روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة16%

روائع نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 237

روائع نهج البلاغة
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111376 / تحميل: 6592
الحجم الحجم الحجم
روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

روائع نهج البلاغة

جورج جرداق

١

تقديم

الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) هو إمام البلغاء و المتكلمين، كما هو إمام المتّقين.. و آيته في ذلك «نهج البلاغة» الذي يمثّل، في أسس البيان العربي، مكانة تلي مكانة القرآن الكريم... و تتصل به أساليب العرب، في نحو ثلاثة عشر قرنا، فتبني على بنائه، و تقبس منه جذوتها، و يحيا جيّدها في نطاق من بيانه السّاحر.

كان الإمام علي (ع) يرتجل كلماته، يلقيها، في مجالس القوم، خلاصات تأمّل، و في محافلهم، خطبا تجيش في داخل الذات، فينطق بها اللّسان عفو الخاطر، فتأتي محكمة «دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوق».

اختار الشريف الرضيّ أواخر القرن الرابع الهجري نماذج من خطبه و رسائله و كلماته القصار، و جمعها في كتاب سمّاه «نهج البلاغة». و الإسم يدلّ على أن هذه النّماذج المختارة تمثل نهجا في البيان و الأداء، يوصل، إن اتّخذ مثالا، إلى البلاغة، بوصفها كشفا عمّا في الذات و الواقع و إيصالا إلى المتلقي. و هذه هي غاية الأدب الخلاّق العظيم.

و منذ ذلك اليوم الذي جمع فيه الكتاب عكف العلماء و الأدباء على قراءته و شرحه، فتعدّدت الشروح و تنوّعت، و بلغ بعضها مجلّدات عديدة، يقتضي الاطلاع عليها وقتا و جهدا قد لا يملكهما المرء في هذا العصر. و من هنا جاءت الحاجة إلى كتاب ييسّر للإنسان العاديّ معرفة «النهج»، من طريق اختيار نماذج منه و شرحها.

و قد سعى الأديب المعروف جورج جرداق إلى أداء هذه المهمة، فاشتغل سنوات طوالا، ليسهّل الصعوبات أمام القارى‏ء، فيجمع بين دفّتي كتاب روائع «نهج البلاغة» و يبوّبها وفق موضوعاتها من جهة، و وفق زمن صدورها من جهة ثانية، و يشرح الغريب و الصعب من مفرداتها.

٢

ثم زاد على ذلك، فقدّم بين يدي الروائع التي اختارها و رتّبها و شرحها، دراسة جديدة في نوعها عن الشخصية العلوية من خلال نهج البلاغة، أضافها إلى سلسلة دراساته الخمس الشهيرة (الإمام علي صوت العدالة و الإنسانية).

يلبّي هذا الكتاب حاجة للقارى‏ء العاديّ و لطلاب المدارس و الجامعات، و للقارى‏ء المختصّ، أيضا، في هذا الزمن الذي لا يجد فيه المرء فرصة للقراءة، وسط المشاغل العديدة، و طغيان وسائل الاعلام المسموعة و المرئيّة.

و يسرّ مركز الغدير للدرسات أن يقدّم هذا الكتاب في حلته الجديدة هذه بعد نفاد طبعته، راجيا أن تتحقق به الفائدة التي توخّاها.

مركز الغدير للدرسات الإسلامية

٣

٤

في ادب الإمام

٥

حدود العقل و القلب

و كان شديدا، قاصفا، مزمجرا، كالرعد في ليالي الويل و الينبوع هو الينبوع لا حساب في جريه لليل أو نهار من تتبّع سير العظماء الحقيقيين في التاريخ لا فرق بين شرقيّ منهم أو غربي، و لا قديم و محدث، أدرك ظاهرة لا تخفى و هي أنهم، على اختلاف ميادينهم الفكرية و على تباين مذاهبهم في موضوعات النشاط الذهني، أدباء موهوبون على تفاوت في القوة و الضعف.

فهم بين منتج خلاّق، و متذوّق قريب التذوّق من الإنتاج و الخلق. حتى لكأنّ الحس الأدبي، بواسع دنيواته و معانيه و أشكاله، يلزم كل موهبة خارقة في كل لون من ألوان النشاط العظيم فنظرة واحدة الى الأنبياء، مثلا، تكفي لتقرير هذه الظاهرة في الأذهان. فما داود و سليمان و أشعيا و أرميا و أيوب و المسيح و محمد إلا أدباء أوتوا من الموهبة الأدبية ما أوتوا من سائر المواهب الخاصة بهم. و هذا نابوليون القائد، و أفلاطون الفيلسوف، و باسكال الرياضي، و باستور العالم الطبيعي، و الخيّام الحسابي، و نهرو رجل الدولة، و ديغول السياسي، و ابن خلدون المؤرخ، إنهم جميعهم أدباء لهم في الأدب ما يجعلهم في مصافّ ذوي الشأن من أهله. فلكلّ منهم لون من ألوان النشاط الفكري حدّده الطبع و الموهبة، ثم رعت النزعة الجمالية ما دخل منه في نطاق التعبير، فإذا هو من الأدب الخالص.

هذه الحقيقة تتركز جلية واضحة في شخصية علي بن أبي طالب، فإذا هو الإمام في الأدب، كما هو الإمام في ما أثبت من حقوق و في ما علّم و هدى، و آيته في ذلك «نهج البلاغة» الذي

٦

يقوم في أسس البلاغة العرب في ما يلي القرآن من أسس، و تتّصل به أساليب العرب في نحو ثلاثة عشر قرنا فتبني على بنائه و تقتبس منه و يحيا جيّدها في نطاق من بيانه الساحر.

أما البيان فقد وصل عليّ سابقه بلاحقه، فضمّ روائع البيان الجاهلي الصافي المتّحد بالفطرة السليمة اتحادا مباشرا، الى البيان الإسلامي الصافي المهذب المتحد بالفطرة السليمة و المنطق القويّ اتحادا لا يجوز فيه فصل العناصر بعضها عن بعض. فكان له من بلاغة الجاهلية، و من سحر البيان النبويّ، ما حدا بعضهم إلى أن يقول في كلامه إنه «دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوق».

و لا عجب في ذلك، فقد تهيّأت لعليّ جميع الوسائل التي تعدّه لهذا المكان بين أهل البلاغة. فقد نشأ في المحيط الذي تسلم فيه الفطرة و تصفو، ثم إنه عايش أحكم الناس محمد بن عبد اللّه، و تلقّى من النبي رسالته بكل ما فيها من حرارة و قوة. أضف الى ذلك استعداداته الهائلة و مواهبه العظيمة، فإذا بأسباب التفوّق تجتمع لديه من الفطرة و من البيئة جميعا أما الذكاء، الذكاء المفرط، فتلقى له في كل عبارة من «نهج البلاغة» عملا عظيما.

و هو ذكاء حيّ، قادر، واسع، عميق، لا تفوته أغوار. إذا هو عمل في موضوع أحاط به بعدا فما يفلت منه جانب و لا يظلم منه كثير أو قليل، و غاص عليه عمقا، و قلّبه تقليبا، و عركه عركا، و أدرك منه أخفى الأسباب و أمعنها في الاختفاء كما أدرك أصدق النتائج المترتّبة على تلك الأسباب: ما قرب منها أشدّ القرب، و ما بعد أقصى البعد.

و من شروط الذكاء العلويّ النادر هذا التسلسل المنطقي الذي تراه في النهج أنّي اتجهت.

و هذا التماسك بين الفكرة و الفكرة حتى تكون كلّ منها نتيجة طبيعية لما قبلها و علّة لما بعدها. ثم إن هذه الأفكار لا تجد فيها ما يستغنى عنه في الموضوع الذي يبحث فيه. بل إنك لا تجد فيها ما يستقيم البحث بدونه. و هو، لاتّساع مداه، لا يستخدم لفظا إلا و في هذا اللفظ ما يدعوك لأن تتأمل و تمعن في التأمل، و لا عبارة إلا و تفتح أمام النظر آفاقا وراءها آفاق.

فعن أيّ رحب وسيع من مسالك التأمّل و النظر يكشف لك قوله: «الناس أعداء ما جهلوا» أو قوله: «قيمة كل امرى‏ء ما يحسنه». أو «الفجور دار حصن ذليل».

٧

و أيّ إيجاز معجز هو هذا الايجاز: «من تخفّف لحق» و أيّ جليل من المعنى في العبارات الأربع و ما تحويه من ألفاظ قلائل فصّلت تفصيلا، بل قل أنزلت تنزيلا ثم عن أي حدّة في الذكاء و استيعاب للموضوع و عمق في الإدراك، يشفّ هذا الكشف العجيب عن طبع الحاسد و صفة نفسه و حقيقة حاله: «ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد: نفس دائم و قلب هائم و حزن لازم. مغتاظ على من لا ذنب له، بخيل بما لا يملك» و يستمرّ تولّد الأفكار في «نهج البلاغة» من الأفكار، فإذا أنت منها أمام حشد لا ينتهي.

و هي مع ذلك لا تتراكم، بل تتساوق و يترتّب بعضها على بعض. و لا فرق في ذلك بين ما يكتبه عليّ و ما يلقيه ارتجالا. فالينبوع هو الينبوع و لا حساب في جريه لليل أو نهار.

ففي خطبه المرتجلة معجزات من الأفكار المضبوطة بضابط العقل الحكيم و المنطق القويم.

و إنك لتدهش، أمام هذا المقدار من الإحكام و الضبط العظيمين، حين تعلم أن عليّا لم يكن ليعدّ خطبه و لو قبيل إلقائها بدقائق أو لحظات.

فهي جائشة في ذهنه منطلقة على لسانه عفو الخاطر لا عنت و لا إجهاد، كالبرق إذ يلمع و لا خبر يأخذه أو يعطيه قبل وميضه. و كالصاعقة إذ تزمجز و لا تهيّ‏ء نفسها لصعق أو زمجرة.

و كالريح إذ تهبّ فتلوي و تميل و تكسح و تنصبّ على غاية ثم إلى مداورها تعود و لا يدفعها إلى أن تروح و تجي‏ء إلاّ قانون الحادثة و منطق المناسبة في حدودها القائمة، لا قبل و لا بعد و من مظاهر الذكاء الضابط القويّ في نهج البلاغة تلك الحدود التي كان عليّ يضبط بها بها عواطف الحزن العميق إذ تهيج في نفسه و تعصف. فإن عاطفته الشديدة ما تكاد تغرقه في محيط من الأحزان و الكآبات البعيدة، حتى يبرز سلطان العقل في جلاء و مضاء، فإذا هو آمر مطاع.

و من ذكاء علي المفرط الشامل في نهجه كذلك أنه نوّع البحث و الوصف فأحكم في كل موضوع و لم يقصر جهده الفكري على واحد من الموضوعات أو سبل البحث. فهو يتحدث بمنطق الحكيم الخبير عن أحوال الدنيا و شؤون الناس، و طبائع الافراد و الجماعات. و هو يصف البرق و الرعد و الأرض و السماء. و يسهب في القول في مظاهر الطبيعة الحية فيصف

٨

خفايا الخلق في الخفاش و النملة و الطاووس و الجرادة و ما إليها. و يضع للمجتمع دساتير و للأخلاق قوانين. و يبدع في التحدث عن خلق الكون و روائع الوجود. و إنك لا تجد في الأدب العربي كله هذا المقدار الذي تجده في نهج البلاغة من روائع الفكر السليم و المنطق المحكم، في مثل هذا الأسلوب النادر.

أما الخيال في نهج البلاغة فمديد وسيع، خفّاق الجوانح في كل أفق. و بفضل هذا الخيال القويّ الذي حرم منه كثير من حكماء العصور و مفكري الأمم، كان عليّ يأخذ من ذكائه و تجاربه المعاني الموضوعيّة الخالصة، ثم يطلقها زاهية متحركة في إطار تثبت على جنباته ألوان الجمال على أروع ما يكون اللون. فالمعنى مهما كان عقليا جافا، لا يمرّ في مخيّلة عليّ إلاّ و تنبت له أجنحة تقضي فيه على صفة الجمود و تمدّه بالحركة و الحياة.

فخيال عليّ نموذج للخيال العبقري الذي يقوم على أساس من الواقع، فيحيط بهذا الواقع و يبرزه و يجلّيه، و يجعل له امتدادات من معدنه و طبيعته، و يصبغه بألوان كثيرة من مادته و لونه، فإذا الحقيقة تزداد وضوحا، و إذا بطالبها يقع عليها أو تقع عليه و قد تميّز عليّ بقوة ملاحظة نادرة، ثم بذاكرة واعية تخزن و تتّسع. و قد مرّ من أطوار حياته بعواطف جرّها عليه حقد الحاقدين و مكر الماكرين، و مرّ منها كذلك بعواطف كريمة أحاطه بها وفاء الطيبين و إخلاص المخلصين. فتيسّرت له من ذلك جميعا عناصر قوية تغذّي خياله المبدع. فإذا بها تتعاون في خدمة هذا الخيال و تتساوق في لوحات رائعة حيّة، شديدة الروعة و الحيوية، تتركز على واقعية صافية تمتدّ لها فروع و أغصان، ذات أوراق و أثمار و من ثمّ يمكنك، إذا أنت شئت، أن تحوّل عناصر الخيال القويّ في نهج البلاغة الى رسوم مخطوطة باللون، لشدّة واقعيّتها و اتّساع مجالها و امتداد أجنحتها و بروز خطوطها. أ لا ما أروع خيال الإمام إذ يخاطب أهل البصرة و كان بنفسه ألم منهم بعد موقعة الجمل، قائلا: «لتغرقنّ بلدتكم حتى كأنني أنظر الى مسجدها كجؤجؤ طير في لجّة بحر)(١) »

____________________

(١) الجؤجؤ: الصدر.

٩

أو في مثل هذا التشبيه الساحر: «فتن كقطع الليل المظلم».

أو هذه الصورة المتحركة: «و إنما أنا كقطب الرحى: تدور عليّ و أنا بمكاني» أو هذه اللوحة ذات الجلال التي يشبّه فيها امتدادات بيوت أهل البصرة بخراطيم الفيلة، و تبدو له شرفاتهن كأنها أجنحة النسور: «ويل لسكككم العامرة، و الدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور و خراطيم كخراطيم الفيلة» و من مزايا الخيال الرحب قوة التمثيل. و التمثيل في أدب الإمام وجه ساطع بالحياة. و إن شئت مثلا على ذلك فانظر في حال صاحب السلطان الذي يغبطه الناس و يتمنون ما هو فيه من حال، و لكنه أعلم بموضعه من الخوف و الحذر، فهو و إن أخاف بمركوبه إلاّ أنه يخشى أن يغتاله. ثم انظر بعد ذلك الى عليّ كيف يمثّل هذا المعنى يقول: «صاحب السلطان كراكب الأسد: يغبط بموقعه، و هو أعلم بموضعه.» و إن شئت مثلا آخر فاستمع اليه يمثّل حالة رجل رآه يسعى على عدوّ له بما فيه إضرار بنفسه، فيقول: «إنّما أنت كالطاعن نفسه ليقتل ردفه» و الرّدف هو الراكب خلف الراكب. ثم إليك هذا النهج الرائع في تمثيل صاحب الكذب: «إياك و مصادقة الكذّاب فإنه كالسراب: يقرّب عليك البعيد و يبعد عنك القريب» أما النظرية الفنيّة القائلة بأن كل قبيح في الطبيعة يصبح جميلا في الفن، فهي إن صحّت فإنما الدليل عليها قائم في كلام ابن أبي طالب في وصف من فارقوا الدنيا. فما أهول الموت و ما أبشع وجهه. و ما أروع كلام ابن أبي طالب فيه و ما أجمل وقعه. فهو قول آخذ من العاطفة العميقة نصيبا كثيرا، و من الخيال الخصب نصيبا أوفر. فإذا هو لوحة من لوحات الفن العظيم لا تدانيها إلاّ لوحات عباقرة الفنون في أوروبا ساعة صوّروا الموت و هوله لونا و نغما و شعرا.

فبعد أن يذكّر عليّ الأحياء بالموت و يقيم العلاقة بينهم و بينه، يوقظهم على أنهم دانون من منزل الوحشة بقول فيه من الغربة القاسية لون قائم و نغم حزين: «فكأنّ كل امرى‏ء منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته، فيا له من بيت وحدة، و منزل وحشة، و مفرد غربة» ثم يهزّهم بما هم مسرعون إليه و لا يدرون، بعبارات متقطّعة متلاحقة و كأنّ فيها دويّ طبول تنذر تقول «ما أسرع الساعات في اليوم، و أسرع الأيام في الشهر، و أسرع

١٠

الشهور في السنة، و أسرع السنين في العمر» بعد ذلك يطلق في أذهانهم هذه الصورة الرائعة التي يأمر بها العقل، و تشعلها العاطفة، و يجسّم الخيال الوثّاب عناصرها ثم يعطيها هذه الحركات المتتابعة و هي بين عيون تدمع و أصوات تنوح و جوارح تئنّ، قائلا: «و إنما الأيام بينكم و بينهم بواك و نوائح عليكم». ثم يعود فيطلق لعاطفته و خياله العنان فإذا بهما يبدعان هذه اللوحة الخالدة من لوحات الشعر الحيّ: «و لكنهم سقوا كأسا بدّلتهم بالنطق خرسا، و بالسمع صمما، و بالحركات سكونا.

فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات(١) .

جيران لا يتآنسون، و أحبّاء لا يتزاورون، بليت بينهم عرى التعارف، و انقطعت منهم أسباب الإخاء. فكلّهم وحيد و هم جميع، و بجانب الهجر و هم أخلاّء، لا يتعارفون لليل صباحا، و لا لنهار مساء. أيّ الجديدين(٢) ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا(٣) ».

ثم يقول هذا القول الرهيب: «لا يعرفون من أتاهم، و لا يحفلون من بكاهم، و لا يجيبون من دعاهم» فهل رأيت الى هذا الإبداع في تصوير هول الموت و وحشة القبر و صفة سكّانه في قوله: «جيران لا يتآنسون و أحبّاء لا يتزاورون» ثم هل فطنت إلى هذه الصورة الرهيبة لأبدية الموت التي لا ترسمها إلا عبقرية عليّ: «أيّ الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا» و مثل هذه الروائع في «النهج» كثير.

هذا الذكاء الخارق و هذا الخيال الخصب في أدب الإمام يتحدان اتحاد الطبيعة بالطبيعة، مع العاطفة الهادرة التي تمدّهما بوهج الحياة. فإذا الفكرة تتحرك و تجري في عروقها الدماء سخيّة حارّة. و إذا بها تخاطب فيك الشعور بمقدار ما تخاطب العقل لانطلاقها من عقل تمدّه العاطفة بالدف‏ء. و قد يصعب على المرء أن يعجب بأثر من آثار الفكر أو الخيال في

____________________

(١) ارتجال الصفة: وصف الحال بلا تأمل، فالواصف لهم بأول النظر يظنهم صرعى من السبات، أي النوم.

(٢) الجديدان: الليل و النهار.

(٣) سرمد: أبدي.

١١

ميادين الأدب و سائر الفنون الرفيعة، إن لم تكن للعاطفة مشاركة فعّالة في إنتاج هذا الأثر. ذلك ان المركّب الإنساني لا يرضيه، طبيعيا، إلا ما كان نتاجا لهذا المركّب كله. و هذا الأثر الأدبي الكامل، هو ما نراه في نهج البلاغة. و إنك لتحس نفسك مندفعا في تيّار جارف من حرارة العاطفة و انت تسير في نهج البلاغة من مكان إلى آخر.

أ فلا يشيع في قلبك الحنان و العطف شيوعا و أنت تصغي إلى عليّ يقول: «لو أحبّني جبل لتهافت» أو «فقد الأحبّة غربة» أو «اللهم إني أستعديك على قريش، فإنهم قد قطعوا رحمي و أكفأوا إنائي، و قالوا: «أ لا إنّ في الحق أن تأخذه و في الحق أن تمنعه، فاصبر مغموما أو مت متأسفا فنظرت فإذا ليس لي رافد و لا ذابّ و لا مساعد إلاّ أهل بيتي» و اليك كلاما له عند دفن السيدة فاطمة، يخاطب به ابن عمّه الرسول: «السلام عليك يا رسول اللّه عني و عن ابنتك النازلة في جوارك، و السريعة اللحاق بك قلّ، يا رسول اللّه، عن صفيّتك صبري، و رقّ عنها تجلّدي، إلاّ أن لي في التأسّي بعظيم فرقتك و فادح مصيبتك موضع تعزّ» و منه «أمّا حزني فسرمد، و أمّا ليلي فمسهّد، إلى أن يختار اللّه لي دارك التي أنت بها مقيم» ثم إليك هذا الخبر: روى أحدهم عن نوف البكالي بصدد إحدى خطب الإمام علي قال: خطبنا هذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين عليه السلام، و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي، و عليه مدرعة من صوف، و حمائل سيفه ليف، و في رجليه نعلان من ليف، فقال عليه السلام، في جملة ما قال: «ألا إنه أدبر من الدنيا ما كان مقبلا، و أقبل منها ما كان مدبرا. و أزمع الترحال عباد اللّه الأخيار، و باعوا قليلا من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم و هم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص، و يشربون الرّنق؟ قد، و اللّه، لقوا اللّه فوفّاهم أجورهم و أحلّهم دار الأمن بعد خوفهم أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحق؟ أين عمّار؟ و أين ابن التيهان؟ و أين ذو الشهادتين؟ و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة؟»

١٢

قال: ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة فأطال البكاء و أخبر ضرار بن حمزة الضابى‏ء قال: فأشهد لقد رأيته يقصد الإمام في بعض مواقفه، و قد أرخى الليل سدوله و هو قائم في ظلامه قابض على لحيته يتململ و يبكي بكاء الحزين و يقول: «يا دنيا يا دنيا، اليك عني أ بي تعرّضت؟ أم إليّ تشوّقت؟ لا حان حينك، هيهات غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها فعيشك قصير، و خطرك يسير، و أملك حقير آه من قلّة الزاد و طول الطريق و بعد السفر و عظيم المورد» هذه العاطفة الحارّة التي عرفها الإمام في حياته، تواكبه أنّي اتّجه في نهج البلاغة، و حيث سار. تواكبه في ما يحمل على الغضب و السخط، كما تواكبه في ما يثير العطف و الرضا.

حتى إذا رأى تخاذل أنصاره عن مساندة الحق فيما يناصر الآخرون الباطل و يحيطونه بالسلاح و بالأرواح، تألّم و شكا، و وبّخ و أنّب، و كان شديدا قاصفا، مزمجرا، كالرعد في ليالي الويل و يكفيك أن تقرأ خطبة الجهاد التي تبدأ بقوله: «أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصمّ الصّلاب الخ»، لتدرك أية عاطفة متوجّعة ثائرة هي تلك التي تمدّ هذه الخطبة بنبض الحياة و جيشانها و إنه لمن المعيي أن نسوق الأمثلة على تدفّق العاطفة الحية التي تبث الدف‏ء في مآثر الإمام.

فهي في أعماله، و في خطبه و أقواله، مقياس من المقاييس الأسس. و ما عليك إلاّ أن تفتح هذا الكتاب، كي تقف على ألوان من عاطفة ابن أبي طالب، ذات القوة الدافقة و العمق العميق

١٣

الوحدة الوجوديّة

و كان ما تباعد منها مضموما في وخدة طرفاها الأزل و الأبد الأدب اصالة في الفكر و الحس و الخيال و الذوق، تربط بين صاحبها و جملة الكائنات في وحدة وجودية مطلقة. ثم تعبّر عن نفسها بحياة تحيا على أصول من هذه الوحدة، و بأسلوب جماليّ هو تجسيم حيّ للتفاعل بين الأديب و الكون.

و لما كان العلم تجزئة كان الفنّ توحيدا. و لما كان العلم ينظر إلى الأشياء من حيث هي كائنات وجب فكّها و تذريرها، كان الفن ينظر إلى الأشياء من حيث هي كائنات مجزّأة في ظاهرها، موحّدة في أصولها و حقيقتها، مما يؤول الى فكرة الشمول الكوني و الارتباط الكامل بين مختلف مظاهر الوجود و ما كان الأدب إلا بهذا الشمول و إذا كان الفلاسفة قد فطنوا الى وحدة الوجود في العصور المتأخرة، فإن الأديب قد فطن لها منذ كان الانسان و كانت في أعماقه بذور الفن و أحاسيس الأدب. ذلك لأن دليل الفيلسوف عقله و قياسه، و كلاها محدود بالنسبة للمركّب الانساني الحيّ. و دليل الأديب شعوره و إلهامه، و هما انبثاق عاجل و امض عن جملة كيانه.

ثم إن نظرة الفيلسوف الى الكون كوحدة متفاعلة متكاملة، إن هي إلاّ نظرة تظلّ سطحية إذا ما قيست بنظرة الأديب. فالفيلسوف يشاهد و يراقب و يقيس ثم يسجّل. و أداته في ذلك العقل وحده، و العقل شي‏ء من الانسان الحي بل قل هو جانب منه. و الأديب

١٤

يتفاعل مع الكون و الحياة تفاعلا مباشرا مستمرا إذ يحس و يستلهم بعقله و شعوره و خياله و مزاجه و ذوقه جميعا، أي بجملة كيانه. و هو، إلى ذلك، أسبق و أعمق. فالأديب أستاذ الفيلسوف: أستاذه و دليله منذ كان، و أستاذه و دليله إلى الأبد و إذا كان هذا هو الأمر، و هو كذلك، فإنّ عليّ بن أبي طالب عظيم من عظماء هذه الطائفة من حيث النظرة و الأسلوب: طائفة الأدباء الخالدين الذين ينظرون إلى نجوم السماء و رمال الصحراء و مياه البحار و كساء الطبيعة فإذا هي أشياء من نفوسهم، هذه النفوس التي تستشعر في الكون قوة وجودية واحدة جامعة كانت منذ الأزل و تبقى الى الأبد.

يقول ميخائيل نعيمة الذي يمثل طاقة الفنان على الاحساس العميق بوحدة الوجود في أدبنا العربي المعاصر: «بل كيف يكون أديبا من لا يحسّ جذوره في الأزل و الأبد، و لا يحسّ ما مضى و ما سيأتي» إن هذا الإحساس بالجمال الأسمى الذي يلف الكائنات جميعا، على تباين مظاهرها، بوشاح واحد، هو ما تراه في آثار عباقرة الأدب مهما تنوّعت موضوعات هذه الآثار، و مهما اختلفت ظروفها. فإذا أنت سمعت صوت الشاعر العظيم ينطق بلسان المسيح قائلا: «تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو، و لكن أقول لكم إنه و لا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها» سمعت صوتا من أعظم ما سمع الكون، و أدركت أمتع نظرة تخترق أعماق الجمال الكلّي، و تساءلت: أنّى للتراب و الصخر و سحب السماء أن تأتي بمثل هذه الروعة و هذا الجمال، جمال زنابق الحقل و هي تنمو، لو لم تكن وحدة الوجود هذه و لو لم يكن الجمال مدار الوجود الواحد، و رابطة أجزائه منذ البداية حتى النهاية؟ و هو، في الوقت ذاته، مدار الفكرة و الشعور لدى الفنان: الخالق الصغير و من ذلك قول المسيح الرائع و قد جاؤوه بزانية جعلت على نفسها سبيلا بحكم شرائعهم: «من كان منكم بلا خطيئة فليرجم هذه الزانية بحجر» و إذا أنت سمعت قول الشاعر العظيم ينطق بلسان سليمان بن داود: «جيل يمضي و جيل يأتي و الأرض قائمة مدى الدهر. و الشمس تشرق و الشمس تغرب

١٥

ثم تسرع الى موضعها الذي طلعت منه. تذهب الريح الى الجنوب و تدور الى الشمال، تدور و تطوف في مسيرها ثم الى مداورها تعود الريح جميع الأنهار تجري الى البحر و البحر ليس بملآن ثم الى الموضع الذي جرت منه الأنهار الى هناك تعود لتجري أيضا» و إذا سمعته أيضا يقول: «أنا وردة الشارون و سوسنة الأودية، كالسوسنة بين الشوك كذلك خليلتي بين البنات.

كالتفاحة في أشجار الغابة كذلك حبيي بين البنين. قد اشتهيت فجلست في ظله و ثمره حلو في حلقي. قد ظهرت الزهور في الأرض و وافى أوان القضب و سمع صوت اليمامة في أرضنا.

«يا حمامتي التي في نخاريب الصخر و في خفايا المعاقل أريني محيّاك، أسمعيني صوتك فإن صوتك لطيف و محيّاك جميل، إلى أن ينسم النهار و تنهزم الظلال. عد يا حبيي و كن كالظبي أو كغفر الأيلة على جبال باتر.

«جميلة أنت يا خليلتي جميلة أنت و عيناك كحمامتين من وراء نقابك، و شعرك كقطيع معز يبدو من جبل جلعاد.

شفتاك كسمط من القرمز و نطقك عذب. خدّاك كفلقة رمانة من وراء نقابك.

عنقك كبرج داود المبني للسلاح الذي علق فيه ألف مجنّ، جميع تروس الجبابرة. الى أن ينسم النهار و تنهزم الظلال أنطلق إلى جبل المرّ و الى تلّ اللبّان. هلمّي معي من لبنان أيتها العروس. معي من لبنان انظري من رأس أمانة من رأس حرمون من مرابض الأسود من جبال النمور. شفتاك تقطران شهدا أيتها العروس و تحت لسانك عسل و لبن و عرف ثيابك كعرف لبنان.

«عين جنّات و بئر مياه حية و أنهار من لبنان، هبّي يا شمال و هلمّي يا جنوب انسمي على جنّتي فتنسكب أطيابها» إذا أنت سمعت ذلك و وعيته وعيا صحيحا، أدركت ان سليمان ينهل شعره من المنهل ذاته الذي ارتوى منه المسيح و إن اختلف الموضوع.

و من ذلك قول فيكتور هيغو، أحد عظماء الفنانين الذين نبغوا بعد الثورة الفرنسية، و هو

١٦

حوار بين الكواكب يرينا الشاعر به الانسان و قد ضاع و كاد يختفي هو و الأرض التي يسكنها، لضآلتهما في سعة الكون الواحد العجيب: ما هذا الصوت التافه الضعيف الذي يهمس؟

أيتها الأرض، ما الغاية من دورانك، في أفقك الضيق المحدود؟

و هل أنت سوى حبّة من الرمل مصحوبة بذرّة من رماد؟

أما أنا، ففي السماء الزرقاء الشاسعة أرسم إطارا هائلا فترى المسافة المكانية، و هي فزعة مرعوبة، جمالي مشوّها و هالتي، التي تحيل شحوب الليالي الى حمرة قانية ككرات من الذهب تعلو و تهبط متقاطعة في يد الحاوي، تبعد، و تجمع، و تمسك سبعة من الأقمار الضخمة الهائلة و ها هي الشمس تجيب: سكوتا، هناك في زاوية من السماوات، ايتها الكواكب، أنتم رعاياي هدوءا أنا الراعي و أنتم الرعية.

إنكما كعربتين تسيران جنبا الى جنب للدخول من الباب.

في أصغر بركان عندي، المريخ مع الأرض يدخلان دون أن يلمسا جوانب المدخل و ها هي ذي نجوم الدب الأصغر تضي‏ء مثل سبع أعين حيّة لها بدل الحبّات شموس و ها هو ذا طريق المجرّة يرسم غابة ناضرة جميلة مليئة بنجوم السماء أيتها الكواكب السفلى، إن مكاني من مكانكم في درجة من البعد حتى أن نجومي المضيئة الثابتة الشبيهة بمجاميع الجزائر المتناثرة في الماء، و شموسي الكثيرة، ليست بالنسبة لنظركم الضعيف القاصر،

١٧

في زاوية بعيدة من السماء شبيهة بصحراء حزينة يتلاشى الصوت فيها، سوى قليل من الرماد الأحمر قد انتثر في جوف الليل» و ها هي ذي نجوم مجرّة أخرى تصوّر عوالم لا تقلّ عن تلك العوالم، متناثرة في الأثير، ذلك المحيط الذي لا رمال فيه و لا حصباء في جوانبه، تذهب أمواجه و لكن لا تعود أبدا إلى شواطئه.

و أخيرا ها هو الإله يتحدث: «ليس لديّ إلا أن أنفخ، فيصبح كل شي‏ء ظلاما(١) » و إليك ما يقوله عليّ بن أبي طالب في صفة الطاووس(٢) : «و من أعجبها خلقا الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل، و نضّد ألوانه في أحسن تنضيد. بجناح أشرح قصبه. و ذنب أطال مسحبه. إذا درج إلى الأنثى نشره من طيّه، و سما به مظلاّ على رأسه. تخال قصبه مداري من فضّة، و ما أنبت عليه من عجيب داراته و شموسه خالص العقيان و فلذ الزبرجد. فإن شبّهته بما أنبتت الأرض قلت: جنى جني من زهرة كل ربيع. و إنّ ضاهيته بالملابس فهو كموشّى الحلل أو مونق عصب اليمن. و إن شاكلته بالحليّ فهو كفصوص ذات ألوان قد نطّقت باللجين المكلّل: يمشي مشي المرح المختال، و يتصفّح ذنبه و جناحيه فيقهقه ضاحكا لجمال سرباله و أصابيغ و شاحه «فإذا رمى ببصره الى قوائمه زقا معولا يكاد يبين عن استغاثته، و يشهد بصادق توجّعه، لأن قوائمه حمش كقوائم الدّيكة الخلاسية. و له في موضع العرف قنزعة خضراء موشّاة.

و مخرج عنقه كالإبريق، و مغرزها الى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال

____________________

(١) نظرية الأنواع الادبية، ترجمه عن الفرنسية الدكتور حسن عون.

(٢) ما تحتاج اليه من شرح المفردات و التعابير الواردة في هذه القطعة، تجده في فصل «خلقة الطاووس» بهذا الكتاب.

١٨

«و مع فتق سمعه خطّ كمستدقّ القلم في لون الأقحوان أبيض يقق، فهو ببياضه في سواد ما هنالك يأتلق. و قلّ صبغ إلاّ و قد أخذ منه بقسط و علاه بكثرة صقاله و بصيص ديباجه و رونقه فهو كالأزاهير المبثوثة لم تربّها أمطار ربيع و لا شموس قيظ. و قد ينحسر من ريشه و يعرى من لباسه فيسقط تترى، و ينبت تباعا، فينحتّ من قصبه انحتات أوراق الأغصان ثم يتلاحق ناميا حتى يعود كهيئته قبل سقوطه: لا يخالف سالف ألوانه، و لا يقع لون في غير مكانه. إذا تصفّحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة وردية، و تارة خضرة زبرجدية، و أحيانا صفرة عسجدية، فكيف تصل الى صفة هذا عمائق الفطن، أو تبلغه قرائح العقول، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين» و إليك قليلا من قوله في خلق السماء و الأرض: «فطر الخلائق بقدرته، و نشر الرياح برحمته، و وتّد بالصخور ميدان أرضه. ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء، و شقّ الأرجاء، و سكائك الهواء، فأجرى فيها ماء متلاطما تياره متراكما زخّاره، حمله على متن الرياح العاصفة، و الزعزع القاصفة. ثم أنشأ سبحانه ريحا أعتق مهبّها، و أعصف مجراها، و أبعد منشأها، فأمرها بتصفيق الماء الزخّار، و إثارة موج البحار، فمخضته مخض السقاء و عصفت به عصفها بالفضاء تردّ أوله إلى آخره، و ساجيه الى مائره...» و أوصيك خيرا بهذه الآيات الروائع التي تتحدث بها عبقرية الإمام الى المركّب الانساني جميعا فتصوّر له كيف يستوي الجليل و اللطيف من الكائنات، و الشمس و القمر، و الماء و الحجر، و الكبير و الصغير، و الهيّن و الصعب، في معنى الوجود. و كيف تشترك جميعا في صفة الكون فإذا هي متساوقة متعاونة في النشيد الأعظم: نشيد الوجود الواحد الذي لا يجوز فيه تعظيم الدوحة العاتية على حساب النبتة النامية، و لا يصحّ فيه تمجيد البحر الواسع و احتقار الساقية التي تضيع مياهها بين العشب و الحصى.

يقول عليّ: «لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلّتك الدلالة إلاّ على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة. و ما الجليل و اللطيف، و الثقيل و الخفيف، و القوي و الضعيف، في خلقه إلاّ سواء

١٩

و كذلك السماء و الهواء، و الرياح و الماء. فانظر إلى الشمس و القمر، و النبات و الشجر، و الماء و الحجر، و اختلاف هذا الليل و النهار، و تفجّر هذه البحار، و كثرة هذه الجبال، و طول هذه القلال الخ...» ثم استمع اليه يقول: «لا تنالون نعمة إلا بفراق أخرى، و لا يعمّر معمّر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله، و لا تجدّد له زيادة في أكلة إلا بنفاد ما قبلها من رزقه، و لا يحيا له أثر إلا مات له أثر، و لا يتجدّد له جديد إلاّ بعد أن يخلق له جديد، و لا تقوم له نابتة إلا و تسقط منه محصورة. و قد مضت أصول نحن فروعها» إنه الوجود الواحد يتكلم عن نفسه، بلسانه و في خاطري هذه المشابهة بين مقطع من معلّقة امرى‏ء القيس، و مقاطع كثيرة من أدب ابن أبي طالب، و هي تصبّ جميعا في معنى الوحدة الوجودية الكاملة. ثم تزيد عن ذلك بانطلاقه فذة إلى قهر الظالم و المعتدي، و إلى نصرة الضعيف في النبت و الأرض و البهيمة و الأرض الواطئة حتى يستوي الوجود قويا بهيّا.

يقول الشاعر الكوني امرؤ القيس أولا ما خلاصته: لقد قعدت لذلك البرق أرقب من أين يجي‏ء المطر، و يا لروعة ما رأيت لقد أقبل المطر من جهات أربع سيولا سيولا رأيته من بعيد فكان يمينه في تقديري على جبل «قطن» و يساره على جبلي «الستار» و «يذبل». و راح الماء ينبجس شديدا هنا و هناك فتقلب سيوله الأشجار قلبا عتيّا، و مرّ على جبل «القنان» برشاشه فأكره الوعول على النزول عنه. بعد ذلك يقول الشاعر: و تيماء لم يترك بها جذع نخلة *** و لا أطما إلاّ مشيدا بجندل

كأنّ ثبيرا في عرانين وبله *** كبير أناس في بجاد مزمّل

كأن ذرى رأس المجيمر غدوة *** من السيل و الغثّاء فلكة مغزل

و ألقى بصحراء الغبيط بعاعه *** نزول اليماني ذي العياب المحمّل

٢٠

كأنّ مكاكيّ الجواء غديّة *** نشاوى سلاف من رحيق مفلفل

كأنّ السباع فيه غرقى عشيّة *** بأرجائه القصوى، أنا بيش عنصل

فأنت ترى الى امرى‏ء القيس كيف يلحظ أن المطر قد أسقط نخل تيماء كلّه، و جرف أبنيتها فلم يبق منها إلا المشيد بالجنادل و الصخور. أما جبل «ثبير» المعتز بشموخه على ما حوله من الأرض الواطئة، فقد غطاه المطر إلاّ رأسه، فبدا كشيخ قوم ملتفّ بكساء مخطط. و تتابع الأمطار طوفانها حول الجبال ثم تلقي أثقالها جميعا في الصحارى التي ظلّت زمنا قاحلة لا نبت فيها و لا رواء، فإذا بها تنبت عشبا و زهرا ملوّنا يشبه الثياب الملونة الحسناء التي ينشرها التاجر اليماني امام أعين الناس. و قد أحسن المطر إلى هذه الصحارى المجدبة فإذا هي رياض زاهية تغنّي بها الطير طربة سكرى أمّا الوحوش الضارية التي كانت تستبيح لنفسها افتراس الضعيف من الحيوان و الطير، فقد ذلّها المطر و أغرقها فطفت على الماء كأنها جذور البصل البرّي.

و هكذا يبدو المطر في خاطر الشاعر الجاهلي الكبير، الذي يتابع رحلته حتى النهاية، و كأنه يمثّل قوة الوجود المدبّرة. فهو قويّ عادل كريم ينصر الصعفاء الممثّلين بالأرض الواطئة و صغار الطير، فيملأ الوادي بالنبت و الزهر و اللون و يدخل الفرحة على قلوب العصافير فتطرب و تغنّي. و يداعب الأقوياء الممثّلين بالجبال التي يضايقها من كل جانب و يضعف من شأنها. و يفتك بذوي البطش الممثلين بالسباع الضارية فيقهرها و يغرقها و يجعلها تافهة و هذا عليّ يحسّ أمام الغيث ما أحسّه امرؤ القيس من تمثيله القوة العادلة الكريمة، فيقول في خاتمة حديث طويل: «فلما ألقت السحائب بعاع ما استقلّت به(١) من العب‏ء المحمول عليها، أخرج به من هوامد الأرض النبات(٢) و من زعر الجبال الأعشاب(٣) فهي تبهج بزينة رياضها

____________________

(١) البعاع: ثقل السحاب من الماء. و ألقى السحاب بعاعه: أمطر كل ما فيه.

(٢) الهوامد من الأرض: ما لم يكن بها نبات.

(٣) زعر، مجمع أزعر، و هو: الموضع القليل النبات.

٢١

و تزدهي بما ألبسته من ريط أزاهيرها(١) و حلية ما سمطت به(٢) من ناضر أنوارها، و جعل ذلك بلاغا للأنام و رزقا للأنعام» ثم إن عليّا يوجز الفكرة البعيدة في ما شاهده امرؤ القيس من عمل المطر في الجبال و السباع، بهذه الكلمة: «من تعظّم على الزمان أهانه» و إن هذه الروائع التي عبرت بنا في هذا الفصل، لتنبع كلّها من معين واحد بالرغم من اختلاف موضوعاتها و تباين أغراضها و تباعد ظروفها. ففيها جميعا هذه الاصالة في الفكر و الحس و الخيال و الذوق، التي تربط بين صاحبها و جملة الكائنات في وحدة وجودية مطلقة و أراك حيث رحت في أدب عليّ بن أبي طالب، شاعرا بهذه الاصالة التي تحدوه أبدا إلى اكتناه الروابط الخفية الكامنة وراء مظاهر الحياة و الموت، و وراء الأشكال التي تختلف على الحقيقة الواحدة الثابتة التي لا تختلف. و ما نزعته التوحيدية الجامحة إلا نزعة الأديب الحق يريد أن يركّز الوجود، في عقله و قلبه على السواء، على أصول لا يجوز فيها قديم و لا جديد و يتبيّن من نهج البلاغة ان نظريات ابن أبي طالب الاجتماعية و الأخلاقية، تنبع بصورة مباشرة أو غير مباشرة من هذه النظرة الواحدة الشاملة الى الوجود. فما أقرب الموت من الحياة في سنّة الوجود. و ما أقرب طرفي الخير و الشر. و ما أكثر ما يجتمع الحزن و السرور في قلب واحد في وقت معا، و الكسل و النشاط في جسد واحد. «فربّ بعيد هو أقرب من قريب في أدب ابن أبي طالب و ربّ رجاء يؤدي الى الحرمان، و تجارة تؤول الى الخسران». و ليس عجيبا أن يجوز في الناس قول ابن أبي طالب: «من حفر لأخيه بئرا وقع فيها، و من هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته، و من تكبّر على الناس ذلّ» فالدائرة الوجودية الواحدة تقضي على الناس و الأشياء و الكائنات جميعا بالخضوع لقاعدتها

____________________

(١) ريط، جمع ريطة بالفتح و هي كل ثوب رقيق ليّن.

(٢) سمط الشي‏ء: علقت عليه السموط و هي: الخيوط تنظم في القلادة.

٢٢

التعادلية التي أدركها الإمام بحدسه و عقله و حسّه على السواء، إدراكا عجيبا لشدة ما فيه من الوضوح ثم لكثرة ما يمدّ صاحبه بالقوة على الكشف، فإذا به يعبّر عن هذا الإدراك بكلمات تؤلف قواعد رياضية تتناول المظاهر و تنفذ منها الى ما وراءها من أصول وجودية عميقة ثابتة.

و هكذا يستوي ابن أبي طالب و قمم الوجود على صعيد واحد من النظرة الى الحياة الواحدة، و الاحساس العميق بالوجود الواحد، فإذا بأدبه صرخات متلاحقة تنطلق من قلب عبقريّ يريد أن ينفذ إلى الأشياء حتى يرى أغوارها فيطمئن الى هذا الإدراك، و حتى يعقل ما تباين منها ثابتا على قاعدة، و ما اختلف منها نابعا من أصل، و ما تباعد منها مضموما في وحدة طرفاها الأزل و الأبد

٢٣

الاسلوب و العبقريّة الخطابيّة

بيان لو نطق بالتقريع لانقضّ على لسان العاصفة انقضاضا و لو هدّد الفساد و المفسدين لتفجّر براكين لها أضواء و أصوات و لو دعا إلى تأمّل لرافق فيك منشأ الحسّ و أصل التفكير فساقك الى ما يريده سوقا و وصلك بالكون وصلا و يندمج الشكل بالمعنى اندماج الحرارة بالنار و الضوء بالشمس و الهواء بالهواء، فما أنت إزاءه إلا ما يكون المرء قبالة السيل إذ ينحدر و البحر إذ يتموّج و الريح إذ تطوف أما إذا تحدّث اليك عن بهاء الوجود و جمال الخلق، فإنما يكتب على قلبك بمداد من نجوم السماء و من اللفظ ما له وميض البرق، و ابتسامة السماء في ليالي الشتاء، هذا من حيث المادة. أما من حيث الأسلوب، فعليّ بن أبي طالب ساحر الأداء. و الأدب لا يكون إلاّ بأسلوب، فالمبنى ملازم فيه للمعنى، و الصورة لا تقلّ في شي‏ء عن المادة.

و أيّ فنّ كانت شروط الإخراج فيه أقل شأنا من شروط المادة

٢٤

و إن قسط علي بن أبي طالب من الذوق الفني، أو الحسّ الجمالي، لممّا يندر وجوده.

و ذوقه هذا كان المقياس الطبيعي الضابط للطبع الأدبي عنده. أما طبعه هذا فهو طبع ذوي الموهبة و الاصالة الذين يرون فيشعرون و يدركون فتنطلق ألسنتهم بما تجيش به قلوبهم و تنكشف عنه مداركهم انطلاقا عفويا. لذلك تميّز أدب عليّ بالصدق كما تميّزت به حياته.

و ما الصدق إلا ميزة الفن الأولى و مقياس الأسلوب الذي لا يخادع.

و إن شروط البلاغة، التي هي موافقة الكلام لمقتضى الحال، لم تجتمع لأديب عربي كما اجتمعت لعليّ بن أبي طالب. فإنشاؤه مثل أعلى لهذه البلاغة، بعد القرآن. فهو موجز على وضوح، قويّ جيّاش، تامّ الانسجام لما بين ألفاظه و معانيه و أغراضه من ائتلاف، حلو الرنّة في الأذن موسيقيّ الوقع. و هو يرفق و يلين في المواقف التي لا تستدعي الشدة.

و يشتدّ و يعنف في غيرها من المواقف، و لا سيما ساعة يكون القول في المنافقين و المراوغين و طلاّب الدنيا على حساب الفقراء و المستضعفين و أصحاب الحقوق المهدورة. فأسلوب عليّ صريح كقلبه و ذهنه، صادق كطويته، فلا عجب أن يكون نهجا للبلاغة.

و قد بلغ أسلوب عليّ من الصدق حدّا ترفّع به حتى السجع عن الصنعة و التكلّف.

فإذا هو على كثرة ما فيه من الجمل المتقاطعة الموزونة المسجّعة، أبعد ما يكون عن الصنعة، و أقرب ما يكون من الطبع الزاخر.

فانظر الى هذا الكلام المسجّع و الى مقدار ما فيه من سلامة الطبع: «يعلم عجيج الوحوش في الفلوات، و معاصي العباد في الخلوات، و اختلاف النينان في البحار الغامرات، و تلاطم الماء بالرياح العاصفات» أو إلى هذا القول من إحدى خطبه: «و كذلك السماء و الهواء، و الرياح و الماء، فانظر الى الشمس و القمر، و النبات و الشجر، و الماء و الحجر، و اختلاف هذا الليل و النهار، و تفجّر هذه البحار، و كثرة الجبال، و طول هذه القلال، و تفرّق هذه اللغات، و الألسن المختلفات الخ...» و أوصيك خيرا بهذا السجع الجاري مع الطبع: «ثم زيّنها بزينة الكواكب، و ضياء الثواقب(١) و أجرى فيها سراجا مستطيرا(٢) و قمرا

____________________

(١) الثواقب: المنيرة المشرقة.

(٢) سراجا مستطيرا: منتشر الضياء. و يريد به الشمس.

٢٥

منيرا، في فلك دائر، و سقف سائر الخ». فإنك لو حاولت إبدال لفظ مسجوع في هذه البدائع جميعا، بآخر غير مسجوع، لعرفت كيف يخبو إشراقها، و يبهت جمالها، و يفقد الذوق فيها أصالته و دقّته و هما الدليل و المقياس. فالسجع في هذه الأقوال العلوية ضرورة فنية يقتضيها الطبع الذي يمتزج بالصناعة امتزاجا حتى لكأنهما من معدن واحد يبعث النثر شعرا له أوزان و أنغام ترفق المعنى بصور لفظية من جوّها و من طبيعتها.

و من سجع الإمام آيات تردّ النغم على النغم ردّا جميلا، و تذيب الوقع في الوقع على قرارات لا أوزن منها على السمع و لا أحبّ ترجيعا. و مثال ذلك ما ذكرناه من سجعاته منذ حين، ثم هذه الكلمات الشهيات على الأذن و الذوق جميعا: «أنا يوم جديد، و أنا عليك شهيد، فاعمل فيّ خيرا، و قل خيرا» و إذا قلنا إن أسلوب عليّ تتوفّر فيه صراحة المعنى و بلاغة الأداء و سلامة الذوق، فإنما نشير إلى القارى‏ء بالرجوع الى «روائع نهج البلاغة» هذا ليرى كيف تتفجّر كلمات عليّ من ينابيع بعيدة القرار في مادّتها، و بأيّة حلّة فنيّة رائعة الجمال تمور و تجري.

و إليك هذه التعابير الحسان في قوله: «المرء مخبوء تحت لسانه» و في قوله: «الحلم عشيرة» أو في قوله: «من لان عوده كثفت أغصانه» أو في قوله: «كلّ وعاء يضيق بما جعل فيه إلاّ وعاء العلم فإنّه يتّسع» أو في قوله أيضا: «لو أحبّني جبل لتهافت». أو في هذه الأقوال الرائعة: «العلم يحرسك و أنت تحرس المال. ربّ مفتون بحسن القول فيه. إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، و إذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه. ليكن أمر الناس عندك في الحق سواء. افعلوا الخير و لا تحقروا منه شيئا فإنّ صغيره كبير و قليله كثير.

هلك خزّان المال و هم أحياء. ما متّع غنيّ إلاّ بما جاع به فقير».

ثمّ استمع إلى هذا التعبير البالغ قمّة الجمال الفنّي و قد أراد به أن يصف تمكّنه من التصرف بمدينة الكوفة كيف شاء، قال: «ما هي إلاّ الكوفة أقبضها و أبسطها...» فأنت ترى ما في أقواله هذه من الأصالة في التفكير و التعبير، هذه الأصالة التي تلازم الأديب الحقّ بصورة مطلقة و لا تفوته إلاّ إذا فاتته الشخصية الأدبية ذاتها.

٢٦

و يبلغ أسلوب عليّ قمّة الجمال في المواقف الخطابية، أي في المواقف التي تثور بها عاطفته الجيّاشة، و يتّقد خياله فتعتلج فيه صور حارّة من أحداث الحياة التي تمرّس بها. فإذا بالبلاغة تزخر في قلبه و تتدفّق على لسانه تدفّق البحار. و يتميّز أسلوبه، في مثل هذه المواقف، بالتكرار بغية التقرير و التأثير، و باستعمال المترادفات و باختيار الكلمات الجزلة ذات الرنين. و قد تتعاقب فيه ضروب التعبير من إخبار الى استفهام الى تعجّب الى استنكار. و تكون مواطن الوقف فيه قويّة شافية للنفس. و في ذلك ما فيه من معنى البلاغة و روح الفن. و اليك مثلا على هذا خطبة الجهاد المشهورة، و قد خطب عليّ بها الناس لما أغار سفيان بن عوف الأسدي على مدينة الأنبار بالعراق و قتل عامله عليها: «هذا أخو غامد(١) قد بلغت خيله الأنبار و قتل حسّان بن حسّان البكري و أزال خيلكم عن مسالحها و قتل منكم رجالا صالحين.

«و قد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، و الأخرى المعاهدة، فينزع حجلها، و قلبها، و رعاثها، ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم، و لا أريق لهم دم، فلو أن امرءا مسلما مات من بعد هذا أسفا، ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا.

«فيا عجبا و اللّه يميت القلب و يجلب الهمّ اجتماع هؤلاء على باطلهم و تفرّقكم عن حقكم. فقبحا لكم حين صرتم غرضا يرمى: يغار عليكم و لا تغيرون، و تغزون و لا تغزون، و يعصى اللّه و ترضون» فانظر الى مقدرة الإمام في هذه الكلمات الموجزة. فإنه تدرّج في إثارة شعور سامعيه حتى وصل بهم الى ما يصبو اليه. و سلك الى ذلك طريقا تتوفّر فيه بلاغة الاداء و قوة التأثير.

فإنه أخبر قومه بغزو سفيان بن عوف الأنبار، و في ذلك ما فيه من عار يلحق بهم. ثم أخبرهم بأن هذا المعتدي إنما قتل عامل أمير المؤمنين في جملة ما قتل، و بأن هذا المعتدي لم يكتف بذلك بل أغمد سيفه في نحور كثيرة من رجالهم و أهليهم.

____________________

(١) اذا شئت شرحا للمفردات و التعابير الغريبة الواردة في هذه الخطبة، فارجع اليها في مكانها من هذا الكتاب.

٢٧

و في الفقرة الثانية من الخطبة توجّه الإمام إلى مكان الحميّة من السامعين، الى مثار العزيمة و النخوة من نفس كل عربي، و هو شرف المرأة. و عليّ يعلم أن من العرب من لا يبذل نفسه إلاّ للحفاظ على سمعة امرأة و على شرف فتاة، فإذا هو يعنّف هؤلاء القوم على القعود دون نصرة المرأة التي استباح الغزاة حماها ثم انصرفوا آمنين، ما نالت رجلا منهم طعنة و لا أريق لهم دم.

ثم إنه أبدى ما في نفسه من دهش و حيرة من امر غريب: «فإنّ أعداءه يتمسكون بالباطل فيناصرونه، و يدينون بالشر فيغزون الأنبار في سبيله، فيما يقعد أنصاره حتى عن مناصرة الحق فيخذلونه و يفشلون عنه.

و من الطبيعي ان يغضب الإمام في مثل هذا الموقف، فإذا بعبارته تحمل كل ما في نفسه من هذا الغضب، فتأتي حارّة شديدة مسجّعة مقطّعة ناقمة: فقبحا لكم حين صرتم غرضا يرمى: يغار عليكم و لا تغيرون، و تغزون و لا تغزون. و يعصى اللّه و ترضون» و قد تثور عاطفته و تتقطّع فإذا بعضها يزحم بعضا على مثل هذه الكلمات المتقطّعة المتلاحقة: «ما ضعفت، و لا جبنت، و لا خنت، و لا وهنت» و قد تصطلي هذه العاطفة بألم ثائر يأتيه من قوم أراد لهم الخير و ما اردوه لأنفسهم لغفلة في مداركهم و وهن في عزائمهم، فيخطبهم بهذا القول الثائر الغاضب، قائلا: «ما لي أراكم أيقاظا نوّما، و شهودا غيّبا، و سامعة صمّاء، و ناطقة بكماء الخ» و الخطباء العرب كثيرون، و الخطابة من الأشكال الأدبية التي عرفوها في الجاهلية و الاسلام و لا سيّما في عصر النبي و الخلفاء الراشدين لما كان لهم بها من حاجة. أمّا خطيب العهد النبويّ الأكبر فالنبيّ لا خلاف في ذلك. أمّا في العهد الراشدي، و في ما تلاه من العصور العربية قاطبة، فإنّ أحدا لم يبلغ ما بلغ إليه عليّ بن أبي طالب في هذا النحو. فالنطق السهل لدى عليّ كان من عناصر شخصيته و كذلك البيان القويّ بما فيه من عناصر الطبع و الصناعة جميعا. ثم إنّ اللّه يسّر له العدّة الكاملة لما تقتضيه الخطابة من مقوّمات أخرى على ما مرّ بنا. فقد ميّزه اللّه بالفطرة السليمة، و الذوق الرفيع، و البلاغة الآسرة، ثم بذخيرة

٢٨

من العلم انفرد بها عن أقرانه، و بحجّة قائمة، و قوّة إقناع دامغة، و عبقريّة في الارتجال نادرة. أضف إلى ذلك صدقه الذي لا حدود له و هو ضرورة في كلّ خطبة ناجحة، و تجاربه الكثيرة المرّة التي كشفت لعقله الجبّار عن طبائع الناس و أخلاقهم و صفات المجتمع و محرّكاته. ثم تلك العقيدة الصلبة التي تصعب مداراتها و ذلك الألم العميق الممزوج بالحنان العميق، و بطهارة القلب و سلامة الوجدان و شرف الغاية.

و إنّه من الصعب أن تجد في شخصيات التاريخ من اجتمعت لديه كلّ هذه الشروط التي تجعل من صاحبها خطيبا فذّا، غير عليّ بن أبي طالب و نفر من الخلق قليل، و ما عليك إلاّ استعراض هذه الشروط، ثم استعراض مشاهير الخطباء في العالمين الشرقي و الغربي، لكي تدرك أنّ قولنا هذا صحيح لا غلوّ فيه.

و ابن أبي طالب على المنبر رابط الجأش شديد الثقة بنفسه و بعدل القول. ثم إنه قويّ الفراسة سريع الإدراك يقف على دخائل الناس و أهواء النفوس و أعماق القلوب، زاخر جنانه بعواطف الحريّة و الانسانية و الفضيلة، حتّى إذا انطلق لسانه الساحر بما يجيش به قلبه أدرك القوم بما يحرّك فيهم الفضائل الراقدة و العواطف الخامدة.

أمّا إنشاؤه الخطابي فلا يجوز وصفه إلاّ بأنه أساس في البلاغة العربية. يقول أبو الهلال العسكري صاحب «الصناعتين»: ليس الشأن في إيراد المعاني وحدها و إنّما هو في جودة اللفظ، أيضا، و صفائه و حسنه و بهائه و نزاهته و نقائه و كثرة طلاوته و مائه مع صحة السبك و التركيب و الخلوّ من أود النظم و التأليف.

من الألفاظ ما هو فخم كأنه يجرّ ذيول الأرجوان أنفة و تيها. و منها ما هو ذو قعقعة كالجنود الزاحفة في الصفيح. و منها ما هو كالسيف ذي الحدّين. و منها ما هو كالنقاب الصفيق يلقى على بعض العواطف ليستر من حدّتها و يخفّف من شدّتها. و منها ما له ابتسامة السماء في ليالي الشتاء من الكلام ما يفعل كالمقرعة، و منه ما يجري كالنبع الصافي.

كل ذلك ينطبق على خطب عليّ في مفرداتها و تعابيرها. هذا بالإضافة إلى أنّ الخطبة تحسن إذا انطبعت بهذه الصفات اللفظية على رأي صاحب الصناعتين، فكيف بها إذا كانت،

٢٩

كخطب ابن أبي طالب، تجمع روعة هذه الصفات في اللفظ إلى روعة المعنى و قوّته و جلاله و إليك شيئا مما قلناه في الجزء الثالث من كتابنا «الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانية» بصدد بيان الإمام، لا سيما ما كان منه في خطبه: نهج للبلاغة آخذ من الفكر و الخيال و العاطفة آيات تتّصل بالذوق الفنّي الرفيع ما بقي الانسان و ما بقي له خيال و عاطفة و فكر، مترابط بآياته متساوق، متفجّر بالحسّ المشبوب و الإدراك البعيد، متدفّق بلوعة الواقع و حرارة الحقيقة و الشوق إلى معرفة ما وراء هذا الواقع، متآلف يجمع بين جمال الموضوع و جمال الإخراج حتى ليندمج التعبير بالمدلول، أو الشكل بالمعنى، اندماج الحرارة بالنار و الضوء بالشمس و الهواء بالهواء، فما أنت إزاءه إلاّ ما يكون المرء قبالة السيل إذ ينحدر و البحر إذ يتموّج و الريح إذ تطوف. أو قبالة الحدث الطبيعي الذي لا بدّ له أن يكون بالضرورة على ما هو كائن عليه من الوحدة لا تفرّق بين عناصرها إلاّ لتمحو وجودها و تجعلها إلى غير كون بيان لو نطق بالتقريع لانقضّ على لسان العاصفة انقضاضا و لو هدّد الفساد و المفسدين لتفجّر براكين لها أضواء و أصوات و لو انبسط في منطق لخاطب العقول و المشاعر فأقفل كلّ باب على كلّ حجّة غير ما ينبسط فيه و لو دعا إلى تأمّل لرافق فيك منشأ الحسّ و أصل التفكير، فساقك إلى ما يريده سوقا، و وصلك بالكون وصلا، و وحّد فيك القوى للاكتشاف توحيدا. و هو لو راعاك لأدركت حنان الأب و منطق الأبوّة و صدق الوفاء الانساني و حرارة المحبّة التي تبدأ و لا تنتهي أمّا إذا تحدّث إليك عن بهاء الوجود و جمالات الخلق و كمالات الكون، فإنّما يكتب على قلبك بمداد من نجوم السماء بيان هو بلاغة من البلاغة، و تنزيل من التنزيل. بيان اتّصل بأسباب البيان العربي ما كان منه و ما يكون، حتى قال أحدهم في صاحبه ان كلامه دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوق

٣٠

و خطب علي جميعا تنضح بدلائل الشخصية حتى لكأنّ معانيها و تعابيرها هي خوالج نفسه بالذات، و أحداث زمانه التي تشتعل في قلبه كما تشتعل النار في موقدها تحت نفخ الشمال. فإذا هو يرتجل الخطبة حسّا دافقا و شعورا زاخرا و إخراجا بالغا غاية الجمال.

و كذلك كانت كلمات عليّ بن أبي طالب المرتجلة، فهي أقوى ما يمكن للكلمة المرتجلة أن تكون من حيث الصدق، و عمق الفكرة، و فنّية التعبير، حتى انها ما نطقت بها شفتاه ذهبت مثلا سائرا.

فمن روائعه المرتجلة قوله لرجل أفرط في مدحه بلسانه و أفرط في اتّهامه بنفسه: «أنا دون ما تقول و فوق ما في نفسك».

و من ذلك أنه لمّا اعتزم أن يقوم وحده لمهمّة جليلة تردّد فيها أنصاره و تخاذلوا، جاءه هؤلاء و قالوا له و هم يشيرون إلى أعدائه: يا أمير المؤمنين نحن نكفيكهم. فقال من فوره: «ما تكفونني أنفسكم فكيف تكفوني غيركم؟ إن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها، فإنني اليوم لأشكو حيف رعيّتي، كأنّي المقود و هم القادة».

و لمّا قتل أصحاب معاوية محمد بن أبي بكر فبلغه خبر مقتله قال: «إن حزننا عليه قدر سرورهم به، ألا إنّهم نقصوا بغيضا و نقصنا حبيبا».

و سئل: أيهما أفضل: العدل أم الجود؟ فقال: «العدل يضع الأمور مواضعها، و الجود يخرجها من جهتها، و العدل سائس عامّ، و الجود عارض خاصّ، فالعدل أشرفهما و أفضلهما».

و قال في صفة المؤمن، مرتجلا: «المؤمن بشره في وجهه، و حزنه في قلبه، أوسع شي‏ء صدرا، و أذلّ شي‏ء نفسا.

يكره الرفعة، و يشنأ السمعة، طويل غمّه، بعيد همّه، كثير صمته، مشغول وقته، شكور صبور، سهل الخليقة، ليّن العريكة» و سأله جاهل متعنّت عن معضلة، فأجابه على الفور: «اسأل تفقّها و لا تسأل تعنّتا فإنّ الجاهل المتعلم شبيه بالعالم، و إنّ العالم المتعسّف شبيه بالجاهل المتعنّت»

٣١

و الخلاصة أنّ عليّ بن أبي طالب أديب عظيم نشأ على التمرّس بالحياة و على المرانة بأساليب البلاغة فإذا هو مالك ما يقتضيه الفنّ من أصالة في شخصية الأديب، و من ثقافة خاصّة تنمو بها الشخصية و تتركز الأصالة.

أمّا اللغة، لغتنا العربية الحبيبة التي قال فيها مرشلوس في المجلد الأول من كتابه «رحلة الى الشرق» هذا القول الذكيّ: «اللغة العربية هي الأغنى و الأفصح و الأكثر و الألطف وقعا بنى سائر لغات الأرض. بتراكيب أفعالها تتبع طيران الفكر و تصوّره بدقّة، و بأنغام مقاطعها الصوتية تقلّد صراخ الحيوانات و رقرقة المياه الهاربة و عجيج الرياح و قصف الرعد»، أمّا هذه اللغة، بما ذكر مرشلوس من صفاتها و بما لم يذكر، فإنّك واجد أصولها و فروعها، و جمال ألوانها و سحر بيانها، في أدب الامام عليّ و كان أدبا في خدمة الإنسان و الحضارة

٣٢

٣٣

٣٤

العدالة الكونيّة و ما يمثّله علىّ منها

٣٥

تكافؤ الوجود

و أحسّ عليّ أنّ هذا الكون العظيم متعاون متكافل فكان من ذلك أن الريح إذا اشتدّت حرّكت الأغصان تحريكا شديدا، و إذا أجفلت قلعت الأشجار و هاجت لها العناصر، و أنها إذا لانت و جرت فويق الأرض جريا خفيفا سكرت بها صفحات الماء و سكنت تحتها الأشياء و أدرك كذلك أن قوة الوجود الشاملة ترعى هشيم النبت بقانون ترعى به الورق الأخضر و الزرع الذي استوى على سوقه و اهتزّ للريح و أسقط ابن أبي طالب نظرية التجّار بقول تناوله من روح الوجود و كأنه يشارك به الكون في التعبير عمّا في ضميره نظرة واحدة يلقيها المرء على الكون الخارجي و أحواله: على النجوم الثابتة في سعة الوجود و الكواكب السابحة في آفاق الأبد، و على الشمس المشرقة و السحاب العارض و الريح ذات الزفيف، و على الجبال تشمخ و البحار تقصفها القواصف أو يسجو على صفحاتها الليل،

٣٦

تكفيه لأن يثق بأنّ للكون قانونا و أنّ لأحواله ناموسا واقعا كلّ منهما تحت الحواسّ و قائما بكل مقياس.

و نظرة واحدة يلقيها المرء على ما يحيط به من الطبيعة القريبة و أحوالها: على الصيف إذ يشتدّ حرّه و تسكن ريحه، و الخريف إذ يكتئب غابه و تتناوح أهواؤه و تعبس فيه أقطار السماء، و الشتاء إذ ترعد أجواؤه و تضطرب بالبروق و تندفع أمطاره عبابا يزحم عبابا و تختلط غيومه حتى لتخفي عليك معالم الأرض و السماء، و الربيع يبسط لك الدنيا آفاقا نديّة و أنهارا غنيّة و خصبا و رواء و جنانا ذات ألوان، كافية لأن تجعله يثق بأنّ لهذه الطبيعة قانونا و أنّ لأحوالها ناموسا واقعا كلّ منهما تحت الحواسّ و قائما بكل مقياس.

و نظرة فاحصة واحدة يلقيها المرء على هذي و ذاك، كافية لتدلّه على أنّ هذه النواميس و القوانين صادقة ثابتة عادلة، يقوم منطقها الصارم بهذه الصفات، و فيها وحدها ما يبرّر وجود هذا الكون العظيم ألقى ابن أبي طالب تلك النظرة على الكون فوعى وعيا مباشرا ما في نواميسه من صدق و ثبات و عدل، فهزّه ما رأى و ما وعى، و جرى في دمه و مشى في كيانه و اصطخب فيه إحساسا و فكرا، فتحرّكت شفتاه تقولان: «ألا و إنه بالحق قامت السماوات و الأرض».

و لو حاولت أن تجمع الصدق و الثبات و العدل في كلمة واحدة، لما وجدت لفظة تحويها جميعا غير لفظة «الحق». ذلك لما يتّحد في مدلولها من جوهر الكلمات الثلاث و أدرك ابن أبي طالب في أعماقه أنّ المقايسة تصحّ أصلا و فرعا بين السماء و الأرض اللتين قامتا بالحقّ و استوتا بوجوده المتلازمة الثلاثة: الصدق و الثبوت و العدل، و بين الدولة التي لا بدّ لها أن تكون صورة مصغّرة عن هذا الكون القائم على أركان سليمة ثابتة، فإذا به يحيا في عقله و ضميره هذه المقايسة على صورة عفوية لا مجال فيها لواغل من الشعور أو لغريب من التفكير، ثم لا يلبث أن يقول: «و أعظم ما افترض من تلك الحقوق حقّ الوالي على الرعية، و حقّ الرعيّة على الوالي فريضة فرضها اللّه لكلّ على كلّ، فجعلها نظاما لألفتهم، فليست تصلح الرعيّة إلاّ بصلاح الولاة، و لا يصلح الولاة إلاّ باستقامة الرعيّة. فإذا أدّت الرعيّة إلى الوالي حقّه،

٣٧

و أدّى الوالي إليها حقّها، عزّ الحقّ بينهم، و اعتدلت معالم العدل و جرت على أذلالها السّنن(١) فصلح بذلك الزمان و طمع في بقاء الدولة. و إذا غلبت الرعيّة واليها، أو أجحف الوالي برعيّته، اختلفت هنالك الكلمة و ظهرت معالم الجور و تركت محاجّ السّنن فعمل بالهوى و عطّلت الأحكام و كثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل(٢) و لا لعظيم باطل فعل فهنالك تذلّ الأبرار و تعزّ الأشرار و تعظم تبعات اللّه عند العباد» و أوصيك خيرا بهذا الإحكام للروابط العامة الكبرى بين عناصر الدولة على لسان علي، ثم بين الأعمال الخيّرة المنتجة و بين ثبوت هذه العناصر على أسس من الحق، أو قل من الصدق و الثبوت و العدل: وجوه الحق الثلاثة التي تقوم بها السماوات و الأرض.

و أحسّ عليّ أن هذا الكون العظيم متعاون متكافل فكان من ذلك أنّ الريح إذا اشتدّت حرّكت الأغصان تحريكا شديدا، و إذا أجفلت قلعت الأشجار و هاجت لها العناصر، و أنّها إذا لانت و جرت فويق الأرض جريا خفيفا سكرت بها صفحات الماء و سكنت تحتها الأشياء.

و أحسّ أن الشمس إذا ألقت على الأرض نورها بدت معالم الأرض للعيون و الأذهان، و إذا خلّتها خلّت عليها من الظلمة ستارا. و أنّ النبتة تنمو و تزهو و تورق و قد تثمر، و هي شي‏ء يختلف في شكله و غايته عن أشعّة النهار و جسم الهواء و قطرة الماء و تراب الأرض، و لكنها لا تنمو و لا تورق إلاّ بهذه الأشعّة و هذا الجسم و هذه القطرة و هذا التراب.

و أحسّ أنّ الماء الذي «تلاطم تيّاره و تراكم زخّاره» كما يقول، إنّما «حمل على متن الريح العاصفة و الزعزع القاصفة». و أنّ الريح التي «أعصف اللّه مجراها و أبعد منشأها» مأمورة على بعد هذا المنشأ «بتصفيق الماء الزخّار و إثارة موج البحار، تعصف به

____________________

(١) أذلال، جمع ذل بكسر الذال و ذل الطريق: محجّته، و هي جادته، أي وسطه. و جرت السنن أذلالها، أو على أذلالها: جرت على وجوهها.

(٢) أي، اذا عطل الحق لا تأخذ النفوس وحشة أو استغراب لتعوّدها تعطيل الحقوق و أفعال الباطل، و لاستهانتها بما تفعل.

٣٨

عصفها بالفضاء و تردّ أوّله إلى آخره، و ساجيه إلى مائره(١) حتى يعبّ عبابه». و من زينة الأرض و بهجة القلوب هذه النجوم و هذي الكواكب، و ضياء الثواقب(٢) و السراج المستطير(٣) و القمر المنير أحسّ ابن أبي طالب من وراء ذلك جميعا أنّ هذا الكون القائم بالحقّ، إنّما ترتبط عناصره بعضها ببعض ارتباط تعاون و تساند، و أنّ لقواه حقوقا افترضت لبعضها على بعض، و أنّها متكافئة في كلّ وجوهها متلازمة بحكم وجودها و استمرارها.

فأدرك في أعماقه أنّ المقايسة تصحّ أصلا و فرعا بين هذه العناصر المتعاونة المتكافئة، و بين البشر الذين لا بدّ لهم أن يكوّنوا متعاونين متكافئين بحكم وجودهم و استمرارهم، فهم من أشياء هذا الكون يجري عليهم ما يجري على عناصره جميعا من عبقريّة التكافل الذي يراه عليّ فرضا عليهم لا يحيون إلاّ به و لا يبقون. فإذا به يلفّ عالم الطبيعة الجامدة و عالم الإنسان بومضة عقل واحدة، و انتفاضة إحساس واحدة، ليستشفّ عدالة الكون القائم على وحدة من الصدق و الثبات و العدل، مطلقا هذا الدستور الذي يشارك به الكون في التعبير عن ضميره، قائلا: «ثم جعل من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، و يوجب بعضها بعضا، و لا يستوجب بعضها إلاّ ببعض» و من هذا المعين أيضا قول له عظيم يقرّر به أنّ دوام نعمة من النعم مرهون بما فرض على صاحبها من واجب طبيعيّ نحو إخوانه البشر، و أن عدم القيام بهذا الواجب كاف وحده لأن يزيلها و يفنيها: «من كثرت النّعم عليه كثرت الحوائج إليه. فمن قام فيها بما يجب عرّضها للدوام و البقاء، و من لم يقم فيها بما يجب عرّضها للزوال و الفناء».

____________________

(١) الساجي: الساكن. و المائر: الذي يذهب و يجي‏ء، أو المتحرك مطلقا. و عبّ عبابه: ارتفع علاه.

(٢) الثواقب: المنيرة المشرقة.

(٣) المستطير: المنتشر الضياء. و الشراج المستطير: الشمس.

٣٩

ففي هذين القولين من التعبير عن عدالة الكون، و الناس من موجوداته، ما لا يحتاج إلى كثير من الايضاح. فحقوق العباد على لسان عليّ يكافى‏ء بعضها بعضا. فهي أشبه ما تكون بحقّ الماء على الريح، و النبتة على الماء، و الماء على الشمس، و الشمس على قانون الوجود. و هذه السنّة التي تفرض على الإنسان ألاّ يستحقّ شيئا من الحقوق إلاّ بأدائه حقوقا عليه، ليست إلاّ سنّة الكون العادلة القائمة بهذا العدل.

و لينظر القارى‏ء في هذا الأمر نظرا سديدا ثم ليقل رأيّه في ما رأى. فإنّه إن فعل أدرك لا شكّ أنّ هذه القاعدة التي بلغ ابن أبي طالب بها الى جذور العدالة الكونية، ثابتة لا تغيّر نفسها و لا شذوذ ينقضها.

فعناصر هذا الكون لا تأخذ إلا قدر ما تعطي، و لا يكسب بعضها إلاّ ما يخسره بعضها الآخر. فإذا أخذت الأرض من الشمس نورا و دف‏ءا، أعطت الوجود من عمرها قدر ما أخذت. و كذلك إذا أخذت من الليل ظلاّ يغمرها. و إذا تناولت الزهرة من عناصر الكون الكثيرة ما يحييها و ينميها و يعطيها عبيرا شهيّا، فلسوف يأخذ النور و الهواء من لونها و عطرها بمقدار ما أعطياها، حتى إذا تكامل انعقادها و بلغت قمة حياتها، تعاظم مقدار ما تدفعه من عمرها، فإذا بالحياة و الموت يتنازعانها حتى تسلم إليه أوراقها و جذعها.

أما الأرض فتبتلع منها كل ما كانت قد منحتها إياه.

و البحر لا يستعيد الى جوفه إلاّ ما أعطى السماء من غيوم و البرّ من أمطار.

و كذلك الانسان في حياته الخاصة. فهو لا يحظى بلذة إلاّ بفراق أخرى يدفعها، قاصدا أو غير قاصد، عوضا عمّا أخذ. و هو لا يولد إلا و قد تقرّر أنه سيموت. يقول عليّ: «و مالك الموت هو مالك الحياة» و عن هذا التوازن الحكيم في قانون الكون برحابه و أفلاكه، و أرضه و سمائه، و جامداته و أحيائه، يعبّر ابن أبي طالب بهذه الكلمة التي تجمع سداد الفكر الى عنف الملاحظة إلى عبقرية البساطة: «و لا تنال نعمة إلاّ بفراق أخرى» و لينظر الناظرون في هذا القول فإنّهم إن فعلوا وثقوا بأنّه الواقع الذي يرتسم كلمات هي أشبه بالقاعدة الرياضية التي لا يمكن الخروج عليها.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237