روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة25%

روائع نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 237

روائع نهج البلاغة
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111504 / تحميل: 6598
الحجم الحجم الحجم
روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

متجرّدا(١) للطلب بدم عثمان إلاّ خوفا من أن يطالب بدمه لأنه مظنّته، و لم يكن في القوم أحرص عليه منه(٢) فأراد أن يغالط بما أجلب ليلبس الأمر(٣) و يقع الشك و و اللّه ما صنع في أمر عثمان واحدة من ثلاث: لئن كان ابن عفّان ظالما، كما كان يزعم، لقد كان ينبغي له أن يؤازر قاتليه أو أن ينابذ ناصريه. و لئن كان مظلوما لقد كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين عنه(٤) و المعذرين فيه(٥) . و لئن كان في شك من الخصلتين لقد كان ينبغي له أن يعتزله و يركد جانبا(٦) و يدع الناس معه. فما فعل واحدة من الثلاث، و جاء بأمر لم يعرف بابه و لم تسلم معاذيره

و انّى لصاحبهم

قال عبد اللّه بن العباس: دخلت على أمير المؤمنين (ع) بذي قار(٧) و هو يخصف نعله(٨) فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟

فقلت: لا قيمة لها. فقال عليه السلام: و اللّه

____________________

(١) كأنه سيف تجرد من غمده.

(٢) أحرص عليه، أي على دم عثمان، بمعنى سفكه.

(٣) يلبس الأمر: يجعله ملبسا، أي: مشتبها.

(٤) نهنهه عن الأمر: كفّه و زجره عن إتيانه.

(٥) المعذرين فيه: المعتذرين عنه في ما نقم منه.

(٦) يسكن في جانب عن القاتلين و الناصرين.

(٧) بلد بين واسط و الكوفة، و هو قريب من البصرة.

(٨) يخرزها.

١٠١

لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقّا أو أدفع باطلا. ثم خرج فخطب الناس فقال (و ذلك عند خروجه لقتال أهل البصرة في وقعة الجمل): ما ضعفت و لا جبنت، و إن مسيري هذا لمثلها(١) ، فلأنقبنّ الباطل حتى يخرج الحقّ من جنبه(٢) . ما لي و لقريش و اللّه لقد قاتلتهم كافرين و لأقاتلنّهم مفتونين، و إني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم

الام اجيب؟

من كلام له في أصحاب الجمل: ألا و إنّ الشيطان قد ذمر حزبه و استجلب جلبه(٣) ليعود الجور

____________________

(١) ضمير «لمثلها» يعود إلى المعارك التي خاضها الإمام ضد قريش في حروب الإسلام ضد المشركين، و قد أشار اليها في كلام سابق لهذا الكلام. و المعنى: أنه يسير اليوم الجهاد في سبيل الحقّ كما سار قديما.

(٢) الباطل يبادر البصيرة فيشغلها عن الحق و يقوم حجابا مانعا لها عنه، فكأنه شي‏ء اشتمل على الحق فستره. و الكلام تمثيل رائع لحال الباطل مع الحق، و حال الإمام في كشف الباطل و إظهار الحق.

(٣) ذمر: حث. الجلب: ما يجلب من بلد الى بلد.

١٠٢

إلى أوطانه و يرجع الباطل إلى نصابه(١) و اللّه ما أنكروا عليّ منكرا و لا جعلوا بيني و بينهم نصفا(٢) . و إنهم ليطلبون حقّا هم تركوه و دما هم سفكوه. فإن كنت شريكهم فيه فإنّ لهم لنصيبهم فيه، و لئن كانوا ولّوه دوني فما التّبعة إلاّ عندهم، و إنّ أعظم حجّتهم لعلى أنفسهم يا خيبة الداعي من دعا؟ و إلام أجيب؟(٣) و إني لراض بحجّة اللّه عليهم و علمه فيهم، فإن أبوا أعطيتهم حدّ السيف و كفى به شافيا من الباطل و ناصرا للحق و من العجب بعثهم إليّ أن أبرز للطّعان و أن أصبر للجلاد هبلتهم الهبول(٤) لقد كنت و ما أهدّد بالحرب و لا أرهب بالضرب، و إني على يقين من ربّي و غير شبهة من ديني.

____________________

(١) النصاب: الأصل، أو المنبت و أول كل شي‏ء. و في كلامه هذا إشارة صريحة الى رغبة من يعنيهم في إعادة الأثرة و الظلم و اقتناص المغانم إلى ادارة الدولة كما كانت في عهد بطانة الخليفة الثالث، و لا يتأتّى لهم ذلك إلا بتأليب الناس على الخليفة الجديد، و هو الإمام، الذي لا يطمعون في أيامه بأن يعود اليهم ما ألفوه في السابق من حرية التصرف بأموال الدولة و أحوال الناس.

(٢) النصف: العدل. أي: لم يحكموا العدل بيني و بينهم.

(٣) من: استفهامية. و ما (في إلام) استفهامية أيضا و قد حذفت منها الألف لدخول «إلى» عليها. و يقصد بالداعي أحد قادة خصومه في موقعة الجمل إذ دعا الإمام إلى أن يبرز للطعان و كأنه يهدده بالحرب و نتائجها. و قوله «من دعا؟» استفهام عن الداعي و دعوته، استهانة بهما.

(٤) هبلتهم: ثكلتهم. و الهبول: المرأة التي لا يبقى لها ولد. و هو دعاء عليهم بالهلاك لعدم معرفتهم بأقدار أنفسهم.. أ بالحرب يهدّد ابن أبي طالب؟

١٠٣

في لجّة بحر

من كلام له في ذمّ أهل البصرة بعد موقعة الجمل: كنتم جند المرأة و أتباع البهيمة(١) : رغا فأجبتم، و عقر فهربتم.

أخلاقكم دقاق و عهدكم شقاق و دينكم نفاق و ماؤكم زعاق(٢) ، و المقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه، و الشاخص عنكم متدارك برحمة من ربّه. و ايم اللّه لتغرقنّ بلدتكم حتى كأني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ طير في لجّة بحر(٣) .

قتلوهم صبرا و غدرا

من خطبة له في ذكر أصحاب الجمل: فخرجوا يجرّون حرمة رسول اللّه(٤) صلى اللّه عليه و آله، متوجّهين بها إلى البصرة: فحبسوا نساءهم في بيوتهم و أبرزوا حبيس رسول اللّه (ص) لهم و لغيرهم في جيش ما منهم رجل إلاّ و قد أعطاني الطاعة و سمح لي بالبيعة طائعا غير مكره، فقدموا على عاملي بها و خزّان بيت مال المسلمين و غيرهم من أهلها: فقتلوا طائفة صبرا(٥) و طائفة غدرا فو اللّه لو لم يصيبوا من

____________________

(١) يريد الجمل.

(٢) دقة الأخلاق: دناءتها. زعاق: مالح.

(٣) الجؤجؤ: الصدر.

(٤) حرمة رسول اللّه كناية عن زوجته، و أراد بها السيدة عائشة.

(٥) القتل صبرا: أن تحبس الشخص ثم ترميه حتى يموت.

١٠٤

المسلمين إلاّ رجلا واحدا معتمدين لقتله بلا جرم جرّه، لحلّ لي قتل ذلك الجيش كلّه

الّذين قاتلوني

من كلام له في معنى وقعة الجمل: بليت في حرب الجمل بأشدّ الخلق شجاعة، و أكثر الخلق ثروة و بذلا، و أعظم الخلق في الخلق طاعة، و أو فى الخلق كيدا و تكثّرا: بليت بالزّبير لم يردّ وجهه قط. و بيعلى بن منيّة يحمل المال على الإبل الكثيرة و يعطي كلّ رجل ثلاثين دينارا و فرسا على أن يقاتلني. و بعائشة ما قالت قط بيدها هكذا إلا و اتّبعها الناس. و بطلحة لا يدرك غوره و لا يطال مكره

بكم ذوو كلام

من خطبة له في تقريع أصحابه بالكوفة: و لئن أمهل الظالم فلن يفوت أخذه و هو له بالمرصاد على مجاز طريقه.

أما و الذي نفسي بيده ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنهم أولى بالحقّ منكم، و لكنّ لإسراعهم إلى باطل صاحبهم و إبطائكم عن حقي. و لقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، و أصبحت أخاف ظلم رعيتي: استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، و أسمعتكم فلم تسمعوا، و دعوتكم سرا و جهرا فلم تستجيبوا، و نصحت لكم فلم تقبلوا. أ شهود كغيّاب(١)

____________________

(١) شهود، جمع شاهد و هو الحاضر.

١٠٥

و عبيد كأرباب؟ أتلو عليكم الحكم فتنفرون منها، و أعظكم بالموعظة فتتفرقون عنها، و أحثّكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر القول حتى أراكم متفرّقين أيادي سبا ترجعون إلى مجالسكم و تتخادعون عن مواعظكم.

أيها الشاهدة أبدانهم الغائبة عقولهم المختلفة أهواؤهم المبتلى بهم أمراؤهم، صاحبكم يطيع اللّه و أنتم تعصونه، و صاحب أهل الشام يعصى اللّه و هم يطيعونه لوددت و اللّه أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ مني عشرة منكم و أعطاني رجلا منهم.

يا أهل الكوفة، منيت منكم بثلاث و اثنتين: صمّ ذوو أسماع، و بكم ذوو كلام، و عمي ذوو أبصار، لا أحرار صدق عند اللقاء و لا و لا إخوان نقة عند البلاء

لا تنتقم من عدوّ

من كتاب له الى عبد اللّه بن عباس عامله على البصرة، و كان عباس قد اشتدّ على بني تميم لأنهم كانوا مع طلحة و الزبير يوم الجمل، فأقصى كثيرا منهم، فعظم ذلك على الإمام عليّ الذي يأبى قلبه الكبير الانتقام، فكتب الى عباس يردعه و يؤنبه و يقرر حقيقة نتجاهلها اليوم.. و هي أن رأس الدولة مسؤول هو أيضا عن أعمال موظفيه الذين ولاّهم أمور الناس.. قال: حادث أهلها بالإحسان إليهم و احلل عقدة الخوف عن قلوبهم

١٠٦

و قد بلغني تنمّرك لبني تميم(١) و غلظتك عليهم، فاربع(٢) أبا العباس، رحمك اللّه، في ما جرى على لسانك و يدك من خير و شرّ، فإنّا شريكان في ذلك، و كن عند صالح ظنّي بك، و لا يفيلنّ(٣) رأيي فيك

النّساء

من خطبة له بعد حرب الجمل في ذم النساء: فاتّقوا شرار النساء و كونوا من خيارهنّ على حذر. و لا تطيعوهنّ في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر

ارباب سوء

من خطبة له في التحذير من بني أمية: ألا إنّ أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أميّة، فإنها فتنة عمياء مظلمة. و ايم اللّه لتجدنّ بني أمية لكم أرباب سوء بعدي كالنّاب

____________________

(١) تنمرّك: تنكر أخلاقك.

(٢) اربع: ارفق وقف عند حدّ ما تعرف. يريد الإمام أمره بالتثبّت في جميع ما يعتمده فعلا و قولا من خير و شر و ألا يعجل به لأنه شريكه به، فإنه عامله و نائب عنه.

(٣) فال رأيه: ضعف.

١٠٧

الضروس(١) : تعذم بغيها و تخبط بيدها و تزبن برجلها(٢) و تمنع درّها، لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلاّ نافعا لهم. و لا يزال بلاؤهم حتى لا يكون أنتصار أحدكم منهم إلا كانتصار العبد من ربّه و الصاحب من مستصحبه(٣) ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشيّة(٤) و قطعا جاهلية

لا مدر و لا وبر

من كلام له في بني أمية: و اللّه لا يزالون حتى لا يدعوا للّه محرّما إلا استحلّوه، و لا عقدا إلاّ حلّوه، و حتى لا يبقى بيت مدر و لا وبر إلاّ دخله ظلمهم(٥) و حتى يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكي لدينه و باك يبكي لدنياه، و حتى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيده، إذا شهد أطاعه، و إذا غاب اغتابه

____________________

(١) الناب: الناقة المسنّة. الضروس: السيئة الخلق تعضّ حالبها.

(٢) تعذم: تأكل بخفاء و تعض. تزبن: تضرب.

(٣) التابع من متبوعه، أي: انتصار الأذلاّء، و ما هو بانتصار.

(٤) شوهاء: قبيحة المنظر. مخشيّة: مرعبة.

(٥) بيوت المدر: المبنية من طين. و بيوت الوبر: الخيام.

١٠٨

رحب البلعوم

من كلام له لأصحابه: أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم مندحق البطن(١) يأكل ما يجد و يطلب ما لا يجد أ لا و إنه سيأمركم بسبّي و البراءة مني. أمّا السبّ فسبّوني، فإنه لي زكاة و لكم نجاة. و أمّا البراءة فلا تتبرّأوا مني، فإني ولدت على الفطرة و سبقت إلى الايمان و الهجرة

نهم الاثرياء

من كتاب له الى معاوية، و فيه نظرة الإمام الصائبة الى أصحاب الثراء الذين لا يزيدهم المال إلا نهما و حرصا على الاستزادة منه: أمّا بعد، فإنّ الدنيا مشغلة عن غيرها، و لم يصب صاحبها منها شيئا إلا فتحت له حرصا عليها و لهجا بها(٢) . و لن يستغني صاحبها بما نال فيها عما لم يبلغه منها. و من وراء ذلك فراق ما جمع و نقض ما أبرم. و لو اعتبرت بما مضى حفظت ما بقي، و السلام.

____________________

(١) مندحق البطن: عظيم البطن بارزه كأنه لعظمه مندلق من بدنه يكاد يبين عنه.

و الواضح أن المقصود بهذا الكلام هو معاوية.

(٢) لهجا: ولوعا و شدّة حرص.

١٠٩

مع الحقّ

كتب معاوية إلى الإمام علي يطلب اليه أن يترك له الشام، فكتب اليه الإمام جوابا جاء فيه: فأمّا طلبك إليّ الشام، فإني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس و أمّا قولك «إن الحرب قد أكللت العرب إلاّ حشاشات أنفس بقيت» أ لا و من أكله الحقّ فإلى الجنّة، و من أكله الباطل فإلى النار. و أمّا استواؤنا في الحرب و الرجال فلست بأمضى على الشك منّي على اليقين

ناقل التّمر الى هجر

من كتاب له الى معاوية أيضا جوابا: أمّا بعد، فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء اللّه محمدا صلى اللّه عليه لدينه، و تأييده إياه بمن أيّده من أصحابه، فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا إذ طفقت تخبرنا ببلاء اللّه عندنا و نعمته علينا في نبيّنا، فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر أو داعي مسدّده إلى النضال(١) .

____________________

(١) هجر: مدينة في البحرين كثيرة النخيل. المسدّد: معلم رمي السهام. النضال: المراماة. يقول: كنت في ذلك كمن ينقل التمر إلى مصدره و يدعو معلمه في الرمي الى المناضلة، و هما مثلان لناقل الشي‏ء الى معدنه و المتعالم على معلّمه.

١١٠

ثم ذكرت ما كان من أمري و أمر عثمان، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه(١) فأيّنا كان أعدى له و أهدى إلى مقاتله(٢) : أ من بذل له نصرته فاستقعده و استكفّه(٣) ؟ أم من استنصره فتراخى عنه و بثّ المنون إليه(٤) حتى أتى قدره عليه؟

و ما كنت لأعتذر من أنّي كنت أنقم عليه أحداثا(٥) ، فإن كان الذنب إليه إرشادي و هدايتي له، فربّ ملوم لا ذنب له.

اتّق اللّه

من كتاب له الى معاوية ايضا: فاتّق اللّه في ما لديك، و انظر في حقّه عليك، و ارجع إلى معرفة ما لا تعذر بجهالته. و إن نفسك قد أولجتك شرا و أقحمتك غيّا(٦) و أوردتك المهالك و أوعرت عليك المسالك.

____________________

(١) أي لقرابتك منه يصح الجدال معك في أمره.

(٢) أعدى: أشد عدوانا. المقاتل: وجوه القتل.

(٣) استقعده و استكفه: طلب اليه أن يقعد عن نصرته و أن يكفّ عن مساعدته. و الذي بذل النصرة هو الإمام. و الذي استقعد الإمام و استكفّه هو عثمان.

(٤) المعنى هو أن عثمان استنصر بعشيرته من بني أمية كمعاوية، فخذلوه و خلّوا بينه و بين الموت فكأنهم أفضوا بالموت إليه.

(٥) نقم عليه: عاب عليه. الأحداث: جمع حدث، و هو هنا البدعة.

(٦) أولجتك: أدخلتك. أقحمتك غيّا: رمت بك في الضلال.

١١١

ارديت جيلا من النّاس

من كتاب له الى معاوية أيضا: و أرديت جيلا من الناس كثيرا: خدعتهم بغيّك و ألقيتهم في موج بحرك تغشاهم الظلمات و تتلاطم بهم الشبهات، فجازوا عن وجهتهم(١) و نكصوا على أعقابهم(٢) و تولّوا على أدبارهم و عوّلوا على أحسابهم إلاّ من فاء من أهل البصائر(٣) .

خدعة الصّبيّ

و من كتاب له الى معاوية جوابا: و ذكرت أني قتلت طلحة و الزبير و شرّدت بعائشة و نزلت المصرين(٤) و ذلك أمر غبت عنه فلا عليك، و لا العذر فيه إليك.

و قد أكثرت في قتلة عثمان فادخل في ما دخل فيه الناس(٥) ثم حاكم

____________________

(١) جازوا عن وجهتهم: بعدوا عن جهة قصدهم، أي كانوا يقصدون حقا فمالوا إلى باطل.

(٢) نكصوا: رجعوا.

(٣) عولوا: اعتمدوا. أي: اعتمدوا على شرف قبائلهم فتعصبوا تعصّب الجاهلية و نبذوا نصرة الحق. فاء: رجع (إلى الحق).

(٤) شرد به: طرده و فرّق أمره. المصران: الكوفة و البصرة.

(٥) ما دخل فيه الناس هو: البيعة.

١١٢

القوم إليّ أحملك و إياهم على كتاب اللّه تعالى. و أمّا تلك التي تريد(١) فإنها خدعة الصبيّ عن اللبن(٢) .

سبحان اللّه يا معاوية

من كتاب له الى معاوية أيضا: فسبحان اللّه ما أشدّ لزومك للأهواء المبتدعة، مع تضييع الحقائق.

فأمّا إكثارك الحجاج في عثمان و قتلته(٣) ، فإنك إنما نصرت عثمان حيث كان النصر لك، و خذلته حيث كان النصر له(٤) و السلام؟

يغدر و يفجر

من كلام له في مسلكه و مسلك معاوية: و اللّه ما معاوية بأدهى مني، و لكنه يغدر و يفجر. و لو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس

____________________

(١) تلك التي تريد: ولاية الشام. و كان الإمام يأبى أن يبقي معاوية في هذه الولاية.

(٢) خدعة يصرف بها الصبي أول فطامه عن اللبن. و المقصود هنا: ما تصرف به عدوّك عن قصدك به في الحروب و ما إليها من أحوال الخصومة.

(٣) الحجاج: الجدال.

(٤) نصرت عثمان بعد مقتله.. حيث كان في الانتصار له فائدة لك تتّخذه ذريعة لجمع الناس إلى أغراضك. أما و هو حي، و كان انتصارك له يفيده، فقد خذلته و أبطأت عنه.

١١٣

ثمن البيعة

من خطبة له: و لم يبايع حتى شرط أن يؤتيه على البيعة ثمنا(١) فلا ظفرت يد البائع، و خزيت أمانة المبتاع. فخذوا للحرب أهبتها و أعدّوا لها عدّتها

كلة الرّشا

و قد ورد مثل المعنى السابق أيضا في كتاب بعث به الإمام الى جماعة من أصحابه. قال: إنّما تقاتلون أكلة الرّشا و عبيد الدنيا و البدع و الأحداث. لقد نمي إليّ أن ابن الباغية(٢) لم يبايع معاوية حتى شرط عليه أن يأتيه أتاوة هي أعظم ممّا في يديه من سلطان، فصفرت يد هذا البائع دينه بالدنيا، و تربت يد هذا المشتري نصرة غادر فاسق بأموال الناس

____________________

(١) ضمير «يبايع» يعود إلى عمرو بن العاص، فإنه شرط على معاوية أن يوليه مصر لو تمّ له الأمر. و هذا ما كان بعد ذلك.

(٢) المقصود هو عمرو بن العاص.

١١٤

اذهبت دنياك و آخرتك

من كتاب له الى عمرو بن العاص يوم لحق بمعاوية: فإنك قد جعلت دينك تبعا لدنيا المرى‏ء ظاهر غيّه مهتوك ستره يشين الكريم بمجلسه و يسفّه الحليم بخلطته، فاتّبعت أثره و طلبت فضله اتّباع الكلب للضرغام(١) : يلوذ إلى مخالبه و ينتظر ما يلقي إليه من فضل فريسته، فأذهبت دنياك و آخرتك و لو بالحقّ أخذت أدركت ما طلبت. فإن يمكّنّي منك و من أبي سفيان أجزكما بما قدّمتما.

لاشدّنّ عليك

من كتاب له الى زياد بن أبيه و هو على البصرة: و إني أقسم باللّه قسما صادقا لئن بلغني أنك خنت من في‏ء المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا(٢) لأشدّنّ عليك شدّة تدعك قليل الوفر(٣) ثقيل الظهر ضئيل الأمر، و السلام.

____________________

(١) الضرغام: الأسد.

(٢) الفي‏ء: المال من غنيمة أو خراج.

(٣) لأشدن عليك شدة: لأحملنّ عليك حملة. الوفر المال.

١١٥

متمرّغ في النعيم

و من كتاب له إلى زياد بن أبيه أيضا: أ ترجو أن يعطيك اللّه أجر المتواضعين و أنت عنده من المتكبّرين؟ و تطمع، و أنت متمرّغ في النعيم تمنعه الضعيف و الأرملة، أن يوجب لك ثواب المتصدّقين؟ و إنّما المرء مجزيّ بما أسلف(١) و قادم على ما قدّم.

احذر معاوية

من كتاب له الى زياد بن أبيه أيضا و قد بلغه ان معاوية كتب اليه يريد خديعته باستلحاقه: و قد عرفت أن معاوية كتب إليك يستزلّ لبّك و يستفلّ غربك(٢) فاحذره، فإنما هو الشيطان يأتي المؤمن من بين يديه و من خلفه، و عن يمينه و عن شماله، ليقتحم عليه غفلته و يستلب غرّته(٣) .

____________________

(١) أسلف: قدّم في سالف أيامه.

(٢) يستزل: يطلب به الزلل، و هو الخطأ. الغرب: الحدّة و النشاط. يستفل غربك: يطلب ثلم حدّتك.

(٣) يقتحم غفلته: يدخل غفلته بغتة فيأخذه فيها. و تشبيه الغفلة بالبيت يسكن فيه الغافل، من روائع التشببه. الغرة: خلوّ العقل من ضروب الحيل، و المراد منها العقل الغر و الساذج.

١١٦

النّاس عندنا اسوة

من كتاب له الى سهل بن حنيف الأنصاري، و هو عامله على المدينة، في معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاوية: أمّا بعد، فقد بلغني أن رجالا ممّن قبلك(١) يتسلّلون إلى معاوية، فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم و يذهب عنك من مددهم، فكفى لهم غيّا و لك منهم شافيا(٢) . و قد عرفوا العدل و رأوه و سمعوه و وعوه، و علموا أن الناس عندنا أسوة فهربوا إلى الأثرة(٣) فبعدا لهم و سحقا(٤) إنهم و اللّه لم ينفروا من جور و لم يلحقوا بعدل

يا اشباه الرّجال

من خطبة له بعد أن غزا سفيان بن عوف من بني غامد، بلدة الأنبار على الشاطى‏ء الشرقي للفرات. و قد بعثه معاوية لشنّ الغارات على أطراف العراق تهويلا على أهله.

____________________

(١) قبلك: عندك.

(٢) يتسللون: يذهبون واحدا بعد واحد. غيا: ضلالا. يقول: فرارهم كاف في الدلالة على ضلالهم. و الضلال داء شديد في بنية الجماعة، و قد كان فرار هؤلاء الضالين شفاء للجماعة من هذا الداء.

(٣) الأثرة: اختصاص النفس بالمنفعة و تفضيلها على غيرها بالفائدة

(٤) السحق، بضم السين: البعد البعيد.

١١٧

و هذا أخو غامد و قد وردت خيله الأنبار و قد قتل حسّان بن حسان البكري و أزال خيلكم عن مسالحها(١) . و قتل منكم رجالا صالحين.

و لقد بلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، و الأخرى المعاهدة(٢) فينتزع حجلها(٣) و قلبها(٤) و قلائدها و رعاثها(٥) ما تمنع منه إلا بالاسترجاع(٦) و الاسترحام ثم انصرفوا وافرين(٧) ما نال رجلا منهم كلم و لا أريق لهم دم. فلو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما بل كان به جديرا. فيا عجبا، و اللّه، يميت القلب و يجلب الهمّ اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم و تفرّقكم عن حقكم، فقبحا لكم و ترحا(٨) حين صرتم غرضا يرمى: يغار عليكم و لا تغيرون، و تغزون و لا تغزون، و يعصى اللّه و ترضون فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الصيف قلتم: هذه حمارّة القيظ(٩) أمهلنا يسبّخ عنّا الحرّ(١٠) و إذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارّة القرّ(١١) أمهلنا

____________________

(١) جمع مسلحة، و هي: الثغر و المرقب حيث يخشى طروق الأعداء.

(٢) المعاهدة: الذمية، أي الداخلة في ذمة المسلمين و في حمايتهم. و أهل الذمة هم أهل الكتاب من غير المسلمين.

(٣) الحجل: الخلخال.

(٤) القلب، بالضم، كقفل: السوار.

(٥) الرعاث جمع رعثة: القرط.

(٦) الاسترجاع: ترديد الصوت بالبكاء.

(٧) وافرين: تامين على كثرتهم لم ينقص عددهم.

(٨) ترحا: هما و حزنا.

(٩) حمارّة القيظ، بتشديد الراء: شدة الحر.

(١٠) يسبخ: يخفف و يسكّن.

(١١) صبارّة الشتاء، بتشديد الراء: شدة برده. و القر: البرد، و في كتب فقه اللغة ان «القر» هو برد الشتاء خاصة، أما «البرد» فعامّ فيه و في بقية الفصول.

١١٨

ينسلخ عنّا البرد كلّ هذا فرارا من الحرّ و القرّ، فأنتم و اللّه من السيف أفرّ، يا أشباه الرجال و لا رجال حلوم الأطفال، و عقول ربّات الحجال(١) لوددت أني لم أركم و لم أعرفكم معرفة و اللّه جرّت ندما و أعقبت سدما(٢) قاتلكم اللّه لقد شحنتم صدري غيظا و أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان و الخذلان، حتى قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع و لكن لا علم له بالحرب للّه أبوهم و هل أحد منهم أشدّ لها مراسا و أقدم فيها مقاما مني؟ لقد نهضت فيها و ما بلغت العشرين، و ها أنا ذا قد ذرّفت على الستين(٣) ، و لكن لا رأي لمن لا يطاع

لو ضربته بسيفى

من كلام له: لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني. و لو صببت الدنيا بجمّاتها(٤) على المنافق على أن يحبّني ما أحبّني

____________________

(١) ربات الحجال: النساء.

(٢) السدم: الهمّ مع الأسف و الغيظ.

(٣) ذرفت على الستين: زدت عليها.

(٤) جمّات، جمع جمة، بفتح الجيم، و هي من السفينة مجتمع الماء المترشح من ألواحها، أي: لو كفأت عليه الدنيا بجليلها و حقيرها.

١١٩

ا قولا بغير علم

من خطبة له في تأنيب المتخاذلين من أصحابه: أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصمّ الصّلاب و فعلكم يطمع فيكم الأعراء(١) ما عزّت دعوة من دعاكم و لا استراح قلب من قاساكم أيّ دار بعد داركم تمنعون؟ و مع أيّ إمام بعدي تقاتلون؟ المغرور و اللّه من غررتموه، و من فاز بكم فقد فاز بالسهم الأخيب أصبحت و اللّه لا أصدّق قولكم و لا أطمع في نصركم و لا أوعد العدوّ بكم ما بالكم؟ ما دواؤكم؟ ما طبّكم؟ القوم رجال أمثالكم أ قولا بغير علم؟ و غفلة من غير ورع؟ و طمعا في غير حق؟

لا اصلحكم بافساد نفسي

و من كلام له في تأنيب المتخاذلين من أصحابه أيضا: كم أداريكم كما تدارى الثياب المتداعية كلّما حيصت من جانب

____________________

(١) الصم، جمع أصم، و هو من الحجارة الصلب. و الصلاب: الشديدة، أي تقولون من الكلام ما يفلق الحجر بشدّته و قوته، ثم يكون فعلكم من الضعف و الاختلال بحيث يطمع فيكم العدوّ.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

مدّته، رمته قسيّ الفناء بنبال الموت، و أصبحت الديار منه خالية، و المساكن معطّلة، و ورثها قوم آخرون. و إنّ لكم في القرون السالفة لعبرة أين العمالقة و أبناء العمالقة أين الفراعنة و أبناء الفراعنة أين أصحاب مدائن الرّسّ الذين قتلوا النبيّين و أطفأوا سنن المرسلين، و أحيوا سنن الجبّارين أين الذين ساروا بالجيوش، و هزموا بالألوف، و عسكروا العساكر، و مدّنوا المدائن

اين عمّار

و من الخطبة السابقة نفسها: ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا، و أقبل منها ما كان مدبرا، و أزمع التّرحال عباد اللّه الأخيار ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم و هم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص و يشربون الرّنق(١) ؟ أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحقّ؟ أين عمّار؟

و أين ابن التّيهان؟ و أين ذو الشّهادتين(٢) ؟ و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة، و أبرد برؤوسهم إلى الفجرة(٣) ؟

____________________

(١) الرنق: الكدر.

(٢) عمار: عمار بن ياسر، و كان ممّن عذّب هو و أبوه و أخوه و أمه في بدء الدعوة.

و ابن التيهان: ابو الهيثم مالك بن التيهان، من أكابر الصحابة. ذو الشهادتين: خزيمة بن ثابت الانصاري، من الصحابة. و هؤلاء الثلاثة شهدوا صفين و استشهدوا بها.

(٣) أبرد برووسهم: أرسلت رؤوسهم مع البريد بعد قتلهم إلى البغاة للتشفّي منهم.

١٤١

الكبر و التّعصّب و البغي

من خطبة له طويلة تسمّى «القاصعة(١) »: و لا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، و قدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب، و نفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه اللّه به الندامة.

فاللّه اللّه في كبر الحميّة و فخر الجاهلية، فإنه منافخ الشيطان التي خدع بها الأمم الماضية و القرون الخالية.

و لا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم، و أدخلتم في حقكم باطلهم، و هم أساس الفسوق اتّخذهم إبليس مطايا ضلال و جندا بهم يصول على الناس، و تراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم و دخولا في عيونكم و نفثا في أسماعكم، فجعلكم مرمى نبله و موطى‏ء قدمه و مأخذ يده. فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه، و اتّعظوا بمثاوي خدودهم(٢) و مصارع جنوبهم. و استعيذوا باللّه من لواقح الكبر(٣) كما تستعيذون به من طوارق الدهر

____________________

(١) قصع فلان فلانا: حقّره. و قد سميت هذه الخطبة «القاصعة» لأن ابن أبي طالب حقّر فيها حال المتكبرين و أهل البغي.

(٢) مثاوي، جمع مثوى، بمعنى المنزل. و منازل الخدود: مواضعها من الأرض بعد الموت. و مصارع الجنوب: مطارحها على التراب.

(٣) لواقح الكبر: محدثاته في النفوس.

١٤٢

و لقد نظرت فما وجدت أحدا من العاملين يتعصّب لشي‏ء من الأشياء إلاّ عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء أو حجّة تليط بعقول السفهاء، غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر لا يعرف له سبب و لا علّة: أما إبليس فتعصّب على آدم لأصله، و طعن عليه في خلقته، فقال: «أنا ناريّ و أنت طينيّ» و أمّا الأغنياء من مترفة الأمم فتعصّبوا لآثار مواقع النّعم فقالوا: «نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذّبين» فإن كان لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصبكم لمكارم الخصال و محامد الأفعال و محاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء و النّجداء بالأخلاق الرغيبة و الأحلام العظيمة، فتعصّبوا لخلال الحمد: من الحفظ للجوار و الوفاء بالذمام، و الطاعة للبرّ، و المعصية للكبر، و الكفّ عن البغي، و الإعظام للقتل، و الإنصاف للخلق، و الكظم للغيظ، و اجتناب الفساد في الأرض.

و احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات(١) بسوء الأفعال و ذميم الأعمال، فتذكّروا في الخير و الشرّ أحوالهم و احذروا أن تكونوا أمثالهم.

أ لا و قد أمرني اللّه بقتال أهل البغي و النكث(٢) و الفساد في الأرض: فأمّا الناكثون فقد قاتلت. و أما القاسطون فقد جاهدت(٣) . و أمّا المارقة

____________________

(١) المثلات: العقوبات.

(٢) النكث: نقض العهد.

(٣) القاسطون: الجائرون على الحق.

١٤٣

فقد دوّخت. و أمّا شيطان الرّدهة(١) فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه و رجّة صدره. و بقيت بقيّة من أهل البغي، و لئن أذن اللّه في الكرّة عليهم لأديلنّ منهم(٢) إلاّ ما يتشذّر في أطراف البلاد تشذّرا(٣) .

و إني لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم: سيماهم سيما الصدّيقين، و كلامهم كلام الأبرار، عمّار الليل و منار النهار(٤) لا يستكبرون و لا يعلون و لا يغلّون(٥) و لا يفسدون: قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل.

الدّنيا تطوى من خلفكم

من عهد له إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر. و فيه تذكير بأحوال الدنيا و ترغيب للولاة في أن يعدلوا و يرحموا لئلاّ يعذّبوا، و ذلك بأروع ما تجري به ريشة العبقرية من بيان: و أنتم طرداء الموت: إن أقمتم له أخذكم، و إن فررتم منه أدرككم،

____________________

(١) الردهة: النقرة في الجبل قد يجتمع فيها. و شيطانها ذو الثدية من رؤساء الخوارج وجد مقتولا في ردهة.

(٢) لأديلن منهم: لأمحقننهم ثم أجعل الدولة لغيرهم.

(٣) يتشذّر: يتفرق، أي: لا يفلت مني إلاّ من يتفرّق في أطراف البلاد.

(٤) عمار، جمع عامر، أي: يعمرون الليل بالسهر للفكر و العبادة.

(٥) يغلون. يخونون.

١٤٤

و هو ألزم لكم من ظلّكم الموت معقود بنواصيكم(١) ، و الدنيا تطوى من خلفكم، فاحذروا نارا قعرها بعيد، و حرّها شديد، و عذابها جديد، ليس فيها رحمة و لا تسمع فيها دعوة

دستور الولاة

من رسالة كتبها للأشتر النخعي لما ولاّه على مصر و أعمالها في عهد خلافته. و هي من جلائل رسائله و وصاياه، و أجمعها لقوانين المعاملات المدنية و الحقوق العامة و التصرّفات الخاصة في نهج الإمام. كما انها من أروع ما أنتجه العقل و القلب جميعا في تقرير علاقة الحاكم بالمحكوم، و في مفهوم الحكومة، حتى أن الإمام سبق عصره أكثر من ألف سنة بجملة ما ورد في هذه الرسالة الدستور، من إشراق العقل النيّر و القلب الخيّر.

ثم اعلم يا مالك أني قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور، و أن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، و يقولون فيك ما كنت تقول فيهم، و إنّما يستدلّ على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده، فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك و شحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك

____________________

(١) النواصي، جمع ناصية، و هي: مقدّم شعر الرأس.

١٤٥

فإنّ الشّحّ بالنفس الإنصاف منها في ما أحبّت أو كرهت(١) . و أشعر قلبك الرحمة للرعية، و المحبّة لهم، و اللطف بهم. و لا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغنتم أكلهم فإنهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل(٢) ، و تعرض لهم العلل، و يؤتى على أيديهم في العمد و الخطأ(٣) ، فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك اللّه من عفوه و صفحه، فإنك فوقهم و والي الأمر عليك فوقك، و اللّه فوق من ولاّك و لا تندمنّ على عفو، و لا تبجحنّ بعقوبة و لا تسرعنّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة(٤) .

أنصف اللّه و أنصف الناس من نفسك و من خاصّة أهلك و من لك فيه هوى من رعيّتك(٥) ، فإنك إلاّ تفعل تظلم و من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده. و ليس شي‏ء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه و تعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإنّ اللّه سميع دعوة المضطهدين و هو للظالمين بالمرصاد.

و ليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ، و أعمّها في العدل و أجمعها لرضا الرعية، فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصة،

____________________

(١) الشح: البخل. يقول: انتصف من نفسك في ما أحبت و كرهت، أي ابخل بها و لا تمكّنها من الاسترسال في ما أحبّت، و احرص على صفائها كذلك بأن تحملها على ما تكره إن كان ذلك في الحق.

(٢) يفرط: يسبق. الزلل: الخطأ.

(٣) يؤتى على أيديهم: تأتي السيئات على أيديهم.

(٤) بجح بالشي‏ء: فرح به. البادرة: ما يبدر من الحدة عند الغضب في قول أو فعل.

المندوحة: المتّسع الذي يمكّن المرء من التخلّص.

(٥) من لك فيه هوى، أي: من تميل اليه ميلا خاصا.

١٤٦

و إن سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامّة(١) . و ليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالي مؤونة في الرّخاء و أقلّ معونة له في البلاء، و أكره للإنصاف، و أسأل بالإلحاف(٢) ، و أقلّ شكرا عند الإعطاء، و أبطأ عذرا عند المنع، و أضعف صبرا عند ملمّات الدهر، من أهل الخاصة(٣) .

أطلق عن الناس عقدة كلّ حقد، و اقطع عنك سبب كلّ وتر(٤) ، و لا تعجلنّ إلى تصديق ساع فإنّ الساعي غاشّ و إن تشبّه بالناصحين.

إن شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، و من شركهم في الآثام، فلا يكوننّ لك بطانة(٥) فإنهم أعوان الأثمة و إخوان

____________________

(١) يحجف: يذهب. يقول للحاكم: إذا رضي عليك الخاصة و سخط عليك العامة، فلا ينفعك رضا أولئك مع سخط هؤلاء. أما إذا رضي عليك العامة، و هؤلاء لا يرضيهم إلا العدل، فسخط الخاصة مغتفر.

(٢) الإلحاف: الإلحاح.

(٣) يقول: ليس هنالك من هم أثقل على الحاكم، و أقل نفعا له و أكثر ضررا عليه من خاصته و المتقربين اليه من ذوي الثروة و الوجاهة يلازمونه و يلحون عليه في قضاء حاجاتهم و يرهقونه بالمسائل و الشفاعات و يغنمون عن سبيله المغانم و يثرون على حساب العامة، ثم يجحدون كل ذلك و لا يساندون الحاكم أو الجمهور في نائبة أو أزمة. فهم لذلك فئة يجب على الحاكم الصالح أن ينبذها و يعتمد على العامة دون سواهم.

(٤) الوتر: العداوة: يقول: احلل عقدة الأحقاد من قلوب الناس بالعدل فيهم و حسن السيرة معهم. و اقطع السبب في عداء الناس لك بالإحسان اليهم قولا و عملا.

(٥) البطانة: الخاصة.

١٤٧

الظّلمة(١) ، و أنت واجد منهم خير الخلف ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه و لا آثما على إثمه. ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحق لك(٢) و أقلّهم مساعدة في ما يكون منك ممّا كره اللّه لأوليائه واقعا [ذلك] من هواك حيث وقع. و الصق بأهل الورع و الصدق ثم رضهم على أن لا يطروك و لا يبجحوك بباطل لم تفعله(٣) .

و لا يكوننّ المحسن و المسي‏ء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة و ألزم كلاّ منهم ما ألزم نفسه(٤) و اعلم أنه ليس شي‏ء بأدعى إلى حسن ظنّ راع برعيّته من إحسانه إليهم(٥) و تخفيفه المؤونات عنهم، و ترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم(٦) ، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به

____________________

(١) الأثمة: جمع آثم. الظلمة: جمع ظالم.

(٢) آثرهم: أفضلهم. مرارة الحق. صعوبته. يقول: ليكن أفضل وزرائك و أعوانك في نظرك أصدقهم و أكثرهم قولا بالحق مهما كان الحق صعبا على نفسك.

(٣) رضهم: عوّدهم. يطروك: يطنبوا في مدحك. يبجحوك بباطل لم تفعله: يفرّحوك بأن ينسبوا اليك عملا عظيما لم تكن فعلته.

(٤) أي: أحسن الى المحسن بما ألزم نفسه، و هو استحقاق الإحسان. و عاقب المسي‏ء بما ألزم نفسه كذلك، و هو استحقاق العقاب.

(٥) ليس هنالك ما يحمل الوالي على الاطمئنان إلى أن قلوب الناس معه كالاحسان اليهم و العدل فيهم و تخفيف الاثقال عن كواهلهم. و هم في غير هذه الحال أعداء له ينتهزون الفرصة للثورة عليه، و إذ ذاك يسوء ظنه بهم.

(٦) قبلهم، بكسر ففتح: عندهم.

١٤٨

حسن الظنّ برعيّتك، و إنّ أحقّ من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده، و إنّ أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده(١) .

و أكثر مدارسة العلماء و مناقشة الحكماء(٢) في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، و إقامة ما استقام به الناس قبلك.

ولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك، و أنقاهم جيبا و أفضلهم حلما: ممّن يبطى‏ء عن الغضب، و يستريح إلى العذر، و يرأف بالضعفاء، و ينبو على الأقوياء(٣) و ممن لا يثيره العنف، و لا يقعد به الضعف.

و إنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، و ظهور مودّة الرعية، و إنه لا تظهر مودّتهم إلا بسلامة صدورهم، و لا تصحّ نصيحتهم إلاّ بحيطتهم على ولاة الأمور و قلّة استثقال دولهم(٤) .

ثم اعرف لكلّ امرى‏ء منهم ما أبلى، و لا تضيفنّ بلاء امرى‏ء إلى

____________________

(١) البلاء: الصنع، حسنا أو سيئا.

(٢) المنافثة: المحادثة.

(٣) ينبو: يشتدّ و يعلو. يأمر الحاكم بأن يولّي من جنوده من لا يضعف أمام الأقوياء و الأثرياء و النافذين بل يعلو عليهم و يشتدّ ليمنعهم من ظلم الضعفاء و الفقراء و البسطاء.

(٤) الحيطة، بكسر الحاء: مصدر «حاط» بمعنى: صان و حفظ، يقول: ان مودة الرعية لا تظهر و نصيحتهم لا تصحّ إلا بقدر ما يرغبون في المحافظة على ولاتهم و يحرصون على بقائهم و لا يستثقلون مدة حكمهم.

١٤٩

غيره(١) ، و لا يدعونّك شرف امرى‏ء إلى أن تعظّم من بلائه ما كان صغيرا، و لا ضعة امرى‏ء إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما.

ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك(٢) ممّن لا تضيق به الأمور و لا تمحكه الخصوم(٣) و لا يتمادى في الزلّة، و لا تشرف نفسه على طمع، و لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه(٤) ، و أوقفهم في الشّبهات(٥) و آخذهم بالحجج، و أقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم، و أصبرهم على تكشّف الأمور، و أصرمهم عند اتّضاع الحق، ممن لا يزدهيه إطراء، و لا يستميله إغراء، و أولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه(٦) و أفسح له في البذل ما يزيل علّته و تقلّ معه حاجته الى الناس و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك.

ثم انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا، و لا تولّهم محاباة

____________________

(١) لا تنسبنّ صنيع امرى‏ء إلى غيره.

(٢) انتقال من الكلام في الجند الى الكلام في القضاة.

(٣) تمحكه: تغضبه.

(٤) لا يكتفي بما يبدو له بأول فهم و أقربه، بل يتأمل و يدرس حتى يأتي على أقصى الفهم و أدناه من الحقيقة.

(٥) الشبهات، جمع شبهة، و هي ما لا يتضح الحكم فيها بالنص، فينبغي العمل لردّ الحادثة التي ينظر فيها إلى أصل صحيح.

(٦) أي: تتبع قضاءه بالاستكشاف و التعرف.

١٥٠

و أثرة فإنهم جماع من شعب الجور و الخيانة(١) . ثم تفقّد أعمالهم و ابعث العيون(٢) من أهل الصدق و الوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوة لهم(٣) على استعمال الأمانة و الرفق بالرعية. و تحفّظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه(٤) عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه، و أخذته بما أصاب به من عمله، ثم نصبته بمقام المذلّة، و وسمته بالخيانة، و قلّدته عار التهمة.

و تفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم. و لا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج و أهله. و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة. و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد و أهلك العباد و لم يستقم أمره إلاّ قليلا.

و لا يثقلنّ عليك شي‏ء خفّفت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك.

و إن العمران محتمل ما حمّلته، و إنما يؤتى خراب الأرض من

____________________

(١) أي: ولّهم الأعمال بالاختبار و التجربة، لا ميلا منك لمعاونتهم و لا استبدادا منك برأيك، فإن المحاباة و الأثرة يجمعان الظلم و الخيانة معا.

(٢) العيون: الرقباء.

(٣) حدوة: سوق و حثّ.

(٤) اجتمعت عليها أخبار عيونك: اتفقت عليها أخبار رقبائك.

١٥١

إعواز أهلها، و إنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع(١) و سوء ظننهم بالبقاء و قلّة انتفاعهم بالعبر.

ثم انظر في حال كتّابك فولّ على أمورك خيرهم، ممّن لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإنّ الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل.

ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك و استنامتك(٢) و حسن الظنّ منك، فإنّ الرجال يتعرّفون لفراسات الولاة بتصنّعهم و حسن خدمتهم(٣) ، و ليس وراء ذلك من النصيحة و الأمانة شي‏ء. و مهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته(٤) .

ثم استوص بالتجّار و ذوي الصّناعات و أوص بهم خيرا: المقيم منهم و المضطرب بماله(٥) ، فإنهم موادّ المنافع و أسباب المرافق، و تفقّد أمورهم بحضرتك و في حواشي بلادك. و اعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقا فاحشا و شحّا قبيحا و احتكارا للمنافع و تحكّما في البياعات، و ذلك باب مضرّة للعامّة و عيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فإن رسول اللّه صلى

____________________

(١) إشراف انفس الولاة على الجمع: تطلّعهم الى جمع المال و ادّخاره لأنفسهم طمعا و جشعا.

(٢) الفراسة: قوة الظن و إدراك الباطن من النظر في الظاهر. الاستنامة: الاطمئنان إلى حسن الرأي. أي: لا يكن اختيارك للكتاب متأثرا بميلك الخاص و فراستك التي قد تخطى‏ء.

(٣) أي يخدمون الولاء بما يطيب لهم توسّلا إلى حسن ظنّ هؤلاء بهم.

(٤) إذا تغابيت عن عيب في كتابك كان ذلك العيب لاصقا بك.

(٥) المتردد بأمواله بين البلدان.

١٥٢

اللّه عليه و سلّم منع منه. و ليكن البيع بيعا سمحا: بموازين عدل، و أسعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع(١) فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكّل به و عاقبه في غير إسراف(٢) .

ثم يتحدّث الإمام في رسالته هذه إلى مالك الأشتر عن الطققة المعوزة فيقول: و احفظ للّه ما استحفظك من حقّه فيهم، و اجعل لهم قسما من بيت مالك فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، و كلّ قد استرعيت حقّه، فلا يشغلنّك عنهم بطر(٣) فإنك لا تعذر بتضييعك التافه(٤) لإحكامك المهمّ، فلا تشخص همّك عنهم(٥) و لا تصعّر خدّك لهم(٦) و تفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون(٧) و تحقره الرجال، فإنّ هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم. و تعهّد

____________________

(١) المبتاع: المشتري.

(٢) قارف: خالط. الحكرة: الاحتكار. نكل به: أوقع به العذاب عقوبة له. يقول: من احتكر بعد النهي عن الاحتكار عاقبه لكن من غير إسراف في العقوبة يتجاوز عن حد العدل فيها.

(٣) البطر: طغيان النعمة.

(٤) يقول: لا عذر لك بإهمالك القليل إذا أحكمت الكثير.

(٥) لا تشخص همك عنهم: لا تصرف همك عنهم.

(٦) صعّر خده: أماله عن النظر إلى الناس تهاونا و كبرا.

(٧) تقتحمه العيون: تكره أن تنظر اليه احتقارا.

١٥٣

أهل اليتم و ذوي الرقّة في السن(١) ممّن لا حيلة له، و لا ينصب للمسألة نفسه، و ذلك على الولاة ثقيل، و الحقّ كلّه ثقيل و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرّغ لهم فيه شخصك، و تجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه للّه الذي خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك(٢) من أحراسك و شرطك حتى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع(٣) فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول في غير موطن(٤) : «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتع» ثم احتمل الخرق منهم و العيّ(٥) و نحّ عنهم الضيق و الأنف(٦) .

ثم أمور من أمورك لا بدّ لك من مباشرتها: منها إجابة عمّالك بما يعيا عنه كتّابك. و منها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك(٧) ، و أمض لكلّ يوم عمله فإنّ لكلّ يوم ما فيه.

____________________

(١) ذوو الرقة في السن: المتقدمون فيه.

(٢) أي: تأمر بأن يقعد عنهم جندك و أعوانك و بألا يتعرضوا لهم.

(٣) التعتعة في الكلام: التردد فيه من عجز و عيّ، أو من خوف.

(٤) في مواطن كثيرة.

(٥) الخرق: العنف. العي: العجز عن النطق. أي: لا تضجر من هذا و لا تغضب من ذاك.

(٦) الأنف: الاستنكاف و الاستكبار.

(٧) تحرج: تضيق. يقول: إن الأعوان تضيق صدورهم بتعجيل الحاجات، و يحبون المماطلة في قضائها، استجلابا للمنفعة أو إظهارا للجبروت.

١٥٤

و لا تطوّلنّ احتجابك عن رعيّتك، فإنّ احتجاب الولاة عن الرعيّة شعبة من الضيق و قلّة علم بالأمور. و الاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير و يعظم الصغير، و يقبح الحسن و يحسن القبيح، و يشاب الحقّ بالباطل. و إنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، و ليست على الحقّ سمات(١) تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، و إنما أنت أحد رجلين: إمّا امرؤ سخت نفسه بالبذل في الحق ففيم احتجابك(٢) من واجب حقّ تعطيه أو فعل كريم تسديه؟ أو مبتلى بالمنع فما أسرع كفّ الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك(٣) ، مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة.

ثم إنّ للوالي خاصّة و بطانة فيهم استئثار و تطاول، و قلّة إنصاف في معاملة، فاحسم مادّة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال(٤) و لا تقطعنّ لأحد من حاشيتك و حامّتك قطيعة(٥) و لا يطمعنّ منك في اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على

____________________

(١) سمات: علامات.

(٢) لأي سبب تحتجب عن الناس في أداء حقهم، أو في عمل تمنحهم إياه؟

(٣) يقول: و إن قنط الناس من قضاء مطالبهم منك أسرعوا الى البعد عنك، فلا حاجة للاحتجاب.

(٤) احسم: اقطع. يقول: اقطع مادة شرورهم عن الناس بقطع أسباب تعدّيهم، و إنما يكون ذلك بالأخذ على أيديهم و منعهم من التصرّف في شؤون العامة.

(٥) الاقطاع: المنحة من الأرض. القطيعة: الممنوح منها. الحامة، كالطّامة: الخاصة و القرابة. الاعتقاد: الامتلاك. العقدة: الضيعة.

١٥٥

غيرهم فيكون مهنأ ذلك(١) لهم دونك، و عيبه عليك في الدنيا و الآخرة.

و ألزم الحقّ من لزمه من القريب و البعيد، و كن في ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك و خاصّتك حيث وقع، و ابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإنّ مغبّة ذلك محمودة(٢) .

و إن ظنّت الرعيّة بك حيفا فأصحر(٣) لهم بعذرك، و اعدل عنك ظنونهم بإصحارك فإنّ في ذلك رياضة منك لنفسك(٤) و رفقا برعيّتك و إعذارا(٥) تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق.

و لا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك و للّه فيه رضا، فإنّ في الصلح دعة لجنودك و راحة من همومك و أمنا لبلادك. و إن عقدت بينك و بين عدوّك عقدة أو ألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء و ارع ذمّتك بالأمانة و اجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت(٦) و لا تغدرنّ بذمّتك و لا تخيسنّ بعهدك

____________________

(١) المهنأ: المنفعة الهنيئة.

(٢) المغبة: العاقبة، يقول: إن إلزام الحق لمن لزمهم، و إن ثقل على الوالي و عليهم، محمود العاقبة يحفظ الدولة.

(٣) الحيف: الظلم. أصحر بهم: ابرز لهم.

(٤) رياضة منك لنفسك: تعويدا لنفسك على العدل.

(٥) الإعذار: تقديم العذر أو إبداؤه.

(٦) أصل معنى الذمة: وجدان مودع في جبلة الانسان ينبهه لرعاية حق ذوي الحقوق و يدفعه لأداء ما يجب عليه منها، ثم أطلقت على معنى العهد. الجنة: الوقاية.

يقول: حافظ بروحك على ما أعطيت من العهد.

١٥٦

و لا تختلنّ(١) عدوّك. و لا تعقد عقدا تجوّز فيه العلل(٢) و لا تعوّلنّ على لحن قول بعد التأكيد و التوثقة، و لا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد اللّه إلى طلب انفساخه بغير الحقّ(٣) .

و لا تقوّينّ سلطانك بسفك دم حرام، فإنّ ذلك ممّا يضعفه و يوهنه بل يزيله و ينقله، و لا عذر لك عند اللّه و لا عندي في قتل العمد و إيّاك و المنّ على رعيّتك بإحسانك، أو التزيّد في ما كان من فعلك(٤) أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإنّ المنّ يبطل الإحسان، و التزيّد يذهب بنور الحق، و الخلف يوجب المقت عند اللّه و الناس.

و إياك و العجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقّط فيها عند إمكانها(٥) أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كلّ أمر موضعه، و أوقع كلّ أمر موقعه.

____________________

(١) خاس بعهده: خانه و نقضه. الختل: الخداع.

(٢) العلل: جمع علة و هي في النقد و الكلام بمعنى ما يصرفه عن وجهه و يحوّله الى غير المراد، و ذلك يطرأ على الكلام عند إبهامه و عدم صراحته.

(٣) لحن القول: ما يقبل التوجيه كالتورية و التعريض. يقول: إذا ريت ثقلا من التزام العهد فلا تركن إلى لحن القول لتتملص منه، بل خذ بأصرح الوجوه لك و عليك.

(٤) التزيّد: إظهار الزيادة في الأعمال و المبالغة في وصف الواقع منها في معرض الافتخار.

(٥) التسقط: يريد به هنا: التهاون.

١٥٧

و إياك و الاستئثار بما الناس فيه أسوة(١) ، و التغابي عما تعنى به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك، و عمّا قليل تنكشف عنك أغطية الأمور و ينتصف منك للمظلوم. إملك حميّة أنفك(٢) و سورة حدّك و سطوة يدك و غرب لسانك(٣) و احترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة(٤) و تأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار.

و الواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة أو سنّة فاضلة، و تجتهد لنفسك في اتّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، و استوثقت به من الحجّة لنفسي عليك، لكي لا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها. و أنا أسأل اللّه أن يوفّقني و إياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح اليه و إلى خلقه(٥) .

____________________

(١) احذر أن تخصّ نفسك بشي‏ء تزيد به عن الناس، و هو مما تجب فيه المساواة من الحقوق العامة.

(٢) أي: أملك نفسك عند الغضب.

(٣) السورة: الحدة: و الحد: البأس. و الغرب: الحد، تشبيها للسان بحدّ السيف و نحوه.

(٤) البادرة: ما يبدر من اللسان عند الغضب، و إطلاق اللسان يزيد الغضب اتقادا، و السكون يطفى‏ء من لهبه.

(٥) يريد من العذر الواضح: العدل، فإنه عذر لك عند من قضيت عليه، و عذر عند اللّه في من أجريت عليه عقوبة أو حرمته من منفعة.

١٥٨

حدود الضّريبة

من وصية كان الإمام يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، و هي تزخر بحنان الحاكم الأب على أبنائه، و تصلح لأن تدخل في دستور الدولة المثالية التي يحلم بها صفوة الخلق إذا قدمت على الحيّ فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة و الوقار حتى تقوم بينهم فتسلّم عليهم، و لا تخدج بالتحية لهم(١) ، ثم تقول: عباد اللّه، أرسلني اليكم وليّ اللّه و خليفته لآخذ منكم حقّ اللّه في أموالكم، فهل للّه في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلى وليّه؟

فإن قال قائل: لا فلا تراجعه. و إن أنعم لك منعم(٢) فانطلق معه من غير أن تخيفه و توعده أو تعسفه أو ترهقه(٣) فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضّة. فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلاّ بإذنه. فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلّط عليه و لا عنيف به، و لا تنفّرنّ بهيمة و لا تفزّعنّها و لا تسوءنّ صاحبها فيها. و اصدع المال صدعين(٤) ثم خيّره:

____________________

(١) أخدجت السحابة: قلّ مطرها.

(٢) أنعم لك منعم، أي: قال لك: نعم.

(٣) تعسفه: تأخذه بشدة. ترهقه: تكلفه ما يصعب عليه.

(٤) أي: اقسمه قسمين.

١٥٩

فإذا اختار فلا تعرّضنّ لما اختاره. فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحقّ اللّه في ماله، فاقبض حقّ اللّه منه. فإن استقالك فأقله(١) ، ثم اخلطهما، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق اللّه في ماله.

السفهاء و التجار

من كتاب بعث به الإمام الى أهل مصر مع مالك الاشتر لما ولاّه إمارتها: إني و اللّه لو لقيتهم واحدا و هم طلاع الأرض كلّها(٢) ما باليت و لا استوحشت. و إني من ضلالهم الذي هم فيه و الهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي و يقين من ربّي، و لكني آسى(٣) أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها و فجّارها فيتّخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا(٤) و الصالحين حربا و الفاسقين حزبا، فلو لا ذلك ما أكثرت تأليبكم و تأنيبكم، و جمعكم و تحريضكم

____________________

(١) أي: فإن ظنّ في نفسه سوء الاختيار و أنّ ما أخذت منه من الزكاة اكرم مما في يده، و طلب الإعفاء من هذه القسمة، فاعفه منها، و اخلط، و أعد القسمة.

(٢) الطلاع: مل‏ء الشي‏ء. يقول: لو كنت واحدا و هم يملأون الأرض للقيتهم غير مبال بهم. و الضمير يعود هنا على خصومه و محاربيه من وجهاء ذلك الزمان.

(٣) آسى: أحزن.

(٤) دولا، جمع دولة «بالضم»: أي شيئا يتداولونه بينهم و يتصرفون به في غير حق اللّه. الخول: العبيد.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237