب و منهم القضاة و منهم العمال و منهم أرباب الجزية من أهل الذمة و منهم أرباب الخراج من المسلمين و منهم التجار و منهم أرباب الصناعات و منهم ذوو الحاجات و المسكنة و هم أدون الطبقات ثم ذكر أعمال هذه الطبقات فقال الجند للحماية و الخراج يصرف إلى الجند و القضاة و العمال و الكتاب لما يحكمونه من المعاقد و يجمعونه من المنافع و لا بد لهؤلاء جميعا من التجار لأجل البيع و الشراء الذي لا غناء عنه و لا بد لكل من أرباب الصناعات كالحداد و النجار و البناء و أمثالهم ثم تلي هؤلاء الطبقة السفلى و هم أهل الفقر و الحاجة الذين تجب معونتهم و الإحسان إليهم و إنما قسمهم في هذا الفصل هذا التقسيم تمهيدا لما يذكره فيما بعد فإنه قد شرع بعد هذا الفصل فذكر طبقة طبقة و صنفا صنفا و أوصاه في كل طبقة و في كل صنف منهم بما يليق بحاله و كأنه مهد هذا التمهيد كالفهرست لما يأتي بعده من التفصيل

٥٠

فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ وَ أَطْهَرَهُمْ أَنْقَاهُمْ جَيْباً وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ اَلْغَضَبِ وَ يَسْتَرِيحُ إِلَى اَلْعُذْرِ وَ يَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ وَ يَنْبُو عَلَى اَلْأَقْوِيَاءِ وَ مِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ اَلْعُنْفُ وَ لاَ يَقْعُدُ بِهِ اَلضَّعْفُ ثُمَّ اِلْصَقْ بِذَوِي اَلْمُرُوءَاتِ وَ اَلْأَحْسَابِ وَ أَهْلِ اَلْبُيُوتَاتِ اَلصَّالِحَةِ وَ اَلسَّوَابِقِ اَلْحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ اَلنَّجْدَةِ وَ اَلشَّجَاعَةِ وَ اَلسَّخَاءِ وَ اَلسَّمَاحَةِ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ اَلْكَرَمِ وَ شُعَبٌ مِنَ اَلْعُرْفِ ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ اَلْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا وَ لاَ يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْ‏ءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ وَ لاَ تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَ إِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ اَلنَّصِيحَةِ لَكَ وَ حُسْنِ اَلظَّنِّ بِكَ وَ لاَ تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ اِتِّكَالاً عَلَى جَسِيمِهَا فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَ لِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لاَ يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ وَ لْيَكُنْ آثَرُ رُءُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ وَ أَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ بِمَا يَسَعُهُمْ وَ يَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ اَلْعَدُوِّ فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ وَ إِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ اَلْوُلاَةِ اِسْتِقَامَةُ اَلْعَدْلِ فِي اَلْبِلاَدِ وَ ظُهُورِ مَوَدَّةِ اَلرَّعِيَّةِ و إِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاَّ بِسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ وَ لاَ تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلاَّ بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلاَةِ أُمُورِهِمْ اَلْأُمُورِ وَ قِلَّةِ اِسْتَثْقَالِ دُوَلِهِمْ وَ تَرْكِ اِسْتِبْطَاءِ اِنْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ وَ وَاصِلْ مِنْ فِي حُسْنِ اَلثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَ تَعْدِيدِ مَا أَبْلَى ذَوُو اَلْبَلاَءِ

٥١

مِنْهُمْ فَإِنَّ كَثْرَةَ اَلذِّكْرِ لِحُسْنِ فِعَالِهِمْ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ اَلشُّجَاعَ وَ تُحَرِّضُ اَلنَّاكِلَ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ ثُمَّ اِعْرِفْ لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَى وَ لاَ تَضُمَّنَّ بَلاَءَ اِمْرِئٍ إِلَى غَيْرِهِ وَ لاَ تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلاَئِهِ وَ لاَ يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ اِمْرِئٍ إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا كَانَ صَغِيراً وَ لاَ ضَعَةُ اِمْرِئٍ إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا كَانَ عَظِيماً وَ اُرْدُدْ إِلَى اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ اَلْخُطُوبِ وَ يَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ اَلْأُمُورِ فَقَدْ قَالَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى لِقَوْمٍ أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ( يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَلرَّسُولِ ) فَالرَّدُّ إِلَى اَللَّهِ اَلْأَخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ وَ اَلرَّدُّ إِلَى اَلرَّسُولِ اَلْأَخْذُ بِسُنَّتِهِ اَلْجَامِعَةِ غَيْرِ اَلْمُفَرِّقَةِ هذا الفصل مختص بالوصاة فيما يتعلق بأمراء الجيش أمره أن يولى أمر الجيش من جنوده من كان أنصحهم لله في ظنه و أطهرهم جيبا أي عفيفا أمينا و يكنى عن العفة و الأمانة بطهارة الجيب لأن الذي يسرق يجعل المسروق في جيبه فإن قلت و أي تعلق لهذا بولاة الجيش إنما ينبغي أن تكون هذه الوصية في ولاة الخراج قلت لا بد منها في أمراء الجيش لأجل الغنائم ثم وصف ذلك الأمير فقال ممن يبطئ عن الغضب و يستريح إلى العذر أي يقبل

٥٢

أدنى عذر و يستريح إليه و يسكن عنده و يرؤف على الضعفاء يرفق بهم و يرحمهم و الرأفة الرحمة و ينبو عن الأقوياء يتجافى عنهم و يبعد أي لا يمكنهم من الظلم و التعدي على الضعفاء و لا يثيره العنف لا يهيج غضبه عنف و قسوة و لا يقعد به الضعف أي ليس عاجزا ثم أمره أن يلصق بذوي الأحساب و أهل البيوتات أي يكرمهم و يجعل معوله في ذلك عليهم و لا يتعداهم إلى غيرهم و كان يقال عليكم بذوي الأحساب فإن هم لم يتكرموا استحيوا ثم ذكر بعدهم أهل الشجاعة و السخاء ثم قال إنها جماع من الكرم و شعب من العرف من هاهنا زائدة و إن كانت في الإيجاب على مذهب أبي الحسن الأخفش أي جماع الكرم أي يجمعه

كقول النبي ص الخمر جماع الإثم و العرف المعروف و كذلك من في قوله و شعب من العرف أي شعب العرف أي هي أقسامه و أجزاؤه و يجوز أن تكون من على حقيقتها للتبعيض أي هذه الخلال جملة من الكرم و أقسام المعروف و ذلك لأن غيرها أيضا من الكرم و المعروف و نحو العدل و العفة قوله ثم تفقد من أمورهم الضمير هاهنا يرجع إلى الأجناد لا إلى الأمراء لما سنذكره مما يدل الكلام عليه فإن قلت إنه لم يجر للأجناد ذكر فيما سبق و إنما المذكور الأمراء قلت كلا بل سبق ذكر الأجناد و هو قوله الضعفاء و الأقوياء

٥٣

و أمره ع أن يتفقد من أمور الجيش ما يتفقد الوالدان من حال الولد و أمره ألا يعظم عنده ما يقويهم به و إن عظم و ألا يستحقر شيئا تعهدهم به و إن قل و ألا يمنعه تفقد جسيم أمورهم عن تفقد صغيرها و أمره أن يكون آثر رءوس جنوده عنده و أحظاهم عنده و أقربهم إليه من واساهم في معونته هذا هو الضمير الدال على أن الضمير المذكور أولا للجند لا لأمراء الجند لو لا ذلك لما انتظم الكلام قوله من خلوف أهليهم أي ممن يخلفونه من أولادهم و أهليهم ثم قال لا يصح نصيحة الجند لك إلا بحيطتهم على ولاتهم أي بتعطفهم عليهم و تحننهم و هي الحيطة على وزن الشيمة مصدر حاطه يحوطه حوطا و حياطا و حيطة أي كلأه و رعاه و أكثر الناس يروونها إلا بحيطتهم بتشديد الياء و كسرها و الصحيح ما ذكرناه قوله و قلة استثقال دولهم أي لا تصح نصيحة الجند لك إلا إذا أحبوا أمراءهم ثم لم يستثقلوا دولهم و لم يتمنوا زوالها ثم أمره أن يذكر في المجالس و المحافل بلاء ذوي البلاء منهم فإن ذلك مما يرهف عزم الشجاع و يحرك الجبان قوله و لا تضمن بلاء امرئ إلى غيره أي اذكر كل من أبلى منهم مفردا غير مضموم ذكر بلائه إلى غيره كي لا يكون مغمورا في جنب ذكر غيره ثم قال له لا تعظم بلاء ذوي الشرف لأجل شرفهم و لا تحقر بلاء ذوي الضعة لضعة أنسابهم بل اذكر الأمور على حقائقها ثم أمره أن يرد إلى الله و رسوله ما يضلعه من الخطوب أي ما يئوده و يميله

٥٤

لثقله و هذه الرواية أصح من رواية من رواها بالظاء و إن كان لتلك وجه

رسالة الإسكندر إلى أرسطو و رد أرسطو عليه

و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع رسالة أرسطو إلى الإسكندر في معنى المحافظة على أهل البيوتات و ذوي الأحساب و أن يخصهم بالرئاسة و الإمرة و لا يعدل عنهم إلى العامة و السفلة فإن في ذلك تشييدا لكلام أمير المؤمنين ع و وصيته لما ملك الإسكندر ايرانشهر و هو العراق مملكة الأكاسرة و قتل دارا بن دارا كتب إلى أرسطو و هو ببلاد اليونان عليك أيها الحكيم منا السلام أما بعد فإن الأفلاك الدائرة و العلل السمائية و إن كانت أسعدتنا بالأمور التي أصبح الناس لنا بها دائبين فإنا جد واجدين لمس الاضطرار إلى حكمتك غير جاحدين لفضلك و الإقرار بمنزلتك و الاستنامة إلى مشورتك و الاقتداء برأيك و الاعتماد لأمرك و نهيك لما بلونا من جدا ذلك علينا و ذقنا من جنا منفعته حتى صار ذلك بنجوعه فينا و ترسخه في أذهاننا و عقولنا كالغذاء لنا فما ننفك نعول عليه و نستمد منه استمداد الجداول من البحور و تعويل الفروع على الأصول و قوة الأشكال بالأشكال و قد كان مما سيق إلينا من النصر و الفلج و أتيح لنا من الظفر و بلغنا في العدو من النكاية و البطش ما يعجز القول عن وصفه و يقصر شكر المنعم عن موقع الإنعام به و كان من ذلك أنا جاوزنا أرض سورية و الجزيرة إلى بابل و أرض فارس فلما حللنا بعقوة أهلها و ساحة بلادهم لم يكن إلا ريثما تلقانا نفر منهم برأس ملكهم هدية إلينا و طلبا للحظوة عندنا فأمرنا بصلب من

٥٥

جاء به و شهرته لسوء بلائه و قلة ارعوائه و وفائه ثم أمرنا بجمع من كان هناك من أولاد ملوكهم و أحرارهم و ذي الشرف منهم فرأينا رجالا عظيمة أجسامهم و أحلامهم حاضرة ألبابهم و أذهانهم رائعة مناظرهم و مناطقهم دليلا على أن ما يظهر من روائهم و منطقهم أن وراءه من قوة أيديهم و شدة نجدتهم و بأسهم ما لم يكن ليكون لنا سبيل إلى غلبتهم و إعطائهم بأيديهم لو لا أن القضاء أدالنا منهم و أظفرنا بهم و أظهرنا عليهم و لم نر بعيدا من الرأي في أمرهم أن نستأصل شأفتهم و نجتث أصلهم و نلحقهم بمن مضى من أسلافهم لتسكن القلوب بذلك الأمن إلى جرائرهم و بوائقهم فرأينا ألا نجعل بإسعاف بادئ الرأي في قتلهم دون الاستظهار عليهم بمشورتك فيهم فارفع إلينا رأيك فيما استشرناك فيه بعد صحته عندك و تقليبك إياه بجلي نظرك و سلام أهل السلام فليكن علينا و عليك فكتب إليه أرسطو لملك الملوك و عظيم العظماء الإسكندر المؤيد بالنصر على الأعداء المهدي له الظفر بالملوك من أصغر عبيده و أقل خوله أرسطوطاليس البخوع بالسجود و التذلل في السلام و الإذعان في الطاعة أما بعد فإنه لا قوة بالمنطق و إن احتشد الناطق فيه و اجتهد في تثقيف معانيه و تأليف حروفه و مبانيه على الإحاطة بأقل ما تناله القدرة من بسطة علو الملك و سمو ارتفاعه عن كل قول و إبرازه على كل وصف و اغترافه بكل إطناب و قد كان تقرر عندي من مقدمات إعلام فضل الملك في صهلة سبقه و بروز شأوه و يمن نقيبته مذ أدت إلي حاسة بصري صورة شخصه و اضطرب في حس سمعي صوت لفظه و وقع وهمي

٥٦

على تعقيب نجاح رأيه أيام كنت أؤدي إليه من تكلف تعليمي إياه ما أصبحت قاضيا على نفسي بالحاجة إلى تعلمه منه و مهما يكن مني إليه في ذلك فإنما هو عقل مردود إلى عقله مستنبطة أواليه و تواليه من علمه و حكمته و قد جلا إلى كتاب الملك و مخاطبته إياي و مسألته لي عما لا يتخالجني الشك في لقاح ذلك و إنتاجه من عنده فعنه صدر و عليه ورد و أنا فيما أشير به على الملك و إن اجتهدت فيه و احتشدت له و تجاوزت حد الوسع و الطاقة مني في استنظافه و استقصائه كالعدم مع الوجود بل كما لا يتجزأ في جنب معظم الأشياء و لكني غير ممتنع من إجابة الملك إلى ما سأل مع علمي و يقيني بعظيم غناه عني و شدة فاقتي إليه و أنا راد إلى الملك ما اكتسبته منه و مشير عليه بما أخذته منه فقائل له إن لكل تربة لا محالة قسما من الفضائل و إن لفارس قسمها من النجدة و القوة و إنك إن تقتل أشرافهم تخلف الوضعاء علي أعقابهم و تورث سفلتهم على منازل عليتهم و تغلب أدنياءهم على مراتب ذوي أخطارهم و لم يبتل الملوك قط ببلاء هو أعظم عليهم و أشد توهينا لسلطانهم من غلبة السفلة و ذل الوجوه فاحذر الحذر كله أن تمكن تلك الطبقة من الغلبة و الحركة فإنه إن نجم منهم بعد اليوم على جندك و أهل بلادك ناجم دهمهم منه ما لا روية فيه و لا بقية معه فانصرف عن هذا الرأي إلى غيره و اعمد إلى من قبلك من أولئك العظماء و الأحرار فوزع بينهم مملكتهم و ألزم اسم الملك كل من وليته منهم ناحيته و اعقد التاج على رأسه و إن صغر ملكه فإن المتسمي بالملك لازم لاسمه و المعقود التاج على رأسه لا يخضع لغيره فليس ينشب ذلك أن يوقع كل ملك منهم بينه و بين صاحبه تدابرا و تقاطعا و تغالبا على الملك و تفاخرا بالمال و الجند حتى ينسوا بذلك أضغانهم عليك و أوتارهم فيك و يعود حربهم لك حربا

٥٧

بينهم و حنقهم عليك حنقا منهم على أنفسهم ثم لا يزدادون في ذلك بصيرة إلا أحدثوا لك بها استقامة إن دنوت منهم دانوا لك و إن نأيت عنهم تعززوا بك حتى يثب من ملك منهم على جاره باسمك و يسترهبه بجندك و في ذلك شاغل لهم عنك و أمان لأحداثهم بعدك و إن كان لا أمان للدهر و لا ثقة بالأيام قد أديت إلى الملك ما رأيته لي حظا و علي حقا من إجابتي إياه إلى ما سألني عنه و محضته النصيحة فيه و الملك أعلى عينا و أنفذ روية و أفضل رأيا و أبعد همة فيما استعان بي عليه و كلفني بتبيينه و المشورة عليه فيه لا زال الملك متعرفا من عوائد النعم و عواقب الصنع و توطيد الملك و تنفيس الأجل و درك الأمل ما تأتي فيه قدرته على غاية قصوى ما تناله قدرة البشر و السلام الذي لا انقضاء له و لا انتهاء و لا غاية و لا فناء فليكن على الملك قالوا فعمل الملك برأيه و استخلف على ايرانشهر أبناء الملوك و العظماء من أهل فارس فهم ملوك الطوائف الذين بقوا بعده و المملكة موزعة بينهم إلى أن جاء أردشير بن بابك فانتزع الملك منهم : ثُمَّ اِخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ اَلنَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ اَلْأُمُورُ وَ لاَ تُمَحِّكُهُ اَلْخُصُومُ وَ لاَ يَتَمَادَى فِي اَلزَّلَّةِ وَ لاَ يَحْصَرُ مِنَ اَلْفَيْ‏ءِ إِلَى اَلْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ وَ لاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَعٍ وَ لاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ وَ أَوْقَفَهُمْ فِي اَلشُّبُهَاتِ وَ آخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ وَ أَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ اَلْخَصْمِ وَ أَصْبَرَهُمْ

٥٨

عَلَى تَكَشُّفِ اَلْأُمُورِ وَ أَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اِتِّضَاحِ اَلْحُكْمِ مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ وَ لاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ وَ أُولَئِكَ قَلِيلٌ ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ وَ أَفْسِحْ اِفْسَحْ لَهُ فِي اَلْبَذْلِ مَا يُزِيحُ يُزِيلُ عِلَّتَهُ وَ تَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى اَلنَّاسِ وَ أَعْطِهِ مِنَ اَلْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لاَ يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اِغْتِيَالَ اَلرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً فَإِنَّ هَذَا اَلدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي اَلْأَشْرَارِ يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى وَ تُطْلَبُ بِهِ اَلدُّنْيَا تمحكه الخصوم تجعله ما حكا أي لجوجا محك الرجل أي لج و ماحك زيد عمرا أي لاجه قوله و لا يتمادى في الزلة أي إن زل رجع و أناب و الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل قوله و لا يحصر من الفي‏ء هو المعنى الأول بعينه و الفي‏ء الرجوع إلا أن هاهنا زيادة و هو أنه لا يحصر أي لا يعيا في المنطق لأن من الناس من إذا زل حصر عن أن يرجع و أصابه كالفهاهة و العي خجلا قوله و لا تشرف نفسه أي لا تشفق و الإشراف الإشفاق و الخوف و أنشد الليث:

و من مضر الحمراء إسراف أنفس

علينا و حياها علينا تمضرا

٥٩

و قال عروة بن أذينة:

لقد علمت و ما الإشراف من خلقي

أن الذي هو رزقي سوف يأتيني

و المعنى و لا تشفق نفسه و تخاف من فوت المنافع و المرافق ثم قال و لا يكتفى بأدنى فهم أي لا يكون قانعا بما يخطر له بادئ الرأي من أمر الخصوم بل يستقصي و يبحث أشد البحث قوله و أقلهم تبرما بمراجعة الخصم أي تضجرا و هذه الخصلة من محاسن ما شرطه ع فإن القلق و الضجر و التبرم قبيح و أقبح ما يكون من القاضي قوله و أصرمهم أي أقطعهم و أمضاهم و ازدهاه كذا أي استخفه و الإطراء المدح و الإغراء التحريض ثم أمره أن يتطلع على أحكامه و أقضيته و أن يفرض له عطاء واسعا يملأ عينه و يتعفف به عن المرافق و الرشوات و أن يكون قريب المكان منه كثير الاختصاص به ليمنع قربه من سعاية الرجال به و تقبيحهم ذكره عنده ثم قال إن هذا الدين قد كان أسيرا هذه إشارة إلى قضاة عثمان و حكامه و أنهم لم يكونوا يقضون بالحق عنده بل بالهوى لطلب الدنيا و أما أصحابنا فيقولون رحم الله عثمان فإنه كان ضعيفا و استولى عليه أهله قطعوا الأمور دونه فإثمهم عليهم و عثمان بري‏ء منهم

٦٠