روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة16%

روائع نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 237

روائع نهج البلاغة
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111528 / تحميل: 6600
الحجم الحجم الحجم
روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

تهتّكت من آخر(١) أ كلّما أطلّ عليكم منسر من مناسر(٢) أهل الشام أغلق كلّ رجل منكم بابه، و انجحر انجحار الضّبّة في جحرها و الضبع في وجارها(٣) ؟ الذليل و اللّه من نصرتموه و إنكم و اللّه لكثير في الباحات قليل تحت الرايات، و إني لعالم بما يصلحكم و يقيم أودكم(٤) و لكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي

الرّاي مع الاناة

من كلام له و قد أشار عليه أصحابه بالاستعداد للحرب بعد إرساله جريرا بن عبد اللّه البجلي إلى معاوية: إن استعدادي لحرب أهل الشام و جرير عندهم إغلاق للشام، و صرف لأهله عن خير إن أرادوه. و الرأى عندي مع الأناة.

و لقد ضربت أنف هذا الأمر و عينه(٥) و قلّبت ظهره و بطنه، فلم أر

____________________

(١) المتداعية: الخلقة المتخرقة. و مداراتها: استعمالها بالرفق التام.

(٢) المنسر: القطعة من الجيش تمر أمام الجيش الكثير.

(٣) انجحر: دخل الجحر أو الوجار.

(٤) أودكم: اعوجاجكم.

(٥) مثل تقوله العرب في الاستقصاء في البحث و التأمل.

١٢١

لي إلاّ القتال أو الكفر(١) . إنه قد كان على الناس وال أحدث أحداثا(٢) و أوجد للناس مقالا، فقالوا: ثم نقموا فغيّروا.

لقد سئمت عتابكم

من خطبة له في استنفار الناس إلى أهل الشام: أفّ لكم، لقد سئمت عتابكم إذا دعوتكم إلى جهاد عدوّكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة(٣) ، و من الذهول في سكرة ما أنتم إلاّ كإبل ضلّ رعاتها فكلّما جمعت من جانب انتشرت من آخر تكادون و لا تكيدون، و تنقص أطرافكم فلا تمتعضون(٤) ، لا ينام عليكم و أنتم في غفلة ساهون، غلب و اللّه المتخاذلون و ايم اللّه إني لأظنّ بكم أن لو حمس الوغى و استحرّ الموت قد انفرجتم عن ابن أبي

____________________

(١) المراد بالكفر هنا: الفسق، لأن ترك القتال تهاون بالنهي عن المنكر، و هو فسق.

(٢) يريد من الوالي الخليفة الذي كان قبله، و تلك الأحداث معروفة في التاريخ، و هي التي أدّت بالقوم الى التألب على قتله.

(٣) دوران الأعين: اضطرابها من الجزع، و من غمره الموت يدور بصره. و غمرة الموت: الشدة التي تنتهي اليه.

(٤) تغضبون.

١٢٢

طالب انفراج الرأس(١) . و اللّه إن أمرأ يمكّن عدوّه من نفسه يعرق لحمه(٢) و يهشم عظمه و يفري جلده، لعظيم عجزه ضعيف ما ضمّت عليه جوانح صدره(٣) . أنت فكن ذاك إن شئت(٤) فأمّا أنا فو اللّه دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه فراش الهام(٥) و يفعل اللّه بعد ذلك ما يشاء

بقاء الدّولة

من خطبة له خطبها بصفين: أما بعد، فقد جعل اللّه سبحانه لي عليكم حقّا بولاية أمركم، و لكم عليّ من الحقّ مثل الذي لي عليكم، فالحقّ أوسع الأشياء في التواصف و أضيقها في التناصف(٦) ، لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه، و لا يجري عليه إلا جرى له.

____________________

(١) حمس: اشتد و صلب. استحر: بلغ في النفوس غاية حدّته. و قوله «انفراج الرأس» يعني انفراجا لا التئام بعده، فإن الرأس اذا انفرج عن البدن أو انفرج أحد شقيه عن الآخر لم يعد للالتئام.

(٢) يأكل لحمه حتى لا يبقى منه شي‏ء على العظم.

(٣) الجوانح: الضلوع تحت الترائب. يريد ضعيف القلب.

(٤) يمكن ان يكون خطابا عاما لكل من يمكّن عدوّه من نفسه. و يروى انه خطاب للأشعث بن قيس عند ما قال له: «هلاّ فعلت فعل عثمان» فأجابه الإمام بقوله هذا.

(٥) فراش الهام: العظام الرقيقة التي تلي القحف.

(٦) يتسع القول في وصفه حتى إذا وجب الحقّ على الانسان الواصف له، فرّ من أدائه و لم ينتصف من نفسه كما ينتصف لها.

١٢٣

ثم جعل، سبحانه، من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، و يوجب بعضها بعضا، و لا يستوجب بعضها إلا ببعض(١) . و أعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حقّ الوالي على الرعية و حقّ الرعية على الوالي، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة و لا يصلح الولاة إلا باستقامة الرعية. فإذا أدّت الرعية إلى الوالي حقه و أدّى الوالي اليها حقّها عزّ الحقّ بينهم، و اعتدلت معالم العدل، فصلح بذلك الزمان و طمع في بقاء الدولة و يئست مطامع الأعداء. و إذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة و ظهرت معالم الجور فعمل بالهوى و عطّلت الأحكام و كثرت علل النفوس فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل و لا لعظيم باطل فعل فهنالك تذلّ الأبرار و تعزّ الأشرار.

و ليس امرؤ و إن عظمت في الحقّ منزلته بفوق أن يعان على ما حمّله اللّه من حقّه، و لا امرؤ و إن صغّرته النفوس و اقتحمته العيون بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه.

____________________

(١) أي: لا يستحق أحد شيئا إلا بأدائه مكافأة ما يستحقه.

١٢٤

هنا أجابه رجل من أصحابه بكلام طويل يكثر فيه الثناء عليه و يذكر سمعه و طاعته له.

فقال الإمام هذا القول الرائع: و إنّ من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظنّ بهم حبّ الفخر و يوضع أمرهم على الكبر. و قد كرهت أن يكون جال في ظنّكم أني أحبّ الإطراء و استماع الثناء، و لست بحمد اللّه كذلك، فلا تكلّموني بما تكلّم به الجبابرة، و لا تتحفّظوا مني بما يتحفّظ به عند أهل البادرة(١) و لا تخالطوني بالمصانعة، و لا تظنّوا بي استثقالا في حقّ قيل لي، فإنه من استثقل الحقّ أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطى‏ء؟

السّلم اولى

من كلام له و قد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفّين: أمّا قولكم: أ كلّ ذلك كراهية الموت؟ فو اللّه ما أبالي أدخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ و أمّا قولكم شكّا في أهل الشام فو اللّه ما

____________________

(١) البادرة: الحدة و الغضب.

١٢٥

ما دفعت الحرب يوما إلا و أنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي و تعشو إلى ضوئي(١) ، و ذلك أحبّ إليّ من أن أقتلها على ضلالها، و إن كانت تبوء بآثامها.

الوصيّة الشريفة

من وصية له لعسكره قبل لقاء العدو بصفّين: لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم، فإنكم بحمد اللّه على حجّة، و ترككم إياهم حتى يبدأوكم حجة أخرى لكم عليهم. فإذا كانت الهزيمة بإذن اللّه فلا تقتلوا مدبرا و لا تصيبوا معورا(٢) و لا تجهزوا على جريح، و لا تهيجوا النساء بأذى و إن شتمن أعراضكم و سببن أمراءكم

اللّهمّ جنّب المنتصر البغي

من خطبة له لما عزم على لقاء القوم بصفّين: اللهمّ ربّ هذه الأرض التي جعلتها قرارا للأنام، و مدرجا

____________________

(١) تعشو الى الضوء: تستدل عليه في الظلام فتهتدي اليه.

(٢) المعور: الذي أمكن من نفسه و عجز عن حمايتها.

١٢٦

للهوامّ و الأنعام، و ما لا يحصى ممّا يرى و ممّا لا يرى و ربّ الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتادا و للخلق اعتمادا(١) ، إن أظهرتنا(٢) على عدوّنا فجنّبنا البغي و سدّدنا للحقّ. و إن أظهرتهم علينا فارزقنا الشّهادة و اعصمنا من الفتنة

اللهم اصلح ذات بيننا و بينهم

من كلام له بصفّين و قد سمع قوما من أصحابه يسبّون أهل الشام ردا على سب أهل الشام إياه: إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين. و لكنكم لو وصفتم أعمالهم و ذكرتهم حالهم، كان أصوب في القول و أبلغ في العذر، و قلتم مكان سبّكم إياهم: اللهمّ احقن دماءنا و دماءهم، و أصلح ذات بيننا و بينهم، و أهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحقّ من جهله و يرعوي عن الغيّ و العدوان من لهج به(٣) .

____________________

(١) اعتمادا: معتمدا، أي ملجأ يعتصمون به إذا طردتهم الغارات من السهول. و كما ان الجبال الرواسي هي ملجأ يعتصم به الانسان، هي ايضا للحيوانات تعتصم بها

(٢) أظهرتهم: نصرتهم و جعلت لهم الغلبة

(٣) الارعواء: النزوع عن الغي و الرجوع عن وجه الخطأ. لهج به: أولع به فثابر عليه.

١٢٧

و نطق بالسنتهم

و من خطبة له اتّخذوا الشيطان لأمرهم ملاكا(١) و اتّخذهم له أشراكا، فباض و فرّخ في صدورهم، و دبّ و درج في جحورهم، فنظر بأعينهم و نطق بألسنتهم، فركب بهم الزلل و زيّن لهم الخطل(٢) فعل من قد شرّكهم الشيطان في سلطانه و نطق بالباطل على لسانه.

جعلوهم حكّاما على الرّقاب

سأل الإمام سائل عن أحاديث البدع و عمّا في أيدي الناس من اختلاف الخبر. فقال في جملة ما قال: إنّ في أيدي الناس حقا و باطلا، و صدقا و كذبا. و قد أخبرك اللّه عن المنافقين بما أخبرك و وصفهم بما وصفهم به لك، ثم بقوا بعده يعني النبي فتقرّبوا إلى أئمة الضلالة و الدّعاة إلى النار بالزّور و البهتان، فولّوهم الأعمال و جعلوهم حكّاما على رقاب الناس و أكلوا بهم الدنيا. و إنما الناس مع الملوك إلاّ من عصم اللّه

____________________

(١) ملاك الشي‏ء: قوامه الذي يملك به.

(٢) الخطل: أقبح الخطأ.

١٢٨

صنفان

و من كلام له في محبّيه و مبغضيه: و سيهلك فيّ صنفان: محبّ مفرط يذهب به الحب إلى غير الحقّ، و مبغض مفرط يذهب به البغض الى غير الحق. و خير الناس فيّ حالا النمط الأوسط فالزموه، و الزموا السواد الأعظم فإن يد اللّه مع الجماعة و من كلامه في هؤلاء: هلك فيّ رجلان: محبّ غال، و مبغض قال.

و من كلامه أيضا و قد توفي سهل بن حنيف الانصاري بالكوفة بعد رجوعه معه من صفين، و كان من أشد أنصار الإمام اندفاعا في سبيل الحق: لو أحبّني جبل لتهافت(١) .

____________________

(١) تهافت: تساقط بعد ما تصدّع.

١٢٩

ائمّة العدل

عاد الإمام العلاء بن زياد الحارثي بالبصرة، و هو من أصحابه. فلما رأى سعة داره قال له: ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا؟ أما أنت اليها في الآخرة كنت أحوج؟ و بلى، إن شئت بلغت بها الآخرة: تقري فيها الضيف، و تصل فيها الرحم، و تطلع منها الحقوق مطالعها(١) فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين، أشكو اليك أخي عاصم بن زياد. قال: و ما له؟

قال: لبس العباءة و تخلّى عن الدنيا. قال: عليّ به. فلما جاء قال: يا عديّ نفسه(٢) لقد استهام بك الخبيث. أما رحمت أهلك و ولدك أ ترى اللّه أحلّ لك الطيّبات و هو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على اللّه من ذلك(٣) .

____________________

(١) أطلع الحق مطلعه: أظهره حيث يجب أن يظهر.

(٢) عدي: تصغير عدو.

(٣) في هذا الكلام بيان أن أطايب الدنيا لا تبعد الإنسان عن اللّه لطبيعتها، و لكن لسوء القصد منها.

١٣٠

قال عاصم: يا أمير المؤمنين، ها أنت في خشونة ملبسك و جشوبة مأكلك قال الإمام: ويحك، إني لست كأنت. إن اللّه فرض على أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيّغ بالفقير فقره(١) .

لو اعطيت الاقاليم السّبعة

من كلام رائع له في صفة نفسه حافظا لأموال العامة، و ذلك بعد أن أملق أخوه عقيل بن أبي طالب فاستعطاه: و اللّه لأن أبيت على حسك السّعدان(٢) مسهّدا، و أجرّ في الأغلال مصفّدا، أحبّ إليّ من أن ألقى اللّه و رسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد و غاصبا لشي‏ء من الحطام.

و اللّه لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها جلب شعيرة(٣) ما فعلت. و إنّ دنياكم عندي لأهون

____________________

(١) يقدروا أنفسهم الخ..: يقيسوا أنفسهم بالضعفاء ليكونوا قدوة للغني في الاقتصاد و صرف الأموال في وجوه الخير و منافع المجتمع. يتبيّغ بالفقير فقره: يهيج به ألم الفقر فيهلكه.

(٢) يريد من الحسك: الشوك. و السعدان: نبت شائك ترعاه الإبل.

(٣) جلب: قشرة.

١٣١

من ورقة في فم جرادة تقضمها(١) ما لعلي و لنعيم يفنى و لذة لا تبقى. نعوذ باللّه من سبات العقل و قبح الزلل و به نستعين.

تحرّكه العواصف

من كلام له يجري مجرى الخطبة: و كنت كالجبل لا تحرّكه القواصف و لا تزيله العواصف: لم يكن لأحد فيّ مهمز(٢) و لا لقائل فيّ مغمز. الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحقّ له، و القويّ عندي ضعيف حتى آخذ الحقّ منه

لو لا تخمة الظّالم و جوع المظلوم

من خطبة له معروفة بالشقشقية: إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه(٣) ، و قام معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضمة الإبل نبتة الربيع(٤) ، ألى أن أجهز عليه

____________________

(١) تقضمها: تكسرها بأطراف أسنانها.

(٢) الهمز و الغمز: الوقيعة، أي: لم يكن فيّ عيب أعاب به.

(٣) يشير إلى عثمان. نافجا حضينه: رافعا لهما، و الحضن: ما بين الإبط و الكشح.

يقال للمتكبر: جاءنا نافجا حضينه. و يقال مثله لمن امتلأ بطنه طعاما.

(٤) الخضم: الأكل مطلقا، أو بأقصى الأضراس.

١٣٢

عمله و كبت به بطنته، فما راعني إلاّ و الناس ينثالون عليّ(١) من كل جانب، حتى لقد وطي‏ء الحسنان(٢) و شقّ عطفاي(٣) ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم(٤) . فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، و مرقت أخرى، و قسط آخرون(٥) كأنهم لم يسمعوا كلام اللّه حيث يقول: «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين» بلى، و اللّه لقد سمعوها و وعوها، و لكنهم حليت الدنيا في أعينهم و راقهم زبرجها(٦) . أما و الذي فلق الحبّة و برأ النسمة، لو لا حضور الحاضر(٧) و قيام الحجّة بوجود الناصر، و ما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم(٨) ، لألقيت حبلها على غاربها(٩) ، و لسقيت آخرها بكأس أولها، و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز.

____________________

(١) البطنة: البطر و الأشر و التخمة و الإسراف في الشبع. كبت به، من كبا الجواد إذا سقط لوجهه. ينثالون: يتتابعون مزدحمين.

(٢) ولداه الحسن و الحسين.

(٣) شق عطفاه: خدش جانباه من الاصطكاك.

(٤) ربيضة الغنم: الطائفة الرابضة من الغنم.

(٥) الناكثة: أصحاب الجمل. و المارقة: أصحاب النهروان من الخوارج. القاسطون: الجائرون، و هم أصحاب صفين.

(٦) الزبرج: الزينة من وشي أو جوهر.

(٧) يقصد من حضر لبيعته، و لزوم البيعة لذمة الإمام بحضوره.

(٨) الكظة: ما يعتري الآكل من امتلاء البطن بالطعام، و المراد استئثار الظالم بالحقوق.

السغب: شدة الجوع، و المراد منه هضم حقوق المظلوم.

(٩) الغارب: الكاهل، و الكلام تمثيل للترك و إرسال الأمر.

١٣٣

أهل الحيلة

من خطبة له: إن الوفاء توأم الصدق و لا أعلم جنّة أوقى منه(١) . و لا يغدر من علم كيف المرجع. و لقد أصبحنا في زمان قد اتّخذ أكثر أهله الغدر كيسا(٢) و نسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة ما لهم؟

قاتلهم اللّه قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة(٣) و دونه مانع من أمر اللّه و نهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها و ينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين(٤) .

انت و اخوك الانسان

من وصية له كتبها لابنه الحسن من صفين: يا بنيّ، اجعل نفسك ميزانا فيما بينك و بين غيرك، فأحبب لغيرك

____________________

(١) الجنة: الوقاية.

(٢) الكيس: العقل.

(٣) الحوّل القلّب: البصير بتحويل الأمور و تقليبها.

(٤) يقول: أهل هذا الزمان يعدّون الغدر من العقل و حسن الحيلة. و لكن ما لهم يزعمون ذلك مع أن البصير بتحويل الأمور و تقليبها قد يرى وجه الحيلة في بلوغ مراده، لكنه يجد دون الأخذ به مانعا من أمر اللّه و نهيه، فيدع الحيلة و هو قادر عليها، خوفا من اللّه و وقوفا عند حدوده

١٣٤

ما تحب لنفسك، و اكره له ما تكره لها، و لا تظلم كما لا تحب أن تظلم، و أحسن كما تحب أن يحسن إليك، و استقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، و ارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، و لا تقل ما لا تعلم و إن قلّ ما تعلم، و لا تقل ما لا تحبّ أن يقال لك.

يا بني، إياك أن تغترّ بما ترى من إخلاد أهل الدنيا اليها و تكالبهم عليها(١) فقد نبّأ اللّه عنها و نعت لك نفسها و تكشّفت لك عن مساويها، فإنما أهلها كلاب عاوية و سباع ضارية يهرّ بعضهم بعضا و يأكل عزيزها ذليلها و يقهر كبيرها صغيرها.

و اعلم أنّ من كانت مطيّته الليل و النهار فإنه يسار به و إن كان واقفا، و يقطع المسافة و إن كان مقيما وادعا(٢) .

أكرم نفسك عن كلّ دنيّة و إن ساقتك الى الرغائب، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا. و لا تكن عبد غيرك و قد جعلك اللّه حرا، و ما خير خير لا ينال إلاّ بشرّ(٣) و يسر لا ينال إلاّ بعسر قارن أهل الخير تكن منهم، و باين أهل الشرّ تبن عنهم. بئس الطعام الحرام، و ظلم الضعيف أفحش الظلم.

إحمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة(٤) ، و عند صدوده

____________________

(١) إخلاد اهل الدنيا اليها: سكونهم اليها. التكالب: التواثب.

(٢) وادعا: ساكنا مستريحا.

(٣) يريد: أي خير في شي‏ء سماه الناس خيرا و هو مما لا يناله الانسان إلا بالشر، فإن كان طريقه شرا فكيف يكون هو خيرا؟

(٤) الصرم: القطيعة، أي: ألزم نفسك بصلة أخيك الانسان إذا قطعك.

١٣٥

على اللطف و المقاربة، و عند جموده على البذل(١) ، و عند تباعده على الدنوّ، و عند شدّته على اللين، و عند جرمه على العذر، حتى كأنه ذو نعمة عليك. و لن لمن غالظك(٢) فإنه يوشك أن يلين لك، و خذ على عدوّك بالفضل. و إن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقيّة يرجع إليها إن بدا له ذلك يوما ما(٣) . و من ظنّ بك خيرا فصدّق ظنه. و لا تضيعنّ حقّ أخيك اتّكالا على ما بينك و بينه فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقّه. و لا يكوننّ أخوك على مقاطعتك أقوى منك على صلته(٤) و لا يكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان، و ليس جزاء من سرّك أن تسوءه.

ما أقبح الخضوع عند الحاجة و الجفاء عند الغنى. و إن جزعت على ما تفلّت من يديك، فاجزع على كل ما لم يصل إليك. استدلّ على ما لم يكن بما كان، فإن الأمور الأشباه. و لا تكوننّ ممن لا تنفعه العظة إلاّ إذا بالغت في إيلامه.

____________________

(١) الجمود: البخل.

(٢) لن: أمر من «لان».

(٣) اي: استبق بقية من الصلة يسهل له معها الرجوع اليك إذا هو شاء ذلك.

(٤) أي: اذا أتى اخوك الانسان بأسباب القطيعة فقابلها بموجبات الصلة حتى تكون الغلبة للمودّة. و لا يصح أن يكون أخوك أقدر على ما يوجب القطيعة منك على ما يوجب الصلة. و هذا أبلغ قول في لزوم حفظ المودة بين الناس.

١٣٦

من ترك القصد جار(١) . و الصديق من صدق غيبه(٢) . ربّ قريب أبعد من بعيد، و ربّ بعيد أقرب من قريب، و الغريب من لم يكن له حبيب. سل عن الرفيق قبل الطريق، و عن الجار قبل الدار.

إذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان

انصتوا لقولى

من كلام له قاله للخوارج و قد خرج إلى معسكرهم: أ كلّكم شهد معنا صفّين؟

فقالوا: منّا من شهد و منّا من لم يشهد.

قال: فامتازوا فرقتين، فليكن من شهد صفّين فرقة، و من لم يشهدها فرقة، حتى أكلّم كلا منكم بكلامه.

و نادى الناس: أمسكوا عن الكلام و أنصتوا لقولي و أقبلوا بأفئدتكم إليّ، فمن نشدناه شهادة فليقل بعلمه فيها.

ثم كلّمهم بكلام طويل، من جملته أن قال: أ لم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلة و غيلة، و مكرا و خديعة:

____________________

(١) القصد: الاعتدال. جار: مال عن الصواب.

(٢) الغيب: ضد الحضور. أي: من حفظ لك حقك و هو غائب عنك.

١٣٧

إخواننا و أهل دعوتنا استقالونا و استراحوا الى كتاب اللّه سبحانه، فالرأي القبول منهم و التنفيس عنهم؟ فقلت لكم: هذا أمر ظاهره إيمان و باطنه عدوان، و أوّله رحمة و آخره ندامة. فأقيموا على شأنكم و الزموا طريقكم و لا تلتفتوا إلى ناعق نعق: إن أجيب أضلّ و إن ترك ذلّ؟

و قد كانت هذه الفعلة، و قد رأيتكم أعطيتموها. و اللّه لئن أبيتها ما وجبت عليّ فريضتها، و لا حمّلني اللّه ذنبها و و اللّه إن جئتها إني للمحقّ الذي يتّبع. و إنّ الكتاب لمعي، ما فارقته مذ صحبته: فلقد كنّا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، و إن القتل ليدور على الآباء و الأبناء و الإخوان و القرابات، فما نزداد على كلّ مصيبة و شدّة إلا إيمانا و مضيّا على الحقّ و صبرا على مضض الجراح. و لكنّا إنّما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزّيغ و الاعوجاج، و الشبهة و التأويل. فإذا طمعنا في خصلة(١) يلمّ اللّه بها شعثنا و نتدانى بها إلى البقية فيما بيننا، رغبنا فيها و أمسكنا عمّا سواها

تركا الحقّ و هما يبصرانه

من كلام له يكشف به للخوارج الشبهة و ينقض حكم الحكمين: فإن أبيتم إلاّ أن تزعموا أني أخطأت و ضللت، فلم تضلّلون عامّة أمة محمد صلى اللّه عليه و آله بضلالي، و تأخذونهم بخطئي،

____________________

(١) الخصلة، يراد بها هنا: الوسيلة.

١٣٨

و تكفّرونهم بذنوبي سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء و السّقم، و تخلطون من أذنب بمن لم يذنب.

لم آت، لا أبا لكم، بجرا، و لا ختلتكم عن أمركم و لا ليّسته عليكم(١) ، إنّما اجتمع رأي ملئكم على اختيار رجلين أخذنا عليهما ألاّ يتعدّيا القرآن، فتاها عنه، و تركا الحقّ و هما يبصرانه، و كان الجور هواهما فمضيا عليه. و قد سبق استثناؤنا عليهما، في الحكومة بالعدل و الصّمد للحق، سوء رأيهما و جور حكمهما(٢) .

انا نذيركم

من خطبة له في تخويف أهل النهروان(٣) قبل أن يبدأوه القتال: فأنا نذيركم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر و بأهضام هذا الغائط(٤) على غير بيّنة من ربكم و لا سلطان مبين معكم: قد طوّحت بكم الدار

____________________

(١) البجر: الشر و الأمر العظيم و الداهية. ختلتكم: خدعتكم. لبّسته عليكم: خلطته و شبّهته حتى لا يعرف

(٢) الصمد: القصد.

(٣) النهروان: اسم لأسفل نهر على مقربة من الكوفة. و أهل النهروان هم الخوارج.

(٤) صرعى، جمع صريع، أي: طريح. الأهضام، جمع: هضم و هو المطمئن من الوادي. و الغائط: ما سفل من الأرض، و المراد هنا منها المنخفضات. يقول: إني أحذركم من اللجاج في العصيان فتصبحوا مقتولين مطروحين، بعضكم في أثناء هذا النهر، و بعضكم في هذا الوادي و هذه المنخفضات.

١٣٩

و احتبلكم المقدار(١) ، و قد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم عليّ إباء المخالفين المنابذين حتى صرفت رأيي إلى هواكم، و أنتم معاشر أخفّاء الهام(٢) سفهاء الأحلام و لم آت، لا أبا لكم، بجرا و لا أردت لكم ضرّا.

اين العمالقة

من خطبة خطب الإمام بها الناس بالكوفة و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي، و عليه مدرعة من صوف و حمائل سيف ليف، و في رجليه نعلان من ليف: أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الذي ألبسكم الرياش و أسبغ عليكم المعاش. فلو أن أحدا يجد إلى البقاء سلّما، أو لدفع الموت سبيلا، لكان ذلك سليمان بن داود عليه السلام، الذي سخّر له ملك الجنّ و الإنس، مع النبوّة و عظيم الزّلفة. فلمّا استوفى طعمته و استكمل

____________________

(١) يقال «تطاوحت به النوى» أي: ترامت. احتبلهم: أوقعهم في حبالته. المقدار: القدر. يقول: لقد صرتم في متاهة لا يدع الضلال لكم سبيلا إلى مستقرّ من اليقين، فأنتم كمن رمت به داره و قذفته. و انتم مقيّدون للهلاك لا تستطيعون منه خروجا.

(٢) الهام: الراس. و خفة الرأس كناية عن قلة العقل.

١٤٠

مدّته، رمته قسيّ الفناء بنبال الموت، و أصبحت الديار منه خالية، و المساكن معطّلة، و ورثها قوم آخرون. و إنّ لكم في القرون السالفة لعبرة أين العمالقة و أبناء العمالقة أين الفراعنة و أبناء الفراعنة أين أصحاب مدائن الرّسّ الذين قتلوا النبيّين و أطفأوا سنن المرسلين، و أحيوا سنن الجبّارين أين الذين ساروا بالجيوش، و هزموا بالألوف، و عسكروا العساكر، و مدّنوا المدائن

اين عمّار

و من الخطبة السابقة نفسها: ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا، و أقبل منها ما كان مدبرا، و أزمع التّرحال عباد اللّه الأخيار ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم و هم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص و يشربون الرّنق(١) ؟ أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحقّ؟ أين عمّار؟

و أين ابن التّيهان؟ و أين ذو الشّهادتين(٢) ؟ و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة، و أبرد برؤوسهم إلى الفجرة(٣) ؟

____________________

(١) الرنق: الكدر.

(٢) عمار: عمار بن ياسر، و كان ممّن عذّب هو و أبوه و أخوه و أمه في بدء الدعوة.

و ابن التيهان: ابو الهيثم مالك بن التيهان، من أكابر الصحابة. ذو الشهادتين: خزيمة بن ثابت الانصاري، من الصحابة. و هؤلاء الثلاثة شهدوا صفين و استشهدوا بها.

(٣) أبرد برووسهم: أرسلت رؤوسهم مع البريد بعد قتلهم إلى البغاة للتشفّي منهم.

١٤١

الكبر و التّعصّب و البغي

من خطبة له طويلة تسمّى «القاصعة(١) »: و لا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، و قدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب، و نفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه اللّه به الندامة.

فاللّه اللّه في كبر الحميّة و فخر الجاهلية، فإنه منافخ الشيطان التي خدع بها الأمم الماضية و القرون الخالية.

و لا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم، و أدخلتم في حقكم باطلهم، و هم أساس الفسوق اتّخذهم إبليس مطايا ضلال و جندا بهم يصول على الناس، و تراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم و دخولا في عيونكم و نفثا في أسماعكم، فجعلكم مرمى نبله و موطى‏ء قدمه و مأخذ يده. فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه، و اتّعظوا بمثاوي خدودهم(٢) و مصارع جنوبهم. و استعيذوا باللّه من لواقح الكبر(٣) كما تستعيذون به من طوارق الدهر

____________________

(١) قصع فلان فلانا: حقّره. و قد سميت هذه الخطبة «القاصعة» لأن ابن أبي طالب حقّر فيها حال المتكبرين و أهل البغي.

(٢) مثاوي، جمع مثوى، بمعنى المنزل. و منازل الخدود: مواضعها من الأرض بعد الموت. و مصارع الجنوب: مطارحها على التراب.

(٣) لواقح الكبر: محدثاته في النفوس.

١٤٢

و لقد نظرت فما وجدت أحدا من العاملين يتعصّب لشي‏ء من الأشياء إلاّ عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء أو حجّة تليط بعقول السفهاء، غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر لا يعرف له سبب و لا علّة: أما إبليس فتعصّب على آدم لأصله، و طعن عليه في خلقته، فقال: «أنا ناريّ و أنت طينيّ» و أمّا الأغنياء من مترفة الأمم فتعصّبوا لآثار مواقع النّعم فقالوا: «نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذّبين» فإن كان لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصبكم لمكارم الخصال و محامد الأفعال و محاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء و النّجداء بالأخلاق الرغيبة و الأحلام العظيمة، فتعصّبوا لخلال الحمد: من الحفظ للجوار و الوفاء بالذمام، و الطاعة للبرّ، و المعصية للكبر، و الكفّ عن البغي، و الإعظام للقتل، و الإنصاف للخلق، و الكظم للغيظ، و اجتناب الفساد في الأرض.

و احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات(١) بسوء الأفعال و ذميم الأعمال، فتذكّروا في الخير و الشرّ أحوالهم و احذروا أن تكونوا أمثالهم.

أ لا و قد أمرني اللّه بقتال أهل البغي و النكث(٢) و الفساد في الأرض: فأمّا الناكثون فقد قاتلت. و أما القاسطون فقد جاهدت(٣) . و أمّا المارقة

____________________

(١) المثلات: العقوبات.

(٢) النكث: نقض العهد.

(٣) القاسطون: الجائرون على الحق.

١٤٣

فقد دوّخت. و أمّا شيطان الرّدهة(١) فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه و رجّة صدره. و بقيت بقيّة من أهل البغي، و لئن أذن اللّه في الكرّة عليهم لأديلنّ منهم(٢) إلاّ ما يتشذّر في أطراف البلاد تشذّرا(٣) .

و إني لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم: سيماهم سيما الصدّيقين، و كلامهم كلام الأبرار، عمّار الليل و منار النهار(٤) لا يستكبرون و لا يعلون و لا يغلّون(٥) و لا يفسدون: قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل.

الدّنيا تطوى من خلفكم

من عهد له إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر. و فيه تذكير بأحوال الدنيا و ترغيب للولاة في أن يعدلوا و يرحموا لئلاّ يعذّبوا، و ذلك بأروع ما تجري به ريشة العبقرية من بيان: و أنتم طرداء الموت: إن أقمتم له أخذكم، و إن فررتم منه أدرككم،

____________________

(١) الردهة: النقرة في الجبل قد يجتمع فيها. و شيطانها ذو الثدية من رؤساء الخوارج وجد مقتولا في ردهة.

(٢) لأديلن منهم: لأمحقننهم ثم أجعل الدولة لغيرهم.

(٣) يتشذّر: يتفرق، أي: لا يفلت مني إلاّ من يتفرّق في أطراف البلاد.

(٤) عمار، جمع عامر، أي: يعمرون الليل بالسهر للفكر و العبادة.

(٥) يغلون. يخونون.

١٤٤

و هو ألزم لكم من ظلّكم الموت معقود بنواصيكم(١) ، و الدنيا تطوى من خلفكم، فاحذروا نارا قعرها بعيد، و حرّها شديد، و عذابها جديد، ليس فيها رحمة و لا تسمع فيها دعوة

دستور الولاة

من رسالة كتبها للأشتر النخعي لما ولاّه على مصر و أعمالها في عهد خلافته. و هي من جلائل رسائله و وصاياه، و أجمعها لقوانين المعاملات المدنية و الحقوق العامة و التصرّفات الخاصة في نهج الإمام. كما انها من أروع ما أنتجه العقل و القلب جميعا في تقرير علاقة الحاكم بالمحكوم، و في مفهوم الحكومة، حتى أن الإمام سبق عصره أكثر من ألف سنة بجملة ما ورد في هذه الرسالة الدستور، من إشراق العقل النيّر و القلب الخيّر.

ثم اعلم يا مالك أني قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور، و أن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، و يقولون فيك ما كنت تقول فيهم، و إنّما يستدلّ على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده، فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك و شحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك

____________________

(١) النواصي، جمع ناصية، و هي: مقدّم شعر الرأس.

١٤٥

فإنّ الشّحّ بالنفس الإنصاف منها في ما أحبّت أو كرهت(١) . و أشعر قلبك الرحمة للرعية، و المحبّة لهم، و اللطف بهم. و لا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغنتم أكلهم فإنهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل(٢) ، و تعرض لهم العلل، و يؤتى على أيديهم في العمد و الخطأ(٣) ، فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك اللّه من عفوه و صفحه، فإنك فوقهم و والي الأمر عليك فوقك، و اللّه فوق من ولاّك و لا تندمنّ على عفو، و لا تبجحنّ بعقوبة و لا تسرعنّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة(٤) .

أنصف اللّه و أنصف الناس من نفسك و من خاصّة أهلك و من لك فيه هوى من رعيّتك(٥) ، فإنك إلاّ تفعل تظلم و من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده. و ليس شي‏ء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه و تعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإنّ اللّه سميع دعوة المضطهدين و هو للظالمين بالمرصاد.

و ليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ، و أعمّها في العدل و أجمعها لرضا الرعية، فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصة،

____________________

(١) الشح: البخل. يقول: انتصف من نفسك في ما أحبت و كرهت، أي ابخل بها و لا تمكّنها من الاسترسال في ما أحبّت، و احرص على صفائها كذلك بأن تحملها على ما تكره إن كان ذلك في الحق.

(٢) يفرط: يسبق. الزلل: الخطأ.

(٣) يؤتى على أيديهم: تأتي السيئات على أيديهم.

(٤) بجح بالشي‏ء: فرح به. البادرة: ما يبدر من الحدة عند الغضب في قول أو فعل.

المندوحة: المتّسع الذي يمكّن المرء من التخلّص.

(٥) من لك فيه هوى، أي: من تميل اليه ميلا خاصا.

١٤٦

و إن سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامّة(١) . و ليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالي مؤونة في الرّخاء و أقلّ معونة له في البلاء، و أكره للإنصاف، و أسأل بالإلحاف(٢) ، و أقلّ شكرا عند الإعطاء، و أبطأ عذرا عند المنع، و أضعف صبرا عند ملمّات الدهر، من أهل الخاصة(٣) .

أطلق عن الناس عقدة كلّ حقد، و اقطع عنك سبب كلّ وتر(٤) ، و لا تعجلنّ إلى تصديق ساع فإنّ الساعي غاشّ و إن تشبّه بالناصحين.

إن شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، و من شركهم في الآثام، فلا يكوننّ لك بطانة(٥) فإنهم أعوان الأثمة و إخوان

____________________

(١) يحجف: يذهب. يقول للحاكم: إذا رضي عليك الخاصة و سخط عليك العامة، فلا ينفعك رضا أولئك مع سخط هؤلاء. أما إذا رضي عليك العامة، و هؤلاء لا يرضيهم إلا العدل، فسخط الخاصة مغتفر.

(٢) الإلحاف: الإلحاح.

(٣) يقول: ليس هنالك من هم أثقل على الحاكم، و أقل نفعا له و أكثر ضررا عليه من خاصته و المتقربين اليه من ذوي الثروة و الوجاهة يلازمونه و يلحون عليه في قضاء حاجاتهم و يرهقونه بالمسائل و الشفاعات و يغنمون عن سبيله المغانم و يثرون على حساب العامة، ثم يجحدون كل ذلك و لا يساندون الحاكم أو الجمهور في نائبة أو أزمة. فهم لذلك فئة يجب على الحاكم الصالح أن ينبذها و يعتمد على العامة دون سواهم.

(٤) الوتر: العداوة: يقول: احلل عقدة الأحقاد من قلوب الناس بالعدل فيهم و حسن السيرة معهم. و اقطع السبب في عداء الناس لك بالإحسان اليهم قولا و عملا.

(٥) البطانة: الخاصة.

١٤٧

الظّلمة(١) ، و أنت واجد منهم خير الخلف ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه و لا آثما على إثمه. ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحق لك(٢) و أقلّهم مساعدة في ما يكون منك ممّا كره اللّه لأوليائه واقعا [ذلك] من هواك حيث وقع. و الصق بأهل الورع و الصدق ثم رضهم على أن لا يطروك و لا يبجحوك بباطل لم تفعله(٣) .

و لا يكوننّ المحسن و المسي‏ء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة و ألزم كلاّ منهم ما ألزم نفسه(٤) و اعلم أنه ليس شي‏ء بأدعى إلى حسن ظنّ راع برعيّته من إحسانه إليهم(٥) و تخفيفه المؤونات عنهم، و ترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم(٦) ، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به

____________________

(١) الأثمة: جمع آثم. الظلمة: جمع ظالم.

(٢) آثرهم: أفضلهم. مرارة الحق. صعوبته. يقول: ليكن أفضل وزرائك و أعوانك في نظرك أصدقهم و أكثرهم قولا بالحق مهما كان الحق صعبا على نفسك.

(٣) رضهم: عوّدهم. يطروك: يطنبوا في مدحك. يبجحوك بباطل لم تفعله: يفرّحوك بأن ينسبوا اليك عملا عظيما لم تكن فعلته.

(٤) أي: أحسن الى المحسن بما ألزم نفسه، و هو استحقاق الإحسان. و عاقب المسي‏ء بما ألزم نفسه كذلك، و هو استحقاق العقاب.

(٥) ليس هنالك ما يحمل الوالي على الاطمئنان إلى أن قلوب الناس معه كالاحسان اليهم و العدل فيهم و تخفيف الاثقال عن كواهلهم. و هم في غير هذه الحال أعداء له ينتهزون الفرصة للثورة عليه، و إذ ذاك يسوء ظنه بهم.

(٦) قبلهم، بكسر ففتح: عندهم.

١٤٨

حسن الظنّ برعيّتك، و إنّ أحقّ من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده، و إنّ أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده(١) .

و أكثر مدارسة العلماء و مناقشة الحكماء(٢) في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، و إقامة ما استقام به الناس قبلك.

ولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك، و أنقاهم جيبا و أفضلهم حلما: ممّن يبطى‏ء عن الغضب، و يستريح إلى العذر، و يرأف بالضعفاء، و ينبو على الأقوياء(٣) و ممن لا يثيره العنف، و لا يقعد به الضعف.

و إنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، و ظهور مودّة الرعية، و إنه لا تظهر مودّتهم إلا بسلامة صدورهم، و لا تصحّ نصيحتهم إلاّ بحيطتهم على ولاة الأمور و قلّة استثقال دولهم(٤) .

ثم اعرف لكلّ امرى‏ء منهم ما أبلى، و لا تضيفنّ بلاء امرى‏ء إلى

____________________

(١) البلاء: الصنع، حسنا أو سيئا.

(٢) المنافثة: المحادثة.

(٣) ينبو: يشتدّ و يعلو. يأمر الحاكم بأن يولّي من جنوده من لا يضعف أمام الأقوياء و الأثرياء و النافذين بل يعلو عليهم و يشتدّ ليمنعهم من ظلم الضعفاء و الفقراء و البسطاء.

(٤) الحيطة، بكسر الحاء: مصدر «حاط» بمعنى: صان و حفظ، يقول: ان مودة الرعية لا تظهر و نصيحتهم لا تصحّ إلا بقدر ما يرغبون في المحافظة على ولاتهم و يحرصون على بقائهم و لا يستثقلون مدة حكمهم.

١٤٩

غيره(١) ، و لا يدعونّك شرف امرى‏ء إلى أن تعظّم من بلائه ما كان صغيرا، و لا ضعة امرى‏ء إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما.

ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك(٢) ممّن لا تضيق به الأمور و لا تمحكه الخصوم(٣) و لا يتمادى في الزلّة، و لا تشرف نفسه على طمع، و لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه(٤) ، و أوقفهم في الشّبهات(٥) و آخذهم بالحجج، و أقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم، و أصبرهم على تكشّف الأمور، و أصرمهم عند اتّضاع الحق، ممن لا يزدهيه إطراء، و لا يستميله إغراء، و أولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه(٦) و أفسح له في البذل ما يزيل علّته و تقلّ معه حاجته الى الناس و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك.

ثم انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا، و لا تولّهم محاباة

____________________

(١) لا تنسبنّ صنيع امرى‏ء إلى غيره.

(٢) انتقال من الكلام في الجند الى الكلام في القضاة.

(٣) تمحكه: تغضبه.

(٤) لا يكتفي بما يبدو له بأول فهم و أقربه، بل يتأمل و يدرس حتى يأتي على أقصى الفهم و أدناه من الحقيقة.

(٥) الشبهات، جمع شبهة، و هي ما لا يتضح الحكم فيها بالنص، فينبغي العمل لردّ الحادثة التي ينظر فيها إلى أصل صحيح.

(٦) أي: تتبع قضاءه بالاستكشاف و التعرف.

١٥٠

و أثرة فإنهم جماع من شعب الجور و الخيانة(١) . ثم تفقّد أعمالهم و ابعث العيون(٢) من أهل الصدق و الوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوة لهم(٣) على استعمال الأمانة و الرفق بالرعية. و تحفّظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه(٤) عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه، و أخذته بما أصاب به من عمله، ثم نصبته بمقام المذلّة، و وسمته بالخيانة، و قلّدته عار التهمة.

و تفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم. و لا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج و أهله. و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة. و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد و أهلك العباد و لم يستقم أمره إلاّ قليلا.

و لا يثقلنّ عليك شي‏ء خفّفت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك.

و إن العمران محتمل ما حمّلته، و إنما يؤتى خراب الأرض من

____________________

(١) أي: ولّهم الأعمال بالاختبار و التجربة، لا ميلا منك لمعاونتهم و لا استبدادا منك برأيك، فإن المحاباة و الأثرة يجمعان الظلم و الخيانة معا.

(٢) العيون: الرقباء.

(٣) حدوة: سوق و حثّ.

(٤) اجتمعت عليها أخبار عيونك: اتفقت عليها أخبار رقبائك.

١٥١

إعواز أهلها، و إنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع(١) و سوء ظننهم بالبقاء و قلّة انتفاعهم بالعبر.

ثم انظر في حال كتّابك فولّ على أمورك خيرهم، ممّن لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإنّ الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل.

ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك و استنامتك(٢) و حسن الظنّ منك، فإنّ الرجال يتعرّفون لفراسات الولاة بتصنّعهم و حسن خدمتهم(٣) ، و ليس وراء ذلك من النصيحة و الأمانة شي‏ء. و مهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته(٤) .

ثم استوص بالتجّار و ذوي الصّناعات و أوص بهم خيرا: المقيم منهم و المضطرب بماله(٥) ، فإنهم موادّ المنافع و أسباب المرافق، و تفقّد أمورهم بحضرتك و في حواشي بلادك. و اعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقا فاحشا و شحّا قبيحا و احتكارا للمنافع و تحكّما في البياعات، و ذلك باب مضرّة للعامّة و عيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فإن رسول اللّه صلى

____________________

(١) إشراف انفس الولاة على الجمع: تطلّعهم الى جمع المال و ادّخاره لأنفسهم طمعا و جشعا.

(٢) الفراسة: قوة الظن و إدراك الباطن من النظر في الظاهر. الاستنامة: الاطمئنان إلى حسن الرأي. أي: لا يكن اختيارك للكتاب متأثرا بميلك الخاص و فراستك التي قد تخطى‏ء.

(٣) أي يخدمون الولاء بما يطيب لهم توسّلا إلى حسن ظنّ هؤلاء بهم.

(٤) إذا تغابيت عن عيب في كتابك كان ذلك العيب لاصقا بك.

(٥) المتردد بأمواله بين البلدان.

١٥٢

اللّه عليه و سلّم منع منه. و ليكن البيع بيعا سمحا: بموازين عدل، و أسعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع(١) فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكّل به و عاقبه في غير إسراف(٢) .

ثم يتحدّث الإمام في رسالته هذه إلى مالك الأشتر عن الطققة المعوزة فيقول: و احفظ للّه ما استحفظك من حقّه فيهم، و اجعل لهم قسما من بيت مالك فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، و كلّ قد استرعيت حقّه، فلا يشغلنّك عنهم بطر(٣) فإنك لا تعذر بتضييعك التافه(٤) لإحكامك المهمّ، فلا تشخص همّك عنهم(٥) و لا تصعّر خدّك لهم(٦) و تفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون(٧) و تحقره الرجال، فإنّ هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم. و تعهّد

____________________

(١) المبتاع: المشتري.

(٢) قارف: خالط. الحكرة: الاحتكار. نكل به: أوقع به العذاب عقوبة له. يقول: من احتكر بعد النهي عن الاحتكار عاقبه لكن من غير إسراف في العقوبة يتجاوز عن حد العدل فيها.

(٣) البطر: طغيان النعمة.

(٤) يقول: لا عذر لك بإهمالك القليل إذا أحكمت الكثير.

(٥) لا تشخص همك عنهم: لا تصرف همك عنهم.

(٦) صعّر خده: أماله عن النظر إلى الناس تهاونا و كبرا.

(٧) تقتحمه العيون: تكره أن تنظر اليه احتقارا.

١٥٣

أهل اليتم و ذوي الرقّة في السن(١) ممّن لا حيلة له، و لا ينصب للمسألة نفسه، و ذلك على الولاة ثقيل، و الحقّ كلّه ثقيل و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرّغ لهم فيه شخصك، و تجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه للّه الذي خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك(٢) من أحراسك و شرطك حتى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع(٣) فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول في غير موطن(٤) : «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتع» ثم احتمل الخرق منهم و العيّ(٥) و نحّ عنهم الضيق و الأنف(٦) .

ثم أمور من أمورك لا بدّ لك من مباشرتها: منها إجابة عمّالك بما يعيا عنه كتّابك. و منها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك(٧) ، و أمض لكلّ يوم عمله فإنّ لكلّ يوم ما فيه.

____________________

(١) ذوو الرقة في السن: المتقدمون فيه.

(٢) أي: تأمر بأن يقعد عنهم جندك و أعوانك و بألا يتعرضوا لهم.

(٣) التعتعة في الكلام: التردد فيه من عجز و عيّ، أو من خوف.

(٤) في مواطن كثيرة.

(٥) الخرق: العنف. العي: العجز عن النطق. أي: لا تضجر من هذا و لا تغضب من ذاك.

(٦) الأنف: الاستنكاف و الاستكبار.

(٧) تحرج: تضيق. يقول: إن الأعوان تضيق صدورهم بتعجيل الحاجات، و يحبون المماطلة في قضائها، استجلابا للمنفعة أو إظهارا للجبروت.

١٥٤

و لا تطوّلنّ احتجابك عن رعيّتك، فإنّ احتجاب الولاة عن الرعيّة شعبة من الضيق و قلّة علم بالأمور. و الاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير و يعظم الصغير، و يقبح الحسن و يحسن القبيح، و يشاب الحقّ بالباطل. و إنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، و ليست على الحقّ سمات(١) تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، و إنما أنت أحد رجلين: إمّا امرؤ سخت نفسه بالبذل في الحق ففيم احتجابك(٢) من واجب حقّ تعطيه أو فعل كريم تسديه؟ أو مبتلى بالمنع فما أسرع كفّ الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك(٣) ، مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة.

ثم إنّ للوالي خاصّة و بطانة فيهم استئثار و تطاول، و قلّة إنصاف في معاملة، فاحسم مادّة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال(٤) و لا تقطعنّ لأحد من حاشيتك و حامّتك قطيعة(٥) و لا يطمعنّ منك في اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على

____________________

(١) سمات: علامات.

(٢) لأي سبب تحتجب عن الناس في أداء حقهم، أو في عمل تمنحهم إياه؟

(٣) يقول: و إن قنط الناس من قضاء مطالبهم منك أسرعوا الى البعد عنك، فلا حاجة للاحتجاب.

(٤) احسم: اقطع. يقول: اقطع مادة شرورهم عن الناس بقطع أسباب تعدّيهم، و إنما يكون ذلك بالأخذ على أيديهم و منعهم من التصرّف في شؤون العامة.

(٥) الاقطاع: المنحة من الأرض. القطيعة: الممنوح منها. الحامة، كالطّامة: الخاصة و القرابة. الاعتقاد: الامتلاك. العقدة: الضيعة.

١٥٥

غيرهم فيكون مهنأ ذلك(١) لهم دونك، و عيبه عليك في الدنيا و الآخرة.

و ألزم الحقّ من لزمه من القريب و البعيد، و كن في ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك و خاصّتك حيث وقع، و ابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإنّ مغبّة ذلك محمودة(٢) .

و إن ظنّت الرعيّة بك حيفا فأصحر(٣) لهم بعذرك، و اعدل عنك ظنونهم بإصحارك فإنّ في ذلك رياضة منك لنفسك(٤) و رفقا برعيّتك و إعذارا(٥) تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق.

و لا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك و للّه فيه رضا، فإنّ في الصلح دعة لجنودك و راحة من همومك و أمنا لبلادك. و إن عقدت بينك و بين عدوّك عقدة أو ألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء و ارع ذمّتك بالأمانة و اجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت(٦) و لا تغدرنّ بذمّتك و لا تخيسنّ بعهدك

____________________

(١) المهنأ: المنفعة الهنيئة.

(٢) المغبة: العاقبة، يقول: إن إلزام الحق لمن لزمهم، و إن ثقل على الوالي و عليهم، محمود العاقبة يحفظ الدولة.

(٣) الحيف: الظلم. أصحر بهم: ابرز لهم.

(٤) رياضة منك لنفسك: تعويدا لنفسك على العدل.

(٥) الإعذار: تقديم العذر أو إبداؤه.

(٦) أصل معنى الذمة: وجدان مودع في جبلة الانسان ينبهه لرعاية حق ذوي الحقوق و يدفعه لأداء ما يجب عليه منها، ثم أطلقت على معنى العهد. الجنة: الوقاية.

يقول: حافظ بروحك على ما أعطيت من العهد.

١٥٦

و لا تختلنّ(١) عدوّك. و لا تعقد عقدا تجوّز فيه العلل(٢) و لا تعوّلنّ على لحن قول بعد التأكيد و التوثقة، و لا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد اللّه إلى طلب انفساخه بغير الحقّ(٣) .

و لا تقوّينّ سلطانك بسفك دم حرام، فإنّ ذلك ممّا يضعفه و يوهنه بل يزيله و ينقله، و لا عذر لك عند اللّه و لا عندي في قتل العمد و إيّاك و المنّ على رعيّتك بإحسانك، أو التزيّد في ما كان من فعلك(٤) أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإنّ المنّ يبطل الإحسان، و التزيّد يذهب بنور الحق، و الخلف يوجب المقت عند اللّه و الناس.

و إياك و العجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقّط فيها عند إمكانها(٥) أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كلّ أمر موضعه، و أوقع كلّ أمر موقعه.

____________________

(١) خاس بعهده: خانه و نقضه. الختل: الخداع.

(٢) العلل: جمع علة و هي في النقد و الكلام بمعنى ما يصرفه عن وجهه و يحوّله الى غير المراد، و ذلك يطرأ على الكلام عند إبهامه و عدم صراحته.

(٣) لحن القول: ما يقبل التوجيه كالتورية و التعريض. يقول: إذا ريت ثقلا من التزام العهد فلا تركن إلى لحن القول لتتملص منه، بل خذ بأصرح الوجوه لك و عليك.

(٤) التزيّد: إظهار الزيادة في الأعمال و المبالغة في وصف الواقع منها في معرض الافتخار.

(٥) التسقط: يريد به هنا: التهاون.

١٥٧

و إياك و الاستئثار بما الناس فيه أسوة(١) ، و التغابي عما تعنى به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك، و عمّا قليل تنكشف عنك أغطية الأمور و ينتصف منك للمظلوم. إملك حميّة أنفك(٢) و سورة حدّك و سطوة يدك و غرب لسانك(٣) و احترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة(٤) و تأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار.

و الواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة أو سنّة فاضلة، و تجتهد لنفسك في اتّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، و استوثقت به من الحجّة لنفسي عليك، لكي لا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها. و أنا أسأل اللّه أن يوفّقني و إياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح اليه و إلى خلقه(٥) .

____________________

(١) احذر أن تخصّ نفسك بشي‏ء تزيد به عن الناس، و هو مما تجب فيه المساواة من الحقوق العامة.

(٢) أي: أملك نفسك عند الغضب.

(٣) السورة: الحدة: و الحد: البأس. و الغرب: الحد، تشبيها للسان بحدّ السيف و نحوه.

(٤) البادرة: ما يبدر من اللسان عند الغضب، و إطلاق اللسان يزيد الغضب اتقادا، و السكون يطفى‏ء من لهبه.

(٥) يريد من العذر الواضح: العدل، فإنه عذر لك عند من قضيت عليه، و عذر عند اللّه في من أجريت عليه عقوبة أو حرمته من منفعة.

١٥٨

حدود الضّريبة

من وصية كان الإمام يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، و هي تزخر بحنان الحاكم الأب على أبنائه، و تصلح لأن تدخل في دستور الدولة المثالية التي يحلم بها صفوة الخلق إذا قدمت على الحيّ فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة و الوقار حتى تقوم بينهم فتسلّم عليهم، و لا تخدج بالتحية لهم(١) ، ثم تقول: عباد اللّه، أرسلني اليكم وليّ اللّه و خليفته لآخذ منكم حقّ اللّه في أموالكم، فهل للّه في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلى وليّه؟

فإن قال قائل: لا فلا تراجعه. و إن أنعم لك منعم(٢) فانطلق معه من غير أن تخيفه و توعده أو تعسفه أو ترهقه(٣) فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضّة. فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلاّ بإذنه. فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلّط عليه و لا عنيف به، و لا تنفّرنّ بهيمة و لا تفزّعنّها و لا تسوءنّ صاحبها فيها. و اصدع المال صدعين(٤) ثم خيّره:

____________________

(١) أخدجت السحابة: قلّ مطرها.

(٢) أنعم لك منعم، أي: قال لك: نعم.

(٣) تعسفه: تأخذه بشدة. ترهقه: تكلفه ما يصعب عليه.

(٤) أي: اقسمه قسمين.

١٥٩

فإذا اختار فلا تعرّضنّ لما اختاره. فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحقّ اللّه في ماله، فاقبض حقّ اللّه منه. فإن استقالك فأقله(١) ، ثم اخلطهما، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق اللّه في ماله.

السفهاء و التجار

من كتاب بعث به الإمام الى أهل مصر مع مالك الاشتر لما ولاّه إمارتها: إني و اللّه لو لقيتهم واحدا و هم طلاع الأرض كلّها(٢) ما باليت و لا استوحشت. و إني من ضلالهم الذي هم فيه و الهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي و يقين من ربّي، و لكني آسى(٣) أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها و فجّارها فيتّخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا(٤) و الصالحين حربا و الفاسقين حزبا، فلو لا ذلك ما أكثرت تأليبكم و تأنيبكم، و جمعكم و تحريضكم

____________________

(١) أي: فإن ظنّ في نفسه سوء الاختيار و أنّ ما أخذت منه من الزكاة اكرم مما في يده، و طلب الإعفاء من هذه القسمة، فاعفه منها، و اخلط، و أعد القسمة.

(٢) الطلاع: مل‏ء الشي‏ء. يقول: لو كنت واحدا و هم يملأون الأرض للقيتهم غير مبال بهم. و الضمير يعود هنا على خصومه و محاربيه من وجهاء ذلك الزمان.

(٣) آسى: أحزن.

(٤) دولا، جمع دولة «بالضم»: أي شيئا يتداولونه بينهم و يتصرفون به في غير حق اللّه. الخول: العبيد.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237