كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ١٧

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 286

كتاب شرح نهج البلاغة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف:

الصفحات: 286
المشاهدات: 39837
تحميل: 4248


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 286 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39837 / تحميل: 4248
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 17

مؤلف:
العربية

فصل في القضاة و ما يلزمهم و ذكر بعض نوادرهم

قد جاء في الحديث المرفوع لا يقضي القاضي و هو غضبان و جاء في الحديث المرفوع أيضا من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه و إشارته و مجلسه و مقعده دخل ابن شهاب على الوليد أو سليمان فقال له يا ابن شهاب ما حديث يرويه أهل الشام قال ما هو يا أمير المؤمنين قال إنهم يروون أن الله تعالى إذا استرعى عبدا رعية كتب له الحسنات و لم يكتب عليه السيئات فقال كذبوا يا أمير المؤمنين أيما أقرب إلى الله نبي أم خليفة قال بل نبي قال فإنه تعالى يقول لنبيه داود( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى‏ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ) فقال سليمان إن الناس ليغروننا عن ديننا و قال بكر بن عبد الله العدوي لابن أرطاة و أراد أن يستقضيه و الله ما أحسن القضاء فإن كنت صادقا لم يحل لك أن تستقضي من لا يحسن و إن كنت كاذبا فقد فسقت و الله لا يحل أن تستقضي الفاسق و قال الزهري ثلاث إذا كن في القاضي فليس بقاض أن يكره اللائمة و يحب المحمدة و يخاف العزل و قال محارب بن زياد للأعمش وليت القضاء فبكى أهلي فلما عزلت بكى أهلي فما أدري مم ذلك قال لأنك وليت القضاء و أنت تكرهه و تجزع منه

٦١

فبكى أهلك لجزعك و عزلت عنه فكرهت العزل و جزعت فبكى أهلك لجزعك قال صدقت أتي ابن شبرمة بقوم يشهدون على قراح نخل فشهدوا و كانوا عدولا فامتحنهم فقال كم في القراح من نخلة قالوا لا نعلم فرد شهادتهم فقال له أحدهم أنت أيها القاضي تقضي في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة فأعلمنا كم فيه من أسطوانة فسكت و أجازهم خرج شريك و هو على قضاء الكوفة يتلقى الخيزران و قد أقبلت تريد الحج و قد كان استقضي و هو كاره فأتي شاهي فأقام بها ثلاثا فلم تواف فخف زاده و ما كان معه فجعل يبله بالماء و يأكله بالملح فقال العلاء بن المنهال الغنوي:

فإن كان الذي قد قلت حقا

بأن قد أكرهوك على القضاء

فما لك موضعا في كل يوم

تلقى من يحج من النساء

مقيما في قرى شاهي ثلاثا

بلا زاد سوى كسر و ماء

و تقدمت كلثم بنت سريع مولى عمرو بن حريث و كانت جميلة و أخوها الوليد بن سريع إلى عبد الملك بن عمير و هو قاض بالكوفة فقضى لها على أخيها فقال هذيل الأشجعي:

أتاه وليد بالشهود يسوقهم

على ما ادعى من صامت المال و الخول

و جاءت إليه كلثم و كلامها

شفاء من الداء المخامر و الخبل

فأدلى وليد عند ذاك بحقه

و كان وليد ذا مراء و ذا جدل

فدلهت القبطي حتى قضى لها

بغير قضاء الله في محكم الطول

٦٢

فلو كان من في القصر يعلم علمه

لما استعمل القبطي فينا على عمل

له حين يقضي للنساء تخاوص

و كان و ما فيه التخاوص و الحول

إذا ذات دل كلمته لحاجة

فهم بأن يقضي تنحنح أو سعل

و برق عينيه و لاك لسانه

يرى كل شي‏ء ما خلا وصلها جلل

و كان عبد الملك بن عمير يقول لعن الله الأشجعي و الله لربما جاءتني السعلة و النحنحة و أنا في المتوضإ فأردهما لما شاع من شعره كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أما بعد فقد كتبت إليك في القضاء بكتاب لم آلك و نفسي فيه خيرا الزم خمس خصال يسلم لك دينك و تأخذ بأفضل حظك إذا تقدم إليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة و ادن الضعيف حتى يشتد قلبه و ينبسط لسانه و تعهد الغريب فإنك إن لم تتعهده ترك حقه و رجع إلى أهله و إنما ضيع حقه من لم يرفق به و آس بين الخصوم في لحظك و لفظك و عليك بالصلح بين الناس ما لم يستبن لك فصل القضاء و كتب عمر إلى شريح لا تسارر و لا تضارر و لا تبع و لا تبتع في مجلس القضاء و لا تقض و أنت غضبان و لا شديد الجوع و لا مشغول القلب شهد رجل عند سوار القاضي فقال ما صناعتك فقال مؤدب قال أنا لا أجيز شهادتك قال و لم قال لأنك تأخذ على تعليم القرآن أجرا قال و أنت أيضا تأخذ على القضاء بين المسلمين أجرا قال إنهم أكرهوني قال نعم أكرهوك على القضاء فهل أكرهوك على أخذ الأجر قال هلم شهادتك و دخل أبو دلامة ليشهد عند أبي ليلى فقال حين جلس بين يديه:

إذا الناس غطوني تغطيت عنهم

و إن بحثوا عني ففيهم مباحث

٦٣

و إن حفروا بئري حفرت بئارهم

ليعلم ما تخفيه تلك النبائث

فقال بل نغطيك يا أبا دلامة و لا نبحثك و صرفه راضيا و أعطى المشهود عليه من عنده قيمة ذلك الشي‏ء كان عامر بن الظرب العدواني حاكم العرب و قاضيها فنزل به قوم يستفتونه في الخنثى و ميراثه فلم يدر ما يقضي فيه و كان له جارية اسمها خصيلة ربما لامها في الإبطاء عن الرعي و في الشي‏ء يجده عليها فقال لها يا خصيلة لقد أسرع هؤلاء القوم في غنمي و أطالوا المكث قالت و ما يكبر عليك من ذلك اتبعه مباله و خلاك ذم فقال لها مسي خصيل بعدها أو روحي و قال أعرابي لقوم يتنازعون هل لكم في الحق أو ما هو خير من الحق قيل و ما الذي هو خير من الحق قال التحاط و الهضم فإن أخذ الحق كله مر و عزل عمر بن عبد العزيز بعض قضاته فقال لم عزلتني فقال بلغني أن كلامك أكثر من كلام الخصمين إذا تحاكما إليك و دخل إياس بن معاوية الشام و هو غلام فقدم خصما إلى باب القاضي في أيام عبد الملك فقال القاضي أ ما تستحيي تخاصم و أنت غلام شيخا كبيرا فقال الحق أكبر منه فقال اسكت ويحك قال فمن ينطق بحجتي إذا قال ما أظنك تقول اليوم حقا حتى تقوم فقال لا إله إلا الله فقام القاضي و دخل على عبد الملك و أخبره فقال اقض حاجته و أخرجه من الشام كي لا يفسد علينا الناس و اختصم أعرابي و حضري إلى قاض فقال الأعرابي أيها القاضي إنه و إن هملج إلى الباطل فإنه عن الحق لعطوف و رد رجل جارية على رجل اشتراها منه بالحمق فترافعا إلى إياس بن معاوية

٦٤

فقال لها إياس أي رجليك أطول فقالت هذه فقال أ تذكرين ليلة ولدتك أمك قالت نعم فقال إياس رد رد و جاء في الخبر المرفوع من رواية عبد الله بن عمر لا قدست أمة لا يقضى فيها بالحق و من الحديث المرفوع من رواية أبي هريرة ليس أحد يحكم بين الناس إلا جي‏ء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه فكه العدل و أسلمه الجور و استعدى رجل على علي بن أبي طالب ع عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه و علي جالس فالتفت عمر إليه فقال قم يا أبا الحسن فاجلس مع خصمك فقام فجلس معه و تناظرا ثم انصرف الرجل و رجع علي ع إلى محله فتبين عمر التغير في وجهه فقال يا أبا الحسن ما لي أراك متغيرا أ كرهت ما كان قال نعم قال و ما ذاك قال كنيتني بحضرة خصمي هلا قلت قم يا علي فاجلس مع خصمك فاعتنق عمر عليا و جعل يقبل وجهه و قال بأبي أنتم بكم هدانا الله و بكم أخرجنا من الظلمة إلى النور أبان بن عبد الحميد اللاحقي في سوار بن عبد الله القاضي:

لا تقدح الظنة في حكمه

شيمته عدل و إنصاف

يمضي إذا لم تلقه شبهة

و في اعتراض الشك وقاف

كان ببغداد رجل يذكر بالصلاح و الزهد يقال له رويم فولي القضاء فقال الجنيد من أراد أن يستودع سره من لا يفشيه فعليه برويم فإنه كتم حب الدنيا أربعين سنة إلى أن قدر عليها الأشهب الكوفي:

يا أهل بغداد قد قامت قيامتكم

مذ صار قاضيكم نوح بن دراج

لو كان حيا له الحجاج ما سلمت

صحيحة يده من وسم حجاج

٦٥

و كان الحجاج يسم أيدي النبط بالمشراط و النيل لما وقعت فتنة ابن الزبير اعتزل شريح القضاء و قال لا أقضي في الفتنة فبقي لا يقضي تسع سنين ثم عاد إلى القضاء و قد كبرت سنه فاعترضه رجل و قد انصرف من مجلس القضاء فقال له أ ما حان لك أن تخاف الله كبرت سنك و فسد ذهنك و صارت الأمور تجوز عليك فقال و الله لا يقولها بعدك لي أحد فلزم بيته حتى مات قيل لأبي قلابة و قد هرب من القضاء لو أجبت قال أخاف الهلاك قيل لو اجتهدت لم يكن عليك بأس قال ويحكم إذا وقع السابح في البحر كم عسى أن يسبح دعا رجل لسليمان الشاذكوني فقال أرانيك الله يا أبا أيوب على قضاء أصبهان قال ويحك إن كان و لا بد فعلى خراجها فإن أخذ أموال الأغنياء أسهل من أخذ أموال الأيتام ارتفعت جميلة بنت عيسى بن جراد و كانت جميلة كاسمها مع خصم لها إلى الشعبي و هو قاضي عبد الملك فقضى لها فقال هذيل الأشجعي:

فتن الشعبي لما

رفع الطرف إليها

فتنته بثنايا

ها و قوسي حاجبيها

و مشت مشيا رويدا

ثم هزت منكبيها

فقضى جورا على الخصم

و لم يقض عليها

فقبض الشعبي عليه و ضربه ثلاثين سوطا قال ابن أبي ليلى ثم انصرف الشعبي يوما من مجلس القضاء و قد شاعت الأبيات

٦٦

و تناشدها الناس و نحن معه فمررنا بخادم تغسل الثياب و تقول

فتن الشعبي لما

و لا تحفظ تتمة البيت فوقف عليها و لقنها و قال

رفع الطرف إليها

ثم ضحك و قال أبعده الله و الله ما قضينا لها إلا بالحق جاءت امرأة إلى قاض فقالت مات بعلي و ترك أبوين و ابنا و بني عم فقال القاضي لأبويه الثكل و لابنه اليتم و لك اللائمة و لبني عمه الذلة و احملي المال إلينا إلى أن ترتفع الخصوم لقي سفيان الثوري شريكا بعد ما استقضي فقال له يا أبا عبد الله بعد الإسلام و الفقه و الصلاح تلي القضاء قال يا أبا عبد الله فهل للناس بد من قاض قال و لا بد يا أبا عبد الله للناس من شرطي و كان الحسن بن صالح بن حي يقول لما ولي شريك القضاء أي شيخ أفسدوا

قال أبو ذررضي‌الله‌عنه قال لي رسول الله ص يا أبا ذر اعقل ما أقول لك جعل يرددها على ستة أيام ثم قال لي في اليوم السابع أوصيك بتقوى الله في سريرتك و علانيتك و إذا أسأت فأحسن و لا تسألن أحدا شيئا و لو سقط سوطك و لا تتقلدن أمانة و لا تلين ولاية و لا تكفلن يتيما و لا تقضين بين اثنين أراد عثمان بن عفان أن يستقضي عبد الله بن عمر فقال له أ لست قد سمعت النبي ص يقول من استعاذ بالله فقد عاذ بمعاذ قال بلى قال فإني أعوذ بالله منك أن تستقضيني

٦٧

و قد ذكر الفقهاء في آداب القاضي أمورا قالوا لا يجوز أن يقبل هدية في أيام القضاء إلا ممن كانت له عادة يهدي إليه قبل أيام القضاء و لا يجوز قبولها في أيام القضاء ممن له حكومة و خصومة و إن كان ممن له عادة قديمة و كذلك إن كانت الهدية أنفس و أرفع مما كانت قبل أيام القضاء لا يجوز قبولها و يجوز أن يحضر القاضي الولائم و لا يحضر عند قوم دون قوم لأن التخصيص يشعر بالميل و يجوز أن يعود المرضى و يشهد الجنائز و يأتي مقدم الغائب و يكره له مباشرة البيع و الشراء و لا يجوز أن يقضي و هو غضبان و لا جائع و لا عطشان و لا في حال الحزن الشديد و لا الفرح الشديد و لا يقضي و النعاس يغلبه و المرض يقلقه و لا و هو يدافع الأخبثين و لا في حر مزعج و لا في برد مزعج و ينبغي أن يجلس للحكم في موضع بارز يصل إليه كل أحد و لا يحتجب إلا لعذر و يستحب أن يكون مجلسه فسيحا لا يتأذى بذلك هو أيضا و يكره الجلوس في المساجد للقضاء فإن احتاج إلى وكلاء جاز أن يتخذهم و يوصيهم بالرفق بالخصوم و يستحب أن يكون له حبس و أن يتخذ كاتبا إن احتاج إليه و من شرط كاتبه أن يكون عارفا بما يكتب به عن القضاء و اختلف في جواز كونه ذميا و الأظهر أنه لا يجوز و لا يجوز أن يكون كاتبه فاسقا و لا يجوز أن يكون الشهود عنده قوما معينين بل الشهادة عامة فيمن استكمل شروطها : ثُمَّ اُنْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اِخْتِيَاراً اِخْتِبَاراً وَ لاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَ أَثَرَةً فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ اَلْجَوْرِ وَ اَلْخِيَانَةِ وَ تَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ اَلتَّجْرِبَةِ وَ اَلْحَيَاءِ مِنْ أَهْلِ اَلْبُيُوتَاتِ اَلصَّالِحَةِ وَ اَلْقَدَمِ فِي اَلْإِسْلاَمِ اَلْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلاَقاً وَ أَصَحُّ أَعْرَاضاً وَ أَقَلُّ فِي اَلْمَطَامِعِ إِشْرَافاً إِشْرَاقاً وَ أَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ اَلْأُمُورِ نَظَراً

٦٨

ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ اَلْأَرْزَاقَ فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اِسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ وَ غِنًى لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ وَ اِبْعَثِ اَلْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ اَلصِّدْقِ وَ اَلْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي اَلسِّرِّ لِأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اِسْتِعْمَالِ اَلْأَمَانَةِ وَ اَلرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ وَ تَحَفَّظْ مِنَ اَلْأَعْوَانِ فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَةٍ اِجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ اِكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ اَلْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ وَ أَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ اَلْمَذَلَّةِ وَ وَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ وَ قَلَّدْتَهُ عَارَ اَلتُّهَمَةِ لما فرغ ع من أمر القضاء شرع في أمر العمال و هم عمال السواد و الصدقات و الوقوف و المصالح و غيرها فأمره أن يستعملهم بعد اختبارهم و تجربتهم و ألا يوليهم محاباة لهم و لمن يشفع فيهم و لا أثرة و لا إنعاما عليهم كان أبو الحسن بن الفرات يقول الأعمال للكفاة من أصحابنا و قضاء الحقوق على خواص أموالنا و كان يحيى بن خالد يقول من تسبب إلينا بشفاعة في عمل فقد حل عندنا محل من ينهض بغيره و من لم ينهض بنفسه لم يكن للعمل أهلا و وقع جعفر بن يحيى في رقعة متحرم به هذا فتى له حرمة الأمل فامتحنه بالعمل فإن كان كافيا فالسلطان له دوننا و إن لم يكن كافيا فنحن له دون السلطان ثم قال ع فإنهما يعني استعمالهم للمحاباة و الأثرة جماع من شعب الجور و الخيانة و قد تقدم شرح مثل هذه اللفظة و المعنى أن ذلك يجمع ضروبا من الجور و الخيانة أما الجور فإنه يكون قد عدل عن المستحق إلى غير المستحق ففي ذلك جور على المستحق

٦٩

و أما الخيانة فلأن الأمانة تقتضي تقليد الأعمال الأكفاء فمن لم يعتمد ذلك فقد خان من ولاه ثم أمره بتخير من قد جرب و من هو من أهل البيوتات و الأشراف لشدة الحرص على الشي‏ء و الخوف من فواته ثم أمره بإسباغ الأرزاق عليهم فإن الجائع لا أمانة له و لأن الحجة تكون لازمة لهم إن خانوا لأنهم قد كفوا مئونة أنفسهم و أهليهم بما فرض لهم من الأرزاق ثم أمره بالتطلع عليهم و إذكاء العيون و الأرصاد على حركاتهم و حدوة باعث يقال حداني هذا الأمر حدوة على كذا و أصله سوق الإبل و يقال للشمال حدواء لأنها تسوق السحاب ثم أمره بمؤاخذة من ثبتت خيانته و استعادة المال منه و قد صنع عمر كثيرا من ذلك و ذكرناه فيما تقدم قال بعض الأكاسرة لعامل من عماله كيف نومك بالليل قال أنامه كله قال أحسنت لو سرقت ما نمت هذا النوم : وَ تَفَقَّدْ أَمْرَ اَلْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ فَإِنَّ فِي صَلاَحِهِ وَ صَلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ وَ لاَ صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ لِأَنَّ اَلنَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى اَلْخَرَاجِ وَ أَهْلِهِ وَ لْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ اَلْأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اِسْتِجْلاَبِ اَلْخَرَاجِ لِأَنَّ ذَلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ وَ مَنْ طَلَبَ اَلْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ اَلْبِلاَدَ وَ أَهْلَكَ

٧٠

اَلْعِبَادَ وَ لَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلاً أَوْ عِلَّةً أَوِ اِنْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اِغْتَمَرَهَا غَرَقٌ أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ وَ لاَ يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْ‏ءٌ خَفَّفْتَ بِهِ اَلْمَئُونَةَ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلاَدِكَ وَ تَزْيِينِ وِلاَيَتِكَ مَعَ اِسْتِجْلاَبِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ وَ تَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ اَلْعَدْلِ فِيهِمْ مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ لَهُمْ وَ اَلثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ وَ رِفْقِكَ بِهِمْ فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ اَلْأُمُورِ مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ اِحْتَمَلُوهُ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ فَإِنَّ اَلْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ وَ إِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ اَلْأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا وَ إِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لِإِشْرَافِ أَنْفُسِ اَلْوُلاَةِ عَلَى اَلْجَمْعِ وَ سُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ وَ قِلَّةِ اِنْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ انتقل ع من ذكر العمال إلى ذكر أرباب الخراج و دهاقين السواد فقال تفقد أمرهم فإن الناس عيال عليهم و كان يقال استوصوا بأهل الخراج فإنكم لا تزالون سمانا ما سمنوا و رفع إلى أنوشروان أن عامل الأهواز قد حمل من مال الخراج ما يزيد على العادة و ربما يكون ذلك قد أجحف بالرعية فوقع يرد هذا المال على من قد استوفى منه فإن تكثير الملك ماله بأموال رعيته بمنزلة من يحصن سطوحه بما يقتلعه من قواعد بنيانه

٧١

و كان على خاتم أنوشروان لا يكون عمران حيث يجور السلطان و روي استحلاب الخراج بالحاء ثم قال فإن شكوا ثقلا أي ثقل طسق الخراج المضروب عليهم أو ثقل وطأة العامل قال أو علة نحو أن يصيب الغلة آفة كالجراد و البرق أو البرد قال أو انقطاع شرب بأن ينقص الماء في النهر أو تتعلق أرض الشرب عنه لفقد الحفر قال أو بالة يعني المطر قال أو إحالة أرض اغتمرها غرق يعني أو كون الأرض قد حالت و لم يحصل منها ارتفاع لأن الغرق غمرها و أفسد زرعها قال أو أجحف بها عطش أي أتلفها فإن قلت فهذا هو انقطاع الشرب قلت لا قد يكون الشرب غير منقطع و مع ذلك يجحف بها العطش بأن لا يكفيها الماء الموجود في الشرب ثم أمره أن يخفف عنهم متى لحقهم شي‏ء من ذلك فإن التخفيف يصلح أمورهم و هو و إن كان يدخل على المال نقصا في العاجل إلا أنه يقتضي توفير زيادة في الآجل فهو بمنزلة التجارة التي لا بد فيها من إخراج رأس المال و انتظار عوده و عود ربحه

٧٢

قال و مع ذلك فإنه يفضي إلى تزين بلادك بعمارتها و إلى أنك تبجح بين الولاة بإفاضة العدل في رعيتك معتمدا فضل قوتهم و معتمدا منصوب على الحال من الضمير في خففت الأولى أي خففت عنهم معتمدا بالتخفيف فضل قوتهم و الإجمام الترفيه ثم قال له و ربما احتجت فيما بعد إلى تكلفهم بحادث يحدث عندك المساعدة بمال يقسطونه عليهم قرضا أو معونة محضة فإذا كانت لهم ثروة نهضوا بمثل ذلك طيبة قلوبهم به ثم قال ع فإن العمران محتمل ما حملته سمعت أبا محمد بن خليد و كان صاحب ديوان الخراج في أيام الناصر لدين الله يقول لمن قال له قد قيل عنك إن واسط و البصرة قد خربت لشدة العنف بأهلها في تحصيل الأموال فقال أبو محمد ما دام هذا الشط بحاله و النخل نابتا في منابته بحاله ما تخرب واسط و البصرة أبدا ثم قال ع إنما تؤتى الأرض أي إنما تدهى من إعواز أهلها أي من فقرهم قال و الموجب لإعوازهم طمع ولاتهم في الجباية و جمع الأموال لأنفسهم و لسلطانهم و سوء ظنهم بالبقاء يحتمل أن يريد به أنهم يظنون طول البقاء و ينسون الموت و الزوال و يحتمل أن يريد به أنهم يتخيلون العزل و الصرف فينتهزون الفرص و يقتطعون الأموال و لا ينظرون في عمارة البلاد

٧٣

عهد سابور بن أردشير لابنه

و قد وجدت في عهد سابور بن أردشير إلى ابنه كلاما يشابه كلام أمير المؤمنين ع في هذا العهد و هو قوله و اعلم أن قوام أمرك بدرور الخراج و درور الخراج بعمارة البلاد و بلوغ الغاية في ذلك استصلاح أهله بالعدل عليهم و المعونة لهم فإن بعض الأمور لبعض سبب و عوام الناس لخواصهم عدة و بكل صنف منهم إلى الآخر حاجة فاختر لذلك أفضل من تقدر عليه من كتابك و ليكونوا من أهل البصر و العفاف و الكفاية و استرسل إلى كل امرئ منهم شخصا يضطلع به و يمكنه تعجيل الفراغ منه فإن اطلعت على أن أحدا منهم خان أو تعدى فنكل به و بالغ في عقوبته و احذر أن تستعمل على الأرض الكثير خراجها إلا البعيد الصوت العظيم شرف المنزلة و لا تولين أحدا من قواد جندك الذين هم عدة للحرب و جنة من الأعداء شيئا من أمر الخراج فلعلك تهجم من بعضهم على خيانة في المال أو تضييع للعمل فإن سوغته المال و أغضيت له على التضييع كان ذلك هلاكا و إضرارا بك و برعيتك و داعية إلى فساد غيره و إن أنت كافأته فقد استفسدته و أضقت صدره و هذا أمر توقيه حزم و الإقدام عليه خرق و التقصير فيه عجز و اعلم أن من أهل الخراج من يلجئ بعض أرضه و ضياعه إلى خاصة الملك و بطانته لأحد أمرين أنت حري بكراهتهما إما لامتناع من جور العمال و ظلم الولاة و تلك منزلة يظهر بها سوء أثر العمال و ضعف الملك و إخلاله بما تحت يده و إما للدفع عما يلزمهم

٧٤

من الحق و التيسر له و هذه خلة تفسد بها آداب الرعية و تنتقص بها أموال الملك فاحذر ذلك و عاقب الملتجئين و الملجأ إليهم ركب زياد يوما بالسوس يطوف بالضياع و الزروع فرأى عمارة حسنة فتعجب منها فخاف أهلها أن يزيد في خراجهم فلما نزل دعا وجوه البلد و قال بارك الله عليكم فقد أحسنتم العمارة و قد وضعت عنكم مائة ألف درهم ثم قال ما توفر علي من تهالك غيرهم على العمارة و أمنهم جوري أضعاف ما وضعت عن هؤلاء الآن و الذي وضعته بقدر ما يحصل من ذاك و ثواب عموم العمارة و أمن الرعية أفضل ربح : ثُمَّ اُنْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ فَوَلِّ عَلَى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ وَ اُخْصُصْ رَسَائِلَكَ اَلَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَايِدَكَ وَ أَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُودِ لِوُجُوهِ صَالِحِ اَلْأَخْلاَقِ مِمَّنْ لاَ تُبْطِرُهُ اَلْكَرَامَةُ فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلاَفٍ لَكَ بِحَضْرَةِ مَلاٍ وَ لاَ تُقَصِّرُ تَقْصُرُ بِهِ اَلْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمِّالِكَ عَلَيْكَ وَ إِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَى اَلصَّوَابِ عَنْكَ وَ فِيمَا يَأْخُذُ لَكَ وَ يُعْطِي مِنْكَ وَ لاَ يُضْعِفُ عَقْداً اِعْتَقَدَهُ لَكَ وَ لاَ يَعْجِزُ عَنْ إِطْلاَقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ وَ لاَ يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي اَلْأُمُورِ فَإِنَّ اَلْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ ثُمَّ لاَ يَكُنِ اِخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ وَ اِسْتِنَامَتِكَ وَ حُسْنِ اَلظَّنِّ مِنْكَ

٧٥

فَإِنَّ اَلرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ يَتَعَرَّفُونَ لِفِرَاسَاتِ اَلْوُلاَةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وَ حُسْنِ حَدِيثِهِمْ خِدْمَتِهِمْ وَ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ اَلنَّصِيحَةِ وَ اَلْأَمَانَةِ شَيْ‏ءٌ وَ لَكِنِ اِخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ فَاعْمِدْ لِأَحْسَنِهِمْ كَانَ فِي اَلْعَامَّةِ أَثَراً وَ أَعْرَفِهِمْ بِالْأَمَانَةِ وَجْهاً فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَصِيحَتِكَ لِلَّهِ وَ لِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ وَ اِجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ لاَ يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا وَ لاَ يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا وَ مَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْبٍ فَتَغَابَيْتَ عَنْهُ أُلْزِمْتَهُ

فصل فيما يجب على مصاحب الملك

لما فرغ من أمر الخراج شرع في أمر الكتاب الذين يلون أمر الحضرة و يترسلون عنه إلى عماله و أمرائه و إليهم معاقد التدبير و أمر الديوان فأمره أن يتخير الصالح منهم و من يوثق على الاطلاع على الأسرار و المكايد و الحيل و التدبيرات و من لا يبطره الإكرام و التقريب فيطمع فيجترئ على مخالفته في ملإ من الناس و الرد عليه ففي ذلك من الوهن للأمير و سوء الأدب الذي انكشف الكاتب عنه ما لا خفاء به قال الرشيد للكسائي يا علي بن حمزة قد أحللناك المحل الذي لم تكن تبلغه همتك فرونا من الأشعار أعفها و من الأحاديث أجمعها لمحاسن الأخلاق و ذاكرنا بآداب الفرس و الهند و لا تسرع علينا الرد في ملإ و لا تترك تثقيفنا في خلإ و في آداب ابن المقفع لا تكونن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك لنفسك على

٧٦

طاعتهم في المكروه عندك و موافقتهم فيما خالفك و تقدير الأمور على أهوائهم دون هواك فإن كنت حافظا إذا ولوك حذرا إذا قربوك أمينا إذا ائتمنوك تعلمهم و كأنك تتعلم منهم و تأدبهم و كأنك تتأدب بهم و تشكر لهم و لا تكلفهم الشكر ذليلا إن صرموك راضيا إن أسخطوك و إلا فالبعد منهم كل البعد و الحذر منهم كل الحذر و إن وجدت عن السلطان و صحبته غنى فاستغن عنه فإنه من يخدم السلطان حق خدمته يخلى بينه و بين لذة الدنيا و عمل الأخرى و من يخدمه غير حق الخدمة فقد احتمل وزر الآخرة و عرض نفسه للهلكة و الفضيحة في الدنيا فإذا صحبت السلطان فعليك بطول الملازمة من غير إملال و إذا نزلت منه بمنزلة الثقة فاعزل عنه كلام الملق و لا تكثر له من الدعاء و لا تردن عليه كلاما في حفل و إن أخطأ فإذا خلوت به فبصره في رفق و لا يكونن طلبك ما عنده بالمسألة و لا تستبطئه و إن أبطأ و لا تخبرنه أن لك عليه حقا و أنك تعتمد عليه ببلاء و إن استطعت ألا تنسى حقك و بلاءك بتجديد النصح و الاجتهاد فافعل و لا تعطينه المجهود كله من نفسك في أول صحبتك له و أعد موضعا للمزيد و إذا سأل غيرك عن شي‏ء فلا تكن المجيب و اعلم أن استلابك الكلام خفة فيك و استخفاف منك بالسائل و المسئول فما أنت قائل إن قال لك السائل ما إياك سألت أو قال المسئول أجب بمجالسته و محادثته أيها المعجب بنفسه و المستخف بسلطانه و قال عبد الملك بن صالح لمؤدب ولده بعد أن اختصه بمجالسته و محادثته يا عبد الله كن على التماس الحظ فيك بالسكوت أحرص منك على التماسه بالكلام فإنهم قالوا إذا أعجبك الكلام فاصمت و إذا أعجبك الصمت فتكلم و اعلم أن أصعب الملوك معاملة الجبار الفطن المتفقد فإن ابتليت بصحبته فاحترس و إن عوفيت فاشكر الله على السلامة فإن السلامة أصل كل نعمة لا تساعدني على ما يقبح بي و لا تردن علي

٧٧

خطأ في مجلس و لا تكلفني جواب التشميت و التهنئة و دع عنك كيف أصبح الأمير و كيف أمسى و كلمني بقدر ما أستنطقك و اجعل بدل التقريظ لي صواب الاستماع مني و اعلم أن صواب الاستماع أحسن من صواب القول فإذا سمعتني أتحدث فلا يفوتنك منه شي‏ء و أرني فهمك إياه في طرفك و وجهك فما ظنك بالملك و قد أحلك محل المعجب بما يسمعك إياه و أحللته محل من لا يسمع منه و كل من هذا يحبط إحسانك و يسقط حق حرمتك و لا تستدع الزيادة من كلامي بما تظهر من استحسان ما يكون مني فمن أسوأ حالا ممن يستكد الملوك بالباطل و ذلك يدل على تهاونه بقدر ما أوجب الله تعالى من حقهم و اعلم أني جعلتك مؤدبا بعد أن كنت معلما و جعلتك جليسا مقربا بعد أن كنت مع الصبيان مباعدا فمتى لم تعرف نقصان ما خرجت منه لم تعرف رجحان ما دخلت فيه و قد قالوا من لم يعرف سوء ما أولى لم يعرف حسن ما أبلى ثم قال ع و ليكن كاتبك غير مقصر عن عرض مكتوبات عمالك عليك و الإجابة عنها حسن الوكالة و النيابة عنك فيما يحتج به لك عليهم من مكتوباتهم و ما يصدره عنك إليهم من الأجوبة فإن عقد لك عقدا قواه و أحكمه و إن عقد عليك عقدا اجتهد في نقضه و حله قال و أن يكون عارفا بنفسه فمن لم يعرف قدر نفسه لم يعرف قدر غيره ثم نهاه أن يكون مستند اختياره لهؤلاء فراسته فيهم و غلبة ظنه بأحوالهم فإن التدليس ينم في ذلك كثيرا و ما زال الكتاب يتصنعون للأمراء بحسن الظاهر و ليس وراء ذلك كثير طائل في النصيحة و المعرفة و لكن ينبغي أن يرجع في ذلك إلى ما حكمت

٧٨

به التجربة لهم و ما ولوه من قبل فإن كانت ولايتهم و كتابتهم حسنة مشكورة فهم هم و إلا فلا و يتعرفون لفراسات الولاة يجعلون أنفسهم بحيث يعرف بضروب من التصنع و روي يتعرضون ثم أمره أن يقسم فنون الكتابة و ضروبها بينهم نحو أن يكون أحدهم للرسائل إلى الأطراف و الأعداء و الآخر لأجوبة عمال السواد و الآخرة بحضرة الأمير في خاصته و داره و حاشيته و ثقاته ثم ذكر له أنه مأخوذ مع الله تعالى بما يتغابى عنه و يتغافل من عيوب كتابه فإن الدين لا يبيح الإغضاء و الغفلة عن الأعوان و الخول و يوجب التطلع عليهم

فصل في الكتاب و ما يلزمهم من الآداب

و اعلم أن الكاتب الذي يشير أمير المؤمنين ع إليه هو الذي يسمى الآن في الاصطلاح العرفي وزيرا لأنه صاحب تدبير حضرة الأمير و النائب عنه في أموره و إليه تصل مكتوبات العمال و عنه تصدر الأجوبة و إليه العرض على الأمير و هو المستدرك على العمال و المهيمن عليهم و هو على الحقيقة كاتب الكتاب و لهذا يسمونه الكاتب المطلق و كان يقال للكاتب على الملك ثلاث رفع الحجاب عنه و اتهام الوشاة عليه و إفشاء السر إليه و كان يقال صاحب السلطان نصفه و كاتبه كله و ينبغي لصاحب الشرطة أن يطيل الجلوس و يديم العبوس و يستخف بالشفاعات

٧٩

و كان يقال إذا كان الملك ضعيفا و الوزير شرها و القاضي جائرا فرقوا الملك شعاعا و كان يقال لا تخف صولة الأمير مع رضا الكاتب و لا تثقن برضا الأمير مع سخط الكاتب و أخذ هذا المعنى أبو الفضل بن العميد فقال:

و زعمت أنك لست تفكر بعد ما

علقت يداك بذمة الأمراء

هيهات قد كذبتك فكرتك التي

قد أوهمتك غنى عن الوزراء

لم تغن عن أحد سماء لم تجد

أرضا و لا أرض بغير سماء

و كان يقال إذا لم يشرف الملك على أموره صار أغش الناس إليه وزيره و كان يقال ليس الحرب الغشوم بأسرع في اجتياح الملك من تضييع مراتب الكتاب حتى يصيبها أهل النذالة و يزهد فيها أولو الفضل

فصل في ذكر ما نصحت به الأوائل الوزراء

و كان يقال لا شي‏ء أذهب بالدول من استكفاء الملك الأسرار و كان يقال من سعادة جد المرء ألا يكون في الزمان المختلط وزيرا للسلطان و كان يقال كما أن أشجع الرجال يحتاج إلى السلاح و أسبق الخيل يحتاج إلى السوط و أحد الشفار يحتاج إلى المسن كذلك أحزم الملوك و أعقلهم يحتاج إلى الوزير الصالح و كان يقال صلاح الدنيا بصلاح الملوك و صلاح الملوك بصلاح الوزراء

٨٠