روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة25%

روائع نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 237

روائع نهج البلاغة
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111379 / تحميل: 6592
الحجم الحجم الحجم
روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الفقر في الوطن غربة لو تمثّل لي الفقر رجلا لقتلته يسأل ابن آدم يوم القيامة عن ماله من أين اكتسبه كيف تسيغ طعاما و شرابا و أنت تعلم أنك تأكل حراما و تشرب حراما ظلم الضعيف أفحش الظلم، و الظلم يدعو الى السيف، و خاب من حمل ظلما يوم المظلوم على الظالم أشدّ من يوم الظالم على المظلوم العامل بالظلم، و المعين عليه، و الراضي به: «شركاء ثلاثة لا تضيعنّ حقّ أخيك اتّكالا على ما بينك و بينه، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه مهما كان في كتّابك موظفيك من عيب فتغابيت عنه ألزمته إن شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، و من شركهم في الآثام ثم انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا و لا تولّهم محاباة و أثرة فإنهم جماع من شعب الجور و الخيانة إحذر كل عمل يعمل به في السرّ و يستحى منه في العلانية إن اللّه فرض على أئمة العدل ان يقدّروا انفسهم بضعفة الناس قلوب الرعية خزائن راعيها، فما أودعه فيها من عدل أو جور وجده فيها لا تظهر مودّة الرعية و لا نصيحتهم إلاّ بقلّة استثقال دولهم

٨١

إذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان إنّ سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامّة إذا غضب اللّه على أمّة غلت أسعارها و غلبها أشرارها و لكنني آسى أن يلي هذه الأمّة سفهاؤها و فجّارها فيتّخذوا المال دولا و عباده خولا(١) العلماء حكّام الملوك، و البغي آخر مدة الملوك العلم دين يدان به ألأم الناس من سعى بإنسان ضعيف الى سلطان جائر إنها ساعة من الليل لا يدعو فيها عبد إلا استجيب له، إلاّ أن يكون عشّارا أو عريفا أو شرطيّا(٢) ثلاثة يؤثرون المال: تاجر البحر، و صاحب السلطان، و المرتشي في الحكم إذا كان الراعي ذئبا، فالشاة من يحفظها؟ لعن اللّه الآمرين بالمعروف التاركين له، و الناهين عن المنكر العاملين به

____________________

(١) آسى: «أحزن. المال دولا، جمع دولة «بالضم» أي: شيئا يتداولونه بينهم و يتصرفون به في غير حق. خولا: عبيدا.

(٢) العشار: من يتولى أخذ الضرائب من الناس. العريف: من يتجسس على أحوال الناس و أسرارهم و يكشفها للحاكم. الشرطة: أعوان الحاكم.

٨٢

و اعلموا أنكم في زمان القائل فيه بالحقّ قليل، و اللسان عن الصدق كليل، و اللازم للحق ذليل.

الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له. و القوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه يأتي على الناس زمان لا يقرّب فيه إلا الماحل، و لا يظرّف إلا الفاجر، و لا يضعّف إلا المنصف(١)

____________________

(١) الماحل: الساعي في الناس بالوشاية عند الحاكم. يظرّف: يعدّ ظريفا. يضعّف يعدّ ضعيفا.

٨٣

٨٤

طائفة من رسائله و خطبه و عهوده و وصاياه

٨٥

عبادة الأحرار

من كلام رائع له في معنى العبادة: إنّ قوما عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التّجار و إنّ قوما عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد و إن قوما عبدو اللّه شكرا فتلك عبادة الأحرار

ايّها النّاس

من خطبة له في المدينة: الاحتكار مطيّة النّصب، و الحرص داع للتقحّم في الذنوب، و الشّره جامع لمساوى‏ء العيوب.

أيها الناس، لا كنز أنفع من العلم، و لا عزّ أرفع من الحلم، و لا سوأة أسوأ من الكذب، و لا غائب أقرب من الموت أيها الناس، من نظر في عيب نفسه شغل عن عيب غيره، و من سلّ سيف البغي قتل به، و من حفر بئرا وقع فيها، و من نسي زلله استعظم زلل غيره، و من أعجب برأيه ضلّ، و من استغنى بعقله زلّ، و من تكبّر على الناس ذلّ.

في تقلّب الأحوال علم جواهر الرجال، و الأيام توضح السرائر الكامنة، و كفاك أدبا لنفسك ما تكرهه من غيرك. و من استقبل وجوه الآراء عرف

٨٦

مواقع الخطأ. و المودّة قرابة مستفادة. و عليك لأخيك مثل الذي لك عليه.

و لا تنال نعمة إلا بزوال أخرى. و لكل ذي رمق قوت، و لكلّ حبّة آكل، و أنت قوت الموت.

أيها الناس، إياكم و الخديعة فإنها من خلق اللئام. تصفية العمل أشدّ من العمل(١) و تخليص النيّة من الفساد أشدّ على العاملين من طول الجهاد، هيهات لو لا التّقى لكنت أدهى العرب عليكم بكلمة الحق في الرضا و الغضب، و بالقصد في الغنى و الفقر(٢) ، و بالعدل على الصديق و العدوّ، و بالرضا في الشدة و الرخاء، و من ترك الشهوات كان حرا، و إعجاب المرء بنفسه دليل ضعف عقله. و بئس الزاد إلى المعاد: العدوان على العباد

يا أبا ذرّ

من كلام للإمام للصحابي العظيم أبي ذر الغفاري لما أخرجه الخليفة الثالث الى «الربذة» و هو موضع قفر على قرب من المدينة، و بعث من ينادي في الناس: «أ لا لا يكلّم أحد أبا ذر و لا يشيّعه» و قد تحاماه الناس إلاّ ابن أبي طالب، و عقيلا أخاه، و الحسن و الحسين ولديه، و عمّارا: يا أبا ذرّ، إنك غضبت للّه فارج من غضبت له. إن القوم خافوك على

____________________

(١) تصفية العمل خالصا لوجه الحق.

(٢) القصد الاعتدال.

٨٧

دنياهم، و خفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، و اهرب بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم(١) ، و ما أغناك عمّا منعوك لو أن السموات و الأرض كانتا على عبد رتقا ثم اتّقى اللّه لجعل اللّه له منهما مخرجا لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ و لا يوحشنّك إلاّ الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبّوك، و لو قرضت منها لأمنوك

كلّما اطمأنّ

من كتاب له الى سلمان الفارسي قبل أيام خلافته: و كن آنس ما تكون بها الدنيا أحذر ما تكون منها، فإن صاحبها كلّما اطمأنّ فيها إلى سرور أشخصته عنه إلى محذور.

السّلام عليك يا رسول اللّه

من كلام روي أنه قاله عند دفن السيدة فاطمة: السلام عليك يا رسول اللّه عني و عن ابنتك النازلة في جوارك، و السريعة اللحاق بك. قلّ يا رسول اللّه عن صفيّتك صبري و رقّ عنها تجلّدي،

____________________

(١) لو قرضت منها جزءا و خصصت به نفسك و رضيت أن تنال منها مثل ما نالوا هم، لاطمأنوا اليك.

٨٨

إلاّ أنّ لي في التأسّي بعظيم فرقتك و فادح مصيبتك موضع تعزّ(١) .

أمّا حزني فسرمد، و أمّا ليلي فمسهّد إلى أن يختار اللّه لي دارك التي أنت بها مقيم.

افضل النّاس و شرّهم

من كلام له لما اجتمع الناس عليه و شكوا مما نقموه على عثمان بن عفان، و سألوه أن يخاطب الخليفة الثالث و يستعتبه لهم. فدخل عليه فقال: إن الناس ورائي، و قد استسفروني بينك و بينهم(٢) . و اللّه ما أدري ما أقول لك ما أعرف شيئا تجهله و لا أدلك على شي‏ء لا تعرفه.

إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شي‏ء فنخبرك عنه، و لا خلونا بشي‏ء فنبلغكه، و قد رأيت كما رأينا و سمعت كما سمعنا... فاللّه اللّه في نفسك فإنك و اللّه ما تبصّر من عمى، و إنّ الطرق لواضحة. فاعلم أن أفضل عباد اللّه عند اللّه إمام عادل هدي و هدى. و إنّ شرّ الناس عند اللّه إمام جائر ضلّ و ضلّ به. و إني سمعت رسول اللّه (ص) يقول: «يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر و ليس معه نصير و لا عاذر، يلقى في نار جهنّم فيدور فيها كما تدور الرحى، ثم يرتبط في قعرها و إني أنشدك اللّه أن لا تكون إمام هذه الأمّة المقتول، فإنه كان يقال: يقتل في هذه الأمّة إمام يفتح عليها القتل و القتال إلى يوم القيامة، و يلبس أمورها عليها،

____________________

(١) التأسي، هنا: الاعتبار بالمثال المتقدم.

(٢) استسفروني: جعلوني سفيرا و وسيطا.

٨٩

و يثبّت الفتن فيها، فلا يبصرون الحق من الباطل، يموجون فيها موجا و يمرجون فيها مرجا(١) ، فلا تكوننّ لمروان سيّقة(٢) يسوقك حيث شاء بعد جلال السنّ و تقصّي العمر

استأثر فاساء الاثرة

من كلام له في معنى قتل عثمان: لو أمرت به لكنت قاتلا، أو نهيت عنه لكنت قاصرا(٣) . غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول: خذله من أنا خير منه. و من خذله لا يستطيع أن يقول: نصره من هو خير مني(٤) و أنا جامع لكم أمره: استأثر فأساء

____________________

(١) المرج: الخلط و التلبيس.

(٢) السيّقة: ما استاقه العدوّ من الدواب. أما مروان، فهو ابن الحكيم الشهير، و كان في عهد عثمان كاتبا له و مشيرا، و هو صاحب العلل التي نقم الناس من أجلها على الخليفة الثالث.

(٣) يقول انه لم يأمر بقتل عثمان و إلاّ كان قاتلا له، مع أنه بري‏ء من قتله. و لم يدافع عنه بسيفه و لم يقاتل دونه و إلا كان ناصرا له. أما نهيه عن قتله بلسانه فهو ثابت، و هو الذي أمر ولديه الحسن و الحسين أن يدفعا الناس عنه.

(٤) أي ان الذين نصروه ليسوا بأفضل من الذين خذلوه، لهذا لا يستطيع ناصره أن يقول: اني خير من الذي خذله. و لا يستطيع خاذله أن يقول: ان الناصر خير مني.

يريد ان القلوب متفقة على أن ناصريه لم يكونوا في شي‏ء من الخير الذي يفضلون به على خاذليه.

٩٠

الأثرة(١) ، و جزعتم فأسأتم الجزع(٢) و للّه حكم واقع في المستأثر و الجازع(٣)

انا كأحدكم

من خطبة رائعة له لمّا أريد على البيعة بعد قتل عثمان: دعوني و التمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان، لا تقوم له القلوب و لا تثبت عليه العقول(٤) و إن الآفاق قد أغامت و المحجّة قد تنكّرت(٥) ، و اعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، و لم أصغ إلى

____________________

(١) استأثر بالشي‏ء: استبدّ به و خصّ نفسه به. أي: انه استبد فأساء الاستبداد و كان عليه أن يخفف منه فلا يؤذيكم.

(٢) أي: لم ترفقوا في جزعكم و لم تقفوا عند الحد الأولى بكم. و كان عليكم أن تقتصروا على الشكوى و لا تذهبوا في الإساءة الى درجة القتل.

(٣) أي: و للّه حكمه في المستأثر و هو عثمان. و في الجازع و هو أنتم.

(٤) لا تصبر له و لا تطيق احتماله.

(٥) أغامت: غطيت بالغيم. المحجة: الطريق. تنكرت: تغيّرت علائمها فصارت مجهولة، و ذلك أن الأطماع كانت قد تنبهت في كثير من الناس على عهد الخليفة الثالث بما نالوا من تفضيلهم بالعطاء، فلا يسهل عليهم فيما بعد أن يكونوا في مساواة مع غيرهم، فلو تناولهم العدل انفلتوا منه و طلبوا الفتنة طمعا في نيل رغباتهم، و أولئك هم أغلب الرؤساء و الوجهاء في القوم، فإن أقرّهم الإمام على ما كانوا عليه من الامتياز فقد أتى ظلما، و هو عدوّ الظلم. و الناقمون على عثمان قائمون على المطالبة بالعدل: إن لم ينالوه تحرّشوا للفتنة فأين الطريق للوصول الى الحق على أمن من الفتن؟ و قد كان بعد بيعته ما توقّع حدوثه قبلها.

٩١

قول القائل و عتب العاتب. و إن تركتموني فأنا كأحدكم و لعلّي أسمعكم و أطوعكم لمن ولّيتموه أمركم، و أنا لكم وزيرا خير لكم مني أميرا

الحقّ لا يبطله شي‏ء

من خطبة رائعة له خطب بها الناس ثاني يوم من بيعته بالمدينة، و هي في ما ردّه على الناس من قطائع(١) الخليفة الثالث، و في المال الذي كان عثمان قد أعطاه من مال العامة: أيها الناس، إنّما أنا رجل منكم، لي ما لكم و عليّ ما عليكم. ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، و كل مال أعطاه من مال اللّه، فهو مردود في بيت المال فإنّ الحق القديم لا يبطله شي‏ء، و لو وجدته قد تزوّج به النساء و ملك الإماء و فرّق في البلدان لرددته. فإنّ في العدل سعة، و من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق(٢) أيها الناس، ألا يقولنّ رجال منكم غدا قد غمرتهم الدنيا فامتلكوا العقار و فجّروا الأنهار و ركبوا الخيل و اتّخذوا الوصائف المرقّقة، إذا ما منعتهم ما كانو يخوضون فيه و أصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا ألا و أيّما رجل من المهاجرين و الأنصار من أصحاب رسول اللّه يرى أن الفضل له على سواه بصحبته، فإن الفضل غدا عند اللّه. فأنتم عباد اللّه، و المال مال اللّه، يقسّم بينكم بالسويّة و لا فضل فيه لأحد على أحد

____________________

(١) ما أعاد للناس من الأراضي.

(٢) من عجز عن تدبير أمره بالعدل فهو بالجور أشدّ عجزا.

٩٢

اسفلكم اعلاكم

من كلام له لما بويع بالمدينة: ألا و إنّ بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث اللّه نبيّكم صلى اللّه عليه و سلّم(١) . و الذي بعثه بالحقّ لتغربلنّ غربلة و لتساطنّ سوط القدر(٢) حتى يعود أسفلكم أعلاكم و أعلاكم أسفلكم، و ليسبقنّ سابقون كانوا قد قصّروا، و ليقصرنّ سبّاقون كانوا قد سبقوا. و اللّه ما كتمت وشمة(٣) و لا كذبت كذبة ألا و إنّ الخطايا خيل شمس(٤) حمل عليها أهلها و خلعت لجمها فتقحّمت بهم في النار ألا و إنّ التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها و أعطوا أزمّتها فأوردتهم الجنّة. حقّ و باطل، و لكلّ أهل هلك من ادّعى و خاب من افترى و من أبدى صفحته للحقّ هلك(٥) .

و كفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره. فاستتروا في بيوتكم و أصلحوا ذات بينكم، و التوبة من ورائكم و لا يحمد حامد إلاّ ربّه، و لا يلم لائم إلاّ نفسه

____________________

(١) ان بلية العرب التي كانت محيطة بهم يوم بعث محمد هي بلية الفرقة و التباعد و العصبية و ظلم القوي للضعيف و الغني للفقير. فتلك الحالة التي هي مهلكة للأمم قد صاروا اليها بعد مقتل عثمان.

(٢) لتغربلنّ: لتقطعنّ من. ساط، من السوط، و هو أن تجعل شيئين في القدر و تضربهما بيدك حتى يختلطها و ينقلب أعلاهما أسفلهما و أسفلهما أعلاهما.

(٣) الوشمة: الكلمة.

(٤) شمس، جمع شموس، و هو الجامح الذي يمنع ظهره أن يركب.

(٥) من أبدى صفحته للحق، أي: من كاشف الحق مخاصما له مصارحا له بالعداوة.

٩٣

عفا اللّه عمّا سلف

من خطبة له خطبها بعد مقتل عثمان في أول خلافته: أيها الناس، إن الدنيا تغرّ المؤمّل لها و المخلد إليها(١) ، و لا تنفس(٢) بمن نافس فيها، و تغلب من غلب عليها. و أيم اللّه، ما كان قوم قطّ في غضّ نعمة من عيش فزال عنهم إلاّ بذنوب اجترحوها، لأن اللّه ليس «بظلاّم للعبيد». و لو أن الناس حين تنزل بهم النّقم و تزول عنهم النّعم، فزعوا إلى ربّهم بصدق من نيّاتهم و وله من قلوبهم، لردّ عليهم كلّ شارد و أصلح لهم كلّ فاسد. و إني لأخشى عليكم أن تكونوا في فترة(٣) . و قد كانت أمور مضت ملتم فيها ميلة، كنتم فيها عندي غير محمودين، و لئن ردّ عليكم أمركم إنكم لسعداء. و ما عليّ إلا الجهد، و لو أشاء أن أقول لقلت: عفا اللّه عمّا سلف

الرّشوة

من كتاب له الى أمراء الأجناد لما استخلف: أما بعد، فإنما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحقّ

____________________

(١) المخلد اليها: الراكن اليها.

(٢) تنفس، مضارع نفس: تضنّ. و معنى العبارة: ان الدنيا لا تضن بمن يباري غيره في اقتنائها و عدّها من نفائسه، و لا تحرص عليه بل تهلكه.

(٣) الفترة، هنا، كناية عن الجهل و الغرور.

٩٤

فاشتروه(١) و أخذوهم بالباطل فاقتدوه(٢) .

ان لم تستقيموا

من كتاب له إلى أمرائه على الثغور: أما بعد، فإنّ حقّا على الوالي أن لا يغيّره على رعيته فضل ناله و لا طول خصّ به(٣) و أن يزيده ما قسم اللّه له من نعمه دنوّا من عباده و عطفا على إخوانه.

ألا و إنّ لكم عندي أن لا أؤخّر لكم حقا عن محلّه، و أن تكونوا عندي في الحقّ سواء. فإذا فعلت ذلك وجبت للّه عليكم النعمة و لي عليكم الطاعة، و أن لا تنكصوا عن دعوة(٤) و لا تفرّطوا في صلاح، و أن تخوضوا الغمرات إلى الحق(٥) ، فإن أنتم لم تستقيموا على ذلك لم يكن أحد أهون عليّ ممّن اعوجّ منكم، ثم أعظم له العقوبة و لا يجد عندي فيها رخصة

____________________

(١) أي: حجبوا عن الناس حقّهم فاضطرّ الناس لشراء الحق منهم بالرشوة...

(٢) أي كلفوهم بإتيان الباطل فأتوه، و صار الباطل قدوة يتبعها الأبناء بعد الآباء.

(٣) الطول: عظيم الفضل. أي: من الواجب على الوالي إذا خصّ بفضل أن يزيده ذلك قربا من الناس إخوانه و عطفا عليهم، و ليس من حقه أن يتغيّر.

(٤) أي: ان لا تتأخروا إذا دعوتكم.

(٥) الغمرات: الشدائد.

٩٥

أنصفوا النّاس

من كتاب له إلى عمّاله على الخراج: أنصفوا الناس من أنفسكم، و اصبروا لحوائجهم فإنكم خزّان الرعيّة(١) و وكلاء الأمة. و لا تبيعنّ للناس في الخراج كسوة شتاء و لا صيف و لا دابّة يعتملون عليها(٢) . و لا تضربنّ أحدا سوطا لمكان درهم، و لا تمسّنّ مال أحد من الناس مصلّ و لا معاهد(٣) .

أ أطلب النّصر بالجور

من كلام له لما عوتب على التسوية في العطاء: أ تأمروني أن أطلب النصر بالجور في من ولّيت عليه؟ و اللّه ما أطور به ما سمر سمير و ما أمّ نجم في السماء نجما(٤) . لو كان المال لي لسوّيت

____________________

(١) المقصود هو أن الولاة يجب أن يخزنوا أموال الرعية في بيت المال لتنفق في مصالح الرعية و حاجاتها.

(٢) يقول: لا تضطروا الناس لأن يبيعوا لأجل أداء الخراج شيئا من كسوتهم، و لا من الدواب اللازمة لأعمالهم في الزرع و الحمل.

(٣) المعاهد: غير المسلم من أهل الكتاب. يقول: لا تلجأوا الى السوط تحصيلا للمال.

و لا تمسّوا مال أحد من المسلمين أو أهل الكتاب بالمصادرة.

(٤) ما أطور به: ما آمر به و لا أقاربه. و ما سمر سمير، أي: مدى الدهر.

٩٦

بينهم، فكيف و إنما المال مال اللّه ألا و إنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير و إسراف.

النّاس متساوون في الحقّ

من كلام له كلّم به طلحة و الزبير بعد بيعته بالخلافة و قد عتبا من ترك مشورتهما، و الاستعانة في الأمور بهما: لقد نقمتما يسيرا و أرجأتما كثيرا(١) . ألا تخبراني أيّ شي‏ء لكما فيه حقّ دفعتكما عنه؟ و أيّ قسم استأثرت عليكما به؟ أم أيّ حقّ رفعه إليّ أحد من المسلمين ضعفت عنه أم جهلته أم أخطأت بابه؟ و اللّه ما كانت لي في الخلافة رغبة و لا في الولاية إربة(٢) . و لكنكم دعوتموني إليها، فلما أفضت إليّ نظرت إلى كتاب اللّه، فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما و لا رأي غيركما، و لا وقع حكم جهلته فأستشيركما و إخواني المسلمين، و لو كان ذلك لم أرغب عنكما و لا عن غيركما.

أمّا ما ذكرتما من أمر الأسوة(٣) ، فإنّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي و لا ولّيته هوى مني، بل وجدت أنا و أنتما ما جاء به رسول اللّه (ص) قد فرغ منه فلم أحتج إليكما في ما قد فرغ اللّه من قسمه. أخذ اللّه بقلوبنا

____________________

(١) أي غضبتما ليسير، و أخرتما مما يرضيكما كثيرا لم تنظرا اليه.

(٢) الإربة: الغرض، و الطلبة.

(٣) الأسوة، هنا: التسوية بين الناس في قسمة الأموال، و كان ذلك قد أغضب طلحة و الزبير على ما روي.

٩٧

و قلوبكم إلى الحق، و ألهمنا و إياكم الصبر. و رحم اللّه امرأ رأى حقّا فأعان عليه، أو رأى جورا فردّه، و كان عونا بالحق على صاحبه

الى أصحاب الجمل

من كتاب له بعث به إلى طلحة و الزبير و عائشة قبل موقعة الجمل: من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى طلحة و الزبير و عائشة، سلام عليكم.

أما بعد، يا طلحة و الزبير، فقد علمتما أني لم أرد البيعة حتى أكرهت عليها، و أنتما ممن رضي بيعتي. فإن كنتما بايعتما طائعين فتوبا إلى اللّه و ارجعا عمّا أنتما عليه. و إن كنتما بايعتما مكرهين فقد جعلتما لي السبيل عليكما، بإظهاركما الطاعة و كتمانكما المعصية.

و أنت يا طلحة، شيخ المهاجرين، و أنت يا زبير، فارس قريش، دفعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع لكما من خروجكما منه قبل إقراركما.

و أنت يا عائشة، فإنك خرجت من بيتك عاصية للّه و لرسوله تطلبين أمرا كان عنك موضوعا، و تزعمين انك تريدين الإصلاح بين الناس فخبّريني ما للنساء و قود الجيوش، و البروز للرجال و طلبت، على زعمك، دم عثمان، و عثمان من بني أمية و أنت من تيم. ثم أنت بالأمس تقولين في ملأ من أصحاب رسول اللّه: «اقتلوا نعثلا، قتله اللّه، فقد كفر» ثم تطالبين اليوم بدمه فاتّقي اللّه و ارجعي الى بيتك، و اسبلي عليك سترك و السلام.

٩٨

اخرج من جحرك

من كتاب له إلى أبي موسى الأشعري، و هو عامله على الكوفة، و قد بلغه عنه تثبيطه الناس على الخروج اليه لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل: من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى عبد اللّه بن قيس.

أما بعد، فقد بلغني عنك قول هو لك و عليك. فإذا قدم رسولي عليك فارفع ذيلك و اشدد مئزرك و اخرج من جحرك و اندب من معك(١) .

إعقل عقلك(٢) و املك أمرك و خذ نصيبك و حظك. فإن كرهت فتنحّ إلى غير رحب و لا في نجاة و اللّه إنه لحقّ مع محقّ، و ما أبالي ما صنع الملحدون

قيام الحجّة

من كلام له كلّم به بعض العرب و اسمه كليب الجرمي و قد أرسله قوم من أهل البصرة ليعلم لهم من الإمام حقيقة حاله مع

____________________

(١) رفع الذيل و شد المئزر: كناية عن التشمير للجهاد. الجحر، هنا: كناية عن المقر.

اندب: ادع.

(٢) قيده بالعزيمة و لا تدعه يذهب مذاهب التردّد.

٩٩

أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم.

فبيّن له الإمام من أمره معهم ما علم به أنه على الحق، ثم قال له: بايع فقال الرجل: إني رسول قوم و لا أحدث حدثا حتى أرجع اليهم. فقال الإمام هذا القول الرائع: أ رأيت لو أن الذين وراءك بعثوك رائدا تبتغي لهم مساقط الغيث(١) فرجعت إليهم و أخبرتهم عن الكلإ و الماء فخالفوا إلى المعاطش و المجادب(٢) ، ما كنت صانعا؟

قال الرجل: كنت تاركهم و مخالفهم إلى الكلإ و الماء. فقال الإمام: فامدد إذا يدك فقال الرجل: فو اللّه ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجّة عليّ، فبايعته عليه السلام و قيل للإمام ذات مرة: بأي شي‏ء غلبت الأقران؟ فأجاب: ما لقيت رجلا إلا أعانني على نفسه

اراد ان يغالط

من كلامه الزاخر بالمنطق في طلحة و موقفه من قضية عثمان، قبل مقتله و بعده: قد كنت و ما أهدّد بالحرب و لا أرهب بالضرب. و اللّه ما استعجل

____________________

(١) مساقط الغيث: المواضع التي يسقط فيها المطر فتخضرّ و تزدهر.

(٢) المعاطش، جمع معطش، و هو: مكان العطش، أي الذي لا ماء فيه. و المجادب، جمع مجدب، و هو مكان الجدب، أي القحط و المحل.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

قال: فقام إليه شمر بن ذي الجوشن فقال: أتقبل هذا منه، وقد نزل بأرضك إلى جنبك؟! والله، لئن رحلَ من بلدك ولم يضع يده في يدك ليكوننّ أولى بالقوّة والعزّ، ولتكوننّ أَولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة فإنّها من الوهن، ولكنْ لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإنْ عاقبتَ فأنت وليُّ العقوبة، وإنْ غفرتَ كان ذلك لك، والله، لقد بلغني أنّ حسيناً وعمر بن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدّثان عامّة الليل.

فقال له ابن زياد: نِعمَ ما رأيتَ، الرأي رأيك)(١) .

ويواصل الطبري رواية ذلك الحدث، عن أبي مخنف، عن سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم قال: (ثمّ إنّ عبيد الله بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن، فقال له: اُخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد، فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حُكمي، فإنْ فعلوا فليبعث بهم إليَّ سلَماً، وإنْ هم أبَوا فليقاتلهم، فإنْ فعل فاسمع له وأطع، وإنْ هو أبى فقاتلهم فأنت أمير النّاس، وَثِبْ عليه فاضرب عُنقه وابعث إليَّ برأسه)(٢) .

وكان كتاب ابن زياد لعمر بن سعد: (أمّا بعدُ، فإنّي لم أبعثك إلى حسين لتكفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتُمنّيه السلام والبقاء، ولا لتقعد له عندي شافعاً، اُنظر فإنْ نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إليَّ سلماً، وإنْ أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم فإنّهم لذلك مستحقّون، فإنْ قُتل حسينٌ فأَوْطِئ الخيلَ صدره وظهره، فإنّه عاقٌ مشاقّ قاطع ظلوم! ولستُ أرى في هذا أن يضرَّ بعد الموت شيئاً، ولكنْ عليَّ قول: لو قد قتلته فعلت هذا به، فإنْ أنت مضيتَ

____________________

(١) و (٢) تاريخ الطبري، ٣: ٣١٣ - ٣١٤؛ وانظر: أنساب الأشراف، ٣: ٣٩٠ - ٣٩١، والكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٤ .

١٢١

لأمرِنا فيه، جزيناك جزاء السامع المطيع، وإنْ أبيتَ فاعتزِل عملنا وجُندنا، وخَلِّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر فإنّا قد أمرناه بأمرنا، والسلام)(١) .

ابن زياد يكتب أماناً لأبي الفضل العباس وإخوتهعليهم‌السلام !

يروي الطبري، عن أبي مخنف، عن الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك العامري قال: (لمّا قَبض شمر بن ذي الجوشن الكتاب، قام هو وعبد الله بن أبي المحل، وكانت عمّته أمّ البنين ابنة حزام عند عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، فولدت له العبّاس، وعبد الله، وجعفراً، وعثمان، فقال عبد الله بن أبي المحلّ بن حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب: أصلحَ الله الأمير، إنّ بني أُختنا مع الحسين، فإنْ رأيتَ أنْ تكتب لهم أماناً فعلتُ، قال: نعم، ونعمة عين، فأمرَ

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٤، وانظر: الكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٤، والإرشاد: ٢٥٦، وأنساب الأشراف، ٣: ٣٩١، وفيه: (.. وإنْ قتلتَ حسيناً فأوطِئ الخيل صدره وظهره لنَذْرٍ نذرته وقول قُلتُه،.. وخلِّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر وأمر الناس، فإنّا قد أمرناه فيك بأمرنا، والسلام).

وانظر: الأخبار الطوال: ٢٥٥ بتفاوت، وانظر: الفتوح، ٥: ١٦٦ بتفاوت، وفيه: (.. يا بن سعد، ما هذه الفترة والمطاولة؟.. وإنْ أبيتَ ذلك فاقطع حبلنا وجُندنا، وسلِّم ذلك إلى شمر بن ذي الجوشن؛ فإنّه أحزم منك أمراً، وأمضى منك عزيمة، والسلام)، وعنه: مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٤٨ وفيه أيضاً: (وقال غيره: إنّ عبيد الله بن زياد دعا حويزة بن يزيد التميمي وقال: إذا وصلتَ بكتابي إلى عمر بن سعد فإنْ قام من ساعته لمحاربة الحسين فذاك، وإنْ لم يقم فخذه وقيّده، واندُب شهر بن حوشب ليكون أميراً على الناس، فوصلَ الكتاب، وكان في الكتاب: إنّي لم أبعثك يا بن سعد لمنادمة الحسين، فإذا أتاك كتابي فَخيّر الحسين بين أن يأتي إليَّ وبين أن تقاتله، فقام عمر بن سعد من ساعته وأخبر الحسين بذلك، فقال له الحسينعليه‌السلام :(أَخّرني إلى غدٍ...)، ثمّ قال عمر بن سعد للرسول: اشهد لي عند الأمير أنّي امتثلتُ أمره).

١٢٢

كاتبه فكتب لهم أماناً، فبعث به عبد الله بن أبي المحل مع مولى له يُقال له: كُزمان، فلمّا قدِم عليهم دعاهم فقال: هذا أمانٌ بعث به خالكم!

فقال له الفتية:أَقرِئ خالنا السلام، وقل له: أنْ لا حاجة لنا في أمانكم، أمان الله خيرٌ من أمان ابن سميّة) (١) .

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٤ - ٣١٥؛ وانظر: الكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٤؛ وفي الفتوح: ٥، ١٦٦ - ١٦٧: (وطوى الكتاب، وأراد أن يسلّمه إلى رجل يُقال له عبد الله بن أبي المحل بن حزام العامري، فقال: أصلح الله الأمير، إنّ عليَّ بن أبي طالب قد كان عندنا هاهنا بالكوفة، فخطبَ إلينا فزوّجناه بنتاً يقال لها (أمّ البنين بنت حزام)، فولَدت له عبد الله، وجعفراً، والعبّاس، فهم بنو أختنا، وهم مع الحسين أخيهم، فإن رسمتَ لنا أن نكتب إليهم كتاباً بأمانٍ منك عليهم متفضّلاً؟! فقال عبيد الله بن زياد: نعم، وكرامة لكم! اُكتبوا إليهم بما أحببتم ولهم عندي الأمان!

قال: فكتب عبد الله بن أبي المحل بن حزام إلى عبد الله، والعباس، وجعفر، بني عليّرضي‌الله‌عنهم بالأمان من عبيد الله بن زياد، ودفع الكتاب إلى غلام له يُقال له (عرفان)، فقال: سِرْ بهذا الكتاب إلى بني أختي بني عليّ بن أبي طالب - رحمة الله عليهم - فإنّهم في عسكر الحسينرضي‌الله‌عنه ، فادفع إليهم هذا الكتاب، وانظر ماذا يردّون عليك؟

قال: فلمّا ورد كتاب عبد الله بن أبي المحل على بني عليّ ونظروا فيه، أقبلوا به إلى الحسين فقرأه وقال له: لا حاجة لنا في أمانك، فإنّ أمان الله خير من أمان ابن مرجانة.

قال: فرجع الغلام إلى الكوفة فخبّر عبد الله بن أبي المحل بما كان من جواب القوم.

قال: فعلمَ عبد الله بن أبي المحل أنّ القوم مقتولون). وعنه مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٤٨ - ٣٤٩ بتفاوت.

ويؤخذ على هذا الخبر:

أوّلاً: أنّ الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام قد تزوّج أم البنينعليها‌السلام قبل مجيئه الكوفة بسنين.

وثانياً: أنّ للإمام عليّعليه‌السلام من أمّ البنينعليها‌السلام ولَداً رابعاً هو عثمان، لم يُذكر في هذا الخبر.

١٢٣

وقائعُ اليوم التاسع من المحرّم الحرام

ويواصل الطبري رواية قصة كربلاء قائلاً: (فأقبلَ شمر بن ذي الجوشن بكتاب عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد، فلمّا قدِم به عليه فقرأه قال له عمر: ما لك؟! ويلك، لا قرّب الله دارك، وقبّح الله ما قدمتَ به عليَّ! والله، إنّي لأظنّك أنت ثنيته أن يقبل ما كتبتُ به إليه، أفسدتَ علينا أمراً كُنّا رجونا أن يصلح، لا يستسلمُ واللهِ حسينٌ، إنّ نفساً أبيّة لبَيْنَ جنبيه.

فقال له شمر: أخبِرني ما أنت صانع؟! أتمضي لأمر أميرك وتقتل عدوّه؟! وإلاّ فخلِّ بيني وبين الجند والعسكر.

قال: لا، ولا كرامة لك، وأنا أتولّى ذلك، فدونك(١) فكن أنت على الرجّالة)(٢) .

شمر بن ذي الجوشن يبذل الأمان للعبّاس وإخوتهعليهم‌السلام

(وجاء شمر حتّى وقف على أصحاب الحسينعليه‌السلام فقال: أين بنو أُختنا؟

____________________

(١) عبارة: (فدونك فكن أنت على الرجّالة) من الإرشاد: ٢٥٧، بدلاً ممّا في تاريخ الطبري، ٣: ٣١٥ فإنّ عبارته الأخيرة (قال: فدونك وكن أنت على الرجّالة) أي: أنّ شمراً يأمر ابن سعد، وهذا مستبعد؛ لأنّ المأمور لا يأمر الآمر.

(٢) تاريخ الطبري، ٣: ٣١٥ وانظر: الكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٤، والإرشاد: ٢٥٦ - ٢٥٧، وأنساب الأشراف، ٣: ٣٩١ وفيه: (فلمّا أوصل شمر الكتاب إليه قال عمر: يا أبرص، ويلك لا قرّب الله دارك، ولا سهّل محلّتك، وقبّحك وقبّح ما قدِمت له، والله إنّي لأظنّك ثنيته عن قبول ما كتبتُ به إليه.

فقال شمر: أتمضي لأمر الأمير، وإلاّ فخلّ بيني وبين العسكر وأمْر النّاس؟!

فقال عمر: لا، ولا كرامة، ولكنّي أتولّى الأمر.

قال: فدونك!).

١٢٤

فخرجَ إليه العبّاس، وجعفر، وعبد الله، وعثمان، بنو عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقالوا له:ما تريد؟

فقال: أنتم يا بني أُختي آمنون!

فقال له الفتية:لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟!) (١) .

جيشُ الضلال يزحف على معسكر الحقّ والهدى!

ثمّ إنّ عمر بن سعد لعنه الله - وقد آثر العمى على الهدى، والدنيا الفانية على الآخرة، وانقاد مستسلماً لهواه فيها - نفر بجيشه لقتال الإمامعليه‌السلام (فنهضَ إليه عشيّة(٢) الخميس لتسع مضين من المحرّم)(٣) .

____________________

(١) الإرشاد: ٢٥٧، وانظر: تاريخ الطبري، ٤: ٣١٥، والكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٤ وفيه: (لعنكَ الله ولعن أمانك، لئن كنت خالنا أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟!)، وأنساب الأشراف، ٣: ٣٩١، والفتوح، ٥: ١٦٨ - ١٦٩ وفيه: (... فقال الحسين لإخوته:(أجيبوه وإن كان فاسقاً؛ فإنّه من أخوالكم، فنادوه فقالوا: ما شأنك وما تريد؟

فقال: يا بني أُختي، أنتم آمنون، فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، فقال له العبّاس بن عليّرضي‌الله‌عنه : تبّاً لك يا شمر ولعنك الله ولعنَ ما جئت به من أمانك هذا يا عدوّ الله، أتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء، ونترك نصرة أخينا الحسين..).

وعنه مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٤٩ وفيه: (.. يا عدوّ الله، أتأمرنا أن نترك أخانا الحسين بن فاطمة وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟! فرجع شمر إلى عسكره مغيظاً)، وانظر أيضاً: تذكرة الخواص: ٢٢٤.

(٢) العشيّة: يقع العشيّ على ما بين زوال الشمس إلى وقت غروبها، كلّ ذلك عشيٌّ، فإذا غابت الشمس فهو العِشاء. (لسان العرب، ١٥: ٦٠).

(٣) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٥، والأخبار الطوال: ٢٥٦، والكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٤، والإرشاد: ٢٥٧، =

١٢٥

ويقول المؤرخون أيضاً: (ثمّ إنّ عمر بن سعد نادى: يا خيل الله اركبي وابشري، فرَكِب في النّاس، ثمّ زحف نحوهم بعد صلاة العصر، وحسين جالس أمام بيته محتبياً بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه.

وسَمَعت أُخته زينب الصيحة، فدنت من أخيها فقالت:يا أخي، أمَا تسمع الأصوات قد اقتربت؟

قال: فرفع الحسين رأسه فقال:(إنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام فقال لي: إنّك تروح إلينا (١) .

قال: لطمت أخته وجهها وقالت:يا ويلتا .

فقال:ليس لكِ الويل يا أخيّتي، اسكُتي رحمكِ الرحمان) (٢) .

وقال العبّاس بن عليّ:يا أخي، أتاك القوم.

قال: فنهض ثمّ قال:يا عبّاس، اركب بنفسي أنت يا أخي، حتّى تلقاهم فتقول لهم: ما لكم، وما بدا لكم، وتسألهم عمّا جاء بهم؟

فأتاهم العبّاس، فاستقبلهم في نحو من عشرين فارساً، فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر، فقال لهم العبّاس:ما بدا لكم وما تريدون؟

قالوا: جاء أمرُ الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حُكمه أو ننازلكم.

____________________

= وفي أنساب الأشراف، ٣: ٣٩١: (ونهض بالنّاس عشيّة الجمعة).

(١) في الفتوح، ٥: ١٧٥ - ١٧٦: (... وقال:(يا أُختاه، إنّي رأيت جدّي في المنام، وأبي عليّاً، وفاطمة أمّي، وأخي الحسن عليهم‌السلام فقالوا: يا حسين، إنّك رائح إلينا عن قريب، وقد والله يا أختاه دنا الأمر في ذلك لا شكّ) )، وعنه مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٥٣ بتفاوت يسير.

(٢) في الإرشاد: ٢٥٧:(ليس لكِ الويل يا أخيّة، اسكتي رحمكِ الله) ، وفي الفتوح، ٥: ١٧٦: (فلطمت زينب وجهها وصاحت: واخيبتاه! فقال الحسين:(مهلاً، اسكتي ولا تصيحي فتشمت بنا الأعداء) ، وانظر: مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٥٣.

١٢٦

قال: فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرِض عليه ما ذكرتم.

قال: فوقفوا، ثمّ قالوا: اِلْقَهْ فأعلِمه ذلك، ثمّ اِلْقَنا بما يقول.

قال: فانصرف العبّاس راجعاً يركض إلى الحسين يخبره بالخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم.

فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين: كَلِّم القومَ إنْ شئتَ، وإنْ شئتَ كلَّمتهم.

فقال له زهير: أنت بدأت بهذا، فكنْ أنت الذي تكلّمهم.

فقال لهم حبيب بن مظاهر: أمَا والله، لبئس القوم عند الله غداً قومٌ يقدمون عليه، قد قتلوا ذريّة نبيّهعليه‌السلام ، وعترته وأهل بيتهعليهم‌السلام ، وعُبّاد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار والذاكرين الله كثيراً.

فقال له عزرة بن قيس: إنّك لتزكّي نفسك ما استطعت.

فقال له زهير: يا عزرة، إنّ الله قد زكّاها وهداها، فاتّقِ الله يا عزرة فإنّي لك من الناصحين، أُنشدك الله يا عزرة أن تكون ممّن يُعين الضُلاّلَ على قتل النفوس الزكيّة.

قال: يا زهير، ما كنتَ عندنا من شيعة أهل هذا البيت، إنّما كنت عثمانياً؟!(١)

قال: أفلستَ تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم؟! أمَا والله ما كتبتُ إليه كتاباً قطّ، ولا أرسلت إليه رسولاً قطّ، ولا وعدته نصرتي قطّ، ولكنّ الطريق جمع بيني وبينه، فلمّا رأيته ذكرتُ به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومكانه منه، وعرفتُ ما يقدِم عليه من عدوّه وحزبكم، فرأيتُ أن أنصرهُ وأن أكون في حزبه، وأن أجعل نفسي دون نفسه حفظاً

____________________

(١) مرَّ بنا في وقائع الطريق بين مكّة وكربلاء في ترجمة زهير بن القين (رض)، مناقشة وافية لمسألة هذه العثمانية المزعومة التي أُلصقت بزهير (رض)، تحت عنوان (هل كان زهير بن القين عثمانياً؟!) فراجعها.

١٢٧

لِما ضيّعتم من حقّ الله وحقّ الرسولعليه‌السلام .

قال: وأقبلَ العبّاس بن عليّ يركض حتّى انتهى إليهم.

فقال:يا هؤلاء، إنّ أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشيّة حتّى ينظر في هذا الأمر، فإنّ هذا أمرٌ لم يجرِ بينكم وبينه فيه منطقٌ، فإذا أصبحنا التقينا إنْ شاء الله، فإمّا رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه، أو كرهنا فرددناه.

وإنّما أراد بذلك أن يردَّهم عنه تلك العشيّة حتّى يأمر بأمره ويوصي أهله(١) .

فلمّا أتاهم العبّاس بن عليّ بذلك قال عمر بن سعد: ما ترى يا شمر؟

قال: ما ترى أنت؟ أنت الأمير والرأي رأيك.

قال: قد أردتُ ألاّ أكون!(٢)

ثمّ أقبل على الناس فقال: ماذا ترون؟

فقال عمرو بن الحجّاج بن سلمة الزبيدي: سبحان الله! والله، لو كانوا من الديلم ثمّ سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها(٣) .

وقال قيس بن الأشعث: أجبهم إلى ما سألوك، فلعمري ليصبُحنّك بالقتال غدوة.

فقال: والله، لو أعلم أن يفعلوا ما أخّرتهم العشيّة.

____________________

(١) هذا التعليل من الراوي، والسبب لا ينحصر في هذا كما ظنَّ، بل هناك ما هو أهمّ، فانظر في الإشارة الآتية.

(٢) في الفتوح، ٥: ١٧٨: (فقال عمر: إنّني أحببتُ أن لا أكون أميراً! قال: ثمَّ إنّي أُكرهتُ)، وفي مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٥٤: (إنّي أحببت أن لا أكون أميراً! فلم أُترَك وأُكرهت).

(٣) في الفتوح، ٥: ١٧٨ - ١٧٩: (فقال رجل من أصحابه يُقال له عمرو بن الحجّاج: سبحان الله العظيم! لو كانوا من الترك والديلم وسألوا هذه المنزلة لقد كان حقّاً علينا أن نجيبهم إلى ذلك، وكيف وهم آل الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهله؟! فقال عمر بن سعد: إنّا قد أجّلناهم في يومنا هذا..).

١٢٨

قال: وكان العبّاس بن عليّ حين أتى حسيناً بما عرض عليه عمر بن سعد قال:(ارجع إليهم، فإن استطعتَ أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة؛ لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد كنتُ أُحبّ الصلاة له، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار) (١) .

ويروي الطبري، عن أبي مخنف، عن الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك العامري، عن الإمام السجّادعليه‌السلام قال:(أتانا رسول من قِبَل عمر بن سعد، فقام مثل حيث يُسمع الصوت فقال: إنّا قد أجّلناكم إلى غدِ، فإنْ استسلمتم سرّحنا بكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد، وإنْ أبَيتم فلسنا بتاركيكم) (٢) .

أمّا ابن أعثم الكوفي فيروي قائلاً: (... فقال عمر بن سعد: إنّا قد أجّلناهم في يومنا هذا، قال: فنادى رجل من أصحاب عمر: يا شيعة الحسين بن عليّ، قد أجّلناكم يومكم هذا إلى غد، فإنْ استسلمتم ونزلتم على حُكم الأمير وجّهنا بكم إليه، وإنْ أبَيتم ناجزناكم.

قال: فانصرف الفريقان بعضهم من بعض)(٣) .

إشارة

ماذا لو حصلت فاجعة عاشوراء في الليل؟

مرَّ بنا قول الراوي - في رواية الطبري - في تعليله لطلب الإمامعليه‌السلام من عمر

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٥ - ٣١٧، وانظر: الكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٤، وانظر: أنساب الأشراف، ٣: ٣٩٢ - ٣٩٣، والإرشاد: ٢٥٧ - ٢٥٨، وانظر: الفتوح، ٥: ١٧٥ - ١٧٩ وعنه مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٢٥٣ - ٢٥٤ بتفاوت وإضافات.

(٢) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٧، وفي الإرشاد: ٢٥٨:(ومضى العبّاس إلى القوم، ورجع من عندهم ومعه رسول من قِبل عمر بن سعد (لعنه الله) يقول...) .

(٣) الفتوح، ٥: ١٧٩، وانظر مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٥٤ - ٣٥٥ بتفاوت.

١٢٩

بن سعد أن يؤجّلهم إلى صباح يوم العاشر: (وإنّما أراد بذلك أن يردَّهم عنه تلك العشيّة حتّى يأمر بأمره ويوصي أهله)(١) .

كما مرَّ بنا أيضاً قول الإمام الحسينعليه‌السلام نفسه لأخيه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام :(ارجع إليهم، فإنْ استطعتَ أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة، لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد كنتُ أُحبّ الصلاة له، وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار).

ولعلّ ما ظنّه الراوي - في رواية الطبري - كان صحيحاً، في أنّهعليه‌السلام أراد المهلة إلى الصباح حتّى يأمر - مَن ينجو من أهله - بأوامره ويوصيهم بوصاياه، وهذا لا ينافي ما ورد في الأثر أنّهعليه‌السلام ترك وصاياه وأماناته عند أمّ سلمة (رض)(٢) ، حتّى تسلّمها إلى الإمام السجّادعليه‌السلام بعد عودته، كما لا ينافي كون الإمام السجّادعليه‌السلام والعقيلة زينبعليها‌السلام وسواهما من أهله، كانوا معه منذ بدء رحلة الركب من المدينة حتّى كربلاء.

لكنّ هذا سببٌ من جملة أسباب متعددة كانت الدافع لطلب الإمامعليه‌السلام المهلة حتّى الصباح، ولم يكن السبب الوحيد الذي انحصرت به القضيّة كما عبّر الراوي عن ذلك بأداة الحصر (إنّما).

وصحيح تماماً أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان يُحبّذ أن يقضي الليلة الأخيرة من عمره الشريف - خصوصاً وأنّها ليلة جمعة - في صلاة، وكثرة دعاء واستغفار وتلاوة القرآن.

____________________

(١) وكذلك قال البلاذري في أنساب الأشراف، ٣: ٣٩٢: (وإنّما أراد أن يوصي أهله ويتقدّم إليهم فيما يريد).

(٢) راجع: كتاب الغَيبة للشيخ الطوسي، ١٩٥، حديث ١٠٩، وكتاب الصراط المستقيم: ١٦١ (النصّ على زين العابدينعليه‌السلام ).

١٣٠

نعم، لكنّ هذا أيضاً - مع أهميّته البالغة - كان من جملة الأسباب.

(إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان قد تعامل في العمق مع كلّ قضيّة في مسار النهضة المقدّسة بمنطق (الشهيد الفاتح)، وخاطبها بلغة الشهادة التي هي عين الفتح، وإنْ كان في نفس الوقت قد تعاطى مع ظواهر القضايا بمنطق الحجج الظاهرة، ولا منافاة بين المنطقين بل هما في طول بعضهما البعض...

فحيث إنْ لم يبايععليه‌السلام يُقتل، فقد سعىعليه‌السلام ألاّ يُقتل في ظروف زمانية ومكانية وبكيفيّة يختارها ويخطّط لها ويُعدّها العدوّ، وسعىعليه‌السلام بمنطق (الشهيد الفاتح) أن يتحقّق مصرعه الذي لابدّ منه على أرض يختارها هو(١) ، لا يتمكّن العدوّ فيها أن يُعتّم على مصرعه فتختنق الأهداف المرجوّة من وراء هذا المصرع، الذي سيهزّ الأعماق في وجدان الأمّة ويحرّكها بالاتجاه الذي أراد الحسينعليه‌السلام .

كما سعىعليه‌السلام أن تجري وقائع المأساة في وضح النهار لا في ظلمة الليل؛ ليرى جريان وقائعها أكبر عدد من الشهود، فلا يتمكّن العدوّ من أن يعتّم على هذه الوقائع الفجيعة ويغطّي عليها، وهذا هو الهدف المنشود من وراء العامل الإعلامي والتبليغي في طلب الإمامعليه‌السلام عصر تاسوعاء أن يُمهلوه إلى صبيحة عاشوراء)(٢) .

نعم، فهذا السبب وإن كما من جملة حسابات التخطيط الحربي، خصوصاً بالنسبة إلى قوّة محاصرة في بقعة محدودة ضيّقة؛ إلاّ أنّه سبب أوّل وأساس في حسابات التخطيط الإعلامي والتبليغي، خصوصاً بالنسبة إلى إمام مفترض الطاعة مظلوم مع مجموعة من الأنصار الربانيين، يريد أن يكشف للأمّة - وللعالم أجمع - عن حقّانيته وأحقيته ومظلوميته، وعن وحشيّة أعدائه وعدم مراعاتهم لأيّ معنى والتزام أخلاقي ودينيّ.

____________________

(١) وهذا ما يفسّر إصرار الإمامعليه‌السلام على التوجّه إلى العراق (أرض المصرع المختار).

(٢) راجع: الجزء الأوّل (الإمام الحسينعليه‌السلام في المدينة المنوّرة): ١٥٥ - ١٥٦.

١٣١

فكان لابدّ من النهار،( وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحى ) (١) ، حتّى يشهد النّاس التفاصيل الكبيرة والصغيرة من الفاجعة والمأساة، ويسمعوا كلّ البلاغات والنداءات والاحتجاجات الإلهية عن لسان الإمامعليه‌السلام وأنصاره الكرام، ثمّ لينظروا كيف لا تستجيب الوهدة لنداء الذروة، ويروا في واضحة النهار كيف تفترس أسنّة الرذيلة النواهش وسيوفها البواتر هيكل الفضيلة الطاهر، وكيف تُهشّم حوافر خيولها العمياء أضلاع الصدر القدسيّ الذي في طيّه سرُّ الإله مصون، وكيف تُباد عصبة الأبرار، وتُحزُّ الرؤوس، ويُقتل الصغار، وكيف تنحرُ سهام الضلالة الحاقد حتى الطفل الرضيع، وكيف تُحرق الخيام، وتُسلبُ النساء، وينتهب الرحل،.. إلى ما سوى ذلك من تفاصيل مأساوية فجيعة، شوهدت في رابعة النهار، فرواها المشاهدون، وتناقلها الناس والتاريخ.

لقد كان النهار عاملاً مهمّاً من عوامل نجاح حفظ حقيقة فاجعة الطفّ كما هي وبكلّ تفاصيلها، إذ لو كانت قد حصلت الواقعة في ليل؛ لغطّت ظلمته على جلّ تفاصيلها المفجعة وبطولاتها المشرقة، ولمَا رأى مَن حَضرها إلاّ نزراً قليلاً من وقائعها، ثمّ لمَا بلغنا منها إلاّ حكاية مبهمة وجيزة لا تحمل في طيّاتها من الفعل والتأثير إلاّ شيئاً يسيراً.

وقائع ليلة عاشوراء

يروي الطبري، عن أبي مخنف، عن الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن

____________________

(١) سورة طه، الآية ٥٩، والآية عن لسان موسىعليه‌السلام ينما حدّد موعد المواجهة مع السحرة أن يكون يوم الزينة، وأن يُحشر الناس ضحى؛ وذلك ليرى الجميع بوضوح كيف تلقف عصاه ما يأفك السحرة، وليتناقل الناس مشهد هزيمة فرعون في هذه المواجهة.

١٣٢

شريك العامري، عن الإمام السجّادعليه‌السلام قال:(جمعَ الحسين أصحابه بعدما رجع عمر بن سعد، وذلك عند قرب المساء، فدنوت منه لأسمع وأنا مريض، فسمعتُ أبي وهو يقول لأصحابه: أُثني على الله تبارك وتعالى أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء، اللّهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين.

أمّا بعدُ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيتٍ أبَرَّ ولا أَوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي جميعاً خيراً، ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، ألا وإنّي قد أذنتُ لكم، فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم منّي ذِمام، هذا الليل غشيكم فاتخذوه جَملاً) (١) .

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٧، والإرشاد: ٢٥٨، والكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٥، وفي أنساب الأشراف، ٣: ٣٩٣:(وعرضَ الحسين على أهله ومَن معه أن يتفرّقوا ويجعلوا الليل جَملاً، وقال: إنّما يطلبونني وقد وجدوني، وما كانت كُتب مَن كَتب إليَّ فيما أظنّ إلاّ مكيدة لي وتقرّباً إلى ابن معاوية بي...) .

ولا يخفى على المتأمّل أنّ العبارة الأخيرة لو كانت قد صدرت عن الإمامعليه‌السلام حقّاً، فإنّ مراده بها المنافقون أمثال: حجّار بن أبجر، وشبث بن ربعي، وعزرة بن قيس، وأمثالهم؛ ذلك لأنّ هناك مَن قد كتب إليه صادقاً مخلصاً، ومن هؤلاء جملة من أنصاره، أمّا أكثر مَن كتب إليه من أهل الكوفة فإنّ قلوبهم كانت مع الإمامعليه‌السلام ، لكنّ الوهن والشلل النفسي استحوذ عليهم حتّى صارت سيوفهم عليه.

ونقلها الخوارزمي في المقتل، ١: ٣٤٩ - ٣٥٠ عن الفتوح لابن أعثم، ٥: ١٦٩ - ١٧٠، وفيه:(وجَمع الحسين عليه‌السلام أصحابه بين يديه، ثمّ حمد الله وأثنى عليه وقال: اللّهمّ لك الحمدُ على ما علّمتنا من القرآن، وفقّهتنا في الدين، وأكرمتنا به من قرابة رسولك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ..

أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أصلح منكم، ولا أعلم أهل بيت أبَرَّ ولا أوصل ولا أفضل من أهل بيتي، فجزاكم الله ميعاً عنّي خيراً، إنّ هؤلاء القوم ما يطلبون أحداً غيري، ولو قد أصابوني وقدروا على قتلي لمَا طلبوكم أبداً، وهذا الليل قد غشيكم فقوموا واتخذوه جَملاً، وليأخذ كلُّ رجل منكم بيد رجل =

١٣٣

وفي رواية بعدها للطبري أيضاً أنّهعليه‌السلام قال:(هذا الليل قد غشيَكم فاتخذوه جَملاً، ثمّ ليأخذ كلُّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، ثمّ تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتّى يفرّج الله، فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولو قد أصابوني لَهو عن طلب غيري).

فقال له إخوته، وأبناؤه، وبنو أخيه، وابنا عبد الله بن جعفر: لِمَ نفعل؟! لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً.

بدأهم بهذا القول العبّاس بن عليّ، ثمّ إنّهم تكلّموا بهذا ونحوه.

فقال الحسينعليه‌السلام :(يا بني عقيل، حَسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذنتُ لكم).

قالوا: فما يقول النّاس؟! يقولون: إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرمِ معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا؟ لا والله لا نفعل، ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا، ونقاتل معك حتّى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك)(١) .

____________________

=من إخوتي، وتفرّقوا في سواد هذا الليل، وذروني وهؤلاء القوم) . وقد اخترنا متن الخوارزمي على متن الفتوح نفسه؛ لأنّه خالٍ من الاضطراب.

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٧ - ٣١٨؛ وانظر: الكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٥ بتفاوت يسير، والإرشاد: ٢٥٨ - ٢٥٩ بتفاوت يسير، أمّا في أمالي الصدوق: ١٣٣، المجلس ٣٠، حديث رقم ١ فقد ورد الخبر هكذا: (.. فقام الحسينعليه‌السلام في أصحابه خطيباً فقال:(اللّهمّ إنّي لا أعرف أهل بيت أبرَّ ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحاباً هم خير من أصحابي، وقد نزل بي ما ترون، وأنتم في حِلّ من بيعتي، ليست لي في أعناقكم بيعة، ولا لي عليكم ذمّة، وهذا الليل قد غشيَكم فاتخذوه جَملاً، وتفرّقوا في سواده فإنّ القوم إنّما يطلبوني، ولو ظفروا بي لذَهِلوا عن طلب غيري) .

فقام إليه عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب فقال: يا بن رسول الله، ماذا يقول لنا الناس إنْ نحن خذلنا شيخنا وكبيرنا وسيّدنا، وابن سيّد الأعمام، وابن نبيّنا سيّد الأنبياء، لم نضرب معه بسيف، ولم نقاتل معه برمح، لا والله أو نرد موردك ونجعل أنفسنا دون نفسك، ودماءنا دون دمك، =

١٣٤

(قال فقام إليه مسلم بن عوسجة الأسديّ فقال: أنحنُ نخلّي عنك ولمّا نُعذر إلى الله في أداء حقّك؟ أمَا والله، حتّى أكسِر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولا أفارقك، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت معك.

وقال سعد بن عبد الله الحنفي(١) : والله، لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيك، والله، لو علمتُ أنّي أُقتل ثمّ أُحيا ثمّ أُحرق حيّاً ثمّ أُذَرُّ، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة، ما فارقتك حتّى ألقى حِمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ثمَّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً.

وقال زهير بن القين: والله، لوددتُ أنّي قُتلتُ ثمّ نُشرتُ ثمّ قُتلتُ حتّى أُقتل كذا ألف قتلة، وأنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك.

قال: وتكلّم جماعة بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد فقالوا: والله، لا نفارقك ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحنُ قُتلنا كنّا وَفينَا وقضينا ما علينا)(٢) .

وفي مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: (ثُمّ تكلّم بُرير بن خضير الهمداني، وكان من الزهّاد الذين يصومون النهار ويقومون الليل، فقال: يا بن رسول الله،

____________________

= فإذا نحن فعلنا ذلك فقد قضينا ما علينا وخرجنا ممّا لزِمَنا...).

(١) وفي بعض المصادر: سعيد بدلاً من سعد، وهو المشهور (راجع: أنساب الأشراف، ٣: ٣٩٣).

(٢) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٧ - ٣١٨ وانظر: الكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٥، والإرشاد: ٢٥٨ - ٢٥٩، وانظر: أمالي الصدوق: ١٣٣، المجلس ٣٠، رقم ١، وأنساب الأشراف، ٣٣٩٣ وانظر: الفتوح، ٥: ١٧٠ - ١٧١، ومقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٢٥٠ - ٢٥١.

١٣٥

إئذن لي أن آتي هذا الفاسق عمر بن سعد فأعظه لعلّه يتّعظ ويرتدع عمّا هو عليه.

فقال الحسين:(ذاك إليك يا بُرير).

فذهب إليه حتّى دخل على خيمته، فجلس ولم يسلّم، فغضب عمر وقال: يا أخا همدان ما منع من السلام عليَّ؟! ألستُ مسلماً أعرف الله ورسوله، وأشهد بشهادة الحقّ؟

فقال له برير: لو كنتَ عرفت الله ورسوله كما تقول؛ لمَا خرجت إلى عترة رسول الله تريد قتلهم، وبعدُ فهذا الفرات يلوح بصفاته، ويلج كأنّه بطون الحيّات، تشرب منه كلاب السواد وخنازيرها، وهذا الحسين بن عليّ وإخوته ونساؤه وأهل بيته يموتون عطشاً، وقد حِلْتَ بينهم وبين ماء الفرات أن يشربوه، وتزعم أنّك تعرف الله ورسوله؟!

فأطرقَ عمر بن سعد ساعة إلى الأرض، ثمّ رفع رأسه وقال: والله، يا بُرير إنّي لأعلم يقيناً أنَّ كُلَّ مَن قاتلهم وغصبهم حقّهم هو في النار لا محالة، ولكن يا بُرير، أفتشير عليَّ أن أترك ولاية الريّ فتكون لغيري؟ فو الله ما أجد نفسي تجيبني لذلك، ثمّ قال:

دعـاني عـبيد الله من دون قومه

إلـى خـطّة فـيها خرجتُ لِحَيني

فـو الله مـا أدري وإنّـي لـحائر

أُفـكّر فـي أمـري على خطَرَينِ

أأتـركُ مُـلك الريّ والريّ مُنيتي

أم أرجـع مـأثوماً بـقتْل حـسينِ

وفـي قـتله النّار التي ليس دونها

حجابٌ، ومُلك الريّ قرّة عينِي(١)

____________________

(١) ونُسب إليه (لعنه الله) أيضاً هذه الأبيات:

حسينُ ابن عمّي والحوادث جمّة

لعمري، ولي في الريّ قُرّةُ عينِ

لـعلّ إلـه الـعرش يغفر زلّتي

ولـو كـنتُ فـيها أظلم الثقَلينِ

=

١٣٦

فرجع برير إلى الحسين وقال: يا بن رسول الله، إنّ عمر بن سعد قد رضي لقتلك بمُلك الريّ)(١) .

وفي رواية أخرى عن الإمام السجّادعليه‌السلام

روى السيّد هاشم البحراني مرسلاً عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعتُ عليَّ بن الحسين زين العابدينعليهما‌السلام يقول:(لمّا كان اليوم الذي استشهد فيه أبي، جمع أهله وأصحابه في ليلة ذلك اليوم فقال لهم:

يا أهلي وشيعتي، اتّخِذوا هذا الليل جَملاً لكم، وانجُوا بأنفسكم، فليس المطلوب غيري، ولو قتلوني ما فكّروا فيكم، فانجوا رحمكم الله، وأنتم في حِلّ وسعة من بيعتي وعهدي الذي عاهدتموني.

فقال إخوته وأهله وأنصاره بلسان واحد: والله، يا سيّدنا يا أبا عبد الله، لا خذلناك أبداً، والله لا قال النّاس: تركوا إمامهم وكبيرهم وسيّدهم وحده حتّى قُتل، ونبْلوا بيننا وبين الله عُذراً ولا نخلّيك أو نُقتل دونك.

____________________

=

ألا إنّـما الـدنيا لَـبرُّ مُـعَجَّلٌ

ومـا عـاقل بـاع الوجود بديْنِ

يـقـولون إنّ الله خـالق جـنّة

ونـارٍ وتـعذيب وغـلّ يـدينِ

فـإنْ صـدقوا فيما يقولون إنّني

أتـوب إلى الرحمان من سنتينِ

وإنْ كـذبوا فُـزْنا بريِّ عظيمة

ومُـلك عـظيمٍ دائـم الحجلينِ

وإنّـي سأختار التي ليس دونها

حـجابٌ وتـعذيب وغـلّ يَدينِ

(راجع: نَفَس المهموم: ٢١٨).

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٥١ - ٣٥٢، وانظر الفتوح، ٥: ١٧١ - ١٧٣ وفيه: (يا بن بنت رسول الله، إنّ عمر بن سعد قد رضي أن يقتلك بملك الريّ)، وانظر: كشف الغمّة، ٢: ٢٢٦، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ: ٢٠٢، ومطالب السؤل: ٧٦.

١٣٧

فقالعليه‌السلام لهم: يا قوم، إنّي غداً أُقتل وتُقتلون كلّكم معي، ولا يبقى منكم واحد.

فقالوا: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك وشرّفنا بالقتل معك، أوَ لا ترضى أن نكون معك في درجتك يا بن رسول الله؟

فقالعليه‌السلام : جزاكم الله خيراً، ودعا لهم بخير، فأصبحَ وقُتل وقُتلوا معه أجمعون(١) .

فقال له القاسم بن الحسنعليهما‌السلام : وأنا فيمن يُقتل؟

فأشفقَ عليه فقال له: يا بُنيّ كيف الموت عندك؟

قال: يا عمّ، أحلى من العسل.

فقالعليه‌السلام : إي والله، فداك عمّك، إنّك لأحد مَن يُقتل من الرجال معي بعد أن تبلو ببلاءٍ عظيم، وابني عبد الله.

فقال: يا عمّ، ويصلون إلى النساء حتّى يُقتل عبد الله وهو رضيع؟!

فقالعليه‌السلام : فداك عمّك، يُقتل عبد الله إذ جفّت روحي عطشاً، وصرتُ إلى خِيَمنا فطلبتُ ماءً ولبناً فلا أجد قطّ، فأقول: ناولوني ابني لأشرب مِن فيه، فيأتوني به فيضعونه على يدي، فأحملهُ لأُدنيه مِن فيَّ فيرميه فاسق بسهم فينحره وهو يُناغي، فيفيض دمه في فيّ، فأرفعهُ إلى السماء وأقول: اللّهمّ صبراً واحتساباً فيك، فتعجلني الأسنّة فيهم والنار تسعر في الخندق الذي في ظهر الخيم، فأكرّ عليهم في أمرِّ أوقات في الدنيا، فيكون ما يريد الله.

____________________

(١) يُلاحظ على هذه الرواية ما ورد فيها من قولهعليه‌السلام :(إنّي غداً أُقتل وتُقتلون كلّكم معي، ولا يبقى منكم واحد) ، وقول الإمام السجّادعليه‌السلام :(فأصبح وقُتل وقُتلوا معه أجمعون) ؛ ذلك لأنّ المشهور خلاف هذا، فهناك بعض من أنصار الحسينعليه‌السلام كانوا قد اشتركوا في حرب يوم عاشوراء ولم يُستشهدوا، مثل: الحسن المثنّى، وسوار بن منعم النهمي، والموقّع بن ثمامة الأسدي.

اللّهمّ إلاّ أن يكون أمثال هؤلاء لم يحضروا هذه المخاطبة تلكم الساعة، أو أنَّ الخطاب أُريد الجميع به على نحو التغليب!

١٣٨

فبكى وبكينا، وارتفع البكاء والصراخ من ذراري رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الخيام.

ويسأل زهير بن القين وحبيب بن مظاهر عنّي، فيقولون: يا سيّدنا، فسيّدنا عليّ - فيشيرون إليَّ - ماذا يكون حاله؟

فيقول مستعبراً: ما كان الله ليقطع نسلي من الدنيا، فكيف يصِلون وهو أبو ثمانية أئمّة؟)(١) .

وفي رواية أخرى...

جاء في التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكريّعليه‌السلام :(ولمّا امتُحن الحسين عليه‌السلام ومَن معه بالعسكر الذين قتلوه وحملوا رأسه، قال لعسكره: أنتم في حِلّ من بيعتي فالحقوا بعشائركم ومواليكم، وقال لأهل بيته: قد جعلتكم في حِلّ من مفارقتي، فإنّكم لا تُطيقونهم لتضاعف أعدادهم وقواهم، وما المقصود غيري، فدعوني والقوم؛ فإنّ الله عزّ وجلّ يعينني ولا يخلّيني من حُسن نظره كعادته في أسلافنا الطيّبين.

فأمّا عسكرهُ ففارقوه (٢) ، وأمّا أهله الأدنون من أقربائه فأبَوا وقالوا: لا نفارقك ويحزننا

____________________

(١) مدينة المعاجز، ٤: ٢١٤ حديث رقم ٢٩٥، وعنه نَفَس المهموم: ٢٣٠ - ٢٣١ وقال المرحوم الشيخ القمي: (روى الحسين بن حمدان الحضيني (الخصيبي) بإسناده عن أبي حمزة الثمالي، والسيد البحراني مرسلاً عنه...).

(٢) إذا كان المراد بـ(فأمّا عسكره ففارقوه) مَن استأجرهم الإمامعليه‌السلام من الجمّالين وغيرهم فلا بأس به، وإن كان المراد به مَن التحقوا به، فإذا كانت هذه المخاطبة في الطريق قبل منزل زبالة أو فيه، فنعم لقد تفرّق عنه الكثير ذات اليمين وذات الشمال، خصوصاً بعد وصول خبر مقتل مسلم، وهاني، وعبد الله بن يقطر (رض)، حيث لم يبقَ معه إلاّ صفوة الفداء والتضحية، وأمّا إذا كان المراد به مَن التحقوا به والمخاطبة ليلة عاشوراء، فإنّ الثابت الصحيح أنّه لم يتخلّ عن =

١٣٩

ما يحزنك، ويصيبنا ما يصيبك، وإنّا أقرب ما نكون إلى الله إذا كُنّا معك .

فقال لهم: فإن كنتم قد وطّنتم أنفسكم على ما وطّنت نفسي عليه، فاعلموا أنّ الله يهب المنازل الشريفة لعباده باحتمال المكاره، وأنّ الله وإنْ كان خصّني مع مَن مضى من أهلي الذين أنا آخرهم بقاءً في الدنيا من الكرامات بما يسهل عليَّ معها احتمال المكروهات، فإنّ لكم شطر ذلك من كرامات الله تعالى، واعلموا أنّ الدنيا حُلوها ومُرّها حُلم، والانتباه في الآخرة، والفائز مَن فاز فيها، والشقيّ مَن شقي فيها...) (١) .

الحضرمي: أكَلَتني السباع حيّاً إنْ فارقتك

وروى السيّد ابن طاووس (ره) أنّه: (وقيل لمحمّد بن بشير الحضرمي في تلك الحال: قد أُسِرَ ابنك بثغر الريّ، قال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما كنتُ أُحبُّ أن يؤسر وأن أبقى بعده.

فسمع الحسينعليه‌السلام قوله فقال:(رحمك الله، أنت في حِلٍّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ابنك.

فقال:أكلتني السباع حيّاً إنْ فارقتك.

قال:فاعطِ ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه، فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار) (٢) .

____________________

= الإمامعليه‌السلام أحد من أصحابه.

(١) تفسير الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام : ٢١٨، وانظر: البحار، ١١: ١٤٩، رقم ٢٥.

(٢) اللهوف: ٣٤٠ - ٤١، ورواه ابن عساكر أيضاً في تاريخه (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ، تحقيق المحمودي: ٢٢١، حديث رقم ٢٠٢، وقال المحمودي في الحاشية: رواه ابن سعد في الحديث =

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237