روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة25%

روائع نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 237

روائع نهج البلاغة
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111485 / تحميل: 6595
الحجم الحجم الحجم
روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

فقهاء يتوفّرون على تأليف فقهي ) عملهم على اتخاذه ( متناً ) للتعليق، أو الشرح، أو الدراسة أساساً، أي: التأليف الفقهي في ضوء ( المتون ) الفتوائية، سواء كانت رسائل عملية أو مجرّد فتاوى، وهذا ما ألمح إليه المؤرِّخون عندما أشاروا إلى أنّ المتون الفقهية مرّت بمراحل متنوِّعة، بدئت بكتاب ( النهاية ) للشيخ الطوسي ( ولا نغفل أنّ الطوسي بدوره قد اعتمد في بعض ممارساته على ( مقنعة ) المفيد،... والمهم: أنّ الحوزة العلمية الرشيدة التي امتدّت أكثر من ألف سنة، كانت تعتمد ( النهاية ) متناً، ثم اتخذت ( الشرائع ) للمحقّق، ثم ( وسيلة العباد ) للجواهري، ثم ( العروة الوثقى ) لليزدي، وهو هذا الكتاب الذي نتحدث عنه.

وممّا تجدر ملاحظته ( وهذا ما ألمحنا إليه ونؤكِّده الآن ) أنّ المتن المذكور ( العروة الوثقى ) لعلّه أكثر المتون الفقهية اهتماماً من قبل فقهائنا المحدثين، حيث حظي من جانب باتخاذه ( متناً ) للممارسة الاستدلالية الشاملة، ( ولعلّ أوضح مصاديقها هو كتاب ( مستمّسك العروة الوثقى )، وغيره من الممارسات، كما أنّه - من جانب آخر - حظي بتعليقات تُعدّ بالعشرات، وهو ما يقتصر على مناقشة بعض المتون، من خلال ما يسمّى بـ ( الحاشية ) إمّا مناقشة فتوائيّة فحسب، أو مصحوبة بالاستدلال، وفي الحالتين، فإنّ الاهتمام بهذا المتن بالنحو المتقدّم، يجعل الدراسة لهذا الجانب تحمل مسوِّغاتها، حيث اضطلعت أكثر من مؤسّسة بتجميع آراء الآخرين حيال المتن المذكور، متفاوتة في عدد ( المعلّقين )،... إلاّ أنّ الكتاب الحالي يعدّ أكثر الكتب حشداً للآراء.. كما هو ملاحَظ.

تأسيساً على ما تقدّم، يجدر بنا أن نتناول بالدراسة: نشاط (السيّد اليزدي ) فقهيّاً وأُصوليّاً - أو على الأقل فقهياً بمستوييه: الفتوائي والاستدلالي ( بخاصّة: الأخير )؛ لأنّه ( الخلفية ) التي تستند ( فتاواه ) إليها... ولحسن الحظ، أنّ السيّد اليزدي ترك لنا جملة مؤلّفات استدلالية تتفاوت في حجومها، مثل: ( منجزات المريض ) و( الظن... ) و( تكملة العروة الوثقى )، بالإضافة إلى دراسة استدلالية قد اتخذت من ( متن ) سابق وهو: الكتاب المعروف بالمكاسب للشيخ الأنصاري، قد اتخذت منه: وسيلة لممارسة فقهية معمّقة ومفصّلة... هذا مضافاً إلى كتاب أُصولي ضخم يتحدث عن ظاهرة التضارب بين النصوص بنمطيها: الظاهري والباطني، أو كما يطلق على ذلك

١٠١

مصطلح ( التعارض )، ومصطلح ( التكافؤ ) أو ( التعادل )، ومصطلح ( التراجيح )، وهو أهم الأبحاث الأُصولية؛ لأنّه - بوضوح - أكثر المبادئ ( تطبيقاً ) بخلاف الغالبية من المبادئ الأُصولية التي تضؤل أهميّتها العملية ( أي: الثمرة العلمية ) بالقياس إلى باب ( التعارض ) أو ( التضارب ) - كما نسمّيه - سواء أكان التضارب على مستوى السطح بحيث يجمع بين المتضاربين ( كالجمع العرفي المألوف )، وسواه، أو كان على مستوى ( العمق ) بحيث لا مناص من طرح أحد الطرفين ( مثل موافقته للعامّة ) أو العمل بالآخر ( مثل موافقة الكتاب )، أو العمل بكليهما: على مستوى ( التخيير ) وليس الجمع، أو الطرح لكليهما.. أو التوقّف أو الاحتياط... إلى آخره... ويتميّز الكتاب المذكور بسعة حجمه، وبدخوله في تفصيلات يمكن الاستغناء عنها، بخاصّة أنّ بعض المعنيين بهذا الشأن المعرفي قد يكتفون بثلاثين صفحة من الكتاب، بينما تجاوز الكتاب الذي عرضنا له: الستمئة صفحة..

المهم: بما أنّ ( التطبيق ) لمبادئ التضارب لا يتجانس مع ( النظرية ) من حيث الحجم الذي يستخدمه المؤلِّف، لذلك لا ضرورة كبيرة تدفعنا إلى مدارسة هذا الكتاب بقدر ما نقتبس منه بعض الفقرات؛ لأنّ المهمّ هو: ما نلاحظه من الممارسة الفقهية التي تعتمد هذا المبدأ الأُصولي أو ذاك... أي: نعتمد الممارسة التطبيقية لما يطرح من عمليات ( الجمع العرفي ) أو ( الترجيح )... أو... إلى آخره... عبر هذه المسألة الفقهية أو تلك... بالإضافة إلى سائر المبادئ التي يتوكّأ عليها في استخلاص الظاهرة الشرعية بنحوٍ عام...

وهذا ما نبدأ به الآن:

* * *

إنّ المرحلة الأُولى من ممارسة (السيّد اليزدي ) للظاهرة الفقهية، هي: تصديرها بالبُعد ( اللغوي )، أي من حيث التعريف بالظاهرة: موضوعة البحث دلالياً، ومدى انسحاب العنوان المنتخب على الموضوع، يستوي في ذلك أن يكون البحث فقهياً أو أُصولياً. وممّا لا شكّ فيه، أنّ طبيعة البحث العلمي يتطلّب الإحاطة بجوانب الموضوع جميعاً، وفي مقدّمته الجانب اللغوي، ما دامت اللغة هي الواسطة في التعبير عن موضوع البحث، لكن ينبغي أن نضع في الاعتبار أنّ البعد اللغوي يظلّ ( أداةً توظيفية ) وليس

١٠٢

غاية، وهذا ما يقتادنا إلى ملاحظة مهمّة بالنسبة إلى مطلق البحوث، ومنها: البحث الفقهي، حيث نجد أنّ الباحثين لا يكتفون بتعريف الموضوع لغوياً واصطلاحيّاً، في نطاق ما هو ضروري، بل يسهبون في البحث عن جذر الكلمة واستخداماتها، و... إلى آخره، حتى ليحس القارئ أنّه أمام معجم لغوي، وليس أمام بحث لا علاقة له باللغة إلاّ بمقدار الإضاءة الضرورية...

وفي ضوء هذه الحقائق نتّجه إلى (السيّد اليزدي ) لملاحظة استخدامه للبعد ( اللغوي )، حيث نجد عناية خاصّة منه قد لا نجدها عند الآخرين، فهو يدقّق في المفردة الفقهيّة أو الأُصولية، وينقّب في حفريّاتها إلى درجة ملحوظة، حتى نحسب أنّ بعض ممارساته تحمل القارئ على الاستفسار عن مدى فائدة هذا الإسهاب أو التغلغل اللغوي...

المهم: خارجاً عن ذلك يجدر بنا الاستشهاد بنماذج من ممارساته، وهي نماذج إيجابية دون أدنى شك...

من ذلك، مثلاً: في بداية بحثه الأُصولي في باب ( التضارب ) بين الأخبار، أي ( التعارض ) وهو العنوان الذي انتخبه لبحث الظاهرة المذكورة، حيث صدّرها بهذه الفقرات:

( عنوان المسألة بباب ( التعارض ) كما صنّفنا، وفاقاً لبعض أولى من عنوانها بباب التعادل والتراجح؛ لما هو واضح من أنّها من عوارضه وأقسامه، إذ التعارض قد يكون مع التعادل، وقد يكون مع الترجيح، ومن المعلوم أنّ الكلّي المتعارض - مع غضّ النظر عن قسيميه - أحكاماً... مثل أولويّة الجمع مهما أمكن، وأنّ الأصل في المتعارضين ماذا؟ وغيرهما ) ثم يذكر جواباً لمَن يجد مسوّغاً للعنوان التقليدي، ويعترض على ما ورد في ( القوانين ) من العنوان القائل ( باب التعارض والتعادل والترجيح )... بعد ذلك يقول: ( لا يخفى أنّ التعبير بالتراجيح فيه مسامحة من وجوه، أحدها: أنّ معادل التعادل: التراجح لا التراجيح، إذ هو مأخوذ إمّا من العدل بمعنى الاستواء... إلى آخره )...

ثمّ يقطع صفحات متعددة لمواصلة بحثه عن مفردات المصطلح المذكور، بحيث يصل إلى ما يقارب عشر صفحات، وهو أمر قد لا نجد له ضرورة...

١٠٣

بغضّ النظر عمّا تقدّم، فإنّ مجرّد انتخاب عنوان شامل - كما صنع السيّد اليزدي يظلّ أفضل - بلا شك - من المفردات الثلاث، ممّا استخدمها الأُصوليّون قدامى وحديثين أيضاً...

وما دمنا نتحدث عن انتخاب ( العنوان ) وضرورة شموليّته وتعبيره عن الموضوع المبحوث عنه، نجد أنّ السيّد اليزدي يتّجه إلى مناقشة كثير من المفردات التي جعلها الفقهاء ( عنواناً ) لممارساتهم،... ومن ذلك مثلاً: ما نلاحظه في كتابه الاستدلالي التعليقي ( حاشية المكاسب ) حيث تعرّض لجملة من المفردات التي اعتبرها غير مفصحة عن طبيعة الموضوعات... ومن ذلك: عنوان ( حفظ كتب الضلال ) أو عنوان ( ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأناً ).. أو سواهما، حيث قال بالنسبة إلى العنوان الأخير:

( هذا العنوان إنّما يحسن إذا جعلنا المناط في النصوص ذلك، وتعدّينا إلى كلّ ما يكون كذلك، وأمّا على ما هو واقعه من الاقتصار على مواردها من السلاح أو مطلق آلات الحرب، فالأولى أن يقال ( وعدم بيع السلاح )، إذ المفروض خصوصيّة الموضع وعدم كون المناط ما ذكر من العنوان، فلا وجه للعنوان بما ليس موضوعاً ومناطاً... إلى آخره ).

والحقّ أنّ الملاحظة السيّد اليزدي صائبة، ما دمنا نعرف جميعاً: أنّ العنوان في البحوث العلمية يحتل أهمّيته الكبيرة من حيث انطوائه على موضوع محدّد وليس فضفاضاً... والأمر نفسه يمكننا ملاحظته في التعقيب على عنوان ( حفظ كتب الضلال ) حيث يتناول تعقيبه على العنوان المتقدّم مورداً آخر مضادّاً لسابقه هو: قصور العنوان عن استيعاب ما هو ( ضلال ) حيث لا يقتصر حظر الضلال على الكتب فحسب، بل يتجاوزه إلى المطلق؛ لذلك ينبغي تبديله إلى عنوان أشمل من الكتاب.

وفي هذا الصدد يقول: ( لا خصوصيّة للكتب في ذلك، فيحرم حفظ غيرها أيضاً ممّا من شأنه الإضلال.. فكان الأولى التعميم للعنوان ). هنا يحاول السيّد اليزدي توجيه العنوان المتقدّم بقوله: ( لعلّ غرضه المثال، لكون الكتب من الأفراد الغالبة لهذا العنوان، نعم يمكن الاستدلال على الخصوصية برواية ( الحذّاء ): ( مَن علّم باب ضلال كان عليه وزر مَن عمل به)... ونحن أيضاً يمكننا أن نوجّه إلى المؤلّف السيّد اليزدي نفس الإشكالية بالنسبة إلى

١٠٤

الرواية، حيث إنّ التعليم للضلال لا ينحصر في الكتاب، بل يشمل مطلق الخطاب الإعلامي من: خطبة أو كلام عادي... إلى آخره.

والمهم - في الحالات جميعاً - أن نشير إلى أنّ اهتمام السيّد اليزدي بالعنوان جعله يُعنى به من زوايا أُخرى مصحوبة بجملة نوافذ، ولعلّ تعقيبه أو تصدير ممارسته لظاهرة ( الوكالة ) - مثلاً - يوضح لنا منهجه في التعريف بالظاهرة من جانب، ثم مقارنة العنوان بما تماثله أو تخالفه من سوى ذلك، حيث إنّ تعريفه للظاهرة المبحوث عنها تفرض ضرورتها لكي تتبيّن دلالة الوكالة أو الهبة أو الوقف... إلى آخره، ولكنّ الأهم من ذلك هو: المقارنة مع غيرها من الظواهر في حالة ما إذا كانت ثمّة نقاط مشتركة بين العنوان المبحوث عنه وسواه، وهذا ما نلحظ في النص الآتي:

( الوكالة: وهي استنابة في التصرّف في أمرٍ من الأُمور في حال حياته، بخلاف الوصاية فإنّها بعد الموت. وقد يقال في الفرق بينهما: إنّ الوصاية إعطاء ولاية، وفي هذا الفرق تأمّل، بل منع. وأمّا الفرق بينهما وبين الوديعة فهو أنّها استنابة في الحفظ، بل لا يلاحظ فيها الاستنابة وإن استلزمتها، وأمّا بينها وبين العارية فواضح، وكذا المضاربة إذ حقيقتها ليست استنابة وإن تضمّنتها ( في الجملة ) ).

واضح من هذا النص أهميّة هذه الفوارق أو المشتركات بين الظواهر المشار إليها: العارية، الوصاية، الوديعة، المضاربة، حيث أوضح السيّد اليزدي السمات المشتركة المتمثّلة في ( الاستنابة ) بنحوٍ أو بآخر، مع الفوارق بين الاستنابة في مستوياتها وبين الوكالة، وبين ما ذكره من الظواهر...

على أيّة حال: ندع الآن هذا الجانب اللغوي بصفته مجرّد ( مقدّمة ) للدخول إلى الموضوع الرئيسي وهو: الممارسة الاستدلالية للظاهرة، واستخلاص حكمها، أو دلالتها، حيث نتجه إلى الخطوط التي تنتظم منهج السيّد اليزدي في ممارساته بنحو عام.

* * *

بالنسبة إلى الخطوط المنهجية، التي يمكن أن يستخلصها الدارس لممارسة السيّد اليزدي في تناوله للظاهرة الفقهيّة، تظل متفاوتة من ممارسة إلى أُخرى، بحسب ما يتطلّبه الموقف، فمثلاً: عندما يتناول الظواهر التي يعقّب بها على ( الأنصاري ) في حاشيته على

١٠٥

المكاسب، فإنّ تناوله يختلف بطبيعة الحال عن معالجته المستقلّة للظاهرة، كما هو ملاحظ في ( تكملة العروة ) حيث يتناول فيه الظاهرة استدلاليّاً بالقياس إلى العروة المتميّزة بفتاواها فحسب، كما يتناول الظاهرة استدلالياً في سائر نتاجه المتمثِّل في: ( منجزات المريض )، ( الظن ) ولكن بعامّة، ما دمنا نستهدف الإشارة إلى خطوط المنهج بحسب تسلسله؛ نلاحظ أنّ السيّد اليزدي بعد أن يتناول الظاهرة لغوياً، يتقدّم إلى طرح ( فتواه ) مصحوبة بالإشارة الإجمالية أوّلاً إلى الأدلة الرئيسة: الكتاب، السنّة، الإجماع، العقل. أو الأدلة الثانوية وفي مقدّمتها: ( الشهرة ) بحيث يعني بها بنحو ملحوظ، أو الدليل العملي... إلى آخره، ولكن ينبغي أن نشير إلى أنّ السيّد اليزدي عندما يتناول الظاهرة الفقهيّة العامة ( مثل: الأبواب الفقهيّة: الربا، الوكالة، الوقف، الضرر... إلى آخره ) فإنّه ليختلف عن معالجته لتفريعاتها أو مسائلها الجزئية، حيث يُعنى بالظاهرة العامة بالتعريف، وبتصدير ما يتطلّبه الباب من تعقيب أخلاقي، كما هو ملاحظ مثلاً في معالجته لظاهرة ( الربا ) حيث يعرض أوّلاً فتواه الذاهبة إلى التحريم، مشيراً إجمالاً إلى الأدلة الرئيسة على هذا النحو ( الربا المحرّم بالكتاب والسنّة وإجماع المسلمين، بل ضرورة الدين ) ثم يقول ( فمستحقّه داخل في سلك الكافرين، وأنّه يقتل.. )... إلى آخره، ثمّ يستشهد بروايات كثيرة تحوم جميعاً على إبراز العقاب المترتّب على ممارس الربا... وفي تصوّرنا أنّ تصدير ( الباب ) بأمثلة هذا البعد الأخلاقي؛ يجسّد ضرورة لا غنىً عنها من حيث أثرها على القارئ، حيث إنّ الهدف أساساً هو حمل الشخصية على معرفة الحكم وترتيب الأثر عليه، وهو: عدم ممارسة ما هو محرَّم أو مكروه... إلى آخره.

والآن، ما يهمّنا بعد الإشارة إلى مقدّمات الممارسة الفقهيّة من تحقيق لغوي وتعريف أخلاقي، ما يهمّنا هو: ملاحظة الأدوات الاستدلالية التي يستخدمها السيّد اليزدي في معالجته للظاهرة الفقهيّة، حيث تمثّل خطوط ممارسته على هذا النحو:

1 - تصدير الفتوى، مصحوبة بالأدلة الإجمالية في الغالب: كما لاحظنا في تصديره لظاهرة الربا، حيث قال: ( المحرّم بالكتاب والسنّة، وإجماع المسلمين، بل ضرورة الدين ).. فهنا: إشارة إلى الأدلة الرئيسة.. جميعاً الكتاب والسنّة... إلى آخره، وقد يكتفي بدليل واحد: كالإجماع مثلاً، وهو ما يطبع غالبيّة نتاجه، مثل تصديره لظاهرة

١٠٦

وقف الكافر: ( لا يشترط في الواقف أن يكون مسلماً... بالإجماع ). أو السنّة مثل: ( الأقوى: صحّة وصيّة مَن بلغ عشراً للأخبار... ). أو بالعقل، أو بدليلين كالكتاب والسنّة، مثل: ( تعتد المتمتَّع بها... للآية:( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ... ) والصحيح، أو بثلاثة: الكتاب، والسنّة، والإجماع ). لكن خارجاً عن هذه المستويات من الأدلّة ( الاستهلاليّة ) التي تتصدّر الفتاوى، فإنّ المهم هو: كيفيّة التعامل مع الأدلّة ذاتها، أي: كيفيّة تعامله مع الكتاب، مع السنّة، مع الإجماع، مع العقل، مع الشهرة، مع الأصل... إلى آخره.

بالإضافة إلى ( الأدوات ) التي يستخدمها في هذه الميادين، وفي مقدّمتها ( الظواهر اللفظية ) وسواها...

ونقف أوّلاً عند تعامله مع ( السنّة ) بخاصّة فيما يتصل بـ ( القول ) بصفته هو الغالب في التوكّؤ عليه بالقياس إلى ( التقرير ) و( الفعل )، وبصفته هو الغالب من الأدلّة بالقياس إلى الكتاب، والإجماع... إلى آخره، على أن نتّجه إليها فيما بعد...

إذن: لنتحدّث عن كيفيّة تعامل السيّد اليزدي مع ( الأخبار ) وهي - كما قلنا - المادة الغالبة في التعامل...

وهذا فيما يتصل بالأدلة الرئيسية: ( الكتاب، السنّة... إلى آخره )، أمّا ما يتصل بالأدلة الثانوية من: ( شهرة ) أو ( أصل )، فإنّ السيّد اليزدي يتوكّأ عليها بطبيعة الحال. أمّا استقلالاً أو ضمناً، أو توظيفاً، فمن أمثلته الأخيرة، مثلاً، بالنسبة إلى شرائط الواقف إذا بلغ عشر سنين ( المشهور على عدم صحّته لعموم ما دلّ... ) حيث إنّ السيّد اليزدي يوظّف دليل الشهرة ( وهو ثانوي ) لتجلية ( دليل رئيسي ) وهو: السنّة،... ولسوف نتحدث عن مستويات تعامله مع الأدلة المشار لها في حينه... سواء أكانت متصلة بالشهرة وأقسامها، أو بالأُصول العملية وسواهما، أمّا الآن فقد استهدفنا مجرّد الإشارة إلى أدوات السيّد اليزدي التي يستخدمها في ( استهلال ) أدلّته إجمالاً، حيث لاحظنا تفاوت ممارسته من حيث السعة وعدمها، بحسب متطلّبات المسألة ذاتها... والآن نتّجه إلى ملاحظة تعامله مفصّلاً مع ( الأخبار )، وفي هذا الميدان نقول:

يظلّ التعامل مع النص ( الأخبار ) - كما قلنا - أهم المحاور التي يرتكن إليها الفقهاء، يليها التعامل مع ( الأصل ) في أبواب بعض المعاملات أو غالبيّتها... ولكن ما يعنينا

١٠٧

الآن هو: التعامل مع النص... وأوّل ما يمكن ملاحظته هنا، هو: أنّ التعامل مع النص يندر أو يضؤل حجمه في حالة ما إذا كان الأمر مرتبطاً بتفسيره أو تأويله أي: استخلاص دلالته، ولكنّ العكس تماماً يتضخّم حجم التعامل مع النص في حالة ( تضاربه مع الآخر )، وهذا ما يجسّد غالبية الممارسات الفقهيّة... ولعلّ ما لاحظناه بالنسبة إلى السيّد اليزدي في جعل ممارساته الأُصولية منحصرة ( في نطاق التأليف ) في باب ( التعارض ) الذي قاربت صفحاته (600 )(1) ، يفسّر لنا أهميّته ومن ثمّ غالبيته الممارسة لهذا الجانب؛ لذلك، نحاول عرض المنهج الذي يتعامل السيّد اليزدي من خلاله مع النص ( المتضارب )، سواء أكان التضارب في نطاق الظاهر أي: التأليف بين الأخبار - الجمع العرفي أو نطاق الباطن ( التعارض ) المُفضي إلى طرح أحد المتضاربين - أو سقوطهما... إلى آخره.

ونبدأ أوّلاً بملاحظة تعامل السيّد اليزدي مع التضارب الظاهري، المُفضي إلى التأليف بين المتضاربين من خلال حمل أحدهما على الندب، أو الكراهة، أو التخصيص، أو التقييد، أو الحكومة، أو الورود... إلى آخره.

هنا، نجد أنّ ( السيّد اليزدي ) - امتداداً مع وجهة نظر ( الطوسي ) الذي عني عنايةً تامّة بمقولة: ( العمل بالخبر ما أمكن من الطرح ) حتى وصل به الأمر إلى أن يبالغ في تفسير أو تأويل المتضارب من النصوص، بما قد لا يحتمله النص، والمهم أنّ السيّد اليزدي يكاد يشدّد في هذا الجانب بنحوٍ ملحوظ، وهو ما نلحظه نظرياً ) في مقدّمة كتابه الأُصولي ( التعارض )، حيث يصرّح بذلك بسفور، أو ما نلحظه ( وهذا ) هو الأهم في تطبيقاته للقاعدة، حيث نجد أنّ كثيراً من الممارسين لا يسحبون نظريّاتهم الأُصولية على الممارسة التطبيقية فقهياً، وهو ما يحملنا على دراسة النص الفقهي التطبيقي، بدلاً من دراسة الخطوط النظرية لهذا المبنى الأُصولي أو ذاك.

ومع عودتنا إلى السيّد اليزدي في تعامله مع النصّين المتضاربين ظاهرياً، نجده - كما هو لدى الغالبية من الفقهاء - يُعنى بعملية الجمع العرفي ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وهذا ما يمكننا أن نلاحظه من خلال النماذج الآتية، منها:

____________________

(1) انظر: بحث ( تصانيفه ومؤلَّفاته ).

١٠٨

الحمل على الاستحباب: مثل تأليفه بين الأخبار القائلة بعدم العدّة على غير المدخول بها، وبين القائل بها، حيث قال عن الأخير: ( وخبر عبيد محمول على الاستحباب... ). إنّ أمثلة هذا الحمل متوافرة بعدد هائل، إلاّ أنّ مستويات الحمل تظلّ متفاوتة من حين التوكّؤ على جملة عوامل،... منها: تأييد الحمل بأدلّة ثانوية من نحو العمومات والإطلاقات والأصل... إلى آخره، وهذا ما يمكن ملاحظته في ممارسته الذاهبة إلى عدم وجوب العدّة من السفاح، حيث ذهب صاحب الحدائق إلى وجوبها بموجب خبرين، فجاء الردّ على ذلك بقوله: ( وحمل الخبرين على الندب للأصل، وللعمومات، وإطلاق ما دلّ على جواز التزويج... إلى آخره )، ومن الواضح أنّ إرداف ( الحمل على الندب ) بأمثلة هذه الأدلّة، يمنح الممارسة ثقلاً أكبر من مجرّد الحمل غير المصحوب بالتعليل، وإن قلنا بأنّ الحمل العادي رسمه النص الشرعي ليس مجرّد مبنىً يعتمده هذا الفقيه أو ذاك من خلال تذوّقه... ومنها:

الحمل على الندب - أيضاً - لكن من خلال التردّد بين محامل متعددة، وهذا ما نلحظه في تأليفه بين الطائفة القائلة بتعدد العدّة مع تعدّد السبب، والقائلة بالتداخل، حيث ذهب المؤلّف إلى التداخل، وحمل الطائفة الأُولى على مترددين، قائلاً: ( فتحمل على الندب أو التقية... )، بيد أنّ السؤال هنا هو: هل أنّ الحمل على الندب يحمل مسوّغاته في هذا المورد؟ بخاصة أنّ المؤلّف عندما ردّد بين الندب وبين التقية، رجّح التقية على الندب، من خلال استشهاده بحادثة لأحد خلفاء العامّة، كما استشهد بخبرين من خلال تصريح المعصوم (عليه السلام) بالتداخل جواباً على القائل بتعدّد العدّة.

ومن البيّن أنّ هذه القرائن من حيث وضوح أرجحيّتها ( وهي: التقيّة ) حينئذٍ فإنّ الحمل على الاستحباب يفقد مسوّغه، إلاّ إذا انسقنا مع الاتجاه الفقهي الذاهب إلى أنّ التردّد أو تعدّد الأدلّة من رجحان بعضها على الآخر لا غبار عليه؛ لأنّه مجرّد فرضيّة يتطلّبها النقاش، أو مجرّد طرح يحتمل أحد مصاديقه: إمكانية الصواب.

خارجاً عن ذلك، إذا ذهبنا لمتابعة تعامل المؤلِّف مع ( الحمل على الندب ) في مستوياته المتنوّعة، نجد أنّه يعرض إمكانية الحمل على الندب، ولكنّه مع تحفّظ هو: استبعاده، ففي معالجته لعدّة المتمتَّع بها يطرح الأقوال المعروضة في الظاهرة، وهي أربعة أقوال، منها: القول الأوّل حيث رجّحه ( وأيضاً )، القول الثاني: وأسقط القولين

١٠٩

الآخرين وقال: ( الأقوى هو الأوّل، لرجحانه بالشهرة، وشذوذ الثاني، مع أنّ مقتضى الاستصحاب على فرض التكافؤ هو الأوّل، وإن كان يجوز الجمع بينهما بحمل أخبار الأوّل على الاستحباب لكنه بعيد... ). ما يهمّنا هو: فقرته الأخيرة الذاهبة إلى إمكانية الحمل على الاستحباب، واستبعاده ذلك..

وبغض النظر عن ترجحه بالشهرة، وطرح الآخر لشذوذه، وذهابه إلى اقتضائية ( الاستصحاب ) حيث سنتحدث عن هذه ( الترديدات ) في حينه - إن شاء الله - بغضّ النظر عن ذلك، فإنّ إمكانية حمل الخبر المتضارب مع الآخر على الندب، وفي نفس الوقت استبعاده يظلّ واحداً من أشكال التعامل مع ظاهرة ( الجمع العرفي ).

وما دام هذا النص من حيث استبعاده للحمل على الاستحباب، يشكّل تحفّظاً حيال الجمع العرفي المذكور، فإنّ المؤلّف في سياقات أُخرى، يتجاوز التحفّظ إلى الرفض: عندما يناقش الأقوال التي تحمل الخبر على الندب، في حالات لا يساعد السياق على ذلك، ومنه مثلاً: في معالجته للمتوفّى زوجها من حيث العدّة يستشهد بطائفتين، تتحدث أحدهما: عن أنّها تبدأ مع بلوغ المرأة خبر وفاته، والطائفة الأُخرى: عن غير ذلك، حيث جمع صاحب المسالك بينهما على الاستحباب، والحمل على التقيّة عند ابن الجنيد، وآخر: التفصيل.

وعقّب المؤلّف على الرواية الأُخرى: (... شاذّة محمولة على التقيّة، فلا وجه للعمل بها )، (... ولا الجمع بين الفرقتين بحمل المتقدّمة على الاستحباب... ).

إذن: يتفاوت المؤلّف في تعامله مع ظاهرة ( الجمع العرفي ) من خلال العمل على الندب: بين اليقين والترديد والتحفّظ والرفض بحسب متطلّبات السياق.

وإذا اتجهنا إلى الجمع العرفي المقابل للندب وهو الكراهة، حينئذٍ فإنّ العملية ذاتها نلحظها في ممارسات المؤلّف.

وهذا من نحو ممارسته التي تساءل فيها عن جواز أو عدم ذلك، بالنسبة إلى الوكيل الذي أمره موكِّله بأن يدفع مالاً إلى عنوان ينطبق عليه، حيث ذكر المؤلّف قولين في ذلك، كما ذكر روايتين متضاربتين لراوٍ واحد، موضِّحاً بأنّ المانعة لا تقاوم المجوِّزة، معقِّباً على المانعة: ( فينبغي أن تُحمل على الكراهة، بل هو مقتضى الجمع العرفي الدلالي )، وإذا كان السيّد اليزدي ينصّ على ( كراهة ) النص المضارب في الممارسة

١١٠

السابقة، فهو ( يحتملها ) في الممارسة القائلة: ( لا ينبغي الإشكال في عدم جريان الربا في غير المكيل والموزون مطلقاً، بل يمكن حمل كلام المفصِّلين أيضاً على الكراهية... ).

وأمّا الترديد بينها وبين سواها، فيمكن ملاحظته في ممارسته القائلة ( في باب الوكالة ) بكراهة بيع ما لديه من المواد لموكِّله، حيث ينقل جواز ذلك للأخبار، ويضيف ( وأمّا الأخبار المانعة محمولة على الكراهة )، ثم يعلّل ذلك أنّ ذلك يعرّض الوكيل للتهمة والخديعة، قائلاً: ( كما يُشعر على فهم بعض تلك الأخبار، لكن الأحوط مع ذلك ).

فهنا نجد المؤلّف قد التجأ إلى ( الحمل على الكراهة ) ترديداً بينها وبين الاحتياط، حيث يعني: الاحتياط ترجيح الحرمة لديه... وفي هذه الممارسة نلحظ سوى الترديد بين استخلاصين، ظاهرة ثالثة لاحظناها أيضاً عندما تحدثنا عن ( الحمل على الاستحباب ) حيث أردف في بعض ممارساته: الحمل بتوضيح الأسباب المفضية إلى الجمع... هنا أيضاً: يردف حمله على الكراهة، بالركون إلى الأخبار الأُخرى التي توحي بدلالة الكراهة...

وإذا كان المؤلّف هنا يتردّد بين استخلاصين، فإنّه في الممارسة الآتية يتردّد بدوره، ولكن يتّجه إلى التعليل لأحد المتردّدين ممّا يشكّل سمة سلبية، كما لاحظنا ذلك عند حديثنا عن ( الحمل على الاستحباب ).. يقول المؤلّف عبر بحثه عن إحدى المسائل المتعلّقة بـ ( الربا ): ( فتحمل على الكراهة في النسيئة ) أو على التقيّة؛ لأنّ التفصيل مذهب العامّة. واضح أنّ الترديد هنا - كما لاحظنا في حمله الظاهر على محمل الندب. وتفصيله للآخر بين الكراهة وبين التقيّة، لا يجيء لصالح الكراهة بل التقيّة؛ لأنّ التعليل الذي قدّمه وهو: أنّ التفصيل هو مذهب العامّة، يفصح عن تفضيله للتقيّة، كما هو واضح؛ لذلك لا معنى لحمله على الكراهة، وهذا ما يسجّل على المؤلّف.

المهم: أنّ الخطوات التي قطعها المؤلّف في تعامله مع ( الحمل على الاستحباب ) يمارسها أيضاً في تعامله مع الحمل على الكراهة - كما لاحظنا ذلك - ومنها: ظاهرة ( التحفّظ ) أو الرفض لما يحتمله فقيه آخر في ممارساته، ومنهم: المقدّس الأردبيلي، في حمله على الكراهة في بعض مسائل الربا، وهي مسألة أنّ المواد

١١١

الأصلية والمتفرّعة من الشيء تتماثل حرمة الربا فيها، كالدقيق والسويق مثلاً، ومطلق ما هو أصل وفرعي، حيث استدلّ عليها بالأخبار مقابل أخبار معارضة، حيث حملها الأردبيلي على الكراهة، فقال: ( بحمل الأخبار المذكورة على الكراهة )، هنا عقّب المؤلّف على الحمل المذكور وسواه، بأنّ المراد ليست جميعاً محكومة بهذه السمة؛ لأنّ الحليب ومتنوّعاته مثلاً ليست كالدقيق والسويق؛ لذلك فإنّ الأظهر التفصيل بين المادتين... إلى آخره، وبذلك يكون المؤلّف قد رفض ذلك الحمل ( أي الكراهة ).

المهم: نكتفي بما ذكرناه من الظواهر المتّصلة بحمل أحد المتضاربين من الأخبار على الكراهة أو الندب، بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه.

* * *

أمّا الآن فنتّجه إلى حلّ آخر للتضارب الظاهري بين الأخبار، وهو الحمل المؤدّي بالتأليف بينها من خلال حمل المطلق والعام، والمجمل على المقيد، والخاص والمفصّل، وهو باب واسع من الأبواب البحثيّة التي يتوفّر الفقهاء عليها.

إذن: لنلاحظ تعامل السيّد اليزدي مع أمثلة هذه المحامل... طبيعياًَ، أنّ الحمل على المقيد والخاص والمبيّن، بالنسبة إلى الخبر المطلق والعام والمجمل، يختلف عن الحمل السابق، أي الندب أو الكراهة، من حيث إنّهما ( يفاضلان ) بين خبر على آخر، بينما نجد محامل المقيّد والخاص والمبيّن، تقوم على إلقاء الإضاءة من أحدهما على الآخر، حيث إنّ المقيّد يلقي بإنارته على المطلق، وهكذا سواه، فيتمّ التأليف بين المتضاربين على مستوى الدمج بين الروايتين، وليس الفصل بين فاضل ومفضول ( كما هو شأن الحمل على الندب أو الكراهة )...

المهم: يجدر بنا أن نستشهد ببعض الممارسات لدى السيّد اليزدي في هذا الميدان... ومنها، مثلاً: في ميدان الحمل البسيط للعام على الخاص، ذهابه ( وهو يناقش الأنصاري في مكاسبه ) بالنسبة إلى الأحكام المتّصلة بالأرض من حيث صلتها - حالة الفتح - بإذن الإمام (عليه السلام) أو عدمه، مستشهداً برواية ( خاصّة ) لابن وهب تذهب إلى أنّ الأرض المفتوحة إذا كانت بإذنه (عليه السلام) يأخذ الإمام (عليه السلام) الخمس، ويأخذ المقاتلون نصيبهم منه، و... ويعلّق على الرواية بقوله: ( فهي صالحة لتخصيص الآية ) أي آية الخمس:( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ... ) وأمّا في ميدان الممارسة

١١٢

المركّبة، فيمكننا ملاحظة ذلك في الممارسة الآتية التي يتوكّأ المؤلّف فيها على حمل المطلق على المقيّد، والمجمل على المفصّل، وهو يرتبط بعدّة المرأة التي فُقد زوجها، يقول السيّد اليزدي بعد نقله للأقوال، وإشارته إلى اختلاف الأقوال من أنّها راجعة إلى اختلاف الأخبار ذاتها، قائلاً: ( والحاصل أنّه يحمل المطلق منها على المقيّد، والمجمل على المفصّل فيصير الحاصل أنّ عند انقطاع خبره... ) إلى آخره. وهذا أُنموذج واضح لعمليّات التأليف بين النصوص، وتتميّز هذه الممارسة بأنّها تجمع بين أخبار متضاربة متنوّعة، وليس بين طائفتين فحسب؛ لذلك تجسّد ممارسة مركّبة وليس بسيطة لعملية التأليف بين النصوص، فهو يقول تعقيباً على طوائف الأخبار التي أوردها:

( إنّ مقتضى الجمع بين الأخبار المذكورة لزوم الطلاق بتقييد خبر سماعة بسائر الأخبار، ولزوم كون العدّة عدّة وفاة بتقييد أخبار الطلاق بخبر سماعة والمرسل، ولزوم رفع الأمر إلى الحاكم وكون ضرب الأجل بتعيينه، وكون ابتداء الأجل من حين ضربه، بتقييد خبر الحلبي وخبر أبي الصباح بخبر بريد وخبر سماعة ).

إنّ هذه الممارسة التي سمّيناها ( بالحمل المركّب ) مقابل الحمل المفرد أو البسيط الذي يحمل خبراً مطلقاً على خبر مقيّد، أو عامّاً على الخاصّ، أو المجمل على المفصّل؛ يكشف لنا عن براعة السيّد اليزدي في تأليفه الموفّق بين نصوص متضاربة.

هنا يحسن بنا أن نقدّم نموذجاً مفرداً بسيطاً لملاحظة ما قلناه من أنّ الحمل الذي يتوكّأ على إضاءة خبرين متضاربين بخبر ثالث، حيث يمكننا أن نستشهد بالممارسة الآتية، وهي: تأليف السيّد اليزدي بين نصّين متضاربين، يؤيّد أحدهما بأنّ المؤلّف بينهما من خلال الإشارة إلى نصٍّ ثالث وهو مرسلة ابن عمير، التي رسمت الفارق بين المرأة القرشية، وحدّدها بالستين، والعاميّة: وحدّدها بالخمسين.

المهم: أنّ أمثلة هذه التأليفات بين النصوص من خلال إلقاء أحدهما الإنارة على الآخر تقتادنا إلى أمثلة أُخرى، منها: ما يطلق عليه مصطلح ( الحكومة ) و( الورود )، حيث يعني الأوّل منهما أن تكون الرواية ( الحاكمة ) قبالة الأُخرى، محدّدة لموضوعها، والرواية ( الواردة ) رافعة للموضوع. وهذان المصطلحان يندر التوكّؤ عليهما في الممارسات الفقهيّة، حيث يردان على استحياء على ألسنة بعض الفقهاء، ويمكننا بالنسبة

١١٣

إلى ( الحكومة ) ملاحظة ما سبق أن استشهدنا به في ممارسته المرتبطة بالأرض المفتوحة بإذن المعصوم (عليه السلام)، أو عدمه، حيث يعقّب - بعد تخصيصه عموم الآية - باحتمال آخر هو ( حكومة ) الرواية المتحدثة عن إذن الإمام (عليه السلام) وعدمه، بالقول: ( بل يمكن دعوى حكومتها على العمومات الدالّة على كون ما أُخذت عنوة للمسلمين )...

* * *

تبتغي الإشارة سلفاً إلى أنّ التعادل التام يضؤل حصوله بالقياس إلى الأرجحية لخبر - دون مقابله: كالأرجحية - كما هو معروف - بأحد الوجوه المشار إليها.. وإذا كان ثمّة تفاوت لاحظناه بين الفقهاء بالنسبة إلى أرجحيّة أحد المرجّحات، في حالة عدم التعادل، فإنّ نظرات الفقهاء تتفاوت بدورها بالنسبة إلى التعادل بين طرفي المتضاربين، حيث يذهب بعضهم إلى التساقط، والآخر إلى التخيير... إلى آخره.

ويلاحظ أنّ السيّد اليزدي كما ذكر ذلك في كتابه الأُصولي - وكما لاحظناه في نص ممارساته التطبيقية - يجنح إلى ( التخيير )، ولكن بما أنّ التعادل - كما قلنا - يضؤل حصوله بالقياس إلى عدم التعادل، حينئذٍ فإنّ المهم هو: أن نتّجه إلى هذا الجانب من ممارسات السيّد اليزدي.

فماذا نستخلص؟

* * *

كما قلنا: السيّد اليزدي لا يُرجّح مرجّحاً على آخر إلاّ ما يتطلّبه السياق، حيث لا ترتيب بين المرجّحات.. هذا من جانب.. ومن جانبٍ آخر: يجدر بنا ملاحظة أي المرجِّحات يتكاثر على سواه في ممارساته.. حيث يبدو أنّ ( مخالفة العامّة ) و( الأشهرية ) يطغيان على المرجحين الآخرين: الأوثقية، والموافقة، مع تحفظنا على ما استخلصه من ( الأشهرية ) من الفتوى أو الرواية أو كلتيهما...

أمّا سبب ندرة الترجيح بموافقة الكتاب، فلأنّ الكتاب الكريم أساساًَ لا يتضمن جميع الأحكام وتفصيلاتها حتى يركن إليه في كل حادثة وهذا ما يتماثل فيه تناول السيّد اليزدي سواه... ولكن بالنسبة إلى ضئالة الترجيح بالأوثقية، فثمّة تفاوت بين السيّد اليزدي - ويشاركه آخرون كثيرون - بين آخرين من حيث التشدّد في السند وعدمه، ومن

١١٤

حيث الارتكان إلى مرجّح ( الشهرة ) أو عدمه، حيث يعدّ اليزدي من النمط الذي يُعنى بالشهرة في الفتوى غالباً - كما سنلاحظ - ويتوكّأ عليها كثيراً في ممارساته، ولا يُعنى بالأوثقيّة إلاّ في الدرجة الثانية، كما أنّ تعامله مع ( الأكثرية ) - الشهرة في الخبر - يشكّل في الدرجة الأدنى: مع أنّه يستخدمها - أي مرجّح الأوثقية والأكثرية - في سياقات خاصّة، ومنها: ما يتّصل بالاحتياط مثلاً، أو حتى في سياق سواه إذا كان اليزدي مناقشاً بالتفصيل أقوال الآخرين في المسألة، حيث يجعل من الأكثرية والأوثقية مرجّحاً ( مؤيّداً ) وحتى ( أصلياً ) في حالة عدم حصوله على مرجّح الأشهريّة أو المخالفة.

* * *

ما تقدّم، يجسّد ملاحظات على الممارسة الفقهيّة الخاصّة بالتعامل مع الأخبار المتضاربة ظاهرياً، حيث يتّجه الفقيه إلى الجمع الدلالي ما وجد إلى ذلك سبيلاً. أمّا الآن فيمكننا ملاحظة الممارسات الخاصّة بالتعامل مع الأخبار المتضاربة باطنياً أو داخلياً، حيث يتعادل المتضاربان المتضادان في خصائصهما الخبرية، بحيث لا يترجّح طرف على آخر، أو يترجّح أحدهما على الآخر، بخصّيصة أو أكثر، وهذا ما يشكّل - كما أشرنا - غالبية الممارسات الفقهيّة، بخاصّة: أن النصوص الشرعيّة كما هو واضح، رسمت للفقيه طرائق العلاج للخبرين المتضاربين المتضادين، عبر نصوص متنوّعة تتحدث حيناً عن المتكافئين، فترسم له حلولاً للتخيير أو التوقّف.. وترسم حلولاً للراجح منهما من خلال: الأوثقية والأشهرية، ومخالفة العامّة، وموافقة الكتاب؟.. وهذا ما يتوفّر الفقهاء عليه بطبيعة الحال، إلاّ أنّ التفاوت في وجهات النظر من حيث الأرجحية لأحد المرجّحات فيما بينها، فيما ذهب بعضهم إلى ترتيب خاص ورد في النص، وذهب البعض الآخر إلى عدم الترتيب، ومن ثمّ فإنّ الغالبية من الفقهاء تذهب إلى الرأي الثاني، بحيث تُقرّ أنّ الفقيه بحسب ما يراه السياقات المتنوّعة التي يرد فيها الخبران المتضاربان، حيث يتحرك بحسب خبرته الذوقية للنصوص، فربّما يبدأ بترجيح الأوثقية، أو الأشهرية، أو المخالفة، أو الموافقة.. وهذا في تصوّرنا هو الموقف الصائب؛ لسبب واضح وبسيط جداً هو: أنّ الأخبار العلاجية لا تقف عند نصيّ ابن حنظلة وزرارة اللذين ورد فيهما ترتيب خاص، بل ثَمّة نصوص متنوّعة أُخرى، لا تردّ فيها سلسلة المرجّحات المذكورة في الروايتين المذكورتين كالاقتصار مثلاً على

١١٥

مخالفة العامّة، أو غيرها من المرجّحات، ممّا يكشف ذلك من أنّ الأولوية لمرجّح دون آخر، في الحالات جميعاً، لا يمكن أن يكون صائباً..

وبالنسبة إلى السيّد اليزدي، نجده يذهب إلى الاتجاه ذاته من خلال كتابه الأُصولي الكبير ( التعارض ) حيث بحث ذلك نظرياً، من خلال ممارساته الفقهية، كما بحث ذلك تطبيقيّاً وهذه - أي البحوث التطبيقيّة - هو: ما نعتمد عليه الآن في ملاحظاتنا على ممارسة اليزدي، وأمّا كتابه النظري البالغ (600 ) صفحة فلا شغل لنا به لكونه ( نظرية ) وليس ( تطبيقاً ذا ثمرة عملية ).

إذن: لنتحدث عن هذا الجانب، أي: تعامل السيّد اليزدي مع ظاهرة ( التقيّة ) في الغالب مع ضم مرجّح آخر، كما يتعامل على مستوى الاحتمال حيالها، ويتعامل ثالثة مع التردّد حيالها، ويتعامل رابعة: مع رفضٍ لها عند مناقشته الآراء الفقهيّة... وأخيراً: يتعامل مع التقية عبر حالتين، إحداهما غير مشفوعة بالتعليل، بل لمجرّد مخالفة الخبر الذي يرجّحه لفتوى العامّة، والأُخرى يشفعها بقرينة أو بأكثر ويبرع فيها غالباً..

ونستشهد بنماذج في هذا الميدان؛ منها:

- فيما يرتبط بتعامله مع ( التقيّة ) مشفوعة بمرجّح آخر، ينتخبه غالباً من خلال ( الخبر الشاذ ) حيث إنّ إيمانه بالشهرة يدفعه إلى الثقة في رفض مقابله وهو: الشذوذ، وهذا ما نلحظه - مثلاً - في ممارسة تتّصل بعدّة الأمَة، حيث ينقل طائفتين وأقوالاً حيال ذلك، حيث رفض خبراً عمل به ابن الجنيد، ويعقّب على الرواية قائلاً: ( شاذّة، محمولة على التقيّة، فلا وجه للعمل بها كما عند ابن الجنيد... ).

- وأيضاً نلاحظ ممارسة أُخرى يحمل خلالها الرواية على التقيّة، مشفوعة بشذوذها، وهي تتّصل بعدّة المتمتَّع بها، والمتوفَّى عنها زوجها، حيث يرفض خبراً يقول بعدم العدّة في حالة عدم الممارسة، قائلاً: ( فلا عامل به، ومحمول على التقيّة ).

إلاّ أنّ السيّد اليزدي هنا يشفع حمل الرواية على التقيّة بتعليل يُستخلص من رواية أُخرى، وهو أمر يضفي الأهميّة على هذا الحمل، يقول: ( كما يظهر من خبر عبيد، عن زرارة، عن رجل طلّق امرأته قبل أن يدخل بها، أعليها عدّة، قال: لا، قلت: المتوفّى عنها زوجها قبل أن يدخل عليها، قال: أمسك عن هذا، وفي خبر ( كفّ عن هذا ).. حيث إنّ التقيّة من الوضوح فيها بمكان كما قلنا: أمثلة هذا الاستخلاص يكشف عن البراعة

١١٦

في الممارسة الفقهيّة.

وإذا كان السيّد اليزدي في هذه الممارسة الفقهيّة يستخلص ( لغة التقيّة )، فإنّه في ممارسات أُخرى يكتفي - كما أشرنا - بمجرّد المخالفة، ولكنّه حيناً يصرّح بتوجيه ذلك من خلال السياق الذي ترد فيه فتوى العامّة، حيث نعرف بأنّ الأزمنة والأمكنة تتفاوت - من حيث حكّامها وفقهائهم وقضاتهم - فتتكيّف ( التقيّة ) تبعاً للسياق ذاته، فمن ذلك مثلاً: ما يجسّد فتاوى بعض من العامّة بالنسبة إلى عدّة الأمَة المتوفّى عنها زوجها، من حيث تضارب الأخبار حيث يعقّب: و( الأقوى الأوّل لأرجحيّة أخباره بموافقتها لعموم الكتاب ومخالفتها للعامّة؛ لأنّ مذهب جماعة منهم على التفصيل كما ذكر )... فهذا التعقيب الأخير يفصح بوضوح عمّا ذكرناه من أنّ السياقات المختلفة للموضوع تفرض أمثلة هذا الموقف.

ومع أنّ هذه الممارسة ذكرت إلى جانب مرجّح ( المخالفة ): مرجح الموافقة للكتاب، إلاّ أنّنا استهدفنا بمجرّد الاستشهاد بنماذج من ممارسات اليزدي بالنسبة إلى التعامل مع التقيّة وسياقاتها.

وهذا يقتادنا إلى مستوى آخر من الممارسة، هو - ما ألمحنا قبل سطورٍ إليه - ضمّ المرجّحات الأُخرى إلى مرجّح التقيّة، حيث لاحظنا خلال النماذج المتقدّمة، ضمّ الشهرة إليها، وضم الموافقة للكتاب، وسنرى عند حديثنا عن الحصيلة العامّة لممارسات السيّد اليزدي، من حيث توفّره حيناً على المسألة من وجوه شتّى، بحيث يستخدم أدوات الاستدلال الرئيسية والثانوية وكلّ ما وسعه من الأدلّة في ظاهرة واحدة، لكن حسبنا أن نشير الآن إلى ما يرتبط بموضوعنا وهو ( التقيّة ) بضم الأدلّة المتنوّعة للظاهرة التي يستهدف استخلاص الحكم من خلالها، ولكنّنا نؤجّل الحديث عن ذلك إلى فقرة أُخرى من بحثنا... لكن إذا كانت هذه المستويات من الحمل على التقيّد تجسّد مبنى هو: ( الضمّ )، فإنّ المبنى الآخر يجسّد ( احتمالاً ) فيها: أي الحمل على التقيّة، وهو أمر نلحظه بوضوح في ممارسات متنوّعة، ومنها: الممارسة الآتية التي تتضمّن ما لاحظناه في الممارستين السابقتين، من استخلاص التقيّة من خلال الإشارة إلى رواية أو قول يشكّلان قرينةً على ذلك، ففي الممارسة الآتية نلحظ الظاهرة ذاتها، مع مستوى آخر من مستويات الحمل على التقيّة هو: التردّد بين اثنين من المحامل أو

١١٧

أكثر، وهذا من نحو ما ورد في موضوع الربا من مناقشة جاء فيها التعقيب الآتي: ( فتحمل على الكراهة في النسيئة، أو على التقيّة... )، فهنا ( تردّد ) بين حملين، بينما لاحظنا في النصوص السابقة ( جمعاً من المحامل أو ضمّ بعضها إلى الآخر... )

ونتّجه إلى مستوى آخر من الممارسات، ومنها:

ثَمّة مستوى يتعامل مع التقيّة من خلال ( الاحتمال ) وهو مبنىً لاحظناه عند المؤلّف في تعامله مع الجمع الدلالي للنصوص، والمهم: يمكننا أن نستشهد بنموذج هنا، هو: ممارسته المتّصلة بباب الربا في أحد موضوعاته: ( فتناسب حملها على الكراهة، ويمكن حملها على التقيّة؛ لأن المنع مذهب العامّة... ).

إذن: لاحظنا أنّ مستويات التعامل مع ( التقيّة ) تظل متفاوتة من ممارسة أُخرى على النحو الذي تقدّم الحديث عنه.

ويمكننا أن ننتقل إلى مستوى آخر من تعامله مع التقيّة، وهو: أرجحيّة الخبرين كليهما، أحدهما على الأُخرى من خلال ( التقيّة )، مع كون الترجّح الآخر: احتمالياً، وهذا ما نلاحظه في ممارسة سبق أن استشهدنا بها، عندما قلنا أنّه يعللّ في قسم من ترجيحه لمخالفته العامّة، بالإشارة إلى أنّ قسماً من العامّة تتوافق فتاواه مع الخبر؛ فلذلك رفضه من خلال الحمل على التقيّة، ولكنّه من جانب آخر احتمل ( التقيّة ) أيضاً؛ لأنّ البعض الآخر من العامّة تتوافق فتاواه مع الخبر الذي رجّحه المؤلّف، وبهذا نستخلص نمطاً آخر من التعامل، حيث يمكننا أن نقول: إنّ قيمة هذه الممارسة تتحدّد بقدر ما يحمل ( الاحتمال ) من درجة...

لكن ينبغي ألاّ نغفل عن ملاحظة مستوى آخر هو: رفضه للحمل على التقيّة في بعض ممارسات الفقهاء، وهو أمر تجدر الإشارة إليه، بل لابدّ من الاستشهاد ببعض النماذج لملاحظة المسوّغات التي تدفعه إلى الرفض، بخاصّة أنّنا شاهدنا غالبية نماذجه يقرنها بما يتناسب مع الحمل المذكور، كالإشارة إلى أنّ ( المنع ) مذهب بعض العامّة، وأنّ التفصيل في العدّة على مذهب بعضهم، وأنّ الروايات ذاتها تتضمّن دلالة التقيّة... إلى آخره.

إذن: لنستشهد بما اعترض عليه من ممارسات الفقهاء بالنسبة إلى التقيّة... ومن ذلك:

١١٨

ما دام الحديث عن ( مخالفة العامّة ) يتداعى بالذهن إلى ملازمه وهو موافقة الكتاب، فإنّ الموقف يستلزم المرور عليه سريعاً؛ لأنّ الترجيح المذكور ذاته ( كما تمّت الإشارة إليه ) يظل محدوداً بمحدودية آيات الأحكام في القرآن... في نطاقات ما لاحظناه في ممارسات السيّد اليزدي، فإنّ الموافقة للكتاب تجيء لديه غالباً مقترنة بمرجّحٍ آخر: كمخالفة العامّة ذاتها، أو مقترنة بموافقة السنّة، حيث إنّ الأخبار العلاجية - كما هو معروف - تشير إلى المرجّح المذكور من خلال كونه سنّة قطعيّة بالقياس إلى ما يخالفها.

والمهم: يمكننا أن نستشهد بأمثلة هذه النماذج في ضوء استشهادنا ببعضها في فقرات سابقة من هذا البحث، ومنها:

ما يتصل بالخلاف الروائي في عدّة الأمَة المتوفّى زوجها، حيث رجّح المؤلّف العدّة المتمثلة في الأربعة أشهر وعشرة أيام، مقابل الخمسة والستّين يوماً، فيما عقب - كما لاحظنا سابقاً - قائلاً: ( الأقوى: القول الأوّل لأرجحيّة أخباره بموافقة الكتاب... و... ).

والأمر نفسه تمكّننا ملاحظته إلى ما سبقت الإشارة إليه، وهي الممارسة المتّصلة التي جمعت بين ترجيحات متنوّعة ملفتة للنظر حقّاً، ونعني بها: الممارسة التي تحدثت بالنسبة إلى موضوع ( منجّزات المريض ) وصلتها بما هو محظور أو مباح من التصرّفات، حيث رجّح أحد طرفي المسألة بجمّلة مرجّحات، ومنها المرجّح الآتي الذي يطلق عليه ( المرجّح المضموني ) متمثّلاً في موافقة الكتاب، حيث يقول بعد أن يتحدث عن المرجّحات الأُخرى: ( وأمّا من حيث المضمون فلتأيّدها - أي الأخبار التي رجّحها المؤلّف - بالقاعدة القطعية المستفادة من الكتاب و... ).

وإذا كان اليزدي في الممارستين السابقتين يجمع إلى الكتاب مرجّحات أُخرى، فإنّه في الممارسة الآتية يكتفي بمرجّح الكتاب، ولكن مع تحفّظ في الدلالات المستخلصة من النص القرآني الموافق لأحد طرفي الأخبار، يقول المؤلّف معقِّباً على رواية تسمح للزوجين بأن يرجع على الآخر في ( الهبة )، مقابل ما ذهب المؤلّف إليه من عدم جواز ذلك، تبعاً لنصوص تقرّر ذلك، ومنها: رواية صحيحة مقابل الصحيحة المانعة، يقول: ( ولكنّه - أي خبر صحيح - لا يقاوم الصحيحة السابقة ). بعد ذلك يحتمل

١١٩

دلالة خاصّة، ويضيف: ( مع أنّ الصحيحة موافقة للكتاب بناءاً على أنّ المراد بـ( ما آَتَيْتُمُوهُنَّ... ) أعم من الصدقة والهبة... ).

* * *

ولعلّ الترجيح بمصطلح ( الشهرة ) يظل من أكثر الترجيحات خلافاً بين الفقهاء، حيث فهم بعض منهم أنّ المقصود من ذلك: الشهرة الروائية، وفهم البعض الآخر: الشهرة في الفتوى بنمطيها: الفتوى المستندة إلى نص، وغير المستندة، ممّا يطلق عليها: الشهرة العملية في اصطلاح المعنيّين بهذا الشأن.

بَيْدَ أنّ الشهرة في الرواية تظل - هي الأكثر احتمالاً من غيرها، أو لنقل: إنّ الشهرتين الأُخريين: الفتوائية والعملية من الممكن أن تندرج ضمن مصطلح ( الشهرة )، وهو المصطلح الذي ورد في الأخبار العلاجية مثل: ( ما اشتهر )، ( المُجمع عليه )... إلى آخره، حيث إنّ الأمر بالمشهور أو المُجمع عليه بن الأصحاب هو: الراجح على الخبر الآخر...

وسبب الذهاب إلى أنّ الشهرة في الرواية تتصدّر الاحتمال هو: أنّ زمن المعصومين (عليهم السلام) لم يكن زمن ( فقهاء مجتهدين ) - كما هو في عصر الغيبة، بل زمن ( رواة ) عن المعصومين (عليهم السلام)، حيث إنّ الراوي يسمع من المعصوم (عليه السلام) كلاماً، فيسجّله أو ينقله إلى الآخرين، فيكون الكلام المنقول هو المادة التي يتوكّأ عليها المعنيّون بهذا الشأن... وبكلمة أكثر وضوحاً: إنّ ( الفتوى ) عصرئذٍ على ( متن ) الرواية، وليس اجتهاداً بالمعنى الاصطلاحي...

صحيح، أنّ بعض المبادئ أو القواعد الفقهيّة قد نثرها المعصوم (عليه السلام) أمام الراوي، كأن يأمر (عليه السلام) أحدهم بأن يجلس في المسجد ويفتي الناس، أو يخاطب أحدهم بأنّ علينا الأُصول وعليكم الفروع، أو يقرّر لأحدهم قاعدة نفي الحرج وأمثالها، وصحيح أنّ بعض الرواة كتب دراسة عن الأًُصول اللفظية: كما ينقل المؤرِّخون، إلاّ أنّ ذلك جميعاً لا يشكّل مبادئ نظرية كاملة، يعتمد عليه الأصحاب في استخلاص الحكم الشرعي...

وفي ضوء هذه الحقائق، يجيء الحديث عن ( الشهرة ) أو بحسب ما ورد من التعبير ( ما اشتهر ) أو ( المُجمع عليه )، منسحباً على المعنى المذكور، وهو: الفتوى على متن الرواية التي يتناقلها الأصحاب عن المعصوم (عليه السلام).. وليس الفتوى الاجتهادية،

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

المرتشي في الحكم

و من كلام له: أيتها النفوس المختلفة و القلوب المتشتّتة، الشاهدة أبدانهم و الغائبة عنهم عقولهم أظأركم على الحق(١) و أنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد هيهات أن أطلع بكم سرار العدل(٢) أو أقيم اعوجاج الحق.

اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان و لا التماس شي‏ء من فضول الحطام، و لكن لنرد المعالم من دينك و نظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك.

و قد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي البخيل فتكون في أموالهم نهمته، و لا الجاهل فيضلّهم بجهله، و لا الجافي فيقطعهم بجفائه، و لا الحائف للدول(٣) فيتّخذ قوما دون قوم، و لا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق.

____________________

(١) أظأركم: أعطفكم.

(٢) سرار، في الأصل: آخر ليلة من الشهر، و المراد هنا: الظلمة. أي: أن اطلع بكم شارفا يكشف عمّا عرض على العدل من الظلمة.

(٣) الحائف: الجائر الظالم. و الدول، جمع دولة بالضم و هي المال. و قد سمي المال «دولة» لأنه يتداول، أي ينتقل من يد ليد.

١٦١

مع المظلوم

من كلام له: إني أريدكم للّه و أنتم تريدوني لأنفسكم أيها الناس، أعينوني على أنفسكم، و ايم اللّه لأنصفنّ المظلوم من ظالمه، و لأقودنّ الظالم بخزامته(١) حتى أورده منهل الحق و إن كان كارها

المال للنّاس

من كلام رائع كلّم به عبد اللّه بن زمعة، و هو من أنصاره، و ذلك انه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا. فقال: إن هذا المال ليس لي و لا لك و جناة أيديهم(٢) لا تكون لغير أفواههم

____________________

(١) الخزامة: حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير ليشدّ فيها الزمام و يسهل قياده.

(٢) أي: جناة أيدي العامة.

١٦٢

امانة

من كتاب له الى الأشعث بن قيس عامله على اذربيجان: و إنّ عملك ليس لك بطعمة(١) و لكنه في عنقك أمانة.

ليس لك أن تفتات في رعية(٢) ، و في يديك مال من مال اللّه عزّ و جلّ، و أنت من خزّانه حتى تسلّمه إليّ، و لعلّي أن لا أكون شرّ ولاتك(٣) و السلام.

لاضربنّك بسيفي

من كتاب له إلى بعض عمّاله و قد اختطف ما قدر عليه من أموال الأمة و هرب إلى الحجاز: فلمّا أمكنتك الشدّة في خيانة الأمّة أسرعت الكرّة و عاجلت الوثبة و اختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم و أيتامهم اختطاف

____________________

(١) عملك: ما وليت لتعمله في شؤون الأمة. طعمة: المأكلة و المكسب.

(٢) تفتات: تستبد.

(٣) يرجو أن لا يكون شر المتسلطين عليه. و لا يحقّ الرجاء إلا إذا استقام.

١٦٣

الذئب الأزلّ دامية المعزى الكسيرة(١) فحملته إلى الحجاز رحيب الصدر بحمله غير متأثّم من أخذه(٢) .

كيف تسيغ شرابا و طعاما و أنت تعلم أنك تأكل حراما و تشرب حراما؟

فاتّق اللّه و اردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني اللّه منك لأعذرنّ الى اللّه فيك(٣) و لأضربنّك بسيفي الذي ما ضربت به أحدا إلاّ دخل النار و اللّه لو أن الحسن و الحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة(٤) و لا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحقّ منهما و أزيل الباطل عن مظلمتهما

الوالى و الرّشوة

من كتاب له إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، و هو عامله على البصرة، و قد بلغه أنه دعي الى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها: أمّا بعد يا ابن حنيف، فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة

____________________

(١) الأزلّ: السريع الجري. الكسيرة: المكسورة.

(٢) التأثم: التحرّز من الإثم، و هو الذنب.

(٣) اي: لأعاقبنّك عقابا يكون لي عذرا عند اللّه من فعلتك هذه.

(٤) الهوادة: الصلح، أو الاختصاص بالميل.

١٦٤

دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان و تنقل إليك الجفان(١) ، و ما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ(٢) و غنيّهم مدعوّ.

ألا و إنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه(٣) ، و من طعمه بقرصيه ألا و إنكم لا تقدرون على ذلك، و لكن أعينوني بورع و اجتهاد، و عفّة و سداد. فو اللّه ما كنزت من دنياكم تبرا، و لا ادّخرت من غنائمها وفرا، و لا أعددت لبالي ثوبي طمرا، و لا حزت من أرضها شبرا. و لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل و لباب هذا القمح و نسائج هذا القزّ، و لكن هيهات أن يغلبني هواي، و يقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة و لعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص(٤) و لا عهد له بالشّبع أ و أبيت مبطانا و حولي بطون غرثى و أكباد حرّى(٥) ؟ أ و أقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين و لا أشاركهم في مكاره الدهر؟ و كأني بقائلكم يقول: «إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران و منازلة الشجعان؟» أ لا و إنّ الشجرة البرّية أصلب عودا، و الروائع الخضرة أرقّ جلودا، و النباتات البدوية أقوى وقودا و أبطأ خمودا و اللّه لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها

____________________

(١) تستطاب: يطلب لك طيّبها. الألوان: أصناف الطعام. الجفان، جمع جفنة، و هي: القصعة.

(٢) عائلهم: فقيرهم و محتاجهم. مجفو: مطرود من الجفاء.

(٣) الطمر: الثوب الخلق.

(٤) القرص: الرغيف.

(٥) غرثى: جائعة. حرّى: عطشى.

١٦٥

الوالى و الهوى

من كتاب له إلى الأسود بن قطيبة صاحب جند حلوان، و هي إيالة من إيالات فارس: أما بعد، فإنّ الوالي إذا اختلف هواه(١) منعه ذلك كثيرا عن العدل.

فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء، فإنه ليس في الجور عوض من العدل، فاجتنب ما تنكر أمثاله(٢) .

و اعلم أنه لن يغنيك عن الحقّ شي‏ء أبدا، و من الحقّ عليك حفظ نفسك، و الاحتساب على الرعية بجهدك(٣) .

اخفض جناحك

من كتاب له الى بعض عماله: و اخفض للرعية جناحك و ابسط لهم وجهك و ألن لهم جانبك،

____________________

(١) اختلف الهوى: جرى مع أغراض النفس حيث تذهب. و وحدة الهوى: توجّهه الى أمر واحد، و هو إجراء العدالة.

(٢) اي: ما لا تستحسن مثله لو صدر من غيرك.

(٣) الاحتساب على الرعية: مراقبة أعمالها و تقويم ما اعوجّ منها و إصلاح ما فسد.

١٦٦

و آس بينهم في اللحظة و النظرة و الإشارة و التحية(١) ، حتى لا يطمع العظماء في حيفك(٢) و لا ييأس الضعفاء من عدلك

علّم الجاهل

من كتاب له إلى قسم بن العباس، و هو عامله على مكة: علّم الجاهل و ذاكر العالم، و لا يكن لك إلى الناس سفير إلاّ لسانك و لا حاجب إلاّ وجهك. و لا تحجبنّ ذا حاجة عن لقائك بها فإنها إن ذيدت عن أبوابك في أول وردها لم تحمد فيما بعد على قضائها(٣) .

و انظر الى ما اجتمع عندك من مال اللّه فاصرفه إلى من قبلك(٤) من ذوي العيال و المجاعة مصيبا به مواضع الفاقة، و ما فضل عن ذلك فاحمله إليها لنقسمه في من قبلنا.

و مر أهل مكة أن لا يأخذوا من ساكن أجرا...

____________________

(١) آس بينهم: شارك و سوّ بينهم.

(٢) الحيف: الظلم.

(٣) ذيدت: دفعت و منعت. الورد: الورود. يقول: إذا منعت الحاجة أول ورودها لا تحمد على قضائها فيما بعد، لأن حسنة القضاء لا تذكر في جانب سيئة المنع.

(٤) قبلك: عندك.

١٦٧

الوالى الخائن

من كتاب له إلى المنذر بن الجارود العبدي، و قد خان في بعض ما ولاّه من أعماله: و لئن كان ما بلغني عنك حقّا لجمل أهلك و شسع نعلك خير منك(١) . و من كان بصفتك فليس بأهل أن يسدّ به ثغر، أو ينفذ به أمر، أو يعلى له قدر، أو يشرك في أمانة أو يؤمن على خيانة(٢) فأقبل إليّ حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء اللّه.

الاخلاق الكريمة

من كتاب له الى الحارث الهمذاني: و احذر كلّ عمل يعمل به في السرّ و يستحى منه في العلانية. و احذر كل عمل إذا سئل عنه صاحبه أنكره أو اعتذر منه. و لا تحدّث الناس

____________________

(١) الجمل يضرب به المثل في الذلة و الجهل. الشسع: سير بين الإصبع الوسطي و التي تليها في النعل، كأنه زمام

(٢) أي: على دفع خيانة.

ملاحظة: قال الشريف الرضي: و المنذر بن الجارود هذا هو الذي قال فيه أمير المؤمنين عليه السلام: إنه لنظّار في عطفيه، مختال في برديه

١٦٨

بكلّ ما سمعت به فكفى بذلك كذبا. و لا تردّ على الناس كلّ ما حدّثوك به فكفى بذلك جهلا. و تجاوز عند المقدرة و احلم عند الغضب و اصفح مع الدولة(١) .

و إياك و مصاحبة الفسّاق فإن الشرّ بالشرّ ملحق. و احذر الغضب فإنه جند عظيم من جنود ابليس

اهل الجشع و اهل الفقر

من خطبة له في أهل الجشع و أهل الفاقة: و قد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا، و الشرّ فيه إلاّ إقبالا، و الشيطان في هلاك الناس إلاّ طمعا.

إضرب بطرفك حيث شئت من الناس: هل تبصر إلاّ فقيرا يكابد فقرا، أو غنيّا بدّل نعمة اللّه كفرا؟ أين أخياركم و صلحاؤكم، و أحراركم و سمحاؤكم؟ و أين المتورّعون في مكاسبهم؟ و المتنزّهون في مذاهبهم؟ أ ليس قد ظعنوا جميعا عن هذه الدنيا؟ و هل خلقتم إلاّ في حثالة(٢) لا تلتقي بذمّهم الشفتان استصغارا لقدرهم و ذهابا عن ذكرهم. لعن اللّه الآمرين بالمعروف التاركين له، و الناهين عن المنكر العاملين به

____________________

(١) أي عند ما تكون لك السلطة.

(٢) الحثالة: الردي‏ء من كل شي‏ء. و المراد هنا أدنياء الناس و صغار النفوس منهم.

١٦٩

القاضى الجاهل

من كلام له في صفة من يتصدّى للحكم بين الناس و هو ليس أهلا لذلك.

حتى إذا ارتوى من آجن و اكتنز من غير طائل(١) جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره»(٢) . فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشوا رثّا من رأيه، ثم قطع به(٣) ، فهو من لبس الشّبهات في مثل نسج العنكبوت، لا يدري أصاب أم أخطأ، فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ. و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب(٤) .

جاهل خبّاط جهالات(٥) ، يذرو الروايات كما تذرو الريح الهشيم(٦) .

____________________

(١) الماء الآجن: الفاسد المتغير الطعم و اللون. شبّه الإمام مجهولات القاضي التي يظنها معلومات، بالماء الآجن. اكتنز: جمع ما عده كنزا. غير طائل: دون و خسيس.

(٢) التخليص: التبيين. التبس على غيره: اشتبه عليه.

(٣) المبهمات: المشكلات. الحشو: الزائد الذي لا فائدة فيه. الرث: الخلق البالي.

(٤) الجاهل بالشي‏ء: من ليس على بيّنة منه، فإذا أثبته عرضت له الشبهة في نفيه، و إذا نفاه عرضت له الشبهة في إثباته. فهو في ضعف حكمه في مثل نسج العنكبوت ضعفا، و لا بصيرة له في وجوه الخطأ و الإصابة. و قد جاء الإمام في تمثيل حاله بأبلغ ما يكون من التعبير عنه، كما يقول ابن أبي الحديد.

(٥) خبّاط: صيغة مبالغة من خبط الليل، إذا سار فيه على غير هدى. و قد شبه الامام الجهالات بالظلمات التي يخبط فيها السائر.

(٦) الهشيم: ما يبس من النبت و تفتّت. تذرو الريح الهشيم: تطيره فتفرقه و تمزقه.

١٧٠

لا يحسب العلم في شي‏ء مما أنكره، و لا يرى أنّ من وراء ما بلغ مذهبا لغيره، و إن أظلم أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه(١) تصرخ من جور قضائه الدماء و تعجّ منه المواريث(٢) . الى اللّه أشكو من معشر يعيشون جهّالا و يموتون ضلاّلا ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته، و لا سلعة أنفق بيعا و لا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرّف عن مواضعه(٣) ، و لا عندهم أنكر من المعروف و لا أعرف من المنكر.

يحكم برايه

من كلام له في بعض القضاة أيضا: ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه. ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه. ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعا...(٤) و إلهم واحد، و نبيّهم واحد، و كتابهم واحد

____________________

(١) اكتتم به: كتمه و ستره.

(٢) تعجّ: تصرخ. و صراخ الدماء و عج المواريث تمثيل لحدة الظلم و شدة الجور.

(٣) اذا تلي حق تلاوته: إذا أخذ على وجهه و فهم على حقيقته. و الكتاب هو القرآن الكريم.

(٤) استقضاهم: ولاّهم القضاء. يصوّب آراءهم جميعا: يفتي بأن آراءهم جميعا صائبة...

١٧١

و عالمهم منافق

من كلامه في وصف أبناء زمانه: و اعلموا أنكم في زمان القائل فيه بالحق قليل، و اللسان عن الصدق كليل، و اللازم للحق ذليل، أهله معتكفون على العصيان، فتاهم عارم(١) و شائبهم آثم و عالمهم منافق، لا يعظّم صغيرهم كبيرهم و لا يعول غنيّهم فقيرهم

يعملون في الشّبهات

من خطبة له: و ما كلّ ذي قلب بلبيب، و لا كلّ ذي سمع بسميع، و لا كلّ ناظر ببصير، فيا عجبي، و ما لي لا أعجب، من خطإ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها يعملون في الشّبهات و يسيرون في الشهوات.

المعروف عندهم ما عرفوا، و المنكر عندهم ما أنكروا(٢) .

مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، و تعويلهم في المهمّات على آرائهم،

____________________

(١) شرس: سي الخلق.

(٢) أي: يستحسنون ما بدا لهم استحسانه، و يستقبحون ما خطر لهم قبحه بدون رجوع الى دليل بيّن أو شريعة واضحة.

١٧٢

كأنّ كلّ امرى‏ء منهم إمام نفسه قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات و أسباب محكمات(١) .

زجر النّفس

من خطبة له: عباد اللّه، زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، و حاسبوها قبل أن تحاسبوا، و تنفّسوا قبل ضيق الخناق و انقادوا قبل عنف السياق(٢) و اعلموا أنه من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ و زاجر لم يكن له من غيرها زاجر و لا واعظ

ايّاك

من كلام له لابنه الحسن: يا بنيّ، إياك و مصادقة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرّك. و إياك و مصادقة البخيل فإنه يبعد عنك أحوج(٣) ما تكون إليه. و إياك و مصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافه(٤) . و إياك و مصادقة الكذاب فإنه كالسراب: يقرّب عليك البعيد و يبعد عليك القريب

____________________

(١) يثق كل منهم بخواطر نفسه كأنه أخذ منها بالعروة الوثقى، على ما بها من جهل و نقص.

(٢) اي: انقادوا الى ما يطلب منكم بالحثّ الرفيق قبل أن تساقوا اليه بالعيف الشديد.

(٣) أحوج: حال من الكاف في «عنك».

(٤) التافه: القليل.

١٧٣

الرّضا و السّخط

من كلام له: أيها الناس، لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله، فإن الناس اجتمعوا على مائدة شبعها قصير(١) و جوعها طويل أيها الناس، إنما يجمع الناس الرّضا و السخط.

أيها الناس، من سلك الطريق الواضح ورد الماء، و من خالف وقع في التيه.

النّفاق و الظّلم

من خطبة له: ثم إياكم و تهزيع الأخلاق و تصريفها(٢) . و إن لسان المؤمن من وراء قلبه، و إن قلب المنافق من وراء لسانه(٣) ، لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم

____________________

(١) يقصد: الدنيا.

(٢) تهزيع الشي‏ء: تكسيره. و الصادق اذا كذب فقد انكسر صدقه، و الكريم إذا لؤم فقد انثلم كرمه. و تصريف الأخلاق: تقليبها بين حال و حال:

(٣) اي ان لسان المؤمن تابع لاعتقاده لا يقول إلا ما يعتقد. و المنافق يقول ما ينال به غايته الخبيثة، فإذا قال شيئا اليوم ينقضه غدا، فيكون قلبه تابعا للسانه.

١٧٤

بكلام تدبّره في نفسه: فإن كان خيرا أبداه، و إن كان شرا واراه(١) .

و إنّ المنافق يتكلّم بما أتى على لسانه لا يدري ما ذا له و ما ذا عليه و أمّا الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا. و إن جماعة في ما تكرهون من الحق خير من فرقة في ما تحبّون من الباطل(٢) طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، فكان من نفسه في شغل و الناس منه في راحة

العشيرة

من خطبة له: أيها الناس، إنه لا يستغني الرجل، و إن كان ذا مال، عن عشيرته و دفاعهم عنه بأيديهم و ألسنتهم، و هم أعظم الناس حيطة من ورائه و ألمّهم لشعثه(٣) و أعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به.

و من يقبض يده عن عشيرته فإنما تقبض منه عنهم يد واحدة و تقبض منهم عنه أيد كثيرة

____________________

(١) واره: أخفاه.

(٢) أي: من يحافظ على نظام الالفة و الاجتماع، و إن ثقل عليه أداء بعض حقوق الجماعة و شقّ عليه ما تكلّفه به من الحق، فذلك هو الجدير بالسعادة، دون من يسعى للشقاق و هدم نظام الجماعة، و إن نال بذلك حقا باطلا و شهوة وقتية، فقد يكون في حظه الوقتي شقاؤه الأبدي، ذلك لأنه متى كانت الفرقة أصبح كل واحد عرضه لشرور سواه، فولّت الراحة و فسدت حال المعيشة.

(٣) الحيطة: الرعاية. و الشعث: التفرق و الانتشار.

١٧٥

طبائع الإنسان

من كلام له في طبائع الانسان: و له(١) موادّ الحكمة و أضداد من خلافها: فإن سنح له الرجاء أذلّه الطمع. و إن هاج به الطمع أهلكه الحرص. و إن عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ. و إن أسعده الرضا نسي التحفّظ(٢) . و إن ناله الخوف شغله الحذر.

و إن اتّسع له الأمن استلبته الغرّة(٣) و إن أفاد مالا أبطره الغنى(٤) .

و إن أصابته مصيبة فضحه الجزع. و إن عضّته الفاقة شغله البلاء. و إن جهده الجوع قعد به الضعف. و إن إفرط به الشّبع كظّته البطنة(٥) .

فكلّ تقصير به مضرّ، و كلّ إفراط له مفسد

الزّمان و اهله

و من بديع قوله: إذا استولى الصلاح على الزمان و أهله ثم أساء رجل الظنّ برجل لم تظهر

____________________

(١) أي للقلب.

(٢) التحفظ: التوقّي و التحرّز من المضرّات.

(٣) الغرة: الغفلة. سلبته: ذهبت به عن رشده.

(٤) أفاد: استفاد.

(٦) كظته: كربته و آلمته. البطنة: امتلاء البطن حتى يضيق النفس.

١٧٦

منه خزية(١) فقد ظلم و إذا استولى الفساد على الزمان و أهله فأحسن رجل الظنّ برجل فقد غرّر(٢)

كم من صائم

و من كلامه في معنى الصوم و الصلاة: كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع و الظمأ. و كم من قائم(٣) ليس له من قيامه إلاّ السهر و العناء. حبّذا نوم الأكياس و إفطارهم

اصناف النّاس

من خطبة له في سوء طباع الناس بزمانه: أيها الناس، إنّا قد أصبحنا في دهر عنود و زمن كنود(٤) يعدّ فيه المحسن مسيئا، و يزداد الظالم عتوّا، لا ننتفع بما علمنا و لا نسأل عمّا جهلنا و لا نتخوّف قارعة حتى تحلّ بنا(٥) . فالناس على أربعة أصناف:

____________________

(١) الخزية: البلية تصيب الانسان فتذله و تفضحة

(٢) غرّر: أوقع بنفسه في الغرر، أي: الخطر.

(٣) أي: قائم للصلاة.

(٤) العنود: الجائر. الكنود: الكفور.

(٥) القارعة: الخطب.

١٧٧

منهم من لا يمنعهم الفساد إلاّ مهانة نفسه و كلالة حدّه و نضيض وفره(١) .

و منهم المصلت لسيفه و المعلن بشرّه، قد أشرط نفسه و أوبق دينه لحطام ينتهزه أو مقنب يقوده أو منبر يفرعه(٢) . و لبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمنا. و منهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، و لا يطلب الآخرة بعمل الدنيا: قد طامن من شخصه و قارب من خطوه و شمّر من ثوبه و زخرف من نفسه للأمانة، و اتّخذ ستر اللّه ذريعة إلى المعصية.

و منهم من أبعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه و انقطاع سببه، فقصرته الحال على حاله فتحلّى باسم القناعة و تزيّن بلباس أهل الزّهادة و بقي رجال غضّ أبصارهم ذكر المرجع و أراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد نادّ و خائف مقموع و ساكت مكعوم و داع مخلص و ثكلان موجع(٣) . قد أخملتهم التقيّة(٤) و شملتهم الذّلّة.

____________________

(١) أي: لا يقعد بهم عن طلب الإمارة و السلطان إلا حقارة نفوسهم و ضعف سلاحهم و قلة مالهم.

(٢) أصلت السيف: امتشقه. أشرط نفسه: هيأها و أعدّها للشر و الفساد في الأرض.

أوبق دينه: أهلكه. الحطام، هنا: المال. ينتهزه: يغتنمه أو يختلسه. المقنب: طائفة من الخيل، و إنما يطلب قود المقنب تعزّزا على الناس و كبرا. فرع المنبر: علاه.

(٣) نادّ: هارب من الجماعة الى الوحدة. المقموع: المقهور. المكعوم، من كعم البعير، أي: شدّ فاه لئلاّ يأكل أو يعض. الثكلان: الحزين.

(٤) أخمله: أسقط ذكره حتى لم يبق له بين الناس نباهة. التقية: اتّقاء الظلم بإخفاء الحال.

١٧٨

و قد وعظوا حتى ملّوا و قهروا حتى ذلّوا و قتلوا حتى قلّوا. فاتّعظوا بمن كان قبلكم، قبل أن يتّعظ بكم من بعدكم، و ارفضوها ذميمة فإنها رفضت من كان أشغف بها منكم

مع كلّ ريح

و من كلامه في ناس زمانه: همج رعاع أتباع كلّ ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم و لم يلجأوا إلى ركن وثيق.

ربّ صغير غلب كبيرا

من كلام له: إحذر الكلام في مجالس الخوف، فإنّ الخوف يذهل العقل الذي منه تستمدّ، و يشغله بحراسة النفس عن حراسة المذهب الذي تروم نصرته.

و احذر الغضب ممّن يحملك عليه، فإنّه مميت للخواطر مانع من التثبّت.

و احذر المحافل التي لا إنصاف لأهلها في التسوية بينك و بين خصمك في الإقبال و الاستماع، و لا أدب لهم يمنعهم من جور الحكم لك و عليك.

و احذر كلام من لا يفهم عنك فإنه يضجرك. و احذر استصغار الخصم فإنه يمنع من التحفّظ، و ربّ صغير غلب كبيرا

١٧٩

سراجه باللّيل القمر

و من خطبة له تحتوي قولا رائعا في محمد و المسيح: و قد كان في رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كاف لك في الأسوة و دليل على ذمّ الدنيا و عيبها، و كثرة مخازيها و مساويها إذ قبضت عنه أطرافها و وطئت لغيره أكنافها و فطم عن رضاعها و زوي عن زخارفها.

و إن شئت قلت في عيسى ابن مريم عليه السلام فلقد كان يتوسّد الحجر و يلبس الخشن، و كان إدامه الجوع و سراجه بالليل القمر، و ظلاله في الشتاء مشارق الأرض و مغاربها، و فاكهته و ريحانه ما تنبت الأرض للبهائم. و لم تكن له زوجة تفتنه و لا مال يلفته و لا طمع يذلّه، دابّته رجلاه و خادمه يداه.

على منهاج المسيح

قال نوف البكالي: رأيت أمير المؤمنين عليه السلام ذات ليلة و قد خرج من فراشه فنظر في النجوم، فقال لي: يا نوف، أراقد

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237