روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة25%

روائع نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 237

روائع نهج البلاغة
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111391 / تحميل: 6594
الحجم الحجم الحجم
روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

روائع نهج البلاغة

جورج جرداق

١

تقديم

الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) هو إمام البلغاء و المتكلمين، كما هو إمام المتّقين.. و آيته في ذلك «نهج البلاغة» الذي يمثّل، في أسس البيان العربي، مكانة تلي مكانة القرآن الكريم... و تتصل به أساليب العرب، في نحو ثلاثة عشر قرنا، فتبني على بنائه، و تقبس منه جذوتها، و يحيا جيّدها في نطاق من بيانه السّاحر.

كان الإمام علي (ع) يرتجل كلماته، يلقيها، في مجالس القوم، خلاصات تأمّل، و في محافلهم، خطبا تجيش في داخل الذات، فينطق بها اللّسان عفو الخاطر، فتأتي محكمة «دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوق».

اختار الشريف الرضيّ أواخر القرن الرابع الهجري نماذج من خطبه و رسائله و كلماته القصار، و جمعها في كتاب سمّاه «نهج البلاغة». و الإسم يدلّ على أن هذه النّماذج المختارة تمثل نهجا في البيان و الأداء، يوصل، إن اتّخذ مثالا، إلى البلاغة، بوصفها كشفا عمّا في الذات و الواقع و إيصالا إلى المتلقي. و هذه هي غاية الأدب الخلاّق العظيم.

و منذ ذلك اليوم الذي جمع فيه الكتاب عكف العلماء و الأدباء على قراءته و شرحه، فتعدّدت الشروح و تنوّعت، و بلغ بعضها مجلّدات عديدة، يقتضي الاطلاع عليها وقتا و جهدا قد لا يملكهما المرء في هذا العصر. و من هنا جاءت الحاجة إلى كتاب ييسّر للإنسان العاديّ معرفة «النهج»، من طريق اختيار نماذج منه و شرحها.

و قد سعى الأديب المعروف جورج جرداق إلى أداء هذه المهمة، فاشتغل سنوات طوالا، ليسهّل الصعوبات أمام القارى‏ء، فيجمع بين دفّتي كتاب روائع «نهج البلاغة» و يبوّبها وفق موضوعاتها من جهة، و وفق زمن صدورها من جهة ثانية، و يشرح الغريب و الصعب من مفرداتها.

٢

ثم زاد على ذلك، فقدّم بين يدي الروائع التي اختارها و رتّبها و شرحها، دراسة جديدة في نوعها عن الشخصية العلوية من خلال نهج البلاغة، أضافها إلى سلسلة دراساته الخمس الشهيرة (الإمام علي صوت العدالة و الإنسانية).

يلبّي هذا الكتاب حاجة للقارى‏ء العاديّ و لطلاب المدارس و الجامعات، و للقارى‏ء المختصّ، أيضا، في هذا الزمن الذي لا يجد فيه المرء فرصة للقراءة، وسط المشاغل العديدة، و طغيان وسائل الاعلام المسموعة و المرئيّة.

و يسرّ مركز الغدير للدرسات أن يقدّم هذا الكتاب في حلته الجديدة هذه بعد نفاد طبعته، راجيا أن تتحقق به الفائدة التي توخّاها.

مركز الغدير للدرسات الإسلامية

٣

٤

في ادب الإمام

٥

حدود العقل و القلب

و كان شديدا، قاصفا، مزمجرا، كالرعد في ليالي الويل و الينبوع هو الينبوع لا حساب في جريه لليل أو نهار من تتبّع سير العظماء الحقيقيين في التاريخ لا فرق بين شرقيّ منهم أو غربي، و لا قديم و محدث، أدرك ظاهرة لا تخفى و هي أنهم، على اختلاف ميادينهم الفكرية و على تباين مذاهبهم في موضوعات النشاط الذهني، أدباء موهوبون على تفاوت في القوة و الضعف.

فهم بين منتج خلاّق، و متذوّق قريب التذوّق من الإنتاج و الخلق. حتى لكأنّ الحس الأدبي، بواسع دنيواته و معانيه و أشكاله، يلزم كل موهبة خارقة في كل لون من ألوان النشاط العظيم فنظرة واحدة الى الأنبياء، مثلا، تكفي لتقرير هذه الظاهرة في الأذهان. فما داود و سليمان و أشعيا و أرميا و أيوب و المسيح و محمد إلا أدباء أوتوا من الموهبة الأدبية ما أوتوا من سائر المواهب الخاصة بهم. و هذا نابوليون القائد، و أفلاطون الفيلسوف، و باسكال الرياضي، و باستور العالم الطبيعي، و الخيّام الحسابي، و نهرو رجل الدولة، و ديغول السياسي، و ابن خلدون المؤرخ، إنهم جميعهم أدباء لهم في الأدب ما يجعلهم في مصافّ ذوي الشأن من أهله. فلكلّ منهم لون من ألوان النشاط الفكري حدّده الطبع و الموهبة، ثم رعت النزعة الجمالية ما دخل منه في نطاق التعبير، فإذا هو من الأدب الخالص.

هذه الحقيقة تتركز جلية واضحة في شخصية علي بن أبي طالب، فإذا هو الإمام في الأدب، كما هو الإمام في ما أثبت من حقوق و في ما علّم و هدى، و آيته في ذلك «نهج البلاغة» الذي

٦

يقوم في أسس البلاغة العرب في ما يلي القرآن من أسس، و تتّصل به أساليب العرب في نحو ثلاثة عشر قرنا فتبني على بنائه و تقتبس منه و يحيا جيّدها في نطاق من بيانه الساحر.

أما البيان فقد وصل عليّ سابقه بلاحقه، فضمّ روائع البيان الجاهلي الصافي المتّحد بالفطرة السليمة اتحادا مباشرا، الى البيان الإسلامي الصافي المهذب المتحد بالفطرة السليمة و المنطق القويّ اتحادا لا يجوز فيه فصل العناصر بعضها عن بعض. فكان له من بلاغة الجاهلية، و من سحر البيان النبويّ، ما حدا بعضهم إلى أن يقول في كلامه إنه «دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوق».

و لا عجب في ذلك، فقد تهيّأت لعليّ جميع الوسائل التي تعدّه لهذا المكان بين أهل البلاغة. فقد نشأ في المحيط الذي تسلم فيه الفطرة و تصفو، ثم إنه عايش أحكم الناس محمد بن عبد اللّه، و تلقّى من النبي رسالته بكل ما فيها من حرارة و قوة. أضف الى ذلك استعداداته الهائلة و مواهبه العظيمة، فإذا بأسباب التفوّق تجتمع لديه من الفطرة و من البيئة جميعا أما الذكاء، الذكاء المفرط، فتلقى له في كل عبارة من «نهج البلاغة» عملا عظيما.

و هو ذكاء حيّ، قادر، واسع، عميق، لا تفوته أغوار. إذا هو عمل في موضوع أحاط به بعدا فما يفلت منه جانب و لا يظلم منه كثير أو قليل، و غاص عليه عمقا، و قلّبه تقليبا، و عركه عركا، و أدرك منه أخفى الأسباب و أمعنها في الاختفاء كما أدرك أصدق النتائج المترتّبة على تلك الأسباب: ما قرب منها أشدّ القرب، و ما بعد أقصى البعد.

و من شروط الذكاء العلويّ النادر هذا التسلسل المنطقي الذي تراه في النهج أنّي اتجهت.

و هذا التماسك بين الفكرة و الفكرة حتى تكون كلّ منها نتيجة طبيعية لما قبلها و علّة لما بعدها. ثم إن هذه الأفكار لا تجد فيها ما يستغنى عنه في الموضوع الذي يبحث فيه. بل إنك لا تجد فيها ما يستقيم البحث بدونه. و هو، لاتّساع مداه، لا يستخدم لفظا إلا و في هذا اللفظ ما يدعوك لأن تتأمل و تمعن في التأمل، و لا عبارة إلا و تفتح أمام النظر آفاقا وراءها آفاق.

فعن أيّ رحب وسيع من مسالك التأمّل و النظر يكشف لك قوله: «الناس أعداء ما جهلوا» أو قوله: «قيمة كل امرى‏ء ما يحسنه». أو «الفجور دار حصن ذليل».

٧

و أيّ إيجاز معجز هو هذا الايجاز: «من تخفّف لحق» و أيّ جليل من المعنى في العبارات الأربع و ما تحويه من ألفاظ قلائل فصّلت تفصيلا، بل قل أنزلت تنزيلا ثم عن أي حدّة في الذكاء و استيعاب للموضوع و عمق في الإدراك، يشفّ هذا الكشف العجيب عن طبع الحاسد و صفة نفسه و حقيقة حاله: «ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد: نفس دائم و قلب هائم و حزن لازم. مغتاظ على من لا ذنب له، بخيل بما لا يملك» و يستمرّ تولّد الأفكار في «نهج البلاغة» من الأفكار، فإذا أنت منها أمام حشد لا ينتهي.

و هي مع ذلك لا تتراكم، بل تتساوق و يترتّب بعضها على بعض. و لا فرق في ذلك بين ما يكتبه عليّ و ما يلقيه ارتجالا. فالينبوع هو الينبوع و لا حساب في جريه لليل أو نهار.

ففي خطبه المرتجلة معجزات من الأفكار المضبوطة بضابط العقل الحكيم و المنطق القويم.

و إنك لتدهش، أمام هذا المقدار من الإحكام و الضبط العظيمين، حين تعلم أن عليّا لم يكن ليعدّ خطبه و لو قبيل إلقائها بدقائق أو لحظات.

فهي جائشة في ذهنه منطلقة على لسانه عفو الخاطر لا عنت و لا إجهاد، كالبرق إذ يلمع و لا خبر يأخذه أو يعطيه قبل وميضه. و كالصاعقة إذ تزمجز و لا تهيّ‏ء نفسها لصعق أو زمجرة.

و كالريح إذ تهبّ فتلوي و تميل و تكسح و تنصبّ على غاية ثم إلى مداورها تعود و لا يدفعها إلى أن تروح و تجي‏ء إلاّ قانون الحادثة و منطق المناسبة في حدودها القائمة، لا قبل و لا بعد و من مظاهر الذكاء الضابط القويّ في نهج البلاغة تلك الحدود التي كان عليّ يضبط بها بها عواطف الحزن العميق إذ تهيج في نفسه و تعصف. فإن عاطفته الشديدة ما تكاد تغرقه في محيط من الأحزان و الكآبات البعيدة، حتى يبرز سلطان العقل في جلاء و مضاء، فإذا هو آمر مطاع.

و من ذكاء علي المفرط الشامل في نهجه كذلك أنه نوّع البحث و الوصف فأحكم في كل موضوع و لم يقصر جهده الفكري على واحد من الموضوعات أو سبل البحث. فهو يتحدث بمنطق الحكيم الخبير عن أحوال الدنيا و شؤون الناس، و طبائع الافراد و الجماعات. و هو يصف البرق و الرعد و الأرض و السماء. و يسهب في القول في مظاهر الطبيعة الحية فيصف

٨

خفايا الخلق في الخفاش و النملة و الطاووس و الجرادة و ما إليها. و يضع للمجتمع دساتير و للأخلاق قوانين. و يبدع في التحدث عن خلق الكون و روائع الوجود. و إنك لا تجد في الأدب العربي كله هذا المقدار الذي تجده في نهج البلاغة من روائع الفكر السليم و المنطق المحكم، في مثل هذا الأسلوب النادر.

أما الخيال في نهج البلاغة فمديد وسيع، خفّاق الجوانح في كل أفق. و بفضل هذا الخيال القويّ الذي حرم منه كثير من حكماء العصور و مفكري الأمم، كان عليّ يأخذ من ذكائه و تجاربه المعاني الموضوعيّة الخالصة، ثم يطلقها زاهية متحركة في إطار تثبت على جنباته ألوان الجمال على أروع ما يكون اللون. فالمعنى مهما كان عقليا جافا، لا يمرّ في مخيّلة عليّ إلاّ و تنبت له أجنحة تقضي فيه على صفة الجمود و تمدّه بالحركة و الحياة.

فخيال عليّ نموذج للخيال العبقري الذي يقوم على أساس من الواقع، فيحيط بهذا الواقع و يبرزه و يجلّيه، و يجعل له امتدادات من معدنه و طبيعته، و يصبغه بألوان كثيرة من مادته و لونه، فإذا الحقيقة تزداد وضوحا، و إذا بطالبها يقع عليها أو تقع عليه و قد تميّز عليّ بقوة ملاحظة نادرة، ثم بذاكرة واعية تخزن و تتّسع. و قد مرّ من أطوار حياته بعواطف جرّها عليه حقد الحاقدين و مكر الماكرين، و مرّ منها كذلك بعواطف كريمة أحاطه بها وفاء الطيبين و إخلاص المخلصين. فتيسّرت له من ذلك جميعا عناصر قوية تغذّي خياله المبدع. فإذا بها تتعاون في خدمة هذا الخيال و تتساوق في لوحات رائعة حيّة، شديدة الروعة و الحيوية، تتركز على واقعية صافية تمتدّ لها فروع و أغصان، ذات أوراق و أثمار و من ثمّ يمكنك، إذا أنت شئت، أن تحوّل عناصر الخيال القويّ في نهج البلاغة الى رسوم مخطوطة باللون، لشدّة واقعيّتها و اتّساع مجالها و امتداد أجنحتها و بروز خطوطها. أ لا ما أروع خيال الإمام إذ يخاطب أهل البصرة و كان بنفسه ألم منهم بعد موقعة الجمل، قائلا: «لتغرقنّ بلدتكم حتى كأنني أنظر الى مسجدها كجؤجؤ طير في لجّة بحر)(١) »

____________________

(١) الجؤجؤ: الصدر.

٩

أو في مثل هذا التشبيه الساحر: «فتن كقطع الليل المظلم».

أو هذه الصورة المتحركة: «و إنما أنا كقطب الرحى: تدور عليّ و أنا بمكاني» أو هذه اللوحة ذات الجلال التي يشبّه فيها امتدادات بيوت أهل البصرة بخراطيم الفيلة، و تبدو له شرفاتهن كأنها أجنحة النسور: «ويل لسكككم العامرة، و الدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور و خراطيم كخراطيم الفيلة» و من مزايا الخيال الرحب قوة التمثيل. و التمثيل في أدب الإمام وجه ساطع بالحياة. و إن شئت مثلا على ذلك فانظر في حال صاحب السلطان الذي يغبطه الناس و يتمنون ما هو فيه من حال، و لكنه أعلم بموضعه من الخوف و الحذر، فهو و إن أخاف بمركوبه إلاّ أنه يخشى أن يغتاله. ثم انظر بعد ذلك الى عليّ كيف يمثّل هذا المعنى يقول: «صاحب السلطان كراكب الأسد: يغبط بموقعه، و هو أعلم بموضعه.» و إن شئت مثلا آخر فاستمع اليه يمثّل حالة رجل رآه يسعى على عدوّ له بما فيه إضرار بنفسه، فيقول: «إنّما أنت كالطاعن نفسه ليقتل ردفه» و الرّدف هو الراكب خلف الراكب. ثم إليك هذا النهج الرائع في تمثيل صاحب الكذب: «إياك و مصادقة الكذّاب فإنه كالسراب: يقرّب عليك البعيد و يبعد عنك القريب» أما النظرية الفنيّة القائلة بأن كل قبيح في الطبيعة يصبح جميلا في الفن، فهي إن صحّت فإنما الدليل عليها قائم في كلام ابن أبي طالب في وصف من فارقوا الدنيا. فما أهول الموت و ما أبشع وجهه. و ما أروع كلام ابن أبي طالب فيه و ما أجمل وقعه. فهو قول آخذ من العاطفة العميقة نصيبا كثيرا، و من الخيال الخصب نصيبا أوفر. فإذا هو لوحة من لوحات الفن العظيم لا تدانيها إلاّ لوحات عباقرة الفنون في أوروبا ساعة صوّروا الموت و هوله لونا و نغما و شعرا.

فبعد أن يذكّر عليّ الأحياء بالموت و يقيم العلاقة بينهم و بينه، يوقظهم على أنهم دانون من منزل الوحشة بقول فيه من الغربة القاسية لون قائم و نغم حزين: «فكأنّ كل امرى‏ء منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته، فيا له من بيت وحدة، و منزل وحشة، و مفرد غربة» ثم يهزّهم بما هم مسرعون إليه و لا يدرون، بعبارات متقطّعة متلاحقة و كأنّ فيها دويّ طبول تنذر تقول «ما أسرع الساعات في اليوم، و أسرع الأيام في الشهر، و أسرع

١٠

الشهور في السنة، و أسرع السنين في العمر» بعد ذلك يطلق في أذهانهم هذه الصورة الرائعة التي يأمر بها العقل، و تشعلها العاطفة، و يجسّم الخيال الوثّاب عناصرها ثم يعطيها هذه الحركات المتتابعة و هي بين عيون تدمع و أصوات تنوح و جوارح تئنّ، قائلا: «و إنما الأيام بينكم و بينهم بواك و نوائح عليكم». ثم يعود فيطلق لعاطفته و خياله العنان فإذا بهما يبدعان هذه اللوحة الخالدة من لوحات الشعر الحيّ: «و لكنهم سقوا كأسا بدّلتهم بالنطق خرسا، و بالسمع صمما، و بالحركات سكونا.

فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات(١) .

جيران لا يتآنسون، و أحبّاء لا يتزاورون، بليت بينهم عرى التعارف، و انقطعت منهم أسباب الإخاء. فكلّهم وحيد و هم جميع، و بجانب الهجر و هم أخلاّء، لا يتعارفون لليل صباحا، و لا لنهار مساء. أيّ الجديدين(٢) ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا(٣) ».

ثم يقول هذا القول الرهيب: «لا يعرفون من أتاهم، و لا يحفلون من بكاهم، و لا يجيبون من دعاهم» فهل رأيت الى هذا الإبداع في تصوير هول الموت و وحشة القبر و صفة سكّانه في قوله: «جيران لا يتآنسون و أحبّاء لا يتزاورون» ثم هل فطنت إلى هذه الصورة الرهيبة لأبدية الموت التي لا ترسمها إلا عبقرية عليّ: «أيّ الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا» و مثل هذه الروائع في «النهج» كثير.

هذا الذكاء الخارق و هذا الخيال الخصب في أدب الإمام يتحدان اتحاد الطبيعة بالطبيعة، مع العاطفة الهادرة التي تمدّهما بوهج الحياة. فإذا الفكرة تتحرك و تجري في عروقها الدماء سخيّة حارّة. و إذا بها تخاطب فيك الشعور بمقدار ما تخاطب العقل لانطلاقها من عقل تمدّه العاطفة بالدف‏ء. و قد يصعب على المرء أن يعجب بأثر من آثار الفكر أو الخيال في

____________________

(١) ارتجال الصفة: وصف الحال بلا تأمل، فالواصف لهم بأول النظر يظنهم صرعى من السبات، أي النوم.

(٢) الجديدان: الليل و النهار.

(٣) سرمد: أبدي.

١١

ميادين الأدب و سائر الفنون الرفيعة، إن لم تكن للعاطفة مشاركة فعّالة في إنتاج هذا الأثر. ذلك ان المركّب الإنساني لا يرضيه، طبيعيا، إلا ما كان نتاجا لهذا المركّب كله. و هذا الأثر الأدبي الكامل، هو ما نراه في نهج البلاغة. و إنك لتحس نفسك مندفعا في تيّار جارف من حرارة العاطفة و انت تسير في نهج البلاغة من مكان إلى آخر.

أ فلا يشيع في قلبك الحنان و العطف شيوعا و أنت تصغي إلى عليّ يقول: «لو أحبّني جبل لتهافت» أو «فقد الأحبّة غربة» أو «اللهم إني أستعديك على قريش، فإنهم قد قطعوا رحمي و أكفأوا إنائي، و قالوا: «أ لا إنّ في الحق أن تأخذه و في الحق أن تمنعه، فاصبر مغموما أو مت متأسفا فنظرت فإذا ليس لي رافد و لا ذابّ و لا مساعد إلاّ أهل بيتي» و اليك كلاما له عند دفن السيدة فاطمة، يخاطب به ابن عمّه الرسول: «السلام عليك يا رسول اللّه عني و عن ابنتك النازلة في جوارك، و السريعة اللحاق بك قلّ، يا رسول اللّه، عن صفيّتك صبري، و رقّ عنها تجلّدي، إلاّ أن لي في التأسّي بعظيم فرقتك و فادح مصيبتك موضع تعزّ» و منه «أمّا حزني فسرمد، و أمّا ليلي فمسهّد، إلى أن يختار اللّه لي دارك التي أنت بها مقيم» ثم إليك هذا الخبر: روى أحدهم عن نوف البكالي بصدد إحدى خطب الإمام علي قال: خطبنا هذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين عليه السلام، و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي، و عليه مدرعة من صوف، و حمائل سيفه ليف، و في رجليه نعلان من ليف، فقال عليه السلام، في جملة ما قال: «ألا إنه أدبر من الدنيا ما كان مقبلا، و أقبل منها ما كان مدبرا. و أزمع الترحال عباد اللّه الأخيار، و باعوا قليلا من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم و هم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص، و يشربون الرّنق؟ قد، و اللّه، لقوا اللّه فوفّاهم أجورهم و أحلّهم دار الأمن بعد خوفهم أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحق؟ أين عمّار؟ و أين ابن التيهان؟ و أين ذو الشهادتين؟ و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة؟»

١٢

قال: ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة فأطال البكاء و أخبر ضرار بن حمزة الضابى‏ء قال: فأشهد لقد رأيته يقصد الإمام في بعض مواقفه، و قد أرخى الليل سدوله و هو قائم في ظلامه قابض على لحيته يتململ و يبكي بكاء الحزين و يقول: «يا دنيا يا دنيا، اليك عني أ بي تعرّضت؟ أم إليّ تشوّقت؟ لا حان حينك، هيهات غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها فعيشك قصير، و خطرك يسير، و أملك حقير آه من قلّة الزاد و طول الطريق و بعد السفر و عظيم المورد» هذه العاطفة الحارّة التي عرفها الإمام في حياته، تواكبه أنّي اتّجه في نهج البلاغة، و حيث سار. تواكبه في ما يحمل على الغضب و السخط، كما تواكبه في ما يثير العطف و الرضا.

حتى إذا رأى تخاذل أنصاره عن مساندة الحق فيما يناصر الآخرون الباطل و يحيطونه بالسلاح و بالأرواح، تألّم و شكا، و وبّخ و أنّب، و كان شديدا قاصفا، مزمجرا، كالرعد في ليالي الويل و يكفيك أن تقرأ خطبة الجهاد التي تبدأ بقوله: «أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصمّ الصّلاب الخ»، لتدرك أية عاطفة متوجّعة ثائرة هي تلك التي تمدّ هذه الخطبة بنبض الحياة و جيشانها و إنه لمن المعيي أن نسوق الأمثلة على تدفّق العاطفة الحية التي تبث الدف‏ء في مآثر الإمام.

فهي في أعماله، و في خطبه و أقواله، مقياس من المقاييس الأسس. و ما عليك إلاّ أن تفتح هذا الكتاب، كي تقف على ألوان من عاطفة ابن أبي طالب، ذات القوة الدافقة و العمق العميق

١٣

الوحدة الوجوديّة

و كان ما تباعد منها مضموما في وخدة طرفاها الأزل و الأبد الأدب اصالة في الفكر و الحس و الخيال و الذوق، تربط بين صاحبها و جملة الكائنات في وحدة وجودية مطلقة. ثم تعبّر عن نفسها بحياة تحيا على أصول من هذه الوحدة، و بأسلوب جماليّ هو تجسيم حيّ للتفاعل بين الأديب و الكون.

و لما كان العلم تجزئة كان الفنّ توحيدا. و لما كان العلم ينظر إلى الأشياء من حيث هي كائنات وجب فكّها و تذريرها، كان الفن ينظر إلى الأشياء من حيث هي كائنات مجزّأة في ظاهرها، موحّدة في أصولها و حقيقتها، مما يؤول الى فكرة الشمول الكوني و الارتباط الكامل بين مختلف مظاهر الوجود و ما كان الأدب إلا بهذا الشمول و إذا كان الفلاسفة قد فطنوا الى وحدة الوجود في العصور المتأخرة، فإن الأديب قد فطن لها منذ كان الانسان و كانت في أعماقه بذور الفن و أحاسيس الأدب. ذلك لأن دليل الفيلسوف عقله و قياسه، و كلاها محدود بالنسبة للمركّب الانساني الحيّ. و دليل الأديب شعوره و إلهامه، و هما انبثاق عاجل و امض عن جملة كيانه.

ثم إن نظرة الفيلسوف الى الكون كوحدة متفاعلة متكاملة، إن هي إلاّ نظرة تظلّ سطحية إذا ما قيست بنظرة الأديب. فالفيلسوف يشاهد و يراقب و يقيس ثم يسجّل. و أداته في ذلك العقل وحده، و العقل شي‏ء من الانسان الحي بل قل هو جانب منه. و الأديب

١٤

يتفاعل مع الكون و الحياة تفاعلا مباشرا مستمرا إذ يحس و يستلهم بعقله و شعوره و خياله و مزاجه و ذوقه جميعا، أي بجملة كيانه. و هو، إلى ذلك، أسبق و أعمق. فالأديب أستاذ الفيلسوف: أستاذه و دليله منذ كان، و أستاذه و دليله إلى الأبد و إذا كان هذا هو الأمر، و هو كذلك، فإنّ عليّ بن أبي طالب عظيم من عظماء هذه الطائفة من حيث النظرة و الأسلوب: طائفة الأدباء الخالدين الذين ينظرون إلى نجوم السماء و رمال الصحراء و مياه البحار و كساء الطبيعة فإذا هي أشياء من نفوسهم، هذه النفوس التي تستشعر في الكون قوة وجودية واحدة جامعة كانت منذ الأزل و تبقى الى الأبد.

يقول ميخائيل نعيمة الذي يمثل طاقة الفنان على الاحساس العميق بوحدة الوجود في أدبنا العربي المعاصر: «بل كيف يكون أديبا من لا يحسّ جذوره في الأزل و الأبد، و لا يحسّ ما مضى و ما سيأتي» إن هذا الإحساس بالجمال الأسمى الذي يلف الكائنات جميعا، على تباين مظاهرها، بوشاح واحد، هو ما تراه في آثار عباقرة الأدب مهما تنوّعت موضوعات هذه الآثار، و مهما اختلفت ظروفها. فإذا أنت سمعت صوت الشاعر العظيم ينطق بلسان المسيح قائلا: «تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو، و لكن أقول لكم إنه و لا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها» سمعت صوتا من أعظم ما سمع الكون، و أدركت أمتع نظرة تخترق أعماق الجمال الكلّي، و تساءلت: أنّى للتراب و الصخر و سحب السماء أن تأتي بمثل هذه الروعة و هذا الجمال، جمال زنابق الحقل و هي تنمو، لو لم تكن وحدة الوجود هذه و لو لم يكن الجمال مدار الوجود الواحد، و رابطة أجزائه منذ البداية حتى النهاية؟ و هو، في الوقت ذاته، مدار الفكرة و الشعور لدى الفنان: الخالق الصغير و من ذلك قول المسيح الرائع و قد جاؤوه بزانية جعلت على نفسها سبيلا بحكم شرائعهم: «من كان منكم بلا خطيئة فليرجم هذه الزانية بحجر» و إذا أنت سمعت قول الشاعر العظيم ينطق بلسان سليمان بن داود: «جيل يمضي و جيل يأتي و الأرض قائمة مدى الدهر. و الشمس تشرق و الشمس تغرب

١٥

ثم تسرع الى موضعها الذي طلعت منه. تذهب الريح الى الجنوب و تدور الى الشمال، تدور و تطوف في مسيرها ثم الى مداورها تعود الريح جميع الأنهار تجري الى البحر و البحر ليس بملآن ثم الى الموضع الذي جرت منه الأنهار الى هناك تعود لتجري أيضا» و إذا سمعته أيضا يقول: «أنا وردة الشارون و سوسنة الأودية، كالسوسنة بين الشوك كذلك خليلتي بين البنات.

كالتفاحة في أشجار الغابة كذلك حبيي بين البنين. قد اشتهيت فجلست في ظله و ثمره حلو في حلقي. قد ظهرت الزهور في الأرض و وافى أوان القضب و سمع صوت اليمامة في أرضنا.

«يا حمامتي التي في نخاريب الصخر و في خفايا المعاقل أريني محيّاك، أسمعيني صوتك فإن صوتك لطيف و محيّاك جميل، إلى أن ينسم النهار و تنهزم الظلال. عد يا حبيي و كن كالظبي أو كغفر الأيلة على جبال باتر.

«جميلة أنت يا خليلتي جميلة أنت و عيناك كحمامتين من وراء نقابك، و شعرك كقطيع معز يبدو من جبل جلعاد.

شفتاك كسمط من القرمز و نطقك عذب. خدّاك كفلقة رمانة من وراء نقابك.

عنقك كبرج داود المبني للسلاح الذي علق فيه ألف مجنّ، جميع تروس الجبابرة. الى أن ينسم النهار و تنهزم الظلال أنطلق إلى جبل المرّ و الى تلّ اللبّان. هلمّي معي من لبنان أيتها العروس. معي من لبنان انظري من رأس أمانة من رأس حرمون من مرابض الأسود من جبال النمور. شفتاك تقطران شهدا أيتها العروس و تحت لسانك عسل و لبن و عرف ثيابك كعرف لبنان.

«عين جنّات و بئر مياه حية و أنهار من لبنان، هبّي يا شمال و هلمّي يا جنوب انسمي على جنّتي فتنسكب أطيابها» إذا أنت سمعت ذلك و وعيته وعيا صحيحا، أدركت ان سليمان ينهل شعره من المنهل ذاته الذي ارتوى منه المسيح و إن اختلف الموضوع.

و من ذلك قول فيكتور هيغو، أحد عظماء الفنانين الذين نبغوا بعد الثورة الفرنسية، و هو

١٦

حوار بين الكواكب يرينا الشاعر به الانسان و قد ضاع و كاد يختفي هو و الأرض التي يسكنها، لضآلتهما في سعة الكون الواحد العجيب: ما هذا الصوت التافه الضعيف الذي يهمس؟

أيتها الأرض، ما الغاية من دورانك، في أفقك الضيق المحدود؟

و هل أنت سوى حبّة من الرمل مصحوبة بذرّة من رماد؟

أما أنا، ففي السماء الزرقاء الشاسعة أرسم إطارا هائلا فترى المسافة المكانية، و هي فزعة مرعوبة، جمالي مشوّها و هالتي، التي تحيل شحوب الليالي الى حمرة قانية ككرات من الذهب تعلو و تهبط متقاطعة في يد الحاوي، تبعد، و تجمع، و تمسك سبعة من الأقمار الضخمة الهائلة و ها هي الشمس تجيب: سكوتا، هناك في زاوية من السماوات، ايتها الكواكب، أنتم رعاياي هدوءا أنا الراعي و أنتم الرعية.

إنكما كعربتين تسيران جنبا الى جنب للدخول من الباب.

في أصغر بركان عندي، المريخ مع الأرض يدخلان دون أن يلمسا جوانب المدخل و ها هي ذي نجوم الدب الأصغر تضي‏ء مثل سبع أعين حيّة لها بدل الحبّات شموس و ها هو ذا طريق المجرّة يرسم غابة ناضرة جميلة مليئة بنجوم السماء أيتها الكواكب السفلى، إن مكاني من مكانكم في درجة من البعد حتى أن نجومي المضيئة الثابتة الشبيهة بمجاميع الجزائر المتناثرة في الماء، و شموسي الكثيرة، ليست بالنسبة لنظركم الضعيف القاصر،

١٧

في زاوية بعيدة من السماء شبيهة بصحراء حزينة يتلاشى الصوت فيها، سوى قليل من الرماد الأحمر قد انتثر في جوف الليل» و ها هي ذي نجوم مجرّة أخرى تصوّر عوالم لا تقلّ عن تلك العوالم، متناثرة في الأثير، ذلك المحيط الذي لا رمال فيه و لا حصباء في جوانبه، تذهب أمواجه و لكن لا تعود أبدا إلى شواطئه.

و أخيرا ها هو الإله يتحدث: «ليس لديّ إلا أن أنفخ، فيصبح كل شي‏ء ظلاما(١) » و إليك ما يقوله عليّ بن أبي طالب في صفة الطاووس(٢) : «و من أعجبها خلقا الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل، و نضّد ألوانه في أحسن تنضيد. بجناح أشرح قصبه. و ذنب أطال مسحبه. إذا درج إلى الأنثى نشره من طيّه، و سما به مظلاّ على رأسه. تخال قصبه مداري من فضّة، و ما أنبت عليه من عجيب داراته و شموسه خالص العقيان و فلذ الزبرجد. فإن شبّهته بما أنبتت الأرض قلت: جنى جني من زهرة كل ربيع. و إنّ ضاهيته بالملابس فهو كموشّى الحلل أو مونق عصب اليمن. و إن شاكلته بالحليّ فهو كفصوص ذات ألوان قد نطّقت باللجين المكلّل: يمشي مشي المرح المختال، و يتصفّح ذنبه و جناحيه فيقهقه ضاحكا لجمال سرباله و أصابيغ و شاحه «فإذا رمى ببصره الى قوائمه زقا معولا يكاد يبين عن استغاثته، و يشهد بصادق توجّعه، لأن قوائمه حمش كقوائم الدّيكة الخلاسية. و له في موضع العرف قنزعة خضراء موشّاة.

و مخرج عنقه كالإبريق، و مغرزها الى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال

____________________

(١) نظرية الأنواع الادبية، ترجمه عن الفرنسية الدكتور حسن عون.

(٢) ما تحتاج اليه من شرح المفردات و التعابير الواردة في هذه القطعة، تجده في فصل «خلقة الطاووس» بهذا الكتاب.

١٨

«و مع فتق سمعه خطّ كمستدقّ القلم في لون الأقحوان أبيض يقق، فهو ببياضه في سواد ما هنالك يأتلق. و قلّ صبغ إلاّ و قد أخذ منه بقسط و علاه بكثرة صقاله و بصيص ديباجه و رونقه فهو كالأزاهير المبثوثة لم تربّها أمطار ربيع و لا شموس قيظ. و قد ينحسر من ريشه و يعرى من لباسه فيسقط تترى، و ينبت تباعا، فينحتّ من قصبه انحتات أوراق الأغصان ثم يتلاحق ناميا حتى يعود كهيئته قبل سقوطه: لا يخالف سالف ألوانه، و لا يقع لون في غير مكانه. إذا تصفّحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة وردية، و تارة خضرة زبرجدية، و أحيانا صفرة عسجدية، فكيف تصل الى صفة هذا عمائق الفطن، أو تبلغه قرائح العقول، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين» و إليك قليلا من قوله في خلق السماء و الأرض: «فطر الخلائق بقدرته، و نشر الرياح برحمته، و وتّد بالصخور ميدان أرضه. ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء، و شقّ الأرجاء، و سكائك الهواء، فأجرى فيها ماء متلاطما تياره متراكما زخّاره، حمله على متن الرياح العاصفة، و الزعزع القاصفة. ثم أنشأ سبحانه ريحا أعتق مهبّها، و أعصف مجراها، و أبعد منشأها، فأمرها بتصفيق الماء الزخّار، و إثارة موج البحار، فمخضته مخض السقاء و عصفت به عصفها بالفضاء تردّ أوله إلى آخره، و ساجيه الى مائره...» و أوصيك خيرا بهذه الآيات الروائع التي تتحدث بها عبقرية الإمام الى المركّب الانساني جميعا فتصوّر له كيف يستوي الجليل و اللطيف من الكائنات، و الشمس و القمر، و الماء و الحجر، و الكبير و الصغير، و الهيّن و الصعب، في معنى الوجود. و كيف تشترك جميعا في صفة الكون فإذا هي متساوقة متعاونة في النشيد الأعظم: نشيد الوجود الواحد الذي لا يجوز فيه تعظيم الدوحة العاتية على حساب النبتة النامية، و لا يصحّ فيه تمجيد البحر الواسع و احتقار الساقية التي تضيع مياهها بين العشب و الحصى.

يقول عليّ: «لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلّتك الدلالة إلاّ على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة. و ما الجليل و اللطيف، و الثقيل و الخفيف، و القوي و الضعيف، في خلقه إلاّ سواء

١٩

و كذلك السماء و الهواء، و الرياح و الماء. فانظر إلى الشمس و القمر، و النبات و الشجر، و الماء و الحجر، و اختلاف هذا الليل و النهار، و تفجّر هذه البحار، و كثرة هذه الجبال، و طول هذه القلال الخ...» ثم استمع اليه يقول: «لا تنالون نعمة إلا بفراق أخرى، و لا يعمّر معمّر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله، و لا تجدّد له زيادة في أكلة إلا بنفاد ما قبلها من رزقه، و لا يحيا له أثر إلا مات له أثر، و لا يتجدّد له جديد إلاّ بعد أن يخلق له جديد، و لا تقوم له نابتة إلا و تسقط منه محصورة. و قد مضت أصول نحن فروعها» إنه الوجود الواحد يتكلم عن نفسه، بلسانه و في خاطري هذه المشابهة بين مقطع من معلّقة امرى‏ء القيس، و مقاطع كثيرة من أدب ابن أبي طالب، و هي تصبّ جميعا في معنى الوحدة الوجودية الكاملة. ثم تزيد عن ذلك بانطلاقه فذة إلى قهر الظالم و المعتدي، و إلى نصرة الضعيف في النبت و الأرض و البهيمة و الأرض الواطئة حتى يستوي الوجود قويا بهيّا.

يقول الشاعر الكوني امرؤ القيس أولا ما خلاصته: لقد قعدت لذلك البرق أرقب من أين يجي‏ء المطر، و يا لروعة ما رأيت لقد أقبل المطر من جهات أربع سيولا سيولا رأيته من بعيد فكان يمينه في تقديري على جبل «قطن» و يساره على جبلي «الستار» و «يذبل». و راح الماء ينبجس شديدا هنا و هناك فتقلب سيوله الأشجار قلبا عتيّا، و مرّ على جبل «القنان» برشاشه فأكره الوعول على النزول عنه. بعد ذلك يقول الشاعر: و تيماء لم يترك بها جذع نخلة *** و لا أطما إلاّ مشيدا بجندل

كأنّ ثبيرا في عرانين وبله *** كبير أناس في بجاد مزمّل

كأن ذرى رأس المجيمر غدوة *** من السيل و الغثّاء فلكة مغزل

و ألقى بصحراء الغبيط بعاعه *** نزول اليماني ذي العياب المحمّل

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

يوم عاشوراء

«إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما»

أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام

٢٢١

يوم عاشوراء

لَو كان يدري يوم عاشوراء

مـا كان يجري فيه من بلاء

مـا لاح فـجره ولا استنارا

ولا أضـاءت شمسه نهارا

سـوّد حـزناً أوجـه الأيام

وأوجـه الـشهور والأعوام

الله مـا أعـظمه مـن يوم

أزال صـبري وأطار نومي

الـيوم أهـل آيـة التطهير

بـين صـريع فيه أو عفير

اليوم قد مات الحفاظ واُلوفا

اليوم كاد الدّين يقضي أسفا

الـيوم نامت أعين الأعداء

وسـهدِّت عيون ذي الولاء

وَيلي وهل يجدي حزيناً ويل

لأضـلع تـدوسهنَّ الـخيل

وارؤس عـلى الرماح ترفع

وجثث على الصعيد تُوضَع

وثـاكل تـبدو من الخدور

تـعـجُّ بـالويل وبـالثبور

ومـرضع ترنو إلى رضيع

على التراب فاحص صريع

ونـسوة تـسبى على النياق

حـسرى تـعاني ألم الفراق

أهـمّ شـيء لـذوي الولاء

أن يـجلسوا للنوح و العزاء

فـيه تـقام سـنن المصاب

والترك للطعام والشراب(١)

لقد مرّ هذا اليوم على آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّه شجاء مترامي الأطراف، أثّرت فجائعه في القلوب فأذابتها وفي المدامع فأدمتها، فلا تسمع فيه إلاّ صرخة فاقد وزفرة ثاكل وحنة محزون، ولا تبصر إلاّ كلّ أشعث قد أنهكه ألم المصاب، و مغبر يذري على رأسه التراب، إلى لادم صدراً وصاك جبهته وقابض على فؤاد وصافق بيده الاُخرى، وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى؛ لكن لوعة المصاب أليمة وكوارثه عظيمة. ولَو يكشف لك عن الملأ الأعلى لسمعت لعالم الملكوت صرخة وحنة، وللحور في غرف الجنان نشيجاً ونحيباً ولأئمّة الهدى بكاءاً وعويلاً.

ولا بدع؛ فالفقيد فيه عبق الرسالة وألق الخلافة وإكليل تاج الإمامة، وهو سبط المصطفى وبضعة فاطمة الزهراء وفلذة كبد الوصي المرتضى وشقيق السّبط

____________________________

(١) المقبولة الحسينية / ٦٢، لحجة الإسلام آية الله الشيخ هادي آل كاشف الغطاء قدس الله سره.

٢٢٢

المجتبى و حجّة الله على الورى، نعم هو الآية المخزونة والرحمة الموصولة والأمانة المحفوظه والباب المبتلى به النّاس.

فمصابه يقلّ فيه البكاء، ويعز عنه العزاء. فلو تطايرت شظايا القلوب وزهقت النّفوس جزعاً لذلك الحادث الجلل لكان دون واجبه. أو ترى للحياة قيمة والمؤدّى به هو ذلك العنصر الحيوي الزاكي. وما قدر الدمع المراق والموتور ثار الله في الأرض؟ أو يهدأ الكون والذاهب مرساه ومنجاه في مسراه؟ وهل ترقأ العين وهي ترنو بالبصيرة إلى ضحايا آل محمّد مجزّرين على وجه الصعيد مبضعة أجسادهم بين ضريبة للسيوف ودرية للرماح ورمية للنبال؟ وقد قضوا وهم رواء الكون ظماء على ضفة الفرات الجاري، تلغ فيه الكلاب وتشرب منه وحش الفلا، غير أنّ آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله محلأون عنه؟ وللمذاكي عقرن فلا يلوى لهنّ لجام، تجوال على تلك الصدور الزواكي ولصدر الحسين حديثه الشجي:

وأعـظم خـطب أنّ شمراً له على

جـناجن صـدر ابْـن النبيّ مقاعد

فـشُلَّت يـداه حـين يفري بسيفه

مـقلّد مـن تـلقى إلـيه الـمقالد

وأىّ فـتى أضـحت خـيول اُميّة

تـعادى عـلى جـثمانه وتـطارد

فـلهفي لـه والـخيل منهنَّ صادر

خضيب الحوافي في دماه ووارد(١)

فاللازم على الموالي المتأسّي بالنّبي الأعظم الباكي على ولده بمجرّد تذكّر مصابه(٢) أنْ يقيم المأتم على سيّد الشهداء، و يأمر مَن في داره بالبكاء عليه، و ليعزّ بعضهم بعضاً بالحسين، فيقول كما في حديث الباقرعليه‌السلام :

«عظّم الله اُجورنا و اُجوركم بمصابنا بالحسين، و جعلنا و إيّاكم من الطالبين بثأره مع وليّه المهدي من آل محمّد عليهم‌السلام » (٣) .

دخل عبد الله بن سنان على أبي عبد الله الصادقعليهم‌السلام في يوم عاشوراء، فرآه كاسف اللون ظاهر الحزن و دموعه تنحدر على خدّيه كاللؤلؤ فقال له: مِمَّ بكاؤك يابن رسول الله؟ قالعليه‌السلام :«أوَفي غفلة أنت؟! أما علمت أنّ الحسين اُصيب في هذا اليوم؟» ، ثمّ أمره أنْ يكون كهيئة أرباب المصائب، يحلل

____________________________

(١) للشيخ جعفر الخطي، كما في الدر النضيد / ٩٣.

(٢) الخصائص للسيوطي ٢ / ١٢٥، وأعلام النبوّة للماوردي / ٨٣.

(٣) كامل الزيارات / ١٧٥، ومصباح المتهجّد للشيخ الطوسي / ٣٩.

٢٢٣

أزراره ويكشف عن ذراعَيه ويكون حاسراً، ولا يصوم يوماً كاملاً، وليكن الافطار بعد العصر بساعة على شربة من ماء؛ ففي ذلك الوقت تجلّت الهيجاء عن آل محمّد. ثم قالعليه‌السلام :«لَو كان رسول الله حيّاً لكان هو المعزّى به» (١) .

وأمّا الإمام الكاظمعليه‌السلام فلَم يرَ ضاحكاً أيّام العشرة وكانت الكآبه غالبة عليه، ويوم العاشر يوم حزنه ومصيبته.

ويقول الرضاعليه‌السلام :«فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء» .

وفي زيارة النّاحية يقول حجّة آل محمّد عجّل الله فرجه:«فلأندبنّك صباحاً ومساءً، ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً» .

وبعد هذا فهلاّ يجب علينا أن نخرق ثوب الاُنس ونتجلبب بجلباب الحزن والبكاء ونعرف كيف يجب أن نعظّم شعائر الله بإقامة المأتم للشهيد العطشان في العاشر من المحرّم؟!

الـيوم ديـنُ الهدى خرَّت دعائمُه

ومـلّة الـحقّ جـدّت في تداعيها

الـيوم ضلّ طريق العرف طالبه

وسُـدّ باب الرجا في وجه راجيها

الـيوم عـادت بنو الآمال متربةً

الـيوم بـان العفا في وجه عافيها

الـيوم شـقّ عـليه الـمجد حلّته

الـيوم جـزَّت له العليا نواصيها

اليوم عقد المعالي أرفض جوهره

الـيوم قد أصبحت عطْلٌ معاليها

الـيوم أظلم نادي العزّ من مضر

اليوم صرْفُ الردى أرسى بواديها

الـيوم قامت به الزهراء نادبةً

الـيوم آسـية وافـت تواسيها

الـيوم عـادت لدين الكفر دولتُه

الـيوم نـالت بـنو هـند أمانيها

مـا عذر ارجاس هند يوم موقفه

والمصطفى خصمهم والله قاضيها

مـا عـذرها ودِمـا ابنائه جعلت

خضاب أعيادها في راح ناديها(٢)

****

____________________________

(١) مزار ابن المشهدي من أعلام القرن السادس.

(٢) في شعراء الحلّة ٥ / ٥٤٠، إنّها للشيخ هادي النّحوي المتوفى سنة ١٢٢٥ ﻫ.

٢٢٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء

قال ابن قَولويه و المسعودي(١) : لما أصبح الحسين يوم عاشوراء وصلّى بأصحابه صلاة الصبح، قام خطيباً فيهم حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:«إنّ الله تعالى أذِن في قتلكم و قتلي في هذا اليوم، فعليكم بالصبر والقتال» .

ثمّ صفّهم للحرب وكانوا اثنين وثمانين فارساً وراجلاً، فجعل زهير بن القين في المَيمنة، وحبيب بن مظاهر في المَيسرة، وثبت هوعليه‌السلام وأهل بيته في القلب(٢) ، وأعطى رايته أخاه العباس(٣) ؛ لأنّه وجد قمر الهاشميين أكفأ ممَّن معه لحملها، وأحفظهم لذمامه وأرأفهم به، وأدعاهم إلى مبدئه وأوصلهم لرحمه، وأحماهم لجواره وأثبتهم للطعان، وأربطهم جأشاً وأشدّهم مراساً(٤) .

وأقبل عمر بن سعد نحو الحسينعليه‌السلام في ثلاثين ألفاً وكان رؤساء

____________________________

(١) كامل الزيارات / ٧٣، وإثبات الوصيّة / ١٣٩، المطبعة الحيدرية.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢ / ٤.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤١، وتذكرة الخواص / ١٤٣ الطبعة الحجريّة.

(٤) اختلف المؤرّخون في عدد أصحاب الحسين؛

الأول: أنّهم اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً، ذكره الشيخ المفيد في الإرشاد، والطبرسي في إعلام الورى / ١٤٢، والفتال في روضة الواعظين / ١٥٨، وابن جرير في التأريخ ٦ / ٢٤١، وابن الأثير في الكامل ٤ / ٢٤، والقرماني في أخبار الدول / ١٠٨، والدينوري في الأخبار الطوال / ٣٥٤.

الثاني: إنّهم إثنان وثمانون راجلاً، نسبه في الدمعة الساكبة / ٣٢٧ إلى الرواية وهو المختار.

الثالث: ستون راجلاً، ذكره الدميري في حياة الحيوان في خلافة يزيد ١ / ٧٣.

الرابع: ثلاثة وسبعون رجلاً، ذكره الشريشي في شرح مقامات الحريري ١ / ١٩٣.

الخامس: خمسة وأربعون فارساً ونحو مئة راجل ذكره ابن عساكر كما في تهذيب تاريخ الشام ٤ / ٣٣٧.

السادس: إثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً، ذكره الخوارزمي في المقتل ٢ / ٤.

السابع: واحد وستّون رجلاً، ذكره المسعودي في إثبات الوصيّة / ٣٥، طبع المطبعة الحيدرية.

الثامن: خمسة وأربعون فارساً ومئة راجل ذكره ابن نما في مثير الأحزان / ٢٨، وفي اللهوف / ٥٦: أنّه المروي عن الباقرعليه‌السلام .

التاسع: إثنان وسبعون رجلاً، ذكره الشبراوي في الإتحاف بحبِّ الأشراف / ١٧.

العاشر: ما في مختصر تاريخ دول الإسلام للذهبي ١ / ٣١: أنّهعليه‌السلام سار في سبعين فارساً من المدينة.

٢٢٥

الأرباع بالكوفة يومئذ: عبد الله بن زهير بن سليم الأزدي على ربع أهل المدينة، وعبد الرحمن بن أبي سبرة الحنفي على ربع مذحج وأسد، وقيس بن الأشعث على ربع ربيعة وكندة، والحرّ بن يزيد الرياحي على ربع تميم وهمدان(١) ، وكلّهم اشتركوا في حرب الحسين إلاّ الحرّ الرياحي.

وجعل ابنُ سعد على المَيمنة عمرو بن الحَجّاج الزبيدي، وعلى المَيسرة شمر بن ذي الجوشن العامري، وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجّالة شبث بن ربعي، والراية مع مولاه ذويد(٢) .

وأقبلوا يجولون حول البيوت فيرون النّار تضطرم في الخندق، فنادى شمر بأعلى صوته: يا حسين، تعجّلت بالنّار قبل يوم القيامة؟ فقال الحسينعليه‌السلام :«مَن هذا؟ كأنّه شمر بن ذي الجوشن»، قيل نعم فقالعليه‌السلام :«يابن راعية المعزى، أنت أولى بها منّي صِليّا». ورام مسلم بن عوسجة أنْ يرميه بسهم، فمنعه الحسين و قال:«أكره أنْ أبدأهم بقتال» (٣) .

دعاء الحسين

ولما نظر الحسينعليه‌السلام إلى جمعهم كأنّه السيل، رفع يدَيه بالدعاء وقال:«اللهمّ، أنت ثقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة، كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدوّ، أنزلته بك وشكوته إليك، رغبةً منّي إليك عمَّن سواك فكشفته وفرّجته، فأنت ولي كلّ نعمة ومنتهى كلّ رغبة» (٤) .

____________________________

(١) في شرح النّهج لابن أبي الحديد ١ / ٨١، الطبعة المصرية: كانت الكوفة اسباعاً.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤١.

(٣) الإرشاد للشيخ المفيد، وتاريخ الطبري ٦ / ٢٤٢.

(٤) ابن الاثير في الكامل ٤ / ٢٥، وتاريخ ابن عساكر ٤ / ٢٣٣، وذكر الكفعمي في المصباح / ١٥٨، طبعة الهند: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دعا به يوم بدر. واختصره الذهبي في سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٠٢.

٢٢٦

الخطبة الاُولى

ثمّ دعا براحلته فركبها، و نادى بصوت عال يسمعه جلّهم:

«أيّها النّاس اسمعوا قَولي، ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما هو حقّ لكم عليَّ، وحتّى أعتذر إليكم من مَقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي وأعطيتموني النّصف من أنفسكم، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليَّ سبيل. وإنْ لَم تقبلوا مِنّي العذر ولَم تعطوا النّصف من أنفسكم، فأجمعوا أمركم و شركاءكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة. ثمّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون. إنّ ولييّ الله الذي نزل الكتاب وهو يتولّى الصالحين» .

فلمّا سمعنَ النّساء هذا منه صحنَ وبكينَ وارتفعت أصواتهنَّ، فأرسل إليهنَّ أخاه العبّاس وابنه علياً الأكبر وقال لهما:«سكّتاهنَّ فلعمري ليكثر بكاؤهنَّ» .

ولما سكتنَ، حمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وعلى الملائكة والأنبياء وقال في ذلك ما لا يحصى ذكره ولَم يُسمع متكلّم قبله ولا بعده أبلغ منه في منطقه(١) ، ثمّ قال:«عباد الله، اتقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر؛ فإنّ الدنيا لَو بقيت على أحد أو بقي عليها أحد لكانت الأنبياء أحقّ بالبقاء وأولى بالرضا وأرضى بالقضاء، غير أنّ الله خلق الدنيا للفناء، فجديدها بالٍ ونعيمها مضمحل وسرورها مكفهر، والمنزل تلعة والدار قلعة، فتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى، واتقوا الله لعلّكم تفلحون (٢) .

أيّها النّاس إنّ الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته والشقي من فتنته، فلا تغرّنكم هذه الدنيا، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها وتُخيّب طمع من طمع فيها. وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم وأعرض بوجهه الكريم عنكم وأحلَّ بكم نقمته، فنِعمَ الربّ ربّنا وبئس العبيد أنتم؛ أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذريّته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٢.

(٢) زهر الآداب للحصري ١ / ٦٢، طبعة دار الكتب العربية، سنة ١٣٧٢.

٢٢٧

الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبّاً لكم ولِما تريدون. إنّا لله وإنّا إليه راجعون هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين (١) .

أيّها النّاس أنسبوني مَن أنا ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأول المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربّه؟ أوَ ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟ أوَ ليس جعفر الطيّار عمّي، أوَ لَم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ فإنْ صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ - والله ما تعمدتُ الكذب منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله ويضرّ به من اختلقه - وإنْ كذّبتموني فإنّ فيكم مَن إنْ سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟!»

فقال الشمر: هو يعبد الله على حرف إنْ كان يدري ما يقول.

فقال له حبيب بن مظاهر: والله إنّي أراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك.

ثمّ قال الحسينعليه‌السلام :«فإنْ كنتم في شكّ من هذا القول، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم، فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم، ويحكم اتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟! أو مال لكم استهلكته؟! أو بقصاص جراحة؟!»، فأخذوا لا يكلّمونه!

فنادى:«يا شبث بن ربعي، ويا حَجّار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا زيد بن الحارث ألم تكتبوا إليَّ أنْ اقدم قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة؟»

فقالو: لَم نفعل.

قال:«سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم». ثمّ قال:«أيّها النّاس، إذا كرهتموني

____________________________

(١) مقتل محمّد بن أبي طالب الحايري.

٢٢٨

فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من الأرض». فقال له قَيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم بني عمّك؟ فإنّهم لَن يروك إلاّ ما تُحبّ ولَن يصل إليك منهم مكروه.

فقال الحسينعليه‌السلام :«أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد (١) ، عباد الله إنّي عذتُ بربّي وربّكم أنْ ترجمون، أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبِّر لا يؤمن بيوم الحساب» .

ثمّ أناخ وأمر عقبة بن سمعان فعقلها(٢) .

وقـام لـسان الله يـخطب واعـظاً

فـصمّوا لـما عن قدس أنواره عموا

وقال انسبوني مَن أنا اليوم وانظروا

حـلالٌ لـكم مـنّي دمـي أم محرّم

فـمـا وجـدوا إلاّ الـسِّهام بـنحره

تــراش جـواباً والـعوالي تـقَّوم

ومـذ أيـقن السّبط انمحى دين جَدّه

ولَم يبقَ بين النّاس في الأرض مسلم

فـدى نـفسه في نصرة الدين خائضاً

عـن الـمسلمين الـغامرات ليسلموا

وقـال خـذيني يا حتوف وهاك يا

سـيوف فـأوصالي لـك اليوم مغنم

وهـيهات أن أغدو على الضّيم جاثماً

ولـو لا عـلى جـمر الأسـنَّة مجثم

وكـرّ وقد ضاق الفضا وجرى القضا

وسـال بـوادي الـكفر سيل عرمرم

ومـذ خـرّ بـالتعظيم لله سـاجداً

لـه كـبّروا بـين السّيوف وعظموا

وجـاء إلـيه الـشّمر يـرفع رأسه

فـقـام بـه عـنه الـسّنان الـمقوّم

وزُعْـزع عـرش الله وانـحطَّ نوره

فـأشرق وجه الأرض والكون مظلم

____________________________

(١) (بالفاء الموحّدة فيهما)، رواه ابن نما في مثير الأحزان / ٢٦، وهو أصح ممّا يمضي على الألسن، ويوجد في بعض المقاتل (بالقاف) من الإقرار؛ لأنّه على هذا تكون الجملة الثانية غير مفيدة، إلاّ ما أفادته التي قبلها بخلافه على قراءة الفرار، فإنّ الجملة الثانية تفيد أنّه لا يفرّ من الشدة والقتل، كما يصنعه العبيد. وهو معنى غير ما تؤدي إليه الجملة التي قبلها، على أنّه يوجد في كلام أمير المؤمنين ما يشهد له، ففي تاريخ الطبري ٦ / ٧٦ الطبعة الاُولى وكامل ابن الأثير ٣ / ١٤٨، ونهج البلاغة ١ / ١٠٤، المطبعة الأميريّة: إنّ أمير المؤمنين قال في مصقلة بن هبيرة لمّا فرّ إلى معاوية:«ما لَه فعل فعل السيّد، وفرّ فرار العبد، وخان خيانة الفاجر؟!»، وقصّته على ما ذكرها ابن حزم في جمهرة أنساب العرب / ١٦٤: إنّ أصحاب الحريث بن راشد من بني عبد البيت بن الحارث ارتدّوا أيام عليعليه‌السلام فحاربهم وقتلهم وسبى نساءهم وأبناءهم، فابتاعهم مصقلة الشيباني وأعتقهم ثمّ هرب إلى معاوية، فأمضى عليعليه‌السلام عتقه لهم.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٣.

٢٢٩

ومذ مال قطب الكون مال وأوشك

انـقلاباً يـميل الـكائنات ويـعدم

وحين ثوى في الأرض قرَّ قرارها

وعادت ومن أوج السّما وهي أعظم

فـلهفي لـه فـرداً عليه تزاحمت

جـموع الـعدى تزداد جهلاً فيحلم

ولـهفي لـه ظـامٍ يـجود وحوله

الـفرات جـرى طامٍ وعنه يحرَّم

ولـهفي لـه مـلقىً وللخيل حافر

يـجول عـلى تلك الضلوع وينسم

ولـهفي على أعضاك يابن محمد

تُــوزّع فـي أسـيافهم وتـسهم

فـجسمك مـا بين السّيوف موزَّع

ورحـلك مـا بـين الأعادي مقسّم

فـلهفي عـلى ريحانة الطُّر جسمه

لـكلّ رجـيم بـالحجارة يرجم(١)

كرامة وهداية

وأقبل القوم يزحفون نحوه، وكان فيهم عبد الله بن حوزة التميمي(٢) فصاح: أفيكم حسين؟ وفي الثالثة قال أصحاب الحسين: هذا الحسين فما تريد منه؟ قال: يا حسين، أبشر بالنّار، قال الحسين:«كذبت، بل أقدم على ربّ غفور كريم مطاع شفيع. فمَن أنت؟» قال: أنا ابن حوزة. فرفع الحسين يدَيه حتّى بانَ بياض ابطَيه وقال: «اللهمّ، حزه إلى النّار، فغضب ابن حوزة وأقحم الفرس إليه وكان بينهما نهر فسقط عنها وعلقت قدمه بالركاب، وجالت به الفرس وانقطعت قدمه وساقه وفخذه، وبقي جانبه الآخر معلّقاً بالركاب، وأخذت الفرس تضرب به كلّ حجر وشجر(٣) ، وألقته في النّار المشتعلة في الخندق فاحترق بها ومات. فخرّ الحسينعليه‌السلام ساجداً شاكراً حامداً على إجابة دعائه، ثمّ إنّه رفع صوته يقول:«اللهمّ، إنّا أهل بيت نبيّك وذريّته وقرابته، فاقصم مَن ظلمنا وغصبنا حقّنا إنّك سميع قريب» فقال له: محمّد بن الأشعث أيّ قرابة بينك وبين محمّد؟ فقال الحسين:«اللهمّ إنّ

____________________________

(١) من قصيدة لآية الله الحجّة الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء، ذُكرت بتمامها في كتابنا (قمر بن هاشم).

(٢) في مجمع الزوائد للهيثمي ٩ / ١٩٣: ابن جويرة أو جويزة.

وفي مقتل الحسين للخوارزمي ١ / ٢٤٨: مالك بن جريرة.

وفي روضة الواعظين للفتال / ١٥٩ الطبعة الاُولى: يقال له: ابن أبي جويرة المزني، وإنّ فرسه نفرت به وألقته في النّار التي في الخندق.

(٣) كامل ابن الأثير ٤ / ٢٧.

٢٣٠

محمد بن الأشعث يقول: ليس بيني و بين محمّد قرابة. اللهمّ أرني فيه هذا اليوم ذلاً عاجلاً» ، فاستجاب الله دعاءه، فخرج محمّد بن الأشعث من العسكر، ونزل عن فرسه لحاجته، وإذا بعقرب أسود يضربه ضربة تركته متلوّثاً في ثيابه ممّا به(١) ومات باديَ العورة(٢) .

قال مسروق بن وائل الحضرمي: كنتُ في أوّل الخيل التي تقدّمت لحرب الحسين؛ لعلّي أنْ اُصيب رأس الحسين فأحظى به عند ابن زياد، فلمّا رأيت ما صُنع بابن حوزة عرفت أنّ لأهل هذا البيت حرمة ومنزلة عند الله، وتركت النّاس وقلت: لا اُقاتلهم فأكون في النّار(٣) .

خطبة زهير بن القين

وخرج إليهم زهير بن القين على فرس ذنوب وهو شاك في السّلاح فقال: يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله إنَّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن إخوة على دين واحد، ما لَم يقع بيننا وبينكم السّيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فإذا وقع السّيف انقطعت العصمة، وكنّا اُمّة وأنتم اُمّة، إنّ الله ابتلانا وإيّاكم بذريّة نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لينظر ما نحن وأنتم عاملون. إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية يزيد وعبيد الله بن زياد، فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ سوء عمر سلطانهما، يسملان أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النّخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حِجر بن عدي وأصحابه، وهاني بن عروة وأشباهه. فسبّوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودعوا له وقالوا: لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومَن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى عبيد الله بن زياد سلماً.

فقال زهير: عباد الله إنّ ولد فاطمة أحقّ بالودّ والنّصر من ابن سميّة، فإنْ لم

____________________________

(١) مقتل الحسين للخوارزمي ج١ ص٢٤٩ فصل ١١: واقتصر الصدوق في الأمالي على دعائه على محمّد بن الأشعث.

(٢) روضة الواعظين للفتال ص١٥٩ طبع أول.

(٣) الكامل لابن الأثير ج٤ ص٢٧.

٢٣١

تنصروهم، فاُعيذكم بالله أنْ تقتلوهم، فخلّوا بين هذا الرجل وبين يزيد، فلَعمري إنّه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسينعليه‌السلام .

فرماه الشمر بسهم وقال: اسكت أسكت الله نامتك، أبرمتنا بكثرة كلامك.

فقال زهير: يابن البوّال على عقبيه، ما إيّاك اُخاطب، إنّما أنت بهيمة والله ما أظنّك تحكم من كتاب الله آيتَين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.

فقال الشمر: إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة.

فقال زهير: أفبالموت تخوّفني؟ فوالله لَلموت معه أحبّ إليَّ من الخلد معكم. ثمّ أقبل على القوم رافعاً صوته وقال:

عباد الله، لا يغرّنكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فوالله لا تنال شفاعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله قوماً هرقوا دماء ذريّته وأهل بيته، وقتلوا مَن نصرهم وذبَّ عن حريمهم.

فناداه رجل من أصحابه، إنّ أبا عبد الله يقول لك:«أقبِل، فلَعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه وأبلغ في الدعاء، فلقد نصحتَ هؤلاء وأبلغت لَو نفع النّصح والإبلاغ» (١) .

خطبة بُرير

واستأذن الحسينَ برير بن خضير(٢) في أنْ يكلّم القوم، فأذن له وكان شيخاً تابعياً ناسكاً قارئاً للقرآن ومن شيوخ القرّاء في جامع الكوفة، وله في الهمدانيّين شرف وقدر.

فوقف قريباً منهم ونادى: يا معشر النّاس، إنّ الله بعث محمداً بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً، وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السّواد وكلابه

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٣.

(٢) قال ابن الأثير في الكامل ٤ / ٣٧: برير (بالباء الموحّدة، وفتح الراء المهملة، وسكون الياء المثناة من تحتها، وآخره راء). وخضير (بالخاء والضاد المعجمتين).

٢٣٢

وقد حيل بينه وبين ابن بنت رسول الله، أفجزاء محمّد هذا؟!(١) .

فقالوا: يا بُرير، قد أكثرت الكلام، فاكفف عنّا، فوالله ليعطش الحسين كما عطش مَن كان قبله.

قال: يا قوم، إنّ ثقل محمّد قد أصبح بين أظهركم، وهؤلاء ذرّيته وعترته وبناته وحرمه، فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أنْ تصنعوه بهم؟ فقالوا: نريد أنْ نمكنّ منهم الأمير عبيد الله بن زياد، فيرى فيهم رأيه.

قال: أفلا تقبلون منهم أنْ يرجعوا إلى المكان الذي جاؤا منه؟ ويلكم يا أهل الكوفة، أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها وعليكم؟! أدعوتم أهل بيت نبيّكم وزعمتم أنّكم تقتلون أنفسكم دونهم حتّى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد وحلأتموهم عن ماء الفرات؟ بئسما خلفتم نبيّكم في ذريّته! ما لكم؟ لا سقاكم الله يوم القيامة فبئس القوم أنتم!

فقال له نفر منهم: يا هذا، ما ندري ما تقول!

قال: الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة، اللهمّ إنّي أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم، اللهمّ القِ بأسهم بينهم حتّى يلقوك وأنت عليهم غضبان.

فجعل القوم يرمونه بالسّهام، فتقهقر(٢) .

خطبة الحسين الثانية

ثمّ إنّ الحسينعليه‌السلام ركب فرسه، وأخذ مصحفاً ونشره على رأسه، ووقف بإزاء القوم وقال:«يا قوم، إنّ بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٣) .

ثمّ استشهدهم عن نفسه المقدّسة وما عليه من سيف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولامته

____________________________

(١) في أمالي الصدوق / ٩٦، المجلس الثلاثون، الطبعة الاُولى: لمّا بلغ العطش من الحسين وأصحابه، استأذن برير أن يكلّم القوم فأذِن له.

(٢) البحار ج١٠: عن محمّد بن أبي طالب. [ بحار الأنوار ٤٥ / ٥ ].

(٣) تذكرة الخواص / ١٤٣.

٢٣٣

وعمامته فأجأبوه بالتصديق. فسألهم عمّا أخذهم على قتله؟ قالوا: طاعةً للأمير عبيد الله بن زياد، فقالعليه‌السلام :

«تبّاً لكم أيّتها الجماعة و ترحاً، أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم. فهلاّ - لكم الويلات! - تركتمونا والسّيف مشيم والجأش طامن والرأي لَما يستحصف، ولكنْ أسرعتم إليها كطيرة(١) الدبا وتداعيتم عليها كتهافت الفراش، ثمّ نقضتموها، فسحقاً لكم يا عبيد الأمة وشذاذ الأحزاب ونبذة الكتاب ومحرّفي الكلِم وعصبة الإثم ونفثة الشيطان ومطفئيّ السّنَن! ويحكم أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون! أجل والله غدر فيكم قديم وشجت عليه اُصولكم وتأزّرت فروعكم فكنتم أخبث ثمرة، شجى للناظر وأكلة للغاصب!

ألا وإنّ الدّعيّ بن الدعيّ قد ركز بين اثنتَين؛ بين السّلة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت واُنوف حميّة ونفوس أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللئام من مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحف بهذه الاُسرة على قلّة العدد وخذلان النّاصر». ثمّ أنشد أبيات فروة بن مُسيك المرادي(٢) .

____________________________

(١) بالكسر فالفتح، تاج العروس.

(٢) نقلناها من اللهوف / ٥٤، ورواها ابن عساكر في تاريخ الشام ٤ / ٣٣٣، والخوارزمي في المقتل ٢ / ٦، وفي نقليهما خلاف لما هنا.

وقال ابن حجر في الإصابة ٣ / ٢٠٥: وفد فروة بن مسيك (بالتصغير) على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سنة تسع مع مذحج، واستعمله النبي على مراد ومذحج وزبيد.

وفي الاستيعاب: سكن الكوفة أيام عمر. وذكر ابن هشام في السيرة بهامش الروض الانف ٢ / ٣٤٤: لمّا كانت الوقعة بين مراد وهمدان، أنشأ أبياتاً تسعة ولَم يكن فيها البيت الثالث والرابع. وفي اللهوف ذكر سبعة مع البيتين. وفي الأغاني ١٩ / ٤٩: نسب الفرزدق إلى خاله العلاء بن قرظة قوله:

إذا ما الدهر جر على اناس

بكلكله أناخ بآخرينا

فقل للشامتين الخ.

وذكر ابن عساكر في تاريخ الشام ٤ / ٣٣٤، والخوارزمي في المقتل ٢ / ٧، الأول والثاني ولَم ينسباهما إلى أحد.

ونسبهما المرتضى في الأمالي ١ / ١٨١ إلى ذي الإصبع العدواني. وفي عيون الأخبار لابن قتيبة ٣ / ١١٤، وشرح الحماسة للتبريزي ٣ / ١٩١: أنّها للفرزدق.

وفي الحماسة البصريّة / ٣٠: أنّهما من قصيدة فروة بن مسيك، ويرويان لعمر بن قعاس.

٢٣٤

فـإن نـهزم فـهزّامون قدماً

وإن نـهْزَم فـغير مُـهزَّمينا

ومـا أن طبنا(١) جبن ولكن

مـنـايانا ودولــة آخـرينا

فـقل لـلشامتين بـنا أفيقوا

سـيلقى الـشامتون كما لقينا

إذا مات الموت رفَّع عن اُناس

بـكـلكله أنــاخ بـآخرينا

أما والله، لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يركب الفرس، حتّى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور، عهدٌ عَهَده إليَّ أبي عن جدّي رسول الله، فاجمعوا أمركم وشركاءكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ثمّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون، إنّي توكّلت على الله ربّي وربّكم، ما من دابّة إلاّ هو آخذ بناصيتها إنّ ربّي على صراط المستقيم» (٢) .

ثمّ رفع يدَيه نحو السّماء وقال:«اللهمّ، احبس عنهم قطر السّماء، وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبرة، فإنّهم كذبونا وخذلونا، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك المصير (٣) .

والله لا يدع أحداً منهم إلاّ انتقم لي منه، قتلةً بقتلة وضربةً بضربة، وإنّه لينتصر لي ولأهل بيتي وأشياعي» (٤) .

ضلال ابن سعد

واستدعى الحسينعليه‌السلام عمر بن سعد، فدُعي له - وكان كارهاً لا يحبّ أن يأتيه - فقالعليه‌السلام :«أي عمر، أتزعم أنّك تقتلني ويولّيك الدعيّ بلاد الري وجرجان؟ والله لا تتهنّأ بذلك، عهد معهود فاصنع ما أنت صانع، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ويتّخذونه غرضاً بينهم»، فصرف بوجهه عنه مغضباً(٥) .

____________________________

(١) الطب (بالكسر): الإرادة والعادة.

(٢) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٤، والمقتل للخوارزمي ٢ / ٧، واللهوف / ٥٤.

(٣) اللهوف / ٥٦، طبعة صيدا، والمقتل للخوارزمي ٣ / ٧.

(٤) مقتل العوالم / ٨٤.

(٥) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١١٠، ومقتل العوالم / ٨٤، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٨.

٢٣٥

توبة الحرّ

ولمّا سمع الحرّ بن يزيد الرياحي كلامه واستغاثته، أقبل على عمر بن سعد وقال له: أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي. قال: ما لكم فيما عرضه عليكم من الخصال؟ فقال: لَو كان الأمر إليَّ لقبلت، ولكن أميرك أبى ذلك. فتركه ووقف مع النّاس، وكان إلى جنبه قرّة بن قيس فقال لقرّة: هل سقيت فرسك اليوم؟ قال: لا، قال: فهل تريد أن تسقيه؟ فظنّ قرّة من ذلك أنّه يريد الاعتزال ويكره أن يشاهده، فتركه فأخذ الحرّ يدنو من الحسين قليلاً، فقال له المهاجر بن أوس: أتريد أن تحمل؟ فسكت وأخذته الرعدة، فارتاب المهاجر من هذا الحال وقال له: لَو قيل لي: مَن أشجع أهل الكوفة؟ لَما عدوتك، فما هذا الذي أراه منك؟ فقال الحرّ: إنّي اُخيِّر نفسي بين الجنّة والنّار، والله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو اُحرقت. ثمّ ضرب جواده نحو الحسين(١) منكّساً رمحه قالباً ترسه(٢) وقد طأطأ برأسه؛ حياءً من آل الرسول بما أتى إليهم وجعجع بهم في هذا المكان على غير ماء ولا كلأ، رافعاً صوته:

اللهمّ إليك اُنيب فتب عليَّ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيّك. يا أبا عبدالله إنّي تائب، فهل لي من توبة؟

فقال الحسينعليه‌السلام :«نعم يتوب الله عليك» (٣) . فسرّه قوله وتيقّن الحياة الأبديّة والنّعيم الدائم، ووضح له قول الهاتف لمّا خرج من الكوفة، فحدّث الحسينعليه‌السلام بحديث قال فيه: لمّا خرجت من الكوفة نُوديت: أبشر يا حرّ بالجنّة. فقلت: ويلٌ للحر

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٤.

(٢) في البداية لابن كثير ٧ / ٦٣: في واقعة اليرموك قال جرجه، وهو من النصارى لخالد بن الوليد: ما منزلة مَن يدخل منّا في هذا الأمر؟ قال خالد: له من الأجر أفضل ممّا لنا؛ لأنا صدقنا نبينا وهو حي بين أظهرنا يأتيه وحي السّماء ونرى الآيات، ومَن يسلم منكم وهو لَم يسمع ما سمعنا ولَم يرَ ما رأينا من العجائب والحجج وكان دخوله في هذا الأمر بيّنة صادقة، كان أفضل منّا. فعند ذلك قلب جرجه الترس ومال مع خالد وقال: علِّمني الإسلام....

وفي أنساب الأشراف للبلاذري ١ / ٤٢، طبعة دار المعارف، مصر: كان العرب إذا خافوا ووردوا على من يستجيرون به وجاؤا للصلح نكسوا رماحهم. وقال في صفحة ٤٣: وفد الحارث بن ظالم على عبد الله بن جدعان بـ (عكاظ) وهم يرون حرب قيس، فكذلك نكّس رمحه ثمّ رفعه حين عرفوه وأمن.

(٣) اللهوف / ٥٨، وأمالي الصدوق / ٩٧ المجلس الثلاثون، وروضة الواعظين / ١٥٩.

٢٣٦

يُبشّر بالجنّة وهو يسير إلى حرب ابن بنت رسول الله؟!(١) .

فقال له الحسينعليه‌السلام :«لقد أصبت خيراً وأجراً» (٢) . وكان معه غلام تركي(٣) .

نصيحة الحر لأهل الكوفة

ثمّ استأذن الحسينَعليه‌السلام في أنْ يكلّم القوم فأذن له، فنادى بأعلى صوته: يا أهل الكوفة لاُمّكم الهبل والعبر؛ إذ دعوتموه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كلّ جانب فمنعتموه التوجّه إلى بلاد الله العريضة حتّى يأمن وأهل بيته، وأصبح كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، وحلأتموه ونساءه وصبيته وصحبه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والنّصارى والمجوس، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه. وها هم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمداً في ذريّته! لا سقاكم الله يوم الظمأ! فحملت عليه رجّالة ترميه بالنّبل، فتقهقر حتّى وقف أمام الحسين(١) .

الحملة الاُولى

وتقدّم عمر بن سعد نحو عسكر الحسين ورمى بسهم وقال: اشهدوا لي عند الأمير إنّي أول من رمى. ثمّ رمى النّاس(٢) ، فلَم يبقَ من أصحاب الحسين أحد إلاّ أصابه من سهامهم(٣) ، فقالعليه‌السلام لأصحابه:«قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه، فإنَّ هذه السّهام رسل القوم إليكم» . فحمل أصحابه حملةً واحدةً(٤) واقتتلوا ساعة، فما انجلت الغبرة إلاّ عن خمسين صريعاً(٥) .

____________________________

(١) أمالي الصدوق / ٩٣، المجس الثلاثون.

(٢) مثير الأحزان لابن نما / ٣١، وفي مقتل الحسين للخوارزمي ٢ / ٩: كان معه غلام له تركي.

(٣) الهبل (بالتحريك): الثكل. والعبر (بالفتح): الحزن، وجريان الدمعة كاستعبر، تاج العروس.

(٤) ابن الأثير ٤ / ٢٧.

(٥) الخطط المقريزيّة ٢ / ٢٨٧.

(٦) مقتل العوالم / ٨٤.

(٧) اللهوف / ٥٦.

(٨) البحار عن محمّد بن أبي طالب.

٢٣٧