دفع الشبه عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والرسالة

دفع الشبه عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والرسالة0%

دفع الشبه عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والرسالة مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 116

دفع الشبه عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والرسالة

مؤلف: أبو بكر بن محمّد بن عبد المؤمن تقي الدين الحصني الدمشقي
تصنيف:

الصفحات: 116
المشاهدات: 35321
تحميل: 3524

توضيحات:

دفع الشبه عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والرسالة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 116 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 35321 / تحميل: 3524
الحجم الحجم الحجم
دفع الشبه عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والرسالة

دفع الشبه عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والرسالة

مؤلف:
العربية

والسُّنّة، وتفيد القطع، وتفيد ترتّب الاحكام الشرعية، لا سيّما في محلّ الشُّبه.

قال بعض السلف رضي‌الله‌عنهم : الاعراض عن الحقّ والتسخّط له علامة الركون الى الباطل، وطريق الحقّ دقيق وبعيد، والصبر معه شديد، والعدوّ لا يزال عنه يحيد، وأثقال الحقّ لا يحملها إلاّ مطايا الحقّ.

وقال بعض السلف: داعي الحقّ داعي رشد، ليس للشيطان فيه يد، ولا للنفس فيه نصيب. وداعي الباطل من نزغات الشيطان وهوى النفس، ومتّبعها هالك لا محالة ; لانّه عاص في صورة طائع، ومُبعِد في صورة مُقرِّب.

وصدق ونصحرضي‌الله‌عنه ، فقد هلك بسبب ذلك خلق لا يُحصون عدّاً، ولا يمكن ضبطهم حدّاً.

قال العلماء: إنّ وسوسة التشبيه من إبليس، فالردّ عليه وابطال وسوسته أن يقول في نفسه: كلّ ما تصوّر في صدري فالربّ بخلافه، فإنّه لا يتصوّر في صدري إلاّ مخلوق له كيفيّة ومِثْل، والربّ - سبحانه وتعالى - لا مِثْل له ولا كيفية، فما مثل في صدري فهو غير ربي، فهو - سبحانه وتعالى - موحّد الذات والصفات.

[التوحيد والعدل في كلام الائمة]

وسُئل عليرضي‌الله‌عنه عن التوحيد والعدل، فقال: (التوحيد أن لا تتوهّمه، والعدل أن لا تتّهمه).

وقال يحيى بن معاذ: التوحيد في كلمة واحدة ما تصوّر في الاوهام فهو بخلافه.

وقال عليرضي‌الله‌عنه : (ليس لصفته حدّ محدود، ولا نعت موجود).

وقالرضي‌الله‌عنه : (أوّل الدين معرفته، وكمالُ معرفته التصديق به، وكمالُ التصديق به

١٠١

توحيده، وكمالُ توحيده الاخلاص له، وكمالُ الاخلاص له نفي الصفات الُمحدَثة عنه، فمن وصفه بحادث فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه(١) ، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه)(٢) .

قال المحقّقون: من اعتقد في الله - سبحانه وتعالى - ما يليق بطبعه فهو مشبّه ; لانه - سبحانه وتعالى - منزّه عمّا يصفه به أو يتخيّله ; لانّ ذلك من صفات الحَدَث.

وسُئل - أعني عليّاًرضي‌الله‌عنه : بمَ عرفت ربّك؟ فقال: (عرفتُه بما عرّف به نفسه ; لا يُدرك بالحوّاس، ولا يُقاسُ بالناس، قريب في بُعده، بعيد في قُربه، فوق كلّ شيء ولا يقال تحته شيء وأمام كلّ شيء، ولا يقال أمامه شيء، وهو في كلّ شيء لا كشيء في شيء فسبحان من هو هكذا وليس هكذا غيره)(٣) .

وقال أيضاًرضي‌الله‌عنه : (عرّفنا الله - سبحانه وتعالى - نفسه بلا كيف، وبعث سيّدنا محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبليغ القرآن، وبيان المفصّلات للاسلام والايمان، وإثبات الحجّة وتقويم الناس على منهج الاخلاص، فصدّقته بما جاء به).

وقال الامام الحافظ محمّد بن علي الترمذي صاحب التصانيف المشهورة: من جهل أوصاف العبوديّة فهو بنعت الربوبيّة أجهل.

____________________

(١) قوله: «ثنّاه» هي ثنّاه. انتهى. مصحّحه.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة الاولى ص٣٩ تحقيق الدكتور صبحي الصالح.

(٣) لاحظ هذه النص في كتب الشيعة الامامية: المحاسن للبرقي ص٢٣٩، والكافي للكليني ١/٨٥، والتوحيد للصدوق ص٢٨٥.

١٠٢

قال جعفر ]الصادق[ في قوله تعالى: (قل هو اللهُ أحدٌ) : (هو الذي لم يُعطِ لاحد من معرفته غير الاسم والصفة).

وقيل: هو الذي لا يدرك حقيقة نعوته وصفاته إلاّ هو.

وقوله تعالى (الله الصمد) قيل هو الذي أيست العقول من أن تطّلع عليه، أو تُدرك ما وصف به نفسه ونسب إليه.

وقيل: هو السيّد الذي لا نهاية لسؤدده.

وقيل: هو المصمود إليه في الحوائج.

وقيل: هو الذي لا يستغني عنه شيء من الاشياء.

وقال ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه : معناه الذي لا جوف له. وقيل غير ذلك.

وقوله: (لم يلد ولم يُولد) نفي الجنسية والبعضية.

وقوله: (ولم يكنْ له كفواً أحدٌ) نفي الشريك والنظير، فهو الذي لا نظير له في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله.

فتعالى أن تُدركه الاوهام والعقول والعلوم، بل هو كما وصف نفسه، والكيفية عن وصفه غير معقولة ولا موهومة، كيف يكون ذلك؟ وهو قديم الذات والصفات، والتخيّل إنّما يكون في المحدثات.

وسئل الامام العلاّمة أبو الحسن الدينوري عن الاستدلال بالشاهد على الغائب، فقال: كيف يستدلّ بصفات من يشاهد ويعاين وذو مثل على من لا يُشاهد ولا يُعاين في الدنيا ولا نظير له ولا مثل؟!

هذا من جهل الجاهلين بالايات التي قلبوا بها حقائق الامور، فجعلوا الايات صفات، ومعنى الايات العلامات.

وهو كلام إمام محقّق، وقد زلّ خلق كثير بمثل ذلك.

فسبحان الاحدي الذات، العليّ الصفات، المنزّه عن الالات، المقدّس عن

١٠٣

الكيفيات، المنزّه عن مشابهة المخلوقات، تعالى عمّا يقوله من الالحاقات.

كيف يُقاس القادر بالمقدورات والصانع بالمصنوعات؟! وهي من آياته البيّنات الظاهرات.

رفع السموات، وبسط الارض وثبتها بالاوتاد الراسيات، وأتحفها بالمُزن الماطرات، فزهت بأنواع النباتات المختلفات، كذلك يحيي الموتى. (إعلموا أنّ الله يُحيي الارض بعد موتِها قد بيَّنّا لكم الاياتِ).

قال أرباب البصائر وذوو التحقيقات: ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم من جهة المعنى، ولا لصفته صفة من جميع الوجوه إلاّ من جهة موافقة اللفظ.

وكما لم يجز أن يظهر من مخلوق صفة قديمة، كذلك يستحيل أن يظهر من الذات الذي ليس كمثله شيء صفة حديثة.

وأنّ التكرار من حدوث الصفة، جلّ ربّنا أن يحدث له صفة أو أسم ; إذ لم يزل بجميع صفاته واحداً، ولا يزال كذلك.

وكلّ أمور التوحيد والتفريد خرجت(١) من هذه الكلمة(ليس كمثله شيء).

لانّه ما عبّر عن الحقيقة بشيء إلاّ والعلّة مصحوبة والعبارة منقوضة ; لان الحقّ لا ينبعث(٢) أقداره إلاّ على إقراره ; لانّ كلّ ناعت مشرف على المنعوت، وجلّ ربّنا أن يشرف عليه مخلوق، احتجب عن خلقه بخلقه، ثمّ عرّفهم صنعه

____________________

(١) أي ظهرت للمؤمنين وفهموها من هذه الكلمة. انتهى. مصحّحه.

(٢) قوله: «لا ينبعث» هو لا ننعت... الى آخره. بدليل قوله بعد ذلك: «لانّ كلّ ناعت...» الى آخره. انتهى. مصحّحه.

١٠٤

بصنعه، وساقهم الى أمره بأمره، فلا يمكن الاوهام أن تناله، ولا العقول أن تختاله(١) ، ولا الابصار أن تمثله، ولا الاسماع أن تشتمله(٢) ، ولا الاماني أن تمتنحه.

هو الذي لا قبل له، ولا مفرّ(٣) عنه ولا معدل، ولا غاية وراءه ولا مثل. ليس له أمد ولا نهاية ولا غاية ولا ميقات ولا انقضاء، ولا يستره حجاب، ولا يقلّه مكان ولا يحويه هواء، ولا يحتاطه(٤) فضاء، ولا يتضمّنه خلاء (ليس كمثلهِ شيء وهو السميعُ البصيرُ).

قال ابن عبّاس رضي‌الله‌عنهما: معنى الاية ليس له نظير.

وقيل: الكاف صلة ; أعني زائدة، فالمعنى: ليس مثله شيء.

وقيل: المثل صلة، فالمعنى ليس كهو شيء، فأدخل المثل للتأكيد.

فمن الجهل البيّن أن يطلب العبد درك ما لا يُدرك، وأن يتصوّر ما لا يُتصوَّر.

كيف ؟

وقد نزّه نفسه بنفسه عن أن يدرك بالحوّاس، أو يُتصور بالعقل الحادث

____________________

(١) يريد: أن تتخيّله. انتهى. مصحّحه.

(٢) لعلّها تشمله ; أي هو ليس من جنس الاصوات فتسمعه الاسماع. انتهى. مصحّحه.

(٣) لعلّها مفرّ. أنتهى. مصحّحه.

(٤) لعلّ الاصل«لا يحيط به...» الى آخره. أنتهى مصحّحه. عبارة المصنّف صحيحة لمجيء «احتاط» بمعنى «أحاط».

١٠٥

والقياس، فلا يدركه العقل الصحيح من جهة التمثيل، ويدركه من جهة الدليل.

فكلّ ما يتوهّمه العقل فهو جسم، وله(١) نهاية في جسمه وجنسه ونوعه وحركته وسكونه، مع ما يلزمه من الحدود والمساحة، ومن الطول والعرض، وغير ذلك من صفات الحدث، تعالى الله عن ذلك.

فهو الكائن قبل الزمان والمكان المحدَثين، وهو الاوّل قبل سوابق العدم، الابدي بعد لواحق القدم، ليس كذاته ذات، ولا كصفاته صفات، جلّت الذات القديمة الواجبة الوجود - التي لم تُسبق بعدم(٢) أن تكون كالصفة الحديثة.

قال تعالى: (أو لا يَذكرُ الانسان أنّا خلقناهُ مِن قبلُ ولم يكُ شيئاً).

فهو - سبحانه وتعالى - احتجب عن العقول والافهام كما احتجب عن الادراك والابصار، فعجز الخلق عن الدَّرك، والدَّرك عن الاستنباط، وانتهى المخلوق الى مثله، وأسنده الطلب الى شكله.

قال الصدّيقرضي‌الله‌عنه : «العجز عن درْك الادراك إدراك».

وقالرضي‌الله‌عنه : «سبحان من لم يجعل للخلق سبيلاً الى معرفته إلاّ بالعجز عن معرفته».

فهو سبحانه عليم قدير سميع بصير، لا يوصف علمه وقدرته وسمعه وبصره بما يوصف به المخلوق ولا حقيقته.

كذلك عُلّوه واستواؤه ; إذ الصفة تتبع الموصوف.

فإذا كانت حقيقة الموصوف ليست من جنس حقائق سائر الموصوفات،

____________________

(١) قوله: ولا نهاية صوابه وله نهاية الى آخره. كما هو ظاهر. انتهى. مصحّحه.

(٢) قوله: «بقدم» هو بعدم، كما هو واضح. انتهى مصحّحه.

١٠٦

فكذلك حقيقة صفاته.

فأجهل الناس وأحمقهم وأجحدهم للحقّ، مَن يُشبّه من ليس كمثله شيء بالمخلوق المصنوع في شيء من صفاته وأفعاله وذاته (تعالى الله عمّا يقولونَ علوّاً كبيراً).

لانّه - سبحانه وتعالى - وصفاته مصون عن الظنون الكاذبة والاوهام السخيفة.

وقيل في قوله تعالى: (وما قدروا الله حقَّ قدره) أي ما وصفوه حقّ وصفه.

وقيل: ما عظّموه حقّ عظمته.

وقيل: ما عرفوه حقّ معرفته، وقيل غير ذلك.

قال بعض أهل المعاني والقلوب: لا يعرف قدر الحقّ إلاّ الحقّ، وكيف يقدر أحد قدره وقد عجز عن معرفة قدره الوسائط والرسل والاولياء والصدّيقون؟

ثم قال: ومعرفة قدره أن لا تلتفت عنه الى غيره، ولا تغفل عن ذكره، ولا تفتر عن طاعته ; إذ ذاك(١) عرفت قدر ظاهر قدره، وأمّا حقيقة قدره فلا يقدر قدرها إلاّ هو.

وصدق ; لانّ الخلق تعجز عن تنزيهه بما يستحقّه من كمال صفاته وعظم ذاته.

____________________

(١) أي لو كنت كما ذكر قد الخ أنتهى. مصحّحه.

١٠٧

[في التسبيح]

ولهذا نزّه سبحانه نفسه بقوله : (سبحان ربِّك ربِّ العزّة عمَّا يصفون)، وفي هذا غاية الحثّ على كثرة التنزيه ودوامه، مع أمره لاكمل خلقه في قوله تعالى: (سبّح اسم ربّك الاعلى)، مع غير ذلك مّما في أشرف الكتب مّما أذكر بعضه.

فقوله: (سبّح اسم ربِّك) أي قل : سبحان ربّي الاعلى، والمعنى: نزّه اسم ربّك واذكره وأنت له معظّم.

وقيل:نزّه عن المعاني المفضِية الى نقصه.

وقيل: نزّه اسمه عن الكذب إذا أقسمت به.

وقيل: لفظ اسم زائد، وفي الكلام حذف، المعنى: نزّه مسمّى ربّك الذي خلق فسوّى، أي مخلوقه ; بأن خلقه مستوياً بلا تفاوت فيه وفي أعضائه، وغير ذلك من مخلوقاته، فإنّ مَنْ هذا من بعض مصنوعاته يستحقّ التنزيه، فكيف بمخلوقات اُخر يعجز الخلق عن إدراكها لعظمها؟! وكلّها على اختلاف أجناسها وأنواعها، كلٌّ يسبّحه بلغته،وبما يليق بجلاله.

قال تعالى: (يسبّحُ لهُ السمواتُ السَّبعُ والارضُ ومن فيهنَّ وإن من شيء إلاّ يسبَّحُ بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).

وقال: (والطيرُ صافات كلٌّ قد عَلِمَ صلاتهُ وتسبيحهُ).

قال مجاهد: تسبيح المخلوقات هو تنزيه خالقها وتوحيده بما يستحقّه ; من كمال صفات عظم ذاته.

قيل: يفقه تسبيحهم العلماء الرّبّانيون الذين انفتحت أسماع بصائرهم والمنوّرون البصائر الذين يشاهدون كلّ شيء مرقوماً عليه بقلم القُدرة: هو الملك القُدّوس.

وقال مجاهد: كلّ الاشياء تسبّح حيواناً وجماداً، وتسبيحها: سبحان الله وبحمده.

١٠٨

وروى ابن السني: أنّهعليه‌السلام قال: (ما تستقبل الشمس فيبقى شيء من خلق الله تعالى إلاّ سبّح الله تعالى وحمده، إلاّ ما كان من الشيطان وأغبياء بني آدم. فقيل: ما أغبياء بني آدم؟ فقال: شرار الخلق).

وقال شهيب(١) بن حوشب: حملة العرش ثمانية: أربعة يقولون: سبحانك اللّهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة يقولون: سبحانك اللّهمّ وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك.

[في التقديس]

وقال : (هو الله الذي لا إله إلاّ هو الملكُ القدّوس) فالملك اسم من أسمائه تعالى، وكذا مليك، وهو صفة مبالغة في الملك، قال تعالى: (عند مليك مقتدر) فالملك هو المُستغني عن كلّ شيء، ويفتقر إليه كلّ شيء، ونافذ حكمه في مملكته طوعاً أو كرهاً.

وقيل: هو القادر على الابداع والانشاء والاعدام، وهذا على الحقيقة لا يكون إلاّ لله - عزّ وجلّ - أبدع المكوِّنات العُلويّات والسُّفليّات الجليّات والخفيّات، أبدعها بقدرته ورتّبها على اختلاف أطوارهابحكمته، فكلّ مابرز فهو مقهور الوجود ب- «كُنْ»، وكلّ ما انعدم فهو مقهور العدم ب- «كُنْ».

وبهذا يُعلم أنّ إطلاق الملك على ما سواه أمر مجازيّ، إذ المملوك لا يكون مالكاً ; لانّ من هو تحت قهر الاغيار فهو كالعدم.

ولهذا لمّا تحقّق أرباب القلوب أنّ الملك لله - عزّ وجلّ - تحقّقاً قلبيّاً، سكنت

____________________

(١) معروف هذا الاسم ب- «شهر». انتهى. مصحّحه.

١٠٩

أنفسهم عن وصف الاضافات، وتبرّؤوا من الحول والقوّة حتى بالاشارات، فلا يقول: منّي، ولا لي ; حتّى قيل لبعضهم: ألك ربّ؟ فقال أنا عبد، وليس لي نملة، ومن أنا حتّى أقول: لي.

فهذا وأمثاله صفّى نفسه عن رعونة البشريّة وهواها، وفكّ رِبقة رِقّ خيالاتها الباطلة ومُناها، ومحض رقّ العبودية لمولاها.

فترى الملوك الجبابرة مع جبروتهم يخضعون ويتذلّلون له. ولهذا تتّمات ليس هذا المقام مقامها ; إذ الغرض التنزيه.

والقُدُّوس من أسمائه - عزّ وجلّ - سمّى نفسه بذلك ليُرشدك الى تقديسه، كما أشار الى ذلك بقوله تعالى : (يُسبِّحونَ اللَّيل والنَّهار لا يفترونَ).

وفيه الحثّ على دوام التقديس.

فالقُدُّوس قيل: هو المنزّه عمّا لا يليق به من الاضداد والانداد.

وقيل: هو المنزّه والمطهّر من النقائص والعيوب.

وهاتان غير مرضيّين عند المحقّقين.

قال حجّة الاسلام الغوّاص الغزالي: «وهذا في حقّ الباري - سبحانه وتعالى - يقارب ترك الادب، كما أنّه ليس من الادب أن يقال لملك: ليس بحائك ولا بحجّام ; لانّ نفي الوجود يكاد يوهم إمكان الوجود، وفي ذلك الايهام نقص.

بل القدّوس: المنزّه عن كلّ وصف يُدركه حِسّ، أو يتصوّره وَهْم، أو يسبق إليه فكر، أو يهجس به سِرّ، أو يختلج به ضمير، أو يسنح له خفيّ خيال».

وقد أجادرضي‌الله‌عنه .

[فائدة جليلة للمنزّه والمشبّه]

وههنا فائدة جليلة للمنزّه والمشبِّه: وهي أنه ينبغي للعبد أن يجعل له حظّاً

١١٠

وافراً من تكرير هذا الاسم والامعان في معناه، فإن كان منزَّهاً عطف ذلك عليه، وقدّس نفسه وقلبه وبدنه:

أمّا نفسه فيطهّرها من الاوهام المذمومة، كالغضب والحقد والحسد والغشّ وسوء الظنّ والكبر وحبّ الشرف والعُلوّ وحبّ الدنيا ولوازمها وغير ذلك، ويبدلها بالاوصاف المحمودة، فيطهّرها أيضاً عن العاهات والشهوات، وما تدعو إليه من المستحسنات والمألوفات ; إذ هي أزّمة الشيطان يقود بها الى ارتكاب الموبقات.

وأمّا القلب فيطهّره بالعقد الصحيح المطابق الجازم، وبالمبادرة الى امتثال الاوامر واجتناب النواهي والاهواء، وتحقيق الاخلاص نيّة وقولاً وعملاً، وبالرضا بما جرى، فلا يأسف على فائت ولا يفرح بآت، وذلك يرجع الى ذوق حلاوة الايمان القلبي لا العملي، وعلامته تقديس القلب عن ملاحظة الاكوان، ولا يرى الاغيار إلاّ على العدم الاصلي، فلا يتحرّك في ظاهره ولا باطنه حتّى في أنفاسه إلاّ بالله عزّ وجلّ.

وأما البدن فيطهّره بماء الجوع، ويكفنّه بدوام التقشّف، ويحنّطه بالعُزلة، ويطيّبه بدوام الذكر والفكر، ويدفنه في لحد الخوف، فإذا قدّسه بذلك ذهب مغناه، وبقي معناه.

فإذا اجتمعت له هذه التقديسات ذهبت أوصافه القواطع والموانع، ولاح له خزائن أسرار الايات في معارج ترداد الايات، فأثمر له ذلك كشف أسرار الملكوتيات، فيثمر له ذلك الشوقَ إلى رؤية مطلوبه، فلا شيء أشهى إليه من الموت ; لانّه لا سبيل الى الوصول الى محبوبه إلاّ به، فمن أراد أن يجلسه في حضرة القُدس على منابر التقديس، فليجرِ على هذا التأسيس.

ومرّ إبراهيم بن أدهم - قدس الله روحه - بسكران مطروح على قارعة الطريق

١١١

وقد تقيأ، فنظر إليه وقال: بأي لسان أصابته هذه الافة، وطهّر فمه ومضى.

فلمّا أفاق السكران أُخبر بما فعله به إبراهيم، فخجل وتاب، وحسنت توبته.

فرأى إبراهيم فيما يرى النائم كأنّ قائلاً يقول: غسلت لاجلنا فمه، فلا جرم أنّا طهّرنا لاجلك قلبه.

وأمّا المشبّه والمجسِّم فلانّه بتكرار هذا الاسم يتعقّل معناه، فيضيء له نوره، فينكشف له حجاب الضلال، فإذا حقّق المعنى المراد منه ظهر له نوره، فأحرق حجاب الضلال، فصفا قلبه للحقّ وزاح الباطل.

وقد وقع ذلك لبعض الغُلاة في التشبيه والتجسيم، مرّ يوماً على هذه الاية (هو الله الذي لا إله إلاّ هو الملك القُدُّوس)، فكرّر هذا الاسم وتعقّل معناه، فقال: والله أنا لفي ضلال مُبين بيّن.

فبادر في الحال، وأتى بالشهادتين، وقال: والله لا يخلّصني إلاّ استئناف العمل.

فانظر - أرشدك الله تعالى - الى بركة تكرير هذا الاسم العظيم في حقّ أهل التنزيه والتشبيه، والله أعلم.

[حقيقة التوحيد في الذات والافعال]

ثمّ تمام التقديس لا يحصل إلاّ بالتمكّن بعد كمال التوحيد، وحقيقة التوحيد تكون باعتبار الذات وباعتبار الفعل:

فتوحيد الذات ينفي الحدوث، وثبوت الاحديّة ينفي الاضداد، وثبوت الذات ينفي التشبيه، ويحيّر العقل في بحر الادراك.

وأما توحيد الافعال فهو شهود القدرة في المقدور، ثمّ الاستغراق في أنوار

١١٢

العظمة، فيغيب بذلك عن الموجودات، وتبقى القدرة بارزة بأسرار التوحيد، ثمّ الاستغراق في أنوار المحو، فيغيب عن رؤية القدرة بالقادر.

ومن مقدوراته - جلّ وعلا - ما ذكره في قوله تعالى: (يوم يقومُ الرُّوحُ).

قال أبو الفرج بن الجوزي: رُوي عن عليّرضي‌الله‌عنه في تفسيرها : (أنّ الروح مَلَكٌ عظيم، له سبعون ألف وجه، في كلّ وجه سبعون ألف لسان، لكلّ لسان سبعون ألف لغة، يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلّها، يخلق الله - عزّ وجلّ - من كلّ تسبيحة مَلَكاً يطير مع الملائكة الى يوم القيامة).

وقال ابن مسعودرضي‌الله‌عنه : «الروح مَلَكٌ عظيم ; أعظم من السموات والارضين والجبال والملائكة، يسبّح كلّ يوم ألف ألف تسبيحة، يخلق الله - سبحانه وتعالى - من كلّ تسبيحة مَلَكاً يجيء يوم القيامة صفّاً والملائكة بأسرهم يجيئون صفاً».

قال ابن عبّاس: وهو الذي ينزل ليلة القدر زعيم الملائكة، وبيده لواء طوله ألف عام، فيغرزه في ظهر الكعبة، ولو أذن الله - عزّ وجلّ - له أن يلتقم السموات والارض لفعل.

وقيل: الروح هنا جبريلعليه‌السلام .

وقيل: هو مَلَكٌ ما خلق الله بعد العرش خلقاً أعظم منه، وقيل غير ذلك.

رُوي أنّهعليه‌السلام قال: (رأيت على كلّ ورقة من السِّدرة مَلَكاً قائماً يسبّح الله عزّوجلّ).

ومراده «سدرة المنتهى» سُمّيت بذلك لانّها لا يتجاوزها أحد من الملائكة وغيرهم، ولا يعلم ما وراءها إلاّ الله عزّ وجلّ، وهي شجرة نَبق على يمين العرش، عندها جنّة المأوى، يأوي إليها الملائكةعليهم‌السلام ، وقيل: أرواح الشهداء،

وقيل: أرواح المتّقين.

١١٣

[ذو الجلال والاكرام]

وقال الله تعالى : (تبارك اسم ربِّك ذي الجلال والاكرام) معنى «تبارك» جلّ وعظم، ومعنى «ذي الجلال» المستحقّ للرفعة وصفات التعالي ونعوت الكمال.

جلّ أن يعرف جلاله غيره، تنزّه وعظُم شأنه عمّا يقول فيه المبطلون ; لانّ كلّ شيء يُثني عليه بقدرته، وكلّ ذاكر يذكره على قدر طاقته وطبعه وعلمه وفهمه.

والحقّ - جلّ جلاله - ذكره خارج عن أوهام الادميّين ; لانّ الحادث ناقص بقهر الايجاد والفناء، والعارف(١) دون الغايات الجلالية.

فسبحانه ما أثنى عليه حقّ ثنائه غيره، ولا وصفه بما يليق به سواه، عجز الانبياء والرسل بأجمعهم عن ذلك، قال أجلّهم قدراً، وأرفعهم محلاًّ، وأبلغهم نطقاً، مع ما أُعطي من جوامع الكَلِم: (لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك).

وأمّا(٢) «الاكرام» فمعناه: ذو الانعام والمِنَن على العامّ والخاصّ والطائع والعاصي.

____________________

(١) لم يظهر لي في هذه العبارة معنًى فلتحرّر. أنتهى. مصحّحه.

(٢) «ذو الانعام» ليس معنى «الاكرام»، بل معنى «ذو الاكرام»، فهنا لفظ «ذو» ساقط. انتهى مصحّحه. بل ليس هناك سقط في العبارة حيث إنه يفسّر قوله تعالى

١١٤

الفهرس

دَفْعُ الشُبَه عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والرسالة ٣

المؤلّف الامام الحصني ٥

سبب تأليف الكتاب وموضوعه، ونسخته ١١

كلمة لادارة المطبعة للطبعة الاولى عام (١٣٥٠ه- ) ١٥

هذه النسخة : ١٧

[مقدّمة المؤلّف وسبب التأليف] ١٩

[القائلون بالتجسيم من أئمة الحنابلة !] ٢٤

[عتاب المؤلّف مع الحنابلة!] ٢٦

[تأرجح الحنابلة مع الهوى في التجسيم والتأويل] ٢٨

[تناقض دعواهم] ٢٩

[الاستواء لغة وتأويلاً] ٣٢

[كلام ابن الجوزي الحنبلي في الردّ على المجسّمة] ٣٣

[مجموعة من الاحاديث المتشابهة] ٣٨

[اختلاف الناس في هذه الاخبار] ٤٩

[اتهام الامام أحمد بالتجسيم] ٥١

[كلام الامام الشافعي وأبي حنيفة ومالك، في التأويل] ٥٣

[كلام السلف في التأويل] ٥٥

[قول البغدادين في التأويل] ٥٦

[كلام يحيى بن معاذ في التأويل] ٥٨

[قول أهل التحقيق من أهل السنة والجماعة بالتأويل] ٥٩

١١٥

[مجموعة من تأويلات ابن عباس] ٦٠

[قول محمد بن المنكدر بالتأويل] ٦٤

[حديث حذيفة في الفتن ونبوغ الاهواء] ٦٥

[بدعة الكرامية والحنابلة] ٧٠

[البدعة وأسبابها] ٧٦

[التحذير من عقائد التيمية أهل الزيغ] ٨٢

[المرسوم السلطاني بشأن ابن تيمية] ٨٣

[تاريخ ابن تيمية كما نقله المؤرّخ ابن شاكر] كلام ابن تيميّة في الاستواء ووثوب الناس عليه: ٨٨

[تاريخ ابن تيمية الاسود] ٩١

[فتوى الائمة الاربعة بكفر ابن تيمية] ٩٧

[حكم ابن حيان على ابن تيمية بالتشبيه] ٩٩

[التوحيد والعدل في كلام الائمة] ١٠١

[في التسبيح] ١٠٨

[في التقديس] ١٠٩

[فائدة جليلة للمنزّه والمشبّه] ١١٠

[حقيقة التوحيد في الذات والافعال] ١١٢

[ذو الجلال والاكرام] ١١٤

الفهرس ١١٥

١١٦