روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة25%

روائع نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 237

روائع نهج البلاغة
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111378 / تحميل: 6592
الحجم الحجم الحجم
روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

البتول شبيهة أمّي، ويُلحد فيها، طينة أطيب من المِسك؛ لأنّها طينة الفرْخ المستشهَد، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء، فهذه الظباء تكلّمني وتقول إنّها ترعى في هذه الأرض شوقاً إلى تربة الفرْخ المبارك، وزَعمت أنّها آمنة في هذه الأرض، ثمّ ضرب بيده إلى هذه الصيران فشمّها وقال: هذه بعْر الظباء على هذا الطيب لمكان حشيشها، اللّهمّ فأبقِها أبداً حتّى يشمّها أبوه فيكون له عزاء وسلوة...) (١) .

مصاب الحسينعليه‌السلام في حياة أنبياء اللهعليهم‌السلام وأُممهم

١) - ونقل العلاّمة المجلسي (ره) عن كتاب الدرّ الثمين في تفسير قوله تعالى:( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ... ) ، أنّه رأى ساق العرش وأسماء النبيّ والأئمةعليهم‌السلام ، فلقّنه جبرئيل:(قل: يا حميد بحقّ محمّد، يا عالي بحقّ عليّ، يا فاطر بحقّ فاطمة، يا محسن بحقّ الحسن والحسين ومنك الإحسان، فلمّا ذُكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه، وقال:يا أخي جبرئيل، في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عَبرتي؟

قال جبرئيل:ولدك هذا يُصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب.

فقال:يا أخي، وما هي؟

قال:يُقتل عطشاناً غريباً وحيداً فريداً، ليس له ناصرٌ ولا معين، ولو تراه يا آدم وهو يقول: واعطشاه! واقلّة ناصراه! حتى يحُول العطش بينه وبين السماء كالدخان، فلم يُجِبه أحدٌ إلاّ بالسيوف وشرب الحتوف! فيُذبح ذبح الشاة من قَفاه! ويَنهب رَحلَه أعداؤه! وتُشهر رؤوسهم هو وأنصاره في البلدان ومعهم النسوان، كذلك سبق في علم الواحد

____________________

(١) أمالي الصدوق: ٤٧٨ - ٤٨٠ المجلس ٨٧ رقم ٥، وكمال الدين: ٢: ٥٣٢ - ٥٣٥، باب ٤٨، رقم١.

(٢) البقرة: ٣٧.

٤١

المنّان)، فبكى آدم وجبرئيل بكاء الثكلى)(١) .

٢) - روى الشيخ الصدوق (ره) بسند عن الفضل بن شاذان قال: سمعت الرضاعليه‌السلام يقول:(لمّا أمر الله تبارك وتعالى إبراهيم عليه‌السلام أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبْش الذي أنزله عليه، تمنّى إبراهيم أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل عليه‌السلام بيده، وأنّه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه؛ ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعزّ وِلده بيده، فيستحقّ بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب!

فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، مَن أحبّ خلقي إليك؟

فقال: يا ربّ، ما خلقتَ خلقاً هو أحبّ إليَّ من حبيبك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، أفهو أحبّ إليك أو نفسك؟

قال: بل هو أحبُّ إليَّ من نفسي.

قال: فولدهُ أحبّ إليك أو ولدك؟

قال: بل ولده.

قال: فَذبحُ ولده ظلماً على أيدي أعدائه أوجع لقلبك، أو ذبح وَلدكَ بيدك في طاعتي؟

قال: يا ربّ، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي.

قال: يا إبراهيم، فإنّ طائفة تزعم أنّها من أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستقتل الحسينعليه‌السلام ابنه من بعده ظلماً وعدواناً كما يُذبح الكبش، فيستوجبون بذلك سخطي.

فجزع إبراهيمعليه‌السلام لذلك وتوجّع قلبه، وأقبلَ يبكي!

فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، قد فديتُ جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسينعليه‌السلام وقتله، وأوجبتُ لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب!

____________________

(١) البحار: ٤٤، باب ٣٠، حديث رقم ٤٤.

٤٢

فذلك قول الله عزّ وجلّ: ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) ، ولا حول ولا قوّة لاّ بالله العليّ العظيم) (١) .

٣) - ونقل الشيخ قطب الدين الراوندي عن تاريخ محمّد النجّار، شيخ المحدّثين بالمدرسة المستنصرية بإسناد مرفوع إلى أنس بن مالك، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال:(لمّا أراد الله أن يهلك قوم نوح أوحى إليه أن شُقَّ ألواح الساج، فلمّا شقّها لم يدرِ ما يصنع بها، فهبط جبرئيل فأراه هيئة السفينة ومعه تابوت بها مئة ألف مسمار وتسعة وعشرون ألف مسمار، فسمّر بالمسامير كلّها السفينة إلى أن بقيت خمسة مسامير، فضرب بيده إلى مسمار فأشرق بيده وأضاء كما يُضيء الكوكب في أُفق السماء فتحيّر نوح، فأنطقَ الله المسمار بلسان طلِق ذلِق: أنا على اسم خير الأنبياء محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فهبط جبرئيل، فقال له: يا جبرئيل، ما هذا المسمار الذي ما رأيت مثله؟

فقال: هذا باسم سيّد الأنبياء محمّد بن عبد الله، أَسْمِرْهُ على جانب السفينة الأيمن.

ثمّ ضرب بيده على مسمار ثانٍ فأشرقَ وأنار!

فقال نوح: وما هذا المسمار؟

فقال: هذا مسمار أخيه وابن عمّه سيّد الأوصياء عليّ بن أبي طالب، فأسْمِرْهُ على جانب السفينة الأيسر في أوّلها.

ثمّ ضرب بيده إلى مسمار ثالث فزهر وأشرقَ وأنار!

____________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ١: ٢٠٩، باب ١٧ حديث رقم ١ / وعنه البحار: ٤٤: ٢٢٥، باب ٣٠، حديث رقم ٦ (وعن أمالي الصدوق أيضاً)، وقال العلاّمة المجلسي (ره) في ذيل هذا الخبر: (وأقول: ليس في الخبر أنّه فدى إسماعيل بالحسين، بل فيه أنّه فدى جزع إبراهيم على إسماعيل بجزعه على الحسينعليه‌السلام ، وظاهرٌ أنّ الفداء على هذا ليس على معناه، بل المراد التعويض، ولما كان أسفهُ على ما فات منه من ثواب الجزع على ابنه، عوّضه الله بما هو أجلّ وأشرف وأكثر ثواباً، وهو الجزع على الحسينعليه‌السلام ).

٤٣

فقال جبرئيل: هذا مسمار فاطمة فأسمِره إلى جانب مسمار أبيها.

ثمّ ضرب بيده إلى مسمار رابع فزهر وأنار!

فقال جبرئيل: هذا مسمار الحسن فأسمِره إلى جانب مسمار أبيه، ثمّ ضرب إلى مسمار خامس فزهر وأنار وأظهر النداوة!

فقال جبرئيل: هذا مسمار الحسين فأسمِره إلى جانب مسمار أبيه.

فقال نوح: يا جبرئيل، ما هذه النداوة؟

فقال: هذا الدم.

فذكر قصّة الحسين عليه‌السلام وما تعمل الأمّة به، فلعن الله قاتله وظالمه وخاذله) (١) .

٤) - وروى الشيخ الصدوق (ره) بإسنادٍ إلى الإمام الرضاعليه‌السلام قال:(قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنَّ موسى بن عمران سأل ربّه عزّ وجلّ فقال: يا ربّ، إنّ أخي هارون مات فاغفر له، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى، لو سألتني في الأوّلين والآخرين لأجبتك ما خلا قاتل الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فإنّي أنتقم له من قاتله) (٢) .

٥) - وروى الشيخ الصدوق (ره) في علل الشرائع بسندٍ إلى الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال:(إنّ إسماعيل الذي قال الله عزّ وجلّ في كتابه: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً ) ،لم يكن إسماعيل بن إبراهيم، بل كان نبيّاً من الأنبياء بعثه الله عزّ وجلّ إلى قومه، فأخذوه فسلخوا فروة رأسه ووجهه، فأتاه مَلَك فقال:

____________________

(١) البحار: ٤٤: ٢٣٠، باب ٣٠، حديث رقم ١٢ عن الخرايج والجرايح، ولم نجده في الخرايج والجرايح المطبوع.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ٢: ٤٧، باب ٣١، حديث رقم ١٧٩ / والظاهر أنّ المراد بقاتل الحسينعليه‌السلام أعمّ وأوسع ممّن باشر قتله بذبحه، إذ يدخل في هذا العنوان الممهدِّون لقتله والآمرون بذلك، والذين اشتركوا في مواجهته وحصره وقتاله، ومَن أعان على ذلك، الراضون بذلك إلى قيام يوم الدين، هذا ما تؤكّده نصوص كثيرة متضافرة مأثورة عن أهل البيتعليهم‌السلام .

٤٤

إنّ الله جلّ جلاله بعثني إليك فمُري بما شئت، فقال: لي أُسوة بما يُصنع بالحسين عليه‌السلام ) (١) .

ورواه الشيخ الصدوق (ره) أيضاً بتفاوت وبسند آخر إلى الإمام الصادقعليه‌السلام (٢) .

وروى ابن قولويه (ره) بسندٍ عن بُرير بن معاوية العجليِّ قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : يا بن رسول الله، أخبِرني عن إسماعيل الذي ذكره الله في كتابه حيث يقول:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً ) ، أكان إسماعيل بن إبراهيمعليهما‌السلام ؟ فإنَّ الناس يزعمون أنّه إسماعيل بن إبراهيم!

فقالعليه‌السلام :إنّ إسماعيل مات قبل إبراهيم، وإنَّ إبراهيم كان حجّة لله قائماً، صاحب شريعة، فإلى مَن أُرسل إسماعيل إذاً؟

قلت: فمَن كان جُعلتُ فداك؟

قالعليه‌السلام :ذاك إسماعيل بن حزقيل النبيّ، بعثه الله إلى قومه فكذّبوه وقتلوه وسلخوا وجهه، فغضب الله له عليهم، فوجّه إليه سطاطائيل مَلك العذاب، فقال له: يا إسماعيل، أنا سطاطائيل مَلَك العذاب، وجّهني إليك ربّ العزّ؛ لأُعذّب قومك بأنواع العذاب إن شئتَ، فقال له إسماعيل: لا حاجة لي في ذلك، فأوحى الله إليه: فما حاجتك يا إسماعيل؟ فقال: يا ربّ إنّك أخذتَ الميثاق لنفسك بالربوبيّة، ولمحمّد بالنبوّة، ولأوصيائه بالولاية، وأخبرتَ خير خلقك بما تفعل أمّته بالحسين بن علي عليهما‌السلام من بعد نبيّها، وإنّك وعدتَ الحسين عليه‌السلام أنْ تُكِرَّهُ إلى الدنيا حتّى ينتقم بنفسه ممّن فعل ذلك به، فحاجتي إليك يا ربّ أن تكِرَّني إلى الدنيا

____________________

(١) علل الشرائع: ٧٧، باب ٦٧، حديث رقم ٢، ورواه ابن قولويه (ره) مسنداً في كامل الزيارات: ٦٢ - ٦٣، باب ١٩، حديث رقم ١.

(٢) علل الشرائع: ٧٨، باب ٦٧، حديث رقم ٣. ورواه ابن قولويه (ره) مسنداً في كامل الزيارات: ٦٣، باب ١٩، حديث رقم ٢.

٤٥

حتى أنتقم ممّن فعل ذلك بي، كما تُكِرُّ الحسين عليه‌السلام ، فوعدَ الله إسماعيل بن حزقيل ذلك فهو يُكَرّ مع الحسين عليه‌السلام ) (١) .

٦) - وروى الشيخ الصدوق في أماليه بسندّ إلى سالم بن أبي جعدة قال: سمعت كعب الأحبار يقول: إنّ في كتابنا أنّ رجلاً من وِلْد محمّد رسول الله يُقتل، ولا يجفّ عرَق دوابّ أصحابه، حتّى يدخلوا الجنّة فيعانقوا الحور العِين.

فمرَّ بنا الحسنعليه‌السلام ، فقلنا: هو هذا؟

قال:(لا.

فمرَّ بنا الحسينعليه‌السلام فقلنا: هو هذا؟

قال:نعم) (٢) .

٧) - وروى الشيخ الصدوق (ره) أيضاً بسندٍ إلى يحيى بن يمان، عن إمامٍ لبني سليم، عن أشياخ لهم قالوا: غزونا بلاد الروم فدخلنا كنيسة من كنائسهم فوجدنا فيها مكتوباً:

أيرجو معشرٌ قتلوا حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

قالوا: فسألنا: منذ كم هذا في كنيستكم؟

فقالوا: قبل أن يُبعث نبيّكم بثلاثمئة عام)(٣) .

وقال الشيخ ابن نما (ره): (وحدّث عبد الرحمان بن مسلم، عن أبيه أنّه قال: غزونا بلاد الروم فأتينا كنيسة من كنائسهم قريبة من قسطنطينية وعليها شيء

____________________

(١) كامل الزيارات: ٦٣ - ٦٤، باب ١٩، حديث رقم ٣.

(٢) أمالي الصدوق: ١٢١ المجلس ٢٩، حديث رقم ٤.

(٣) أمالي الصدوق: ١١٣، المجلس ٢٧، حديث رقم ٦.

٤٦

مكتوب، فسألنا أُناساً من أهل الشام يقرأون بالرومية، فإذا هو مكتوب هذا البيت [ الشعر ].

وذكر أبو عمرو الزاهد في كتاب الياقوت قال: قال عبد الله بن الصفّار صاحب أبي حمزة الصوفي: غزونا غزاة وسبَينا سبياً، وكان فيهم شيخ من عقلاء النصارى، فأكرمناه وأحسنّا إليه، فقال لنا: أخبَرَني أبي عن آبائه، أنّهم حضروا في بلاد الروم حضراً قبل أن يُبعث النبيّ العربي بثلاثمئة سنة، فأصابوا حجراً عليه مكتوب بالمسند هذا البيت من الشعر:

أترجو عُصبة قَتَلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

والمسند كلام أولاد شيث)(١) .

الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ومصاب الحسينعليه‌السلام

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما ذكر ما يجري على الإمام الحسينعليه‌السلام من المصائب الفادحة، حزن واغتمّ وبكى وأبكى مَن حوله، منذ أن بشّرته الملائكة

____________________

(١) مثير الأحزان: ٩٦ - ٩٧ / وقال الشيخ ابن نما (ره) أيضاً: فروى النطنزي، عن جماعة، عن سليمان بن مهران الأعمش قال: بينما أنا في الطواف أيّام الموسم إذا رجل يقول: اللّهم اغفر لي وأنا أعلم أنّك لا تغفر، فسألته عن السبب فقال: كنت أحد الأربعين الذين حملوا رأس الحسين إلى يزيد على طريق الشام، فنزلنا أوّل مرحلة رَحَلنا من كربلا على دير للنصارى، والرأس مركوز على رمح، فوضعنا الطعام ونحن نأكل إذا بكفّ على حائط الدير يكتب عليه بقلم حديد سطراً بدم:

أترجو أمّة قَتلت حسيناً

شفاعة جدّه يوم الحساب

فجزعنا جزعاً شديداً وأهوى بعضنا إلى الكفّ فغاب، فعاد أصحابي.

٤٧

بالحسينعليه‌السلام ، ثمّ منذ اليوم الأوّل من حياة الإمام الحسينعليه‌السلام إلى آخر أيّامهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمأثور المرويّ في هذا الصدد كثير متنوّع، انتقينا منه نماذج على سبيل المثال تبرّكاً، هي:

١) - روى ابن قولويه (ره) بسندٍ عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّه قال:(أتى جبرئيل رسول الله فقال له: السلام عليك يا محمّد، ألا أُبشرّك بغلام تقتله أمّتك من بعدك؟

فقال: لا حاجة لي فيه.

قال: فانتهض إلى السماء، ثمّ عاد إليه الثانية فقال له مثل ذلك.

فقال: لا حاجة لي فيه.

فانعرج إلى السماء، ثمّ انقضّ إليه الثالثة فقال له مثل ذلك.

فقال: لا حاجة لي فيه.

فقال: إنّ ربّك جاعل الوصيّة في عَقِبه.

فقال: نعم.

ثمّ قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فدخل على فاطمة، فقال لها: إنّ جبرئيل أتاني فبشّرني بغلام تقتله أمّتي من بعدي!

فقالت: لا حاجة لي فيه.

فقال لها: إنّ ربّي جاعل الوصيّة في عقِبه.

فقالت: نعم، إذاً.

قال:فأنزل الله تعالى عند ذلك هذه الآية: ( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ) لموضع إعلام جبرئيل إيّاها بقتله ( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً ) بأنّه مقتول، و ( وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ) ؛ لأنّه مقتول) (١) .

____________________

(١) كامل الزيارات: ٥٤، باب ١٦، حديث رقم ٣ / وانظر: حديث رقم ٤.

٤٨

٢) - وروى ابن قولويه (ره) أيضاً بسندٍ عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال:(لمّا حَملت فاطمة بالحسين عليه‌السلام جاء جبرئيل إلى رسول الله فقال: إنّ فاطمة ستلد ولداً تقتله أمّتك من بعدك، فلمّا حملت فاطمة الحسين كرهت حمْله، وحين وضعتهُ كرهَت وضْعه).

ثمّ قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :(هل رأيتم في الدنيا أُمّاً تلد غُلاماً فتكرهه؟! ولكنّها كرهته؛ لأنّها عَلمت أنّه سيُقتل).

قال:وفيه نزلت هذه الآية: ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (١) )(٢) .

٣) - قال الشيخ ابن نما (ره): (وقد روي عن زوجة العبّاس بن عبد المطّلب وهي أمُّ الفضل (لبابة بنت الحارث)، قالت: رأيت في النوم قبل مولده كأنّ قطعة من لحم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قُطعت ووضعت في حِجري، فقصصت الرؤيا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال:(إن صَدَقت رؤياكِ فإنّ فاطمة ستلد غلاماً وأدفعه إليك لترضعيه (٣) .

فجرى الأمر على ذلك، فجئت به يوماً فوضعته في حِجره فبال، فقطرت منه قطرة على ثوبهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقرصتهُ فبكى.

فقال كالمغضَب:مهلاً يا أمّ الفضل، فهذا ثوبي يُغسل، وقد أوجعتِ ابني! قالت: فتركتهُ ومضيت لآتيه بماء، فجئت فوجدتهصلى‌الله‌عليه‌وآله يبكي، فقلت: ممّن بكاؤك يا رسول الله؟ فقال:إنّ جبرئيل أتاني فأخبرني أنّ أمّتي تقتل ولدي هذا!) (٤) .

____________________

(١) سورة الأحقاف: ١٥.

(٢) كامل الزيارات: ٥٤، باب ١٦، حديث رقم ٢.

(٣) روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله:(ولم يرضع الحسين من فاطمة ولا من أُنثى، لكنّه كان يؤتى به النبيّ فيضع إبهامه في فيه فيمصُّ منها ما يكفيه اليومين والثلاثة، فنبتَ لحم الحسين عليه‌السلام من لحم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ودمه من دمه..) (راجع: كامل الزيارات: ٥٥، باب ١٦، حديث رقم ٤).

(٤) مثير الأحزان: ١٦ - ١٧.

٤٩

٤) - وأخرج الشيخ الطوسي (ره) بسند عن الإمام عليّ بن الحسينعليهما‌السلام قال:(حدّثتني أسماء بنت عميس الخثعمية قالت: قبّلتُ جدّتك فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحسن والحسين عليهما‌السلام ، قالت: فلمّا ولدت الحسن عليه‌السلام جاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا أسماء، هاتي ابني، قالت: فدَفعته إليه في خِرقة صفراء، فرمى بها وقال: ألم أعهد إليكنّ ألاّ تلفّوا المولود في خرقة صفراء؟!

ودعا بخرقة بيضاء فلفّه فيها، ثمّ أذّن في أُذنه اليمنى، وأقام في أُذنه اليسرى، وقال لعليّعليه‌السلام : بمَ سمّيتَ ابنك هذا؟ قال: ما كنت لأسبقك باسمه يا رسول الله، قال: وأنا ما كنت لأسبق ربّي عزّ وجلّ.

قال:فهبط جبرئيل فقال: إنّ الله عزّ وجلّ يقرأ عليك السلام ويقول لك: يا محمّد، عليٌّ منك بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدك، فسمِّ ابنك باسم ابن هارون، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا جبرئيل، وما اسم ابن هارون؟ قال جبرئيل: شُبّر، قال: وما شُبّر؟ قال: الحسن، قالت أسماء: فسمّاه الحسن.

قالت أسماء: فلمّا ولدت فاطمة الحسينعليهما‌السلام نفّستُها به، فجاءني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: هلمّي ابني يا أسماء، فدفعته إليه في خرقة بيضاء، ففعل به كما فعل بالحسنعليه‌السلام ، قالت: وبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال: إنّه سيكون لك حديث! اللّهمّ العن قاتله، لا تُعلمي فاطمة بذلك.

قالت: فلمّا كان يوم سابعه جاءني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: هلمّي ابني.

فأتيتهُ به، ففعل به كما فعل بالحسن عليه‌السلام ، وعقّ عنه كما عقّ عن الحسن كبشاً أملح، وأعطى القابلة رِجلاً، وحلقَ رأسه، وتصدّق بوزن الشَعر وَرِقاً (١) ،وخلّق رأسه بالخَلُوق (٢) ،

____________________

(١) الوَرِق: الفضّة.

(٢) الخَلُوق: ضرب من الطيّب، أعظم أجزائه الزعفران.

٥٠

وقال: إنّ الدّم من فعل الجاهليّة، قالت: ثمّ وضعه في حِجره، ثمّ قال: يا أبا عبد الله، عزيزٌ عليَّ، ثمّ بكى، فقلت: بأبي أنت وأمّي، فعلتَ في هذا اليوم وفي اليوم الأوّل، فما هو؟ فقال: أبكي على ابني هذا، تقتله فئة باغية كافرة من بني أميّة، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة، يقتله رجل يثلم الدين ويكفر بالله العظيم، ثمّ قال: اللّهمّ إنّي أسألك فيهما ما سألك إبراهيم في ذريّته، اللّهمّ أَحبّهما، وأحبَّ مَن يُحبّهما، والعن مَن يبغضهما مِلء السماء والأرض) (١) .

٥) - وروى فرات الكوفي (ره) عن جعفر بن محمّد الفزاري معنعناً، عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال:(كان الحسين مع أُمّه تحمله، فأخذه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: لعن الله قاتلك، ولعن الله سالبك، وأهلك الله المتوازرين عليك، وحكم الله بيني وبين مَن أعان عليك.

قالت فاطمة الزهراء: يا أبتِ، أيّ شيء تقول؟

قال: يا بنتاه، ذكرت ما يصيبه بعدي وبعدك من الأذى والظلم والغدر والبغي، وهو يومئذٍ في عصبة كأنّهم نجوم السماء يتهادون إلى القتل، وكأنّي أنظر إلى معسكرهم، وإلى موضع رِحالهم وتُربتهم.

قالت: يا أبه، وأين هذا الموضع الذي تصف؟

قال: موضع يقال له كربلاء، وهي دار كرب وبلاء علينا وعلى الأمّة (الأئمة) يخرج عليهم شرار أمّتي، لو أنّ أحدهم شفع له مَن في السماوات والأرضين ما شفّعوا فيه، وهم المخلّدون في النار.

قالت: يا أبه، فيُقتلُ؟!

قال: نعم يا بنتاه، وما قُتل قتْلته أحدّ كان قبله، ويبكيه السماوات والأرضون، والملائكة، والوحش، والنباتات، والبحار، والجبال، ولو يؤذن لها ما بقي على الأرض

____________________

(١) أمالي الطوسي: ٣٦٧ - ٣٦٨، المجلس ١٣، حديث ٧٨١ / ٣٢.

٥١

متنفّس، ويأتيه قوم من محبّينا ليس في الأرض أعلم بالله ولا أقوَم بحقّنا منهم، وليس على ظهر الأرض أحد يلتفت إليه غيرهم، أولئك مصابيح في ظلمات الجَور، وهم الشفعاء، وهم واردون حوضي غداً، أعرفهم إذا وردوا عليَّ بسيماهم، وكلُّ أهل دين يطلبون أئمّتهم، وهم يطلبوننا لا يطلبون غيرنا، وهم قوّام الأرض، وبهم ينزل الغيث.

فقالت فاطمة الزهراءعليها‌السلام : يا أبة، إنّا لله، وبكت.

فقال لها: يا بنتاه، إنّ أفضل أهل الجنان هم الشهداء في الدنيا؛ بذلوا أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقّاً، فما عند الله خير من الدنيا وما فيها، قَتلة أهون من مِيتة، ومَن كُتب عليه القتل خرج إلى مضجعه، ومَن لم يُقتل فسوف يموت.

يا فاطمة بنت محمّد، أمَا تحبّين أن تأمرين غداً بأمر فتُطاعين في هذا الخلق عند الحساب؟ أما ترضين أن يكون ابنك من حَمَلة العرش؟ أما ترضين أن يكون أبوك يأتونه يسألونه الشفاعة؟

أمَا ترضين أن يكون بعلُك يذود الخلق يوم العطش عن الحوض، فيسقي منه أولياءه ويذود عنه أعداءه؟ أما ترضين أن يكون بعلُك قسيم النار، يأمر النار فتطيعه، يُخرج منها مَن يشاء ويترك مَن يشاء.

أمَا ترضين أن تنظرين إلى الملائكة على أرجاء السماء ينظرون إليكِ وإلى ما تأمرين به، وينظرون إلى بعْلُكِ قد حضر الخلائق وهو يخاصمهم عند الله، فما ترين الله صانع بقاتل ولدك وقاتليك وقاتل بعْلُك إذا أفلجت حجّته على الخلائق وأُمرت النار أن تطيعه؟

أمَا ترضين أن يكون الملائكة تبكي لابنك، ويأسف عليه كلّ شيء؟ أما ترضين أن يكون مَن أتاه زائراً في ضمان الله، ويكون مَن أتاه: بمنزلة مَن حجّ إلى بيت الله واعتمر، ولم يخلُ من الرحمة طرفة عين، وإذا مات مات شهيداً، وإنْ بقي لم تزَل الحَفَظة تدعوا له ما بقي،

٥٢

ولم يزل في حفظ الله وأمنه حتى يفارق الدنيا ؟

قالت: يا أبه، سلّمتُ، ورضيتُ، وتوكّلت على الله.

فمسحَ على قلبها ومسح عينيها، وقال: إنّي وبعلُكِ وأنتِ وابنَيك في مكان تقرّ عيناك ويفرح قلبك) (١) .

٦) - وروى الشيخ ابن نما (ره) قائلاً: (وعن عبد الله بن يحيى قال: دخلنا مع عليّعليه‌السلام إلى صِفّين، فلمّا حاذى نينوى نادى:(صبراً أبا عبد الله ، فقال:دخلتُ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعيناه تفيضان!

فقلت: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، ما لعينيك تفيضان؟ أغضَبكَ أحد؟

قال: لا، بل كان عندي جبرئيل فأخبرني أنّ الحسين يُقتل بشاطئ الفرات، فقال: هل لك أن أُشمّك من تُرتبه؟ قلت: نعم، فمدَّ يده فأخذ قبضة من تراب وأعطانيها، فلم أملك عينيَّ أن فاضتا، واسم الأرض كربلاء.

فلمّا أتت عليه سنتان خرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى سفر، فوقف في بعض الطريق واسترجع ودمعت عيناه، فسُئل عن ذلك.

فقال: هذا جبرئيل يخبرني عن أرضٍ بشطّ الفرات يُقال لها كربلاء يُقتل فيها وَلدي الحسين.

فقيل: ومَن يقتله؟

قال:رجل يقال له يزيد، كأنّي أنظر إليه وإلى مصرعه ومدفنه بها، وكأنّي أنظر على أقتاب المطايا وقد أُهدي رأس ولدي الحسين إلى يزيد لعنه الله، فو الله ما ينظر أحد إلى رأس الحسين ويفرح إلاّ خالف الله بين قلبه ولسانه، وعذّبه الله عذاباً أليماً) .

____________________

(١) تفسير فرات الكوفي: ٥٥ - ٥٦، وعنه البحار: ٤٤: ٢٦٤ - ٢٦٥، رقم ٢٢ / وانظر: كامل الزيارات: ٦٧ - ٦٨، باب ٢٢، رقم ٢.

٥٣

ثمّ رجع النبيّ من سفره مغموماً مهموماً كئيباً حزيناً، فصعد المنبر وأصعد معه الحسن والحسين، وخطبَ ووعظ الناس، فلمّا فرغ من خطبته وضع يده اليمنى على رأس الحسن ويده اليسرى على رأس الحسين، ورفع رأسه إلى السماء وقال:

اللّهمّ إنّ محمّداً عبدك ورسولك ونبيّك، وهذان أطائب عترتي وخيار ذرّيتي وأُرومتي، ومَن أُخلِّفهما في أمّتي، وقد أخبرني جبرئيل أنّ ولَدي هذا مقتول بالسمّ، والآخر شهيد مضرّج بالدم، اللّهمّ فبارك له في قتله، واجعله من سادات الشهداء، اللّهمّ ولا تبارك في قاتله وخاذله، واصلِهِ حرَّ نارك واحشره في أسفل درك الجحيم.

قال: فضجّ الناس بالبكاء والعويل.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : أتبكون ولا تنصرونه؟! اللّهمّ فكن أنت له وليّاً وناصراً.

ثمّ قال: يا قوم، إنّي مخلّف فيكم الثِقلَين: كتاب الله، وعترتي وأُرومتي ومزاج مائي، وثمرة فؤادي، ومهجتي، لن يفترقا حتّى يرِدا عليَّ الحوض، ألا وإنّي لا أسألكم في ذلك إلاّ ما أمرني ربّي أن أسألكم عنه، أسألكم عن المودّة في القُربى، واحذروا أن تلقوني غداً على الحوض وقد آذيتم عترتي وقتلتُم أهل بيتي وظلمتموهم.

ألا إنّه سيرد عليَّ يوم القيامة ثلاث رايات من هذه الأمّة:

الأولى: راية سوداء مظلمة قد فزعت منها الملائكة، فتقف عليَّ فأقول لهم: مَن أنتم؟ فينسون ذكري، ويقولون: نحن أهل التوحيد من العرب، فأقول لهم: أنا أحمد نبيّ العرب والعجم، فيقولون: نحن من أمّتك، فأقول: كيف خلفتموني من بعدي في أهل بيتي وعترتي وكتاب ربّي؟ فيقولون: أمّا الكتاب فضيّعناه، وأمّا العترة فحرصنا أن نبيدهم عن جديد الأرض، فلمّا أسمع ذلك منهم أعرض عنهم وجهي، فيصدرون عطاشاً مسوّدة وجوههم.

ثمّ ترد عليَّ راية أخرى أشدّ سواداً من الأولى، فأقول لهم: كيف خلفتموني من بعدي في الثقلين: كتاب الله، وعترتي؟

٥٤

فيقولون: أمّا الأكبر فخالفناه، وأمّا الأصغر فمزّقناهم كل ممزّق! فأقول: إليكم عنّي، فيصدرون عطاشاً مسوّدة وجوههم.

ثمّ ترد عليَّ راية تلمع وجوههم نوراً فأقول لهم: مَن أنتم؟ فيقولون: نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى من أمّة محمّد المصطفى، ونحن بقيّة أهل الحق، حملنا كتاب ربّنا، وحلّلنا حلاله، وحرّمنا حرامه، وأحببنا ذريّة نبيّنا محمّد، ونصرناهم من كلّ ما نصرنا به أنفسنا، وقاتلنا معهم مَن ناواهم، فأقول لهم: أبشروا، فأنا نبيّكم محمّد، ولقد كنتم في الدنيا كما قلتم، ثمّ أسقيهم من حوضي فيصدرون مرويّين مستبشرين، ثمّ يدخلون الجنّة خالدين فيها أبد الآبدين) (١) .

٧) - روى الشيخ الصدوق (ره) بسند عن ابن عباس قال: (إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسنعليه‌السلام ، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال:(إلى أين يا بُنيّ؟ فما زال يُدنيه حتّى أجلسه على فخذه اليمنى.

ثمّ أقبل الحسينعليه‌السلام ، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال:إلى أين يا بُنيّ؟ فما زال يُدنيه حتى أجلسه على فخذه اليسرى.

ثمَّ أقبلت فاطمةعليها‌السلام ، فلمّا رآها بكى، ثمّ قال:إليَّ إليَّ يا بُنيّة، فأجلسها بين يديه، ثمّ أقبل أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، فلمّا رآه بكى، ثمّ قال:إليَّ يا أخي، فما زال يُدنيه حتّى أجلسه إلى جنبه الأيمن.

فقال له أصحابه: يا رسول الله، ما ترى واحداً من هؤلاء إلاّ بكيت! أَوَ ما فيهم مَن تُسَرُّ برؤيته؟!

____________________

(١) راجع: مثير الأحزان: ١٨ - ٢٠، وبحار الأنوار: ٤٤: ٢٤٧ - ٢٤٩، وروى بعضه ابن أبي شيبة في مصنّفه: ١٥: ٩٨ رقم ١٩٢١٤، وأحمد في مسنده: ١: ٨٥.

٥٥

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :والذي بعثني بالنبوّة واصطفاني على جميع البريّة، إنّي وإيّاهم لأكرم الخلق على الله عزّ وجلّ، وما على وجه الأرض نسمة أحبّ إليَّ منهم، وأمّا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ... وأمّا الحسين فإنّه منّي، وهو ابني وولدي وخير الخلق بعد أخيه، وهو إمام المسلمين، ومولى المؤمنين، وخليفة ربّ العالمين، وغياث المستغيثين، وكهف المستجيرين، وحجّة الله على خلقه أجمعين، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، وباب نجاة الأمّة، أمْرهُ أمري، وطاعته طاعتي، مَن تبعه فإنّه منّي، ومَن عصاه فليس منّي، وإنّي لمّا رأيته تذكّرت ما يُصنع به بعدي، كأنّي به وقد استجار بحَرَمي وقُربي فلا يُجار! فأضمّه في منامه إلى صدري، وآمرهُ بالرحلة عن دار هجرتي، وأبشّره بالشهادة فيرتحل عنها إلى أرض مقتله وموضع مصرعه أرض كرب وبلاء، وقتْلٍ وفَناء، تنصره عصابة من المسلمين، أولئك من سادة شهداء أمّتي يوم القيامة، كأنّي أنظر إليه وقد رُمي بسهمٍ فخرّ عن فرَسه صريعاً، ثمّ يُذبح كما يُذبح الكبش مظلوماً.

ثمّ بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبكى مَن حوله، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، ثمّ قامصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقول:اللّهمّ إنّي أشكو إليك ما يلقى أهل بيتي بعدي)، ثمّ دخل منزله) (١) .

٨) - (وروي عن عبد الله بن عبّاس (رض) أنّه قال: لما اشتدّ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مرضه الذي مات فيه، وقد ضمَّ الحسينعليه‌السلام إلى صدره، يسيل من عرَقه عليه، وهو يجود بنفسه ويقول:(ما لي وليزيد؟! لا بارك الله فيه، اللّهمَّ العن يزيد) .

ثمّ غشي عليه طويلاً، وأفاق وجعل يُقبّل الحسين وعيناه تذرفان، ويقول:(أمَا إنّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدي الله عزّ وجلّ) (٢) .

____________________

(١) أمالي الشيخ الصدوق: ٩٩ - ١٠١، المجلس ٢٤، رقم ٢.

(٢) مثير الأحزان: ٢٢.

٥٦

أمير المؤمنين عليٌّعليه‌السلام ومصاب الحسينعليه‌السلام

وكما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعيش مأتماً متواصلاً، ويكابد حزناً شديداً وجزعاً عظيماً ويبكي بكاءً مُرّاً، ويُبكي مَن حوله؛ لمَا سوف يُصيب الإمام الحسينعليه‌السلام من عظيم البلاء، كذلك كان أمير المؤمنينعليه‌السلام . وإنَّ المأثور عنهعليه‌السلام في ذلك لَكثير، لكنّنا لا يسعنا هنا أيضاً إلاّ أن ننتقي منه نماذج على سبيل المثال تبرّكاً:

١) - روى الشيخ الصدوق (ره) بسند عن الأصبغ بن نباتة (ره) قال: (خرج علينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ذات يوم ويده في يد ابنه الحسنعليه‌السلام وهو يقول:(خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم ويدي في يده هكذا وهو يقول: خير الخلق بعدي وسيّدهم أخي هذا، وهو إمام كلّ مسلم، ومولى كلّ مؤمن بعد وفاتي.

ألا وإنّي أقول: خير الخلق بعدي، وسيّدهم ابني هذا، وهو إمام كلّ مؤمن، ومولى كلّ مؤمن بعد وفاتي، ألا وإنّه سيُظلَم بعدي كما ظُلمتُ بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخير الخلق وسيّدهم بعد الحسن ابني أخوه الحسين المظلوم بعد أخيه، المقتول في أرض كربلاء، أمَا إنّه وأصحابه من سادة الشهداء يوم القيامة...) (١) .

٢) - وأخرج الشيخ الصدوق (ره) أيضاً في أماليه بسند عن جبلة المكيّة قالت: سمعت ميثم التمّار يقول: (والله، لتَقتِلنّ هذه الأمّة ابن نبيّها في المحرّم لعشرٍ مضَين منه، وليتّخذنّ أعداء الله ذلك اليوم يوم بركة، وإنّ ذلك لكائن قد سبق في علم الله تعالى ذكره، أعلم ذلك بعهد عَهدهُ إليَّ مولاي أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ولقد أخبرني أنّه:(يبكي عليه كلّ شيء حتى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار، والطير في جوّ السماء، وتبكي عليه الشمس، والقمر، والنجوم، والسماء، والأرض،

____________________

(١) كمال الدين وتمام النعمة: ١: ٢٥٩، باب ٢٤، رقم ٥، وعنه الراوندي في قصص الأنبياء: ٣٦٦ - ٣٦٧، رقم ٤٣٩، والطبرسي في إعلام الورى: ٣٧٧ - ٣٧٨.

٥٧

ومؤمنو الإنس والجنّ، وجميع ملائكة السماوات ورضوان ومالك، وحَملة العرش، وتمطر السماء دماً ورماداً، ثمّ قال:وجَبَت لعنة الله على قَتلة الحسين عليه‌السلام كما وجبَت على المشركين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر، وكما وجبَت على اليهود والنصارى والمجوس) .

قالت جبلة: فقلت: يا ميثم، وكيف يتّخذ الناس ذلك اليوم الذي يُقتل فيه الحسين بن عليّعليهما‌السلام يوم بركة؟!.

فبكى ميثم، ثمّ قال: سيزعمون بحديث يضعونه أنّه اليوم الذي تاب الله فيه على آدمعليه‌السلام ، وإنّما تاب الله على آدمعليه‌السلام في ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الذي قبِل الله فيه توبة داود، وإنّما قبِل الله توبته في ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الذي أخرج الله فيه يونس من بطن الحوت، وإنّما أخرجه الله من بطن الحوت في ذي القعدة، ويزعمون أنّه اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح على الجوديّ، وإنّما استوت على الجوديّ يوم الثامن عشر من ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الذي فلق الله فيه البحر لبني إسرائيل، وإنّما كان ذلك في شهر ربيع الأوّل.

ثمّ قال ميثم: يا جبلة، اعلَمي أنّ الحسين بن عليّ سيّد الشهداء يوم القيامة، ولأصحابه على سائر الشهداء درجة، يا جبلة إذا نظرتِ إلى الشمس حمراء كأنّها دم عبيط فاعلَمي أنّ سيّدك الحسين قد قُتل.

قالت جبلة: فخرجتُ ذات يوم فرأيت الشمس على الحيطان كأنّها الملاحف المعصفرة! فصحتُ حينئذٍ وبكيتُ، وقلت: قد والله قُتل سيّدنا الحسين بن عليّعليه‌السلام )(١) .

٣) - وأخرج الشيخ الصدوق (ره) أيضاً في أماليه بسندٍ عن ابن عبّاس قال:

____________________

(١) أمالي الصدوق: ١١٠ - ١١١، المجلس ٢٧، رقم ١، وعلل الشرايع: ١: ٢٢٧ - ٢٢٨.

٥٨

(كنت مع أمير المؤمنينعليه‌السلام في خروجه (في خرجته) إلى صِفّين، فلمّا نزل بنينوى وهو شطّ الفرات قال بأعلى صوته:(يا بن عبّاس، أتعرف هذا الموضع؟ قلت له: ما أعرفه يا أمير المؤمنين، فقالعليه‌السلام :لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتّى تبكي كبكائي، قال: فبكى طويلاً حتّى اخضلّت لحيَته وسالت الدموع على صدره، وبكينا معاً، وهو يقول:أوه أوه! ما لي ولآل أبي سفيان؟! ما لي ولآل حرب حزب الشيطان وأولياء الكفر؟! صبراً يا أبا عبد الله، فقد لقيَ أبوك مثل الذي تلقى منهم!

ثمّ دعا بماءٍ فتوضّأ وضوءه للصلاة، فصلّى ما شاء الله أن يصلّي، ثمّ ذكر نحو كلامه الأوّل، إلاّ أنّه نعس عند انقضاء صلاته وكلامه ساعة، ثمّ انتبه، فقال:يا بن عبّاس، فقلت: ها أنا ذا؟

فقال:ألا أُحدّثك بما رأيت في منامي آنفاً عند رَقدَتي؟

فقلت: نامت عيناك ورأيتَ خيراً يا أمير المؤمنين.

قال:رأيت كأنّي برجال قد نزلوا من السماء، معهم أعلام بيض، قد تقلّدوا سيوفهم وهي بيض تلمع، وقد خطّوا حول هذه الأرض خطّة، ثمّ رأيت كأنّ هذه النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض تضطرب بدمٍ عبيط، وكأنّي بالحسين سُخَيلي وفرْخي ومُضغتي ومخّي قد غرق فيه يستغيث فلا يُغاث، وكأنّ الرجال البيض قد نزلوا من السماء ينادونه ويقولون: صبراً آلَ الرسول! فإنّكم تُقتلون على أيدي شرار الناس، وهذه الجنّة يا أبا عبد الله إليك مشتاقة! ثمّ يعزّونني ويقولون: يا أبا الحسن، أبشِر فقد أقرّ الله به عينك يوم القيامة يوم يقوم النّاس لربّ العالمين، ثمّ انتبهتُ!

وهكذا والذي نفس عليٍّ بيده، لقد حدّثني الصادق المصدّق أبو القاسمصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّي سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا، وهذه أرض كرب وبلاء، يُدفن فيها الحسين وسبعة عشر رجلاً من وِلدي ووِلد فاطمة، وإنّها لفي السماوات معروفة تُذكر أرض كرب وبلاء، كما تُذكر بقعة الحرَمَين، وبقعة بيت المقدس.

٥٩

ثمّ قال:يا بن عبّاس، اُطلب لي حولها بعْر الظباء، فو الله ما كذبتُ ولا كُذّبت، وهي مصفرّة لونها لون الزعفران!

قال ابن عباس: فطلبتها فوجدتها مجتمعة، فناديته: يا أمير المؤمنين، قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي.

فقال عليّعليه‌السلام :صدق الله ورسوله، ثمّ قامعليه‌السلام يهرول إليها، فحملها وشمّها، وقال:هي هي بعينها! أتعلُم يا بن عبّاس ما هذا الأبعار؟

هذه قد شمّها عيسى بن مريمعليه‌السلام ، وذلك أنّه مرّ بها ومعه الحواريّون فرأى هاهنا الظباء مجتمعة وهي تبكي، فجلس عيسىعليه‌السلام وجلس الحواريّون معه فبكى وبكى الحواريّون، وهم لا يدرون لِمَ جلس ولِمَ بكى!

فقالوا: يا روح الله وكلمته، ما يبكيك؟!

قال: أتعلمون أيّ أرض هذه؟

قالوا: لا.

قال: هذه أرض يُقتل فيها فرْخ الرسول أحمد، وفرخ الحرّة الطاهرة البتول شبيهة أمّي، ويُلحد فيها، طينة أطيب من المسك؛ لأنّها طينة الفرْخ المستشهد، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء، فهذه الظباء تكلّمني وتقول: إنّها ترعى في هذه الأرض شوقاً إلى تُربة الفرخ المبارك.

وزعمت أنّها آمنة في هذه الأرض، ثمّ ضرب بيده إلى هذه الصيران فشمّها وقال: هذه بعر الظباء على هذا الطيب؛ لمكان حشيشها، اللّهمَّ فأبقها أبداً حتّى يشمّها أبوه فيكون له عزاء وسلوة.

قال:فبقيَت إلى يوم الناس هذا، وقد اصفرّت لطول زمنها، وهذه أرض كرب وبلاء، ثمّ قال بأعلى صوته:يا ربّ عيسى بن مريم، لا تُبارك في قَتَلَتِه، والمُعين عليه، والخاذل له.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

المرتشي في الحكم

و من كلام له: أيتها النفوس المختلفة و القلوب المتشتّتة، الشاهدة أبدانهم و الغائبة عنهم عقولهم أظأركم على الحق(١) و أنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد هيهات أن أطلع بكم سرار العدل(٢) أو أقيم اعوجاج الحق.

اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان و لا التماس شي‏ء من فضول الحطام، و لكن لنرد المعالم من دينك و نظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك.

و قد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي البخيل فتكون في أموالهم نهمته، و لا الجاهل فيضلّهم بجهله، و لا الجافي فيقطعهم بجفائه، و لا الحائف للدول(٣) فيتّخذ قوما دون قوم، و لا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق.

____________________

(١) أظأركم: أعطفكم.

(٢) سرار، في الأصل: آخر ليلة من الشهر، و المراد هنا: الظلمة. أي: أن اطلع بكم شارفا يكشف عمّا عرض على العدل من الظلمة.

(٣) الحائف: الجائر الظالم. و الدول، جمع دولة بالضم و هي المال. و قد سمي المال «دولة» لأنه يتداول، أي ينتقل من يد ليد.

١٦١

مع المظلوم

من كلام له: إني أريدكم للّه و أنتم تريدوني لأنفسكم أيها الناس، أعينوني على أنفسكم، و ايم اللّه لأنصفنّ المظلوم من ظالمه، و لأقودنّ الظالم بخزامته(١) حتى أورده منهل الحق و إن كان كارها

المال للنّاس

من كلام رائع كلّم به عبد اللّه بن زمعة، و هو من أنصاره، و ذلك انه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا. فقال: إن هذا المال ليس لي و لا لك و جناة أيديهم(٢) لا تكون لغير أفواههم

____________________

(١) الخزامة: حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير ليشدّ فيها الزمام و يسهل قياده.

(٢) أي: جناة أيدي العامة.

١٦٢

امانة

من كتاب له الى الأشعث بن قيس عامله على اذربيجان: و إنّ عملك ليس لك بطعمة(١) و لكنه في عنقك أمانة.

ليس لك أن تفتات في رعية(٢) ، و في يديك مال من مال اللّه عزّ و جلّ، و أنت من خزّانه حتى تسلّمه إليّ، و لعلّي أن لا أكون شرّ ولاتك(٣) و السلام.

لاضربنّك بسيفي

من كتاب له إلى بعض عمّاله و قد اختطف ما قدر عليه من أموال الأمة و هرب إلى الحجاز: فلمّا أمكنتك الشدّة في خيانة الأمّة أسرعت الكرّة و عاجلت الوثبة و اختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم و أيتامهم اختطاف

____________________

(١) عملك: ما وليت لتعمله في شؤون الأمة. طعمة: المأكلة و المكسب.

(٢) تفتات: تستبد.

(٣) يرجو أن لا يكون شر المتسلطين عليه. و لا يحقّ الرجاء إلا إذا استقام.

١٦٣

الذئب الأزلّ دامية المعزى الكسيرة(١) فحملته إلى الحجاز رحيب الصدر بحمله غير متأثّم من أخذه(٢) .

كيف تسيغ شرابا و طعاما و أنت تعلم أنك تأكل حراما و تشرب حراما؟

فاتّق اللّه و اردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني اللّه منك لأعذرنّ الى اللّه فيك(٣) و لأضربنّك بسيفي الذي ما ضربت به أحدا إلاّ دخل النار و اللّه لو أن الحسن و الحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة(٤) و لا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحقّ منهما و أزيل الباطل عن مظلمتهما

الوالى و الرّشوة

من كتاب له إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، و هو عامله على البصرة، و قد بلغه أنه دعي الى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها: أمّا بعد يا ابن حنيف، فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة

____________________

(١) الأزلّ: السريع الجري. الكسيرة: المكسورة.

(٢) التأثم: التحرّز من الإثم، و هو الذنب.

(٣) اي: لأعاقبنّك عقابا يكون لي عذرا عند اللّه من فعلتك هذه.

(٤) الهوادة: الصلح، أو الاختصاص بالميل.

١٦٤

دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان و تنقل إليك الجفان(١) ، و ما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ(٢) و غنيّهم مدعوّ.

ألا و إنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه(٣) ، و من طعمه بقرصيه ألا و إنكم لا تقدرون على ذلك، و لكن أعينوني بورع و اجتهاد، و عفّة و سداد. فو اللّه ما كنزت من دنياكم تبرا، و لا ادّخرت من غنائمها وفرا، و لا أعددت لبالي ثوبي طمرا، و لا حزت من أرضها شبرا. و لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل و لباب هذا القمح و نسائج هذا القزّ، و لكن هيهات أن يغلبني هواي، و يقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة و لعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص(٤) و لا عهد له بالشّبع أ و أبيت مبطانا و حولي بطون غرثى و أكباد حرّى(٥) ؟ أ و أقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين و لا أشاركهم في مكاره الدهر؟ و كأني بقائلكم يقول: «إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران و منازلة الشجعان؟» أ لا و إنّ الشجرة البرّية أصلب عودا، و الروائع الخضرة أرقّ جلودا، و النباتات البدوية أقوى وقودا و أبطأ خمودا و اللّه لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها

____________________

(١) تستطاب: يطلب لك طيّبها. الألوان: أصناف الطعام. الجفان، جمع جفنة، و هي: القصعة.

(٢) عائلهم: فقيرهم و محتاجهم. مجفو: مطرود من الجفاء.

(٣) الطمر: الثوب الخلق.

(٤) القرص: الرغيف.

(٥) غرثى: جائعة. حرّى: عطشى.

١٦٥

الوالى و الهوى

من كتاب له إلى الأسود بن قطيبة صاحب جند حلوان، و هي إيالة من إيالات فارس: أما بعد، فإنّ الوالي إذا اختلف هواه(١) منعه ذلك كثيرا عن العدل.

فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء، فإنه ليس في الجور عوض من العدل، فاجتنب ما تنكر أمثاله(٢) .

و اعلم أنه لن يغنيك عن الحقّ شي‏ء أبدا، و من الحقّ عليك حفظ نفسك، و الاحتساب على الرعية بجهدك(٣) .

اخفض جناحك

من كتاب له الى بعض عماله: و اخفض للرعية جناحك و ابسط لهم وجهك و ألن لهم جانبك،

____________________

(١) اختلف الهوى: جرى مع أغراض النفس حيث تذهب. و وحدة الهوى: توجّهه الى أمر واحد، و هو إجراء العدالة.

(٢) اي: ما لا تستحسن مثله لو صدر من غيرك.

(٣) الاحتساب على الرعية: مراقبة أعمالها و تقويم ما اعوجّ منها و إصلاح ما فسد.

١٦٦

و آس بينهم في اللحظة و النظرة و الإشارة و التحية(١) ، حتى لا يطمع العظماء في حيفك(٢) و لا ييأس الضعفاء من عدلك

علّم الجاهل

من كتاب له إلى قسم بن العباس، و هو عامله على مكة: علّم الجاهل و ذاكر العالم، و لا يكن لك إلى الناس سفير إلاّ لسانك و لا حاجب إلاّ وجهك. و لا تحجبنّ ذا حاجة عن لقائك بها فإنها إن ذيدت عن أبوابك في أول وردها لم تحمد فيما بعد على قضائها(٣) .

و انظر الى ما اجتمع عندك من مال اللّه فاصرفه إلى من قبلك(٤) من ذوي العيال و المجاعة مصيبا به مواضع الفاقة، و ما فضل عن ذلك فاحمله إليها لنقسمه في من قبلنا.

و مر أهل مكة أن لا يأخذوا من ساكن أجرا...

____________________

(١) آس بينهم: شارك و سوّ بينهم.

(٢) الحيف: الظلم.

(٣) ذيدت: دفعت و منعت. الورد: الورود. يقول: إذا منعت الحاجة أول ورودها لا تحمد على قضائها فيما بعد، لأن حسنة القضاء لا تذكر في جانب سيئة المنع.

(٤) قبلك: عندك.

١٦٧

الوالى الخائن

من كتاب له إلى المنذر بن الجارود العبدي، و قد خان في بعض ما ولاّه من أعماله: و لئن كان ما بلغني عنك حقّا لجمل أهلك و شسع نعلك خير منك(١) . و من كان بصفتك فليس بأهل أن يسدّ به ثغر، أو ينفذ به أمر، أو يعلى له قدر، أو يشرك في أمانة أو يؤمن على خيانة(٢) فأقبل إليّ حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء اللّه.

الاخلاق الكريمة

من كتاب له الى الحارث الهمذاني: و احذر كلّ عمل يعمل به في السرّ و يستحى منه في العلانية. و احذر كل عمل إذا سئل عنه صاحبه أنكره أو اعتذر منه. و لا تحدّث الناس

____________________

(١) الجمل يضرب به المثل في الذلة و الجهل. الشسع: سير بين الإصبع الوسطي و التي تليها في النعل، كأنه زمام

(٢) أي: على دفع خيانة.

ملاحظة: قال الشريف الرضي: و المنذر بن الجارود هذا هو الذي قال فيه أمير المؤمنين عليه السلام: إنه لنظّار في عطفيه، مختال في برديه

١٦٨

بكلّ ما سمعت به فكفى بذلك كذبا. و لا تردّ على الناس كلّ ما حدّثوك به فكفى بذلك جهلا. و تجاوز عند المقدرة و احلم عند الغضب و اصفح مع الدولة(١) .

و إياك و مصاحبة الفسّاق فإن الشرّ بالشرّ ملحق. و احذر الغضب فإنه جند عظيم من جنود ابليس

اهل الجشع و اهل الفقر

من خطبة له في أهل الجشع و أهل الفاقة: و قد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا، و الشرّ فيه إلاّ إقبالا، و الشيطان في هلاك الناس إلاّ طمعا.

إضرب بطرفك حيث شئت من الناس: هل تبصر إلاّ فقيرا يكابد فقرا، أو غنيّا بدّل نعمة اللّه كفرا؟ أين أخياركم و صلحاؤكم، و أحراركم و سمحاؤكم؟ و أين المتورّعون في مكاسبهم؟ و المتنزّهون في مذاهبهم؟ أ ليس قد ظعنوا جميعا عن هذه الدنيا؟ و هل خلقتم إلاّ في حثالة(٢) لا تلتقي بذمّهم الشفتان استصغارا لقدرهم و ذهابا عن ذكرهم. لعن اللّه الآمرين بالمعروف التاركين له، و الناهين عن المنكر العاملين به

____________________

(١) أي عند ما تكون لك السلطة.

(٢) الحثالة: الردي‏ء من كل شي‏ء. و المراد هنا أدنياء الناس و صغار النفوس منهم.

١٦٩

القاضى الجاهل

من كلام له في صفة من يتصدّى للحكم بين الناس و هو ليس أهلا لذلك.

حتى إذا ارتوى من آجن و اكتنز من غير طائل(١) جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره»(٢) . فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشوا رثّا من رأيه، ثم قطع به(٣) ، فهو من لبس الشّبهات في مثل نسج العنكبوت، لا يدري أصاب أم أخطأ، فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ. و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب(٤) .

جاهل خبّاط جهالات(٥) ، يذرو الروايات كما تذرو الريح الهشيم(٦) .

____________________

(١) الماء الآجن: الفاسد المتغير الطعم و اللون. شبّه الإمام مجهولات القاضي التي يظنها معلومات، بالماء الآجن. اكتنز: جمع ما عده كنزا. غير طائل: دون و خسيس.

(٢) التخليص: التبيين. التبس على غيره: اشتبه عليه.

(٣) المبهمات: المشكلات. الحشو: الزائد الذي لا فائدة فيه. الرث: الخلق البالي.

(٤) الجاهل بالشي‏ء: من ليس على بيّنة منه، فإذا أثبته عرضت له الشبهة في نفيه، و إذا نفاه عرضت له الشبهة في إثباته. فهو في ضعف حكمه في مثل نسج العنكبوت ضعفا، و لا بصيرة له في وجوه الخطأ و الإصابة. و قد جاء الإمام في تمثيل حاله بأبلغ ما يكون من التعبير عنه، كما يقول ابن أبي الحديد.

(٥) خبّاط: صيغة مبالغة من خبط الليل، إذا سار فيه على غير هدى. و قد شبه الامام الجهالات بالظلمات التي يخبط فيها السائر.

(٦) الهشيم: ما يبس من النبت و تفتّت. تذرو الريح الهشيم: تطيره فتفرقه و تمزقه.

١٧٠

لا يحسب العلم في شي‏ء مما أنكره، و لا يرى أنّ من وراء ما بلغ مذهبا لغيره، و إن أظلم أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه(١) تصرخ من جور قضائه الدماء و تعجّ منه المواريث(٢) . الى اللّه أشكو من معشر يعيشون جهّالا و يموتون ضلاّلا ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته، و لا سلعة أنفق بيعا و لا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرّف عن مواضعه(٣) ، و لا عندهم أنكر من المعروف و لا أعرف من المنكر.

يحكم برايه

من كلام له في بعض القضاة أيضا: ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه. ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه. ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعا...(٤) و إلهم واحد، و نبيّهم واحد، و كتابهم واحد

____________________

(١) اكتتم به: كتمه و ستره.

(٢) تعجّ: تصرخ. و صراخ الدماء و عج المواريث تمثيل لحدة الظلم و شدة الجور.

(٣) اذا تلي حق تلاوته: إذا أخذ على وجهه و فهم على حقيقته. و الكتاب هو القرآن الكريم.

(٤) استقضاهم: ولاّهم القضاء. يصوّب آراءهم جميعا: يفتي بأن آراءهم جميعا صائبة...

١٧١

و عالمهم منافق

من كلامه في وصف أبناء زمانه: و اعلموا أنكم في زمان القائل فيه بالحق قليل، و اللسان عن الصدق كليل، و اللازم للحق ذليل، أهله معتكفون على العصيان، فتاهم عارم(١) و شائبهم آثم و عالمهم منافق، لا يعظّم صغيرهم كبيرهم و لا يعول غنيّهم فقيرهم

يعملون في الشّبهات

من خطبة له: و ما كلّ ذي قلب بلبيب، و لا كلّ ذي سمع بسميع، و لا كلّ ناظر ببصير، فيا عجبي، و ما لي لا أعجب، من خطإ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها يعملون في الشّبهات و يسيرون في الشهوات.

المعروف عندهم ما عرفوا، و المنكر عندهم ما أنكروا(٢) .

مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، و تعويلهم في المهمّات على آرائهم،

____________________

(١) شرس: سي الخلق.

(٢) أي: يستحسنون ما بدا لهم استحسانه، و يستقبحون ما خطر لهم قبحه بدون رجوع الى دليل بيّن أو شريعة واضحة.

١٧٢

كأنّ كلّ امرى‏ء منهم إمام نفسه قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات و أسباب محكمات(١) .

زجر النّفس

من خطبة له: عباد اللّه، زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، و حاسبوها قبل أن تحاسبوا، و تنفّسوا قبل ضيق الخناق و انقادوا قبل عنف السياق(٢) و اعلموا أنه من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ و زاجر لم يكن له من غيرها زاجر و لا واعظ

ايّاك

من كلام له لابنه الحسن: يا بنيّ، إياك و مصادقة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرّك. و إياك و مصادقة البخيل فإنه يبعد عنك أحوج(٣) ما تكون إليه. و إياك و مصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافه(٤) . و إياك و مصادقة الكذاب فإنه كالسراب: يقرّب عليك البعيد و يبعد عليك القريب

____________________

(١) يثق كل منهم بخواطر نفسه كأنه أخذ منها بالعروة الوثقى، على ما بها من جهل و نقص.

(٢) اي: انقادوا الى ما يطلب منكم بالحثّ الرفيق قبل أن تساقوا اليه بالعيف الشديد.

(٣) أحوج: حال من الكاف في «عنك».

(٤) التافه: القليل.

١٧٣

الرّضا و السّخط

من كلام له: أيها الناس، لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله، فإن الناس اجتمعوا على مائدة شبعها قصير(١) و جوعها طويل أيها الناس، إنما يجمع الناس الرّضا و السخط.

أيها الناس، من سلك الطريق الواضح ورد الماء، و من خالف وقع في التيه.

النّفاق و الظّلم

من خطبة له: ثم إياكم و تهزيع الأخلاق و تصريفها(٢) . و إن لسان المؤمن من وراء قلبه، و إن قلب المنافق من وراء لسانه(٣) ، لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم

____________________

(١) يقصد: الدنيا.

(٢) تهزيع الشي‏ء: تكسيره. و الصادق اذا كذب فقد انكسر صدقه، و الكريم إذا لؤم فقد انثلم كرمه. و تصريف الأخلاق: تقليبها بين حال و حال:

(٣) اي ان لسان المؤمن تابع لاعتقاده لا يقول إلا ما يعتقد. و المنافق يقول ما ينال به غايته الخبيثة، فإذا قال شيئا اليوم ينقضه غدا، فيكون قلبه تابعا للسانه.

١٧٤

بكلام تدبّره في نفسه: فإن كان خيرا أبداه، و إن كان شرا واراه(١) .

و إنّ المنافق يتكلّم بما أتى على لسانه لا يدري ما ذا له و ما ذا عليه و أمّا الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا. و إن جماعة في ما تكرهون من الحق خير من فرقة في ما تحبّون من الباطل(٢) طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، فكان من نفسه في شغل و الناس منه في راحة

العشيرة

من خطبة له: أيها الناس، إنه لا يستغني الرجل، و إن كان ذا مال، عن عشيرته و دفاعهم عنه بأيديهم و ألسنتهم، و هم أعظم الناس حيطة من ورائه و ألمّهم لشعثه(٣) و أعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به.

و من يقبض يده عن عشيرته فإنما تقبض منه عنهم يد واحدة و تقبض منهم عنه أيد كثيرة

____________________

(١) واره: أخفاه.

(٢) أي: من يحافظ على نظام الالفة و الاجتماع، و إن ثقل عليه أداء بعض حقوق الجماعة و شقّ عليه ما تكلّفه به من الحق، فذلك هو الجدير بالسعادة، دون من يسعى للشقاق و هدم نظام الجماعة، و إن نال بذلك حقا باطلا و شهوة وقتية، فقد يكون في حظه الوقتي شقاؤه الأبدي، ذلك لأنه متى كانت الفرقة أصبح كل واحد عرضه لشرور سواه، فولّت الراحة و فسدت حال المعيشة.

(٣) الحيطة: الرعاية. و الشعث: التفرق و الانتشار.

١٧٥

طبائع الإنسان

من كلام له في طبائع الانسان: و له(١) موادّ الحكمة و أضداد من خلافها: فإن سنح له الرجاء أذلّه الطمع. و إن هاج به الطمع أهلكه الحرص. و إن عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ. و إن أسعده الرضا نسي التحفّظ(٢) . و إن ناله الخوف شغله الحذر.

و إن اتّسع له الأمن استلبته الغرّة(٣) و إن أفاد مالا أبطره الغنى(٤) .

و إن أصابته مصيبة فضحه الجزع. و إن عضّته الفاقة شغله البلاء. و إن جهده الجوع قعد به الضعف. و إن إفرط به الشّبع كظّته البطنة(٥) .

فكلّ تقصير به مضرّ، و كلّ إفراط له مفسد

الزّمان و اهله

و من بديع قوله: إذا استولى الصلاح على الزمان و أهله ثم أساء رجل الظنّ برجل لم تظهر

____________________

(١) أي للقلب.

(٢) التحفظ: التوقّي و التحرّز من المضرّات.

(٣) الغرة: الغفلة. سلبته: ذهبت به عن رشده.

(٤) أفاد: استفاد.

(٦) كظته: كربته و آلمته. البطنة: امتلاء البطن حتى يضيق النفس.

١٧٦

منه خزية(١) فقد ظلم و إذا استولى الفساد على الزمان و أهله فأحسن رجل الظنّ برجل فقد غرّر(٢)

كم من صائم

و من كلامه في معنى الصوم و الصلاة: كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع و الظمأ. و كم من قائم(٣) ليس له من قيامه إلاّ السهر و العناء. حبّذا نوم الأكياس و إفطارهم

اصناف النّاس

من خطبة له في سوء طباع الناس بزمانه: أيها الناس، إنّا قد أصبحنا في دهر عنود و زمن كنود(٤) يعدّ فيه المحسن مسيئا، و يزداد الظالم عتوّا، لا ننتفع بما علمنا و لا نسأل عمّا جهلنا و لا نتخوّف قارعة حتى تحلّ بنا(٥) . فالناس على أربعة أصناف:

____________________

(١) الخزية: البلية تصيب الانسان فتذله و تفضحة

(٢) غرّر: أوقع بنفسه في الغرر، أي: الخطر.

(٣) أي: قائم للصلاة.

(٤) العنود: الجائر. الكنود: الكفور.

(٥) القارعة: الخطب.

١٧٧

منهم من لا يمنعهم الفساد إلاّ مهانة نفسه و كلالة حدّه و نضيض وفره(١) .

و منهم المصلت لسيفه و المعلن بشرّه، قد أشرط نفسه و أوبق دينه لحطام ينتهزه أو مقنب يقوده أو منبر يفرعه(٢) . و لبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمنا. و منهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، و لا يطلب الآخرة بعمل الدنيا: قد طامن من شخصه و قارب من خطوه و شمّر من ثوبه و زخرف من نفسه للأمانة، و اتّخذ ستر اللّه ذريعة إلى المعصية.

و منهم من أبعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه و انقطاع سببه، فقصرته الحال على حاله فتحلّى باسم القناعة و تزيّن بلباس أهل الزّهادة و بقي رجال غضّ أبصارهم ذكر المرجع و أراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد نادّ و خائف مقموع و ساكت مكعوم و داع مخلص و ثكلان موجع(٣) . قد أخملتهم التقيّة(٤) و شملتهم الذّلّة.

____________________

(١) أي: لا يقعد بهم عن طلب الإمارة و السلطان إلا حقارة نفوسهم و ضعف سلاحهم و قلة مالهم.

(٢) أصلت السيف: امتشقه. أشرط نفسه: هيأها و أعدّها للشر و الفساد في الأرض.

أوبق دينه: أهلكه. الحطام، هنا: المال. ينتهزه: يغتنمه أو يختلسه. المقنب: طائفة من الخيل، و إنما يطلب قود المقنب تعزّزا على الناس و كبرا. فرع المنبر: علاه.

(٣) نادّ: هارب من الجماعة الى الوحدة. المقموع: المقهور. المكعوم، من كعم البعير، أي: شدّ فاه لئلاّ يأكل أو يعض. الثكلان: الحزين.

(٤) أخمله: أسقط ذكره حتى لم يبق له بين الناس نباهة. التقية: اتّقاء الظلم بإخفاء الحال.

١٧٨

و قد وعظوا حتى ملّوا و قهروا حتى ذلّوا و قتلوا حتى قلّوا. فاتّعظوا بمن كان قبلكم، قبل أن يتّعظ بكم من بعدكم، و ارفضوها ذميمة فإنها رفضت من كان أشغف بها منكم

مع كلّ ريح

و من كلامه في ناس زمانه: همج رعاع أتباع كلّ ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم و لم يلجأوا إلى ركن وثيق.

ربّ صغير غلب كبيرا

من كلام له: إحذر الكلام في مجالس الخوف، فإنّ الخوف يذهل العقل الذي منه تستمدّ، و يشغله بحراسة النفس عن حراسة المذهب الذي تروم نصرته.

و احذر الغضب ممّن يحملك عليه، فإنّه مميت للخواطر مانع من التثبّت.

و احذر المحافل التي لا إنصاف لأهلها في التسوية بينك و بين خصمك في الإقبال و الاستماع، و لا أدب لهم يمنعهم من جور الحكم لك و عليك.

و احذر كلام من لا يفهم عنك فإنه يضجرك. و احذر استصغار الخصم فإنه يمنع من التحفّظ، و ربّ صغير غلب كبيرا

١٧٩

سراجه باللّيل القمر

و من خطبة له تحتوي قولا رائعا في محمد و المسيح: و قد كان في رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كاف لك في الأسوة و دليل على ذمّ الدنيا و عيبها، و كثرة مخازيها و مساويها إذ قبضت عنه أطرافها و وطئت لغيره أكنافها و فطم عن رضاعها و زوي عن زخارفها.

و إن شئت قلت في عيسى ابن مريم عليه السلام فلقد كان يتوسّد الحجر و يلبس الخشن، و كان إدامه الجوع و سراجه بالليل القمر، و ظلاله في الشتاء مشارق الأرض و مغاربها، و فاكهته و ريحانه ما تنبت الأرض للبهائم. و لم تكن له زوجة تفتنه و لا مال يلفته و لا طمع يذلّه، دابّته رجلاه و خادمه يداه.

على منهاج المسيح

قال نوف البكالي: رأيت أمير المؤمنين عليه السلام ذات ليلة و قد خرج من فراشه فنظر في النجوم، فقال لي: يا نوف، أراقد

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237