روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة0%

روائع نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 237

روائع نهج البلاغة

مؤلف: جرج جرداق
تصنيف:

الصفحات: 237
المشاهدات: 93200
تحميل: 4558

توضيحات:

روائع نهج البلاغة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93200 / تحميل: 4558
الحجم الحجم الحجم
روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

روائع نهج البلاغة

جورج جرداق

١

تقديم

الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) هو إمام البلغاء و المتكلمين، كما هو إمام المتّقين.. و آيته في ذلك «نهج البلاغة» الذي يمثّل، في أسس البيان العربي، مكانة تلي مكانة القرآن الكريم... و تتصل به أساليب العرب، في نحو ثلاثة عشر قرنا، فتبني على بنائه، و تقبس منه جذوتها، و يحيا جيّدها في نطاق من بيانه السّاحر.

كان الإمام علي (ع) يرتجل كلماته، يلقيها، في مجالس القوم، خلاصات تأمّل، و في محافلهم، خطبا تجيش في داخل الذات، فينطق بها اللّسان عفو الخاطر، فتأتي محكمة «دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوق».

اختار الشريف الرضيّ أواخر القرن الرابع الهجري نماذج من خطبه و رسائله و كلماته القصار، و جمعها في كتاب سمّاه «نهج البلاغة». و الإسم يدلّ على أن هذه النّماذج المختارة تمثل نهجا في البيان و الأداء، يوصل، إن اتّخذ مثالا، إلى البلاغة، بوصفها كشفا عمّا في الذات و الواقع و إيصالا إلى المتلقي. و هذه هي غاية الأدب الخلاّق العظيم.

و منذ ذلك اليوم الذي جمع فيه الكتاب عكف العلماء و الأدباء على قراءته و شرحه، فتعدّدت الشروح و تنوّعت، و بلغ بعضها مجلّدات عديدة، يقتضي الاطلاع عليها وقتا و جهدا قد لا يملكهما المرء في هذا العصر. و من هنا جاءت الحاجة إلى كتاب ييسّر للإنسان العاديّ معرفة «النهج»، من طريق اختيار نماذج منه و شرحها.

و قد سعى الأديب المعروف جورج جرداق إلى أداء هذه المهمة، فاشتغل سنوات طوالا، ليسهّل الصعوبات أمام القارى‏ء، فيجمع بين دفّتي كتاب روائع «نهج البلاغة» و يبوّبها وفق موضوعاتها من جهة، و وفق زمن صدورها من جهة ثانية، و يشرح الغريب و الصعب من مفرداتها.

٢

ثم زاد على ذلك، فقدّم بين يدي الروائع التي اختارها و رتّبها و شرحها، دراسة جديدة في نوعها عن الشخصية العلوية من خلال نهج البلاغة، أضافها إلى سلسلة دراساته الخمس الشهيرة (الإمام علي صوت العدالة و الإنسانية).

يلبّي هذا الكتاب حاجة للقارى‏ء العاديّ و لطلاب المدارس و الجامعات، و للقارى‏ء المختصّ، أيضا، في هذا الزمن الذي لا يجد فيه المرء فرصة للقراءة، وسط المشاغل العديدة، و طغيان وسائل الاعلام المسموعة و المرئيّة.

و يسرّ مركز الغدير للدرسات أن يقدّم هذا الكتاب في حلته الجديدة هذه بعد نفاد طبعته، راجيا أن تتحقق به الفائدة التي توخّاها.

مركز الغدير للدرسات الإسلامية

٣

٤

في ادب الإمام

٥

حدود العقل و القلب

و كان شديدا، قاصفا، مزمجرا، كالرعد في ليالي الويل و الينبوع هو الينبوع لا حساب في جريه لليل أو نهار من تتبّع سير العظماء الحقيقيين في التاريخ لا فرق بين شرقيّ منهم أو غربي، و لا قديم و محدث، أدرك ظاهرة لا تخفى و هي أنهم، على اختلاف ميادينهم الفكرية و على تباين مذاهبهم في موضوعات النشاط الذهني، أدباء موهوبون على تفاوت في القوة و الضعف.

فهم بين منتج خلاّق، و متذوّق قريب التذوّق من الإنتاج و الخلق. حتى لكأنّ الحس الأدبي، بواسع دنيواته و معانيه و أشكاله، يلزم كل موهبة خارقة في كل لون من ألوان النشاط العظيم فنظرة واحدة الى الأنبياء، مثلا، تكفي لتقرير هذه الظاهرة في الأذهان. فما داود و سليمان و أشعيا و أرميا و أيوب و المسيح و محمد إلا أدباء أوتوا من الموهبة الأدبية ما أوتوا من سائر المواهب الخاصة بهم. و هذا نابوليون القائد، و أفلاطون الفيلسوف، و باسكال الرياضي، و باستور العالم الطبيعي، و الخيّام الحسابي، و نهرو رجل الدولة، و ديغول السياسي، و ابن خلدون المؤرخ، إنهم جميعهم أدباء لهم في الأدب ما يجعلهم في مصافّ ذوي الشأن من أهله. فلكلّ منهم لون من ألوان النشاط الفكري حدّده الطبع و الموهبة، ثم رعت النزعة الجمالية ما دخل منه في نطاق التعبير، فإذا هو من الأدب الخالص.

هذه الحقيقة تتركز جلية واضحة في شخصية علي بن أبي طالب، فإذا هو الإمام في الأدب، كما هو الإمام في ما أثبت من حقوق و في ما علّم و هدى، و آيته في ذلك «نهج البلاغة» الذي

٦

يقوم في أسس البلاغة العرب في ما يلي القرآن من أسس، و تتّصل به أساليب العرب في نحو ثلاثة عشر قرنا فتبني على بنائه و تقتبس منه و يحيا جيّدها في نطاق من بيانه الساحر.

أما البيان فقد وصل عليّ سابقه بلاحقه، فضمّ روائع البيان الجاهلي الصافي المتّحد بالفطرة السليمة اتحادا مباشرا، الى البيان الإسلامي الصافي المهذب المتحد بالفطرة السليمة و المنطق القويّ اتحادا لا يجوز فيه فصل العناصر بعضها عن بعض. فكان له من بلاغة الجاهلية، و من سحر البيان النبويّ، ما حدا بعضهم إلى أن يقول في كلامه إنه «دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوق».

و لا عجب في ذلك، فقد تهيّأت لعليّ جميع الوسائل التي تعدّه لهذا المكان بين أهل البلاغة. فقد نشأ في المحيط الذي تسلم فيه الفطرة و تصفو، ثم إنه عايش أحكم الناس محمد بن عبد اللّه، و تلقّى من النبي رسالته بكل ما فيها من حرارة و قوة. أضف الى ذلك استعداداته الهائلة و مواهبه العظيمة، فإذا بأسباب التفوّق تجتمع لديه من الفطرة و من البيئة جميعا أما الذكاء، الذكاء المفرط، فتلقى له في كل عبارة من «نهج البلاغة» عملا عظيما.

و هو ذكاء حيّ، قادر، واسع، عميق، لا تفوته أغوار. إذا هو عمل في موضوع أحاط به بعدا فما يفلت منه جانب و لا يظلم منه كثير أو قليل، و غاص عليه عمقا، و قلّبه تقليبا، و عركه عركا، و أدرك منه أخفى الأسباب و أمعنها في الاختفاء كما أدرك أصدق النتائج المترتّبة على تلك الأسباب: ما قرب منها أشدّ القرب، و ما بعد أقصى البعد.

و من شروط الذكاء العلويّ النادر هذا التسلسل المنطقي الذي تراه في النهج أنّي اتجهت.

و هذا التماسك بين الفكرة و الفكرة حتى تكون كلّ منها نتيجة طبيعية لما قبلها و علّة لما بعدها. ثم إن هذه الأفكار لا تجد فيها ما يستغنى عنه في الموضوع الذي يبحث فيه. بل إنك لا تجد فيها ما يستقيم البحث بدونه. و هو، لاتّساع مداه، لا يستخدم لفظا إلا و في هذا اللفظ ما يدعوك لأن تتأمل و تمعن في التأمل، و لا عبارة إلا و تفتح أمام النظر آفاقا وراءها آفاق.

فعن أيّ رحب وسيع من مسالك التأمّل و النظر يكشف لك قوله: «الناس أعداء ما جهلوا» أو قوله: «قيمة كل امرى‏ء ما يحسنه». أو «الفجور دار حصن ذليل».

٧

و أيّ إيجاز معجز هو هذا الايجاز: «من تخفّف لحق» و أيّ جليل من المعنى في العبارات الأربع و ما تحويه من ألفاظ قلائل فصّلت تفصيلا، بل قل أنزلت تنزيلا ثم عن أي حدّة في الذكاء و استيعاب للموضوع و عمق في الإدراك، يشفّ هذا الكشف العجيب عن طبع الحاسد و صفة نفسه و حقيقة حاله: «ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد: نفس دائم و قلب هائم و حزن لازم. مغتاظ على من لا ذنب له، بخيل بما لا يملك» و يستمرّ تولّد الأفكار في «نهج البلاغة» من الأفكار، فإذا أنت منها أمام حشد لا ينتهي.

و هي مع ذلك لا تتراكم، بل تتساوق و يترتّب بعضها على بعض. و لا فرق في ذلك بين ما يكتبه عليّ و ما يلقيه ارتجالا. فالينبوع هو الينبوع و لا حساب في جريه لليل أو نهار.

ففي خطبه المرتجلة معجزات من الأفكار المضبوطة بضابط العقل الحكيم و المنطق القويم.

و إنك لتدهش، أمام هذا المقدار من الإحكام و الضبط العظيمين، حين تعلم أن عليّا لم يكن ليعدّ خطبه و لو قبيل إلقائها بدقائق أو لحظات.

فهي جائشة في ذهنه منطلقة على لسانه عفو الخاطر لا عنت و لا إجهاد، كالبرق إذ يلمع و لا خبر يأخذه أو يعطيه قبل وميضه. و كالصاعقة إذ تزمجز و لا تهيّ‏ء نفسها لصعق أو زمجرة.

و كالريح إذ تهبّ فتلوي و تميل و تكسح و تنصبّ على غاية ثم إلى مداورها تعود و لا يدفعها إلى أن تروح و تجي‏ء إلاّ قانون الحادثة و منطق المناسبة في حدودها القائمة، لا قبل و لا بعد و من مظاهر الذكاء الضابط القويّ في نهج البلاغة تلك الحدود التي كان عليّ يضبط بها بها عواطف الحزن العميق إذ تهيج في نفسه و تعصف. فإن عاطفته الشديدة ما تكاد تغرقه في محيط من الأحزان و الكآبات البعيدة، حتى يبرز سلطان العقل في جلاء و مضاء، فإذا هو آمر مطاع.

و من ذكاء علي المفرط الشامل في نهجه كذلك أنه نوّع البحث و الوصف فأحكم في كل موضوع و لم يقصر جهده الفكري على واحد من الموضوعات أو سبل البحث. فهو يتحدث بمنطق الحكيم الخبير عن أحوال الدنيا و شؤون الناس، و طبائع الافراد و الجماعات. و هو يصف البرق و الرعد و الأرض و السماء. و يسهب في القول في مظاهر الطبيعة الحية فيصف

٨

خفايا الخلق في الخفاش و النملة و الطاووس و الجرادة و ما إليها. و يضع للمجتمع دساتير و للأخلاق قوانين. و يبدع في التحدث عن خلق الكون و روائع الوجود. و إنك لا تجد في الأدب العربي كله هذا المقدار الذي تجده في نهج البلاغة من روائع الفكر السليم و المنطق المحكم، في مثل هذا الأسلوب النادر.

أما الخيال في نهج البلاغة فمديد وسيع، خفّاق الجوانح في كل أفق. و بفضل هذا الخيال القويّ الذي حرم منه كثير من حكماء العصور و مفكري الأمم، كان عليّ يأخذ من ذكائه و تجاربه المعاني الموضوعيّة الخالصة، ثم يطلقها زاهية متحركة في إطار تثبت على جنباته ألوان الجمال على أروع ما يكون اللون. فالمعنى مهما كان عقليا جافا، لا يمرّ في مخيّلة عليّ إلاّ و تنبت له أجنحة تقضي فيه على صفة الجمود و تمدّه بالحركة و الحياة.

فخيال عليّ نموذج للخيال العبقري الذي يقوم على أساس من الواقع، فيحيط بهذا الواقع و يبرزه و يجلّيه، و يجعل له امتدادات من معدنه و طبيعته، و يصبغه بألوان كثيرة من مادته و لونه، فإذا الحقيقة تزداد وضوحا، و إذا بطالبها يقع عليها أو تقع عليه و قد تميّز عليّ بقوة ملاحظة نادرة، ثم بذاكرة واعية تخزن و تتّسع. و قد مرّ من أطوار حياته بعواطف جرّها عليه حقد الحاقدين و مكر الماكرين، و مرّ منها كذلك بعواطف كريمة أحاطه بها وفاء الطيبين و إخلاص المخلصين. فتيسّرت له من ذلك جميعا عناصر قوية تغذّي خياله المبدع. فإذا بها تتعاون في خدمة هذا الخيال و تتساوق في لوحات رائعة حيّة، شديدة الروعة و الحيوية، تتركز على واقعية صافية تمتدّ لها فروع و أغصان، ذات أوراق و أثمار و من ثمّ يمكنك، إذا أنت شئت، أن تحوّل عناصر الخيال القويّ في نهج البلاغة الى رسوم مخطوطة باللون، لشدّة واقعيّتها و اتّساع مجالها و امتداد أجنحتها و بروز خطوطها. أ لا ما أروع خيال الإمام إذ يخاطب أهل البصرة و كان بنفسه ألم منهم بعد موقعة الجمل، قائلا: «لتغرقنّ بلدتكم حتى كأنني أنظر الى مسجدها كجؤجؤ طير في لجّة بحر)(١) »

____________________

(١) الجؤجؤ: الصدر.

٩

أو في مثل هذا التشبيه الساحر: «فتن كقطع الليل المظلم».

أو هذه الصورة المتحركة: «و إنما أنا كقطب الرحى: تدور عليّ و أنا بمكاني» أو هذه اللوحة ذات الجلال التي يشبّه فيها امتدادات بيوت أهل البصرة بخراطيم الفيلة، و تبدو له شرفاتهن كأنها أجنحة النسور: «ويل لسكككم العامرة، و الدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور و خراطيم كخراطيم الفيلة» و من مزايا الخيال الرحب قوة التمثيل. و التمثيل في أدب الإمام وجه ساطع بالحياة. و إن شئت مثلا على ذلك فانظر في حال صاحب السلطان الذي يغبطه الناس و يتمنون ما هو فيه من حال، و لكنه أعلم بموضعه من الخوف و الحذر، فهو و إن أخاف بمركوبه إلاّ أنه يخشى أن يغتاله. ثم انظر بعد ذلك الى عليّ كيف يمثّل هذا المعنى يقول: «صاحب السلطان كراكب الأسد: يغبط بموقعه، و هو أعلم بموضعه.» و إن شئت مثلا آخر فاستمع اليه يمثّل حالة رجل رآه يسعى على عدوّ له بما فيه إضرار بنفسه، فيقول: «إنّما أنت كالطاعن نفسه ليقتل ردفه» و الرّدف هو الراكب خلف الراكب. ثم إليك هذا النهج الرائع في تمثيل صاحب الكذب: «إياك و مصادقة الكذّاب فإنه كالسراب: يقرّب عليك البعيد و يبعد عنك القريب» أما النظرية الفنيّة القائلة بأن كل قبيح في الطبيعة يصبح جميلا في الفن، فهي إن صحّت فإنما الدليل عليها قائم في كلام ابن أبي طالب في وصف من فارقوا الدنيا. فما أهول الموت و ما أبشع وجهه. و ما أروع كلام ابن أبي طالب فيه و ما أجمل وقعه. فهو قول آخذ من العاطفة العميقة نصيبا كثيرا، و من الخيال الخصب نصيبا أوفر. فإذا هو لوحة من لوحات الفن العظيم لا تدانيها إلاّ لوحات عباقرة الفنون في أوروبا ساعة صوّروا الموت و هوله لونا و نغما و شعرا.

فبعد أن يذكّر عليّ الأحياء بالموت و يقيم العلاقة بينهم و بينه، يوقظهم على أنهم دانون من منزل الوحشة بقول فيه من الغربة القاسية لون قائم و نغم حزين: «فكأنّ كل امرى‏ء منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته، فيا له من بيت وحدة، و منزل وحشة، و مفرد غربة» ثم يهزّهم بما هم مسرعون إليه و لا يدرون، بعبارات متقطّعة متلاحقة و كأنّ فيها دويّ طبول تنذر تقول «ما أسرع الساعات في اليوم، و أسرع الأيام في الشهر، و أسرع

١٠

الشهور في السنة، و أسرع السنين في العمر» بعد ذلك يطلق في أذهانهم هذه الصورة الرائعة التي يأمر بها العقل، و تشعلها العاطفة، و يجسّم الخيال الوثّاب عناصرها ثم يعطيها هذه الحركات المتتابعة و هي بين عيون تدمع و أصوات تنوح و جوارح تئنّ، قائلا: «و إنما الأيام بينكم و بينهم بواك و نوائح عليكم». ثم يعود فيطلق لعاطفته و خياله العنان فإذا بهما يبدعان هذه اللوحة الخالدة من لوحات الشعر الحيّ: «و لكنهم سقوا كأسا بدّلتهم بالنطق خرسا، و بالسمع صمما، و بالحركات سكونا.

فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات(١) .

جيران لا يتآنسون، و أحبّاء لا يتزاورون، بليت بينهم عرى التعارف، و انقطعت منهم أسباب الإخاء. فكلّهم وحيد و هم جميع، و بجانب الهجر و هم أخلاّء، لا يتعارفون لليل صباحا، و لا لنهار مساء. أيّ الجديدين(٢) ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا(٣) ».

ثم يقول هذا القول الرهيب: «لا يعرفون من أتاهم، و لا يحفلون من بكاهم، و لا يجيبون من دعاهم» فهل رأيت الى هذا الإبداع في تصوير هول الموت و وحشة القبر و صفة سكّانه في قوله: «جيران لا يتآنسون و أحبّاء لا يتزاورون» ثم هل فطنت إلى هذه الصورة الرهيبة لأبدية الموت التي لا ترسمها إلا عبقرية عليّ: «أيّ الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا» و مثل هذه الروائع في «النهج» كثير.

هذا الذكاء الخارق و هذا الخيال الخصب في أدب الإمام يتحدان اتحاد الطبيعة بالطبيعة، مع العاطفة الهادرة التي تمدّهما بوهج الحياة. فإذا الفكرة تتحرك و تجري في عروقها الدماء سخيّة حارّة. و إذا بها تخاطب فيك الشعور بمقدار ما تخاطب العقل لانطلاقها من عقل تمدّه العاطفة بالدف‏ء. و قد يصعب على المرء أن يعجب بأثر من آثار الفكر أو الخيال في

____________________

(١) ارتجال الصفة: وصف الحال بلا تأمل، فالواصف لهم بأول النظر يظنهم صرعى من السبات، أي النوم.

(٢) الجديدان: الليل و النهار.

(٣) سرمد: أبدي.

١١

ميادين الأدب و سائر الفنون الرفيعة، إن لم تكن للعاطفة مشاركة فعّالة في إنتاج هذا الأثر. ذلك ان المركّب الإنساني لا يرضيه، طبيعيا، إلا ما كان نتاجا لهذا المركّب كله. و هذا الأثر الأدبي الكامل، هو ما نراه في نهج البلاغة. و إنك لتحس نفسك مندفعا في تيّار جارف من حرارة العاطفة و انت تسير في نهج البلاغة من مكان إلى آخر.

أ فلا يشيع في قلبك الحنان و العطف شيوعا و أنت تصغي إلى عليّ يقول: «لو أحبّني جبل لتهافت» أو «فقد الأحبّة غربة» أو «اللهم إني أستعديك على قريش، فإنهم قد قطعوا رحمي و أكفأوا إنائي، و قالوا: «أ لا إنّ في الحق أن تأخذه و في الحق أن تمنعه، فاصبر مغموما أو مت متأسفا فنظرت فإذا ليس لي رافد و لا ذابّ و لا مساعد إلاّ أهل بيتي» و اليك كلاما له عند دفن السيدة فاطمة، يخاطب به ابن عمّه الرسول: «السلام عليك يا رسول اللّه عني و عن ابنتك النازلة في جوارك، و السريعة اللحاق بك قلّ، يا رسول اللّه، عن صفيّتك صبري، و رقّ عنها تجلّدي، إلاّ أن لي في التأسّي بعظيم فرقتك و فادح مصيبتك موضع تعزّ» و منه «أمّا حزني فسرمد، و أمّا ليلي فمسهّد، إلى أن يختار اللّه لي دارك التي أنت بها مقيم» ثم إليك هذا الخبر: روى أحدهم عن نوف البكالي بصدد إحدى خطب الإمام علي قال: خطبنا هذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين عليه السلام، و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي، و عليه مدرعة من صوف، و حمائل سيفه ليف، و في رجليه نعلان من ليف، فقال عليه السلام، في جملة ما قال: «ألا إنه أدبر من الدنيا ما كان مقبلا، و أقبل منها ما كان مدبرا. و أزمع الترحال عباد اللّه الأخيار، و باعوا قليلا من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم و هم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص، و يشربون الرّنق؟ قد، و اللّه، لقوا اللّه فوفّاهم أجورهم و أحلّهم دار الأمن بعد خوفهم أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحق؟ أين عمّار؟ و أين ابن التيهان؟ و أين ذو الشهادتين؟ و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة؟»

١٢

قال: ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة فأطال البكاء و أخبر ضرار بن حمزة الضابى‏ء قال: فأشهد لقد رأيته يقصد الإمام في بعض مواقفه، و قد أرخى الليل سدوله و هو قائم في ظلامه قابض على لحيته يتململ و يبكي بكاء الحزين و يقول: «يا دنيا يا دنيا، اليك عني أ بي تعرّضت؟ أم إليّ تشوّقت؟ لا حان حينك، هيهات غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها فعيشك قصير، و خطرك يسير، و أملك حقير آه من قلّة الزاد و طول الطريق و بعد السفر و عظيم المورد» هذه العاطفة الحارّة التي عرفها الإمام في حياته، تواكبه أنّي اتّجه في نهج البلاغة، و حيث سار. تواكبه في ما يحمل على الغضب و السخط، كما تواكبه في ما يثير العطف و الرضا.

حتى إذا رأى تخاذل أنصاره عن مساندة الحق فيما يناصر الآخرون الباطل و يحيطونه بالسلاح و بالأرواح، تألّم و شكا، و وبّخ و أنّب، و كان شديدا قاصفا، مزمجرا، كالرعد في ليالي الويل و يكفيك أن تقرأ خطبة الجهاد التي تبدأ بقوله: «أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصمّ الصّلاب الخ»، لتدرك أية عاطفة متوجّعة ثائرة هي تلك التي تمدّ هذه الخطبة بنبض الحياة و جيشانها و إنه لمن المعيي أن نسوق الأمثلة على تدفّق العاطفة الحية التي تبث الدف‏ء في مآثر الإمام.

فهي في أعماله، و في خطبه و أقواله، مقياس من المقاييس الأسس. و ما عليك إلاّ أن تفتح هذا الكتاب، كي تقف على ألوان من عاطفة ابن أبي طالب، ذات القوة الدافقة و العمق العميق

١٣

الوحدة الوجوديّة

و كان ما تباعد منها مضموما في وخدة طرفاها الأزل و الأبد الأدب اصالة في الفكر و الحس و الخيال و الذوق، تربط بين صاحبها و جملة الكائنات في وحدة وجودية مطلقة. ثم تعبّر عن نفسها بحياة تحيا على أصول من هذه الوحدة، و بأسلوب جماليّ هو تجسيم حيّ للتفاعل بين الأديب و الكون.

و لما كان العلم تجزئة كان الفنّ توحيدا. و لما كان العلم ينظر إلى الأشياء من حيث هي كائنات وجب فكّها و تذريرها، كان الفن ينظر إلى الأشياء من حيث هي كائنات مجزّأة في ظاهرها، موحّدة في أصولها و حقيقتها، مما يؤول الى فكرة الشمول الكوني و الارتباط الكامل بين مختلف مظاهر الوجود و ما كان الأدب إلا بهذا الشمول و إذا كان الفلاسفة قد فطنوا الى وحدة الوجود في العصور المتأخرة، فإن الأديب قد فطن لها منذ كان الانسان و كانت في أعماقه بذور الفن و أحاسيس الأدب. ذلك لأن دليل الفيلسوف عقله و قياسه، و كلاها محدود بالنسبة للمركّب الانساني الحيّ. و دليل الأديب شعوره و إلهامه، و هما انبثاق عاجل و امض عن جملة كيانه.

ثم إن نظرة الفيلسوف الى الكون كوحدة متفاعلة متكاملة، إن هي إلاّ نظرة تظلّ سطحية إذا ما قيست بنظرة الأديب. فالفيلسوف يشاهد و يراقب و يقيس ثم يسجّل. و أداته في ذلك العقل وحده، و العقل شي‏ء من الانسان الحي بل قل هو جانب منه. و الأديب

١٤

يتفاعل مع الكون و الحياة تفاعلا مباشرا مستمرا إذ يحس و يستلهم بعقله و شعوره و خياله و مزاجه و ذوقه جميعا، أي بجملة كيانه. و هو، إلى ذلك، أسبق و أعمق. فالأديب أستاذ الفيلسوف: أستاذه و دليله منذ كان، و أستاذه و دليله إلى الأبد و إذا كان هذا هو الأمر، و هو كذلك، فإنّ عليّ بن أبي طالب عظيم من عظماء هذه الطائفة من حيث النظرة و الأسلوب: طائفة الأدباء الخالدين الذين ينظرون إلى نجوم السماء و رمال الصحراء و مياه البحار و كساء الطبيعة فإذا هي أشياء من نفوسهم، هذه النفوس التي تستشعر في الكون قوة وجودية واحدة جامعة كانت منذ الأزل و تبقى الى الأبد.

يقول ميخائيل نعيمة الذي يمثل طاقة الفنان على الاحساس العميق بوحدة الوجود في أدبنا العربي المعاصر: «بل كيف يكون أديبا من لا يحسّ جذوره في الأزل و الأبد، و لا يحسّ ما مضى و ما سيأتي» إن هذا الإحساس بالجمال الأسمى الذي يلف الكائنات جميعا، على تباين مظاهرها، بوشاح واحد، هو ما تراه في آثار عباقرة الأدب مهما تنوّعت موضوعات هذه الآثار، و مهما اختلفت ظروفها. فإذا أنت سمعت صوت الشاعر العظيم ينطق بلسان المسيح قائلا: «تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو، و لكن أقول لكم إنه و لا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها» سمعت صوتا من أعظم ما سمع الكون، و أدركت أمتع نظرة تخترق أعماق الجمال الكلّي، و تساءلت: أنّى للتراب و الصخر و سحب السماء أن تأتي بمثل هذه الروعة و هذا الجمال، جمال زنابق الحقل و هي تنمو، لو لم تكن وحدة الوجود هذه و لو لم يكن الجمال مدار الوجود الواحد، و رابطة أجزائه منذ البداية حتى النهاية؟ و هو، في الوقت ذاته، مدار الفكرة و الشعور لدى الفنان: الخالق الصغير و من ذلك قول المسيح الرائع و قد جاؤوه بزانية جعلت على نفسها سبيلا بحكم شرائعهم: «من كان منكم بلا خطيئة فليرجم هذه الزانية بحجر» و إذا أنت سمعت قول الشاعر العظيم ينطق بلسان سليمان بن داود: «جيل يمضي و جيل يأتي و الأرض قائمة مدى الدهر. و الشمس تشرق و الشمس تغرب

١٥

ثم تسرع الى موضعها الذي طلعت منه. تذهب الريح الى الجنوب و تدور الى الشمال، تدور و تطوف في مسيرها ثم الى مداورها تعود الريح جميع الأنهار تجري الى البحر و البحر ليس بملآن ثم الى الموضع الذي جرت منه الأنهار الى هناك تعود لتجري أيضا» و إذا سمعته أيضا يقول: «أنا وردة الشارون و سوسنة الأودية، كالسوسنة بين الشوك كذلك خليلتي بين البنات.

كالتفاحة في أشجار الغابة كذلك حبيي بين البنين. قد اشتهيت فجلست في ظله و ثمره حلو في حلقي. قد ظهرت الزهور في الأرض و وافى أوان القضب و سمع صوت اليمامة في أرضنا.

«يا حمامتي التي في نخاريب الصخر و في خفايا المعاقل أريني محيّاك، أسمعيني صوتك فإن صوتك لطيف و محيّاك جميل، إلى أن ينسم النهار و تنهزم الظلال. عد يا حبيي و كن كالظبي أو كغفر الأيلة على جبال باتر.

«جميلة أنت يا خليلتي جميلة أنت و عيناك كحمامتين من وراء نقابك، و شعرك كقطيع معز يبدو من جبل جلعاد.

شفتاك كسمط من القرمز و نطقك عذب. خدّاك كفلقة رمانة من وراء نقابك.

عنقك كبرج داود المبني للسلاح الذي علق فيه ألف مجنّ، جميع تروس الجبابرة. الى أن ينسم النهار و تنهزم الظلال أنطلق إلى جبل المرّ و الى تلّ اللبّان. هلمّي معي من لبنان أيتها العروس. معي من لبنان انظري من رأس أمانة من رأس حرمون من مرابض الأسود من جبال النمور. شفتاك تقطران شهدا أيتها العروس و تحت لسانك عسل و لبن و عرف ثيابك كعرف لبنان.

«عين جنّات و بئر مياه حية و أنهار من لبنان، هبّي يا شمال و هلمّي يا جنوب انسمي على جنّتي فتنسكب أطيابها» إذا أنت سمعت ذلك و وعيته وعيا صحيحا، أدركت ان سليمان ينهل شعره من المنهل ذاته الذي ارتوى منه المسيح و إن اختلف الموضوع.

و من ذلك قول فيكتور هيغو، أحد عظماء الفنانين الذين نبغوا بعد الثورة الفرنسية، و هو

١٦

حوار بين الكواكب يرينا الشاعر به الانسان و قد ضاع و كاد يختفي هو و الأرض التي يسكنها، لضآلتهما في سعة الكون الواحد العجيب: ما هذا الصوت التافه الضعيف الذي يهمس؟

أيتها الأرض، ما الغاية من دورانك، في أفقك الضيق المحدود؟

و هل أنت سوى حبّة من الرمل مصحوبة بذرّة من رماد؟

أما أنا، ففي السماء الزرقاء الشاسعة أرسم إطارا هائلا فترى المسافة المكانية، و هي فزعة مرعوبة، جمالي مشوّها و هالتي، التي تحيل شحوب الليالي الى حمرة قانية ككرات من الذهب تعلو و تهبط متقاطعة في يد الحاوي، تبعد، و تجمع، و تمسك سبعة من الأقمار الضخمة الهائلة و ها هي الشمس تجيب: سكوتا، هناك في زاوية من السماوات، ايتها الكواكب، أنتم رعاياي هدوءا أنا الراعي و أنتم الرعية.

إنكما كعربتين تسيران جنبا الى جنب للدخول من الباب.

في أصغر بركان عندي، المريخ مع الأرض يدخلان دون أن يلمسا جوانب المدخل و ها هي ذي نجوم الدب الأصغر تضي‏ء مثل سبع أعين حيّة لها بدل الحبّات شموس و ها هو ذا طريق المجرّة يرسم غابة ناضرة جميلة مليئة بنجوم السماء أيتها الكواكب السفلى، إن مكاني من مكانكم في درجة من البعد حتى أن نجومي المضيئة الثابتة الشبيهة بمجاميع الجزائر المتناثرة في الماء، و شموسي الكثيرة، ليست بالنسبة لنظركم الضعيف القاصر،

١٧

في زاوية بعيدة من السماء شبيهة بصحراء حزينة يتلاشى الصوت فيها، سوى قليل من الرماد الأحمر قد انتثر في جوف الليل» و ها هي ذي نجوم مجرّة أخرى تصوّر عوالم لا تقلّ عن تلك العوالم، متناثرة في الأثير، ذلك المحيط الذي لا رمال فيه و لا حصباء في جوانبه، تذهب أمواجه و لكن لا تعود أبدا إلى شواطئه.

و أخيرا ها هو الإله يتحدث: «ليس لديّ إلا أن أنفخ، فيصبح كل شي‏ء ظلاما(١) » و إليك ما يقوله عليّ بن أبي طالب في صفة الطاووس(٢) : «و من أعجبها خلقا الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل، و نضّد ألوانه في أحسن تنضيد. بجناح أشرح قصبه. و ذنب أطال مسحبه. إذا درج إلى الأنثى نشره من طيّه، و سما به مظلاّ على رأسه. تخال قصبه مداري من فضّة، و ما أنبت عليه من عجيب داراته و شموسه خالص العقيان و فلذ الزبرجد. فإن شبّهته بما أنبتت الأرض قلت: جنى جني من زهرة كل ربيع. و إنّ ضاهيته بالملابس فهو كموشّى الحلل أو مونق عصب اليمن. و إن شاكلته بالحليّ فهو كفصوص ذات ألوان قد نطّقت باللجين المكلّل: يمشي مشي المرح المختال، و يتصفّح ذنبه و جناحيه فيقهقه ضاحكا لجمال سرباله و أصابيغ و شاحه «فإذا رمى ببصره الى قوائمه زقا معولا يكاد يبين عن استغاثته، و يشهد بصادق توجّعه، لأن قوائمه حمش كقوائم الدّيكة الخلاسية. و له في موضع العرف قنزعة خضراء موشّاة.

و مخرج عنقه كالإبريق، و مغرزها الى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال

____________________

(١) نظرية الأنواع الادبية، ترجمه عن الفرنسية الدكتور حسن عون.

(٢) ما تحتاج اليه من شرح المفردات و التعابير الواردة في هذه القطعة، تجده في فصل «خلقة الطاووس» بهذا الكتاب.

١٨

«و مع فتق سمعه خطّ كمستدقّ القلم في لون الأقحوان أبيض يقق، فهو ببياضه في سواد ما هنالك يأتلق. و قلّ صبغ إلاّ و قد أخذ منه بقسط و علاه بكثرة صقاله و بصيص ديباجه و رونقه فهو كالأزاهير المبثوثة لم تربّها أمطار ربيع و لا شموس قيظ. و قد ينحسر من ريشه و يعرى من لباسه فيسقط تترى، و ينبت تباعا، فينحتّ من قصبه انحتات أوراق الأغصان ثم يتلاحق ناميا حتى يعود كهيئته قبل سقوطه: لا يخالف سالف ألوانه، و لا يقع لون في غير مكانه. إذا تصفّحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة وردية، و تارة خضرة زبرجدية، و أحيانا صفرة عسجدية، فكيف تصل الى صفة هذا عمائق الفطن، أو تبلغه قرائح العقول، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين» و إليك قليلا من قوله في خلق السماء و الأرض: «فطر الخلائق بقدرته، و نشر الرياح برحمته، و وتّد بالصخور ميدان أرضه. ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء، و شقّ الأرجاء، و سكائك الهواء، فأجرى فيها ماء متلاطما تياره متراكما زخّاره، حمله على متن الرياح العاصفة، و الزعزع القاصفة. ثم أنشأ سبحانه ريحا أعتق مهبّها، و أعصف مجراها، و أبعد منشأها، فأمرها بتصفيق الماء الزخّار، و إثارة موج البحار، فمخضته مخض السقاء و عصفت به عصفها بالفضاء تردّ أوله إلى آخره، و ساجيه الى مائره...» و أوصيك خيرا بهذه الآيات الروائع التي تتحدث بها عبقرية الإمام الى المركّب الانساني جميعا فتصوّر له كيف يستوي الجليل و اللطيف من الكائنات، و الشمس و القمر، و الماء و الحجر، و الكبير و الصغير، و الهيّن و الصعب، في معنى الوجود. و كيف تشترك جميعا في صفة الكون فإذا هي متساوقة متعاونة في النشيد الأعظم: نشيد الوجود الواحد الذي لا يجوز فيه تعظيم الدوحة العاتية على حساب النبتة النامية، و لا يصحّ فيه تمجيد البحر الواسع و احتقار الساقية التي تضيع مياهها بين العشب و الحصى.

يقول عليّ: «لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلّتك الدلالة إلاّ على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة. و ما الجليل و اللطيف، و الثقيل و الخفيف، و القوي و الضعيف، في خلقه إلاّ سواء

١٩

و كذلك السماء و الهواء، و الرياح و الماء. فانظر إلى الشمس و القمر، و النبات و الشجر، و الماء و الحجر، و اختلاف هذا الليل و النهار، و تفجّر هذه البحار، و كثرة هذه الجبال، و طول هذه القلال الخ...» ثم استمع اليه يقول: «لا تنالون نعمة إلا بفراق أخرى، و لا يعمّر معمّر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله، و لا تجدّد له زيادة في أكلة إلا بنفاد ما قبلها من رزقه، و لا يحيا له أثر إلا مات له أثر، و لا يتجدّد له جديد إلاّ بعد أن يخلق له جديد، و لا تقوم له نابتة إلا و تسقط منه محصورة. و قد مضت أصول نحن فروعها» إنه الوجود الواحد يتكلم عن نفسه، بلسانه و في خاطري هذه المشابهة بين مقطع من معلّقة امرى‏ء القيس، و مقاطع كثيرة من أدب ابن أبي طالب، و هي تصبّ جميعا في معنى الوحدة الوجودية الكاملة. ثم تزيد عن ذلك بانطلاقه فذة إلى قهر الظالم و المعتدي، و إلى نصرة الضعيف في النبت و الأرض و البهيمة و الأرض الواطئة حتى يستوي الوجود قويا بهيّا.

يقول الشاعر الكوني امرؤ القيس أولا ما خلاصته: لقد قعدت لذلك البرق أرقب من أين يجي‏ء المطر، و يا لروعة ما رأيت لقد أقبل المطر من جهات أربع سيولا سيولا رأيته من بعيد فكان يمينه في تقديري على جبل «قطن» و يساره على جبلي «الستار» و «يذبل». و راح الماء ينبجس شديدا هنا و هناك فتقلب سيوله الأشجار قلبا عتيّا، و مرّ على جبل «القنان» برشاشه فأكره الوعول على النزول عنه. بعد ذلك يقول الشاعر: و تيماء لم يترك بها جذع نخلة *** و لا أطما إلاّ مشيدا بجندل

كأنّ ثبيرا في عرانين وبله *** كبير أناس في بجاد مزمّل

كأن ذرى رأس المجيمر غدوة *** من السيل و الغثّاء فلكة مغزل

و ألقى بصحراء الغبيط بعاعه *** نزول اليماني ذي العياب المحمّل

٢٠