• البداية
  • السابق
  • 211 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16695 / تحميل: 3112
الحجم الحجم الحجم
كشف الحقائق رد علي «هذه نصيحتي إلي كل شيعي»

كشف الحقائق رد علي «هذه نصيحتي إلي كل شيعي»

مؤلف:
العربية

إذ سمعت متكلماً يقول: اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، بيدك الخير كله، إليك يرجع الأمر كله، علانيته وسرّه، فأهل أن تُحمد، إنك على كل شيء قدير، اللهم اغفر لي جميع ما مضى من ذنبي، واعصمني فيما بقي من عمري، وارزقني عملاً زاكياً ترضى به عني. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ذاك ملَك أتاك يعلِّمك تحميد ربك(١) .

الطائفة الثالثة: ما دلَّ على أن جمعاً من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأوا جبرئيل عليه السلام.

ومن ذلك ما أخرجه مسلم - واللفظ له - والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد وغيرهم عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً بارزاً للناس، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله، وتؤمن بالبعث الآخر. قال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان. قال: يا رسول الله، ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إن لا تراه فإنه يراك.

إلى أن قال: ثم أدبر الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رُدُّوا عليَّ الرجل. فأخذوا ليَردُّوه فلم يروا شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذا جبريل جاء ليُعَلِّم الناس دينهم(٢) .

وممن رُوي أنه رأى جبريل عليه السلام عائشة فيما أخرجه ابن سعد عنها أنها قالت: لقد رأيت جبريل واقفاً في حجرتي هذه على فرس ورسول الله يناجيه، فلما دخل قلت: يا رسول الله، من هذا الذي رأيتك تناجيه؟ قال: وهل رأيتِه؟ قلت: نعم. قال: فبمن شبَّهتِه؟ قلت: بدحية الكلبي. قال: لقد رأيتِ خيراً كثيراً، ذاك جبريل...(٣) .

وأخرج أحمد عن عائشة أنها قالت: رأيتك يا رسول الله وأنت قائم تكلم دحية الكلبي. فقال: وقد رأيتِه؟ قالت: نعم. قال: فإنه جبريل، وهو يقرئك السلام. قالت: وعليه السلام ورحمة الله، جزاه الله من زائر ودخيل، فنعم الصاحب ونعم الدخيل(٤) .

ومنهم : عبد الله بن العباس فيما أخرجه أحمد عن ابن عباس، قال: كنت مع أبي

____________________

(١) مسند أحمد ٥/٣٩٦.

(٢) صحيح مسلم ١/٣٦ - ٤٠ كتاب الإيمان، باب رقم ١. سنن أبي داود ٤/٢٢٣. سنن الترمذي ٥/٦. سنن ابن ماجة ١/٢٤ - ٢٥. سنن النسائي ١/٢٤٩. مسند أحمد ١/٢٧، ٢٨، ٥٢، ٥٣.

(٣) الطبقات الكبرى ٨/٦٧ - ٦٨.

(٤) مسند أحمد ٦/٧٤ - ٧٥، ١٤٦.

١٠١

عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده رجل يناجيه، فكان كالمعرض عن أبي، فخرجنا من عنده، فقال لي أبي: أي بُني، ألم ترَ إلى ابن عمك كالمعرض عني؟ فقلت: يا أبتِ، إنه كان عنده رجل يناجيه. قال: فرجعنا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال أبي: يا رسول الله، قلتُ لعبد الله كذا وكذا، فأخبرني أنه كان عندك رجل يناجيك، فهل كان عندك أحد؟ فقـال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وهل رأيتَه يا عبد الله؟ قال: قلت: نعم. قال: فإن ذاك جبريل، وهو الذي شغلني عنك(١) .

ومنهم : محمد بن مسلمة فيما أخرجه الذهبي عنه، قال: مررت فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الصفا واضعاً يده على يد رجل، فذهبت. فقال: ما منعك أن تسلِّم؟ قلت: يا رسول الله، فعلتَ بهذا الرجل شيئاً ما فعلته بأحد، فكرهت أن أقطع عليك حديثك، مَن كان يا رسول الله؟ قال: جبريل، وقال لي: هذا محمد بن مسلمة لم يسلِّم، أما إنه لو سلَّم رددنا عليه السلام(٢) .

ومنهم: حارثة بن النعمان فيما أخرجه ابن سعد والهيثمي عنه، قال: رأيت جبريل من الدهر مرتين، يوم الصَّوْرَين حين خرج رسول الله إلى بني قريظة، مرَّ بنا في صورة دحية، فأمرَنا بلبس السلاح، ويوم موضع الجنائز حين رجعنا من حنين(٣) .

وأخرج أحمد عنه، قال: مررت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه جبريل جالس في المقاعد، فسلَّمت عليه ثم أجزت، فلما رجعت وانصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: هل رأيت الذي كان معي؟ قلت: نعم. قـال: إنه جبريل عليه السلام وقد ردَّ عليك السلام(٤) .

الطائفة الرابعة: دلت على أن بعض صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت الملائكة تسلِّم عليه وتصافحه ويراهم عياناً.

ومن ذلك ما أخرجه مسلم عن عمران بن حصين - في حديث - قال: وقد كان يُسَلَّم عليَّ حتى اكتويتُ فتُرِكْتُ، ثم تَركْتُ الكَيّ فعاد.

وعن مطرف قال: بعث إليَّ عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال:

____________________

(١) المصدر السابق ١/٢٩٣ - ٢٩٤، ٣١٢.

(٢) سير أعلام النبلاء ٢/٣٧٠.

(٣) الطبقات الكبرى ٣/٤٨٨.

(٤) مسند أحمد ٥/٤٣٣، قال الهيثمي في مجمع الزوائد ٩/٣١٣: رواه أحمد والطبراني، ورجاله رجال الصحيح.

١٠٢

إني كنت محدِّثك بأحاديث لعل الله ينفعك بها بعدي، فإن عشتُ فاكتم عني، وإن متُّ فحدِّث بها إن شئت، إنه قد سُلِّمَ عليَّ...(١) .

قال النووي في الشرح: ومعنى الحديث أن عمران بن الحصين رضي الله عنه كانت به بواسير، فكان يصبر على المهمات، وكانت الملائكة تسلِّم عليه، فاكتوى فانقطع سلامهم عليه، ثم ترك الكي، فعاد سلامهم عليه(٢) .

وأخرج ابن سعد عن قتادة: أن الملائكة كانت تصافح عمران بن حصين حتى اكتوى فتَنَحَّتْ(٣) .

قال الذهبي في ترجمة عمران بن حصين: وكان ممن يسلّم عليه الملائكة...

وقال: وكان به داء الناصور فاكتوى لأجله، فقال: اكتوينا فما أفلحن ولا أنجحن. وروينا أنه لما اكتوى انقطع عنه التسليم مدة ثم عاد إليه(٤) .

وقال ابن حجر: وكانت الملائكة تصافحه قبل أن يكتوي(٥) .

وقال النووي: كانت الملائكة تسلّم عليه ويراهم عياناً كما جاء مصرحاً به في صحيح مسلم(٦) .

وقال ابن عبد البر: يقول عنه أهل البصرة: إنه كان يرى الحفَظة، وكانت تكلّمه حتى اكتوى(٧) .

إلى غير ذلك مما لا يُحصى كثرة، ولا نحتاج إلى تتبّعه واستقصائه(٨) .

وبالجملة فالأحاديث المروية الدالة على رؤية جمع الصحابة للملائكة،

____________________

(١) صحيح مسلم ٢/٨٩٩: كتاب الحج، باب جواز التمتع.

(٢) صحيح مسلم بشرح النووي ٨/٢٠٦.

(٣) الطبقات الكبرى ٤/٢٨٨.

(٤) تذكرة الحفاظ ١/٢٩ - ٣٠.

(٥) تهذيب التهذيب ٨/١١٢.

(٦) تهذيب الأسماء واللغات ٢/٣٦.

(٧) الاستيعاب ٣/٢٢.

(٨) راجع إن شئت سنن أبي داود ٤/٥. مسند أحمد ٤/٤٢٧. المستدرك ٣/٤٧٢. أُسد الغابة ٤/١٣٨. الإصابة ٣/٢٦، ٢٧. سير أعلام النبلاء ٢/٥٠٨، ٥١٠، ٥١١. شذرات الذهب ١/٥٨. تاريخ الإسلام ٣/٢٧٥، ٢٧٦. البداية والنهاية ٨/٦٢.

١٠٣

وسلامهم عليهم وكلامهم معهم لا تُحصى كثرة، وفيما ذكرناه كفاية.

ومن كل ذلك نخلص إلى أن سماع أمير المؤمنين وسيدة نساء العالمين عليهما السلام حـديث الملَك أو جبرئيل عليه السلام ممكن الوقوع، بل إن ذلك غير مستبعد منهما، ولا سيما بعدما رأينا الأحاديث الكثيرة الدالة على تكليم الملائكة وسلامهم ومصافحتهم لمن هو دونهما عليهما السلام، فالجرأة على إنكار كلام الملائكة مع علي وفاطمة عليهما السلام خطأ بيِّن فاحش لا يجوز لمسلم أن يقدم عليه، لأنه طعن واضح في العترة النبوية الطاهرة، أعاذنا الله من ذلك.

* * *

قال الجزائري: ٦ - صاحب هذا الاعتقاد لا يمكن أن يكون من المسلمين أو يُعَد من جماعتهم وهو يعيش على علوم ومعارف وهداية ليس للمسلمين منها شيء.

والجــواب

الظاهر أنه يشير إلى اعتقاد أن أهل البيت عليهم السلام عندهم الجامعة والجفر ومصحف فاطمة عليها السلام بقرينة قوله: وهو يعيش على علوم ومعارف وهداية ليس للمسلمين منها شيء.

وكيف كان، فالذي يعتقد بذلك لحصول أدلة صحيحة عنده لا يجوز التسرُّع في الحكم بكفره والجزم بخروجه عن جماعة المسلمين، لأن هذا الاعتقاد لو سلَّمنا ببطلانه جدلاً فمَن اعتقد به عن شُبهة لا يُكفَّر بل ولا يُفسَّق، لأنه لم يجحد ما عُلم ثبوته في الدين بالضرورة، بل إن شُبهته تمنع من الإقدام على تكفيره حتى لو أنكر ضرورياً فضلاً عن غيره.

ومن الواضح أن اعتقاد حيازة أهل البيت عليهم السلام لهذه الكتب لا يستلزم إنكار ضروري في الدين، بل إن إنكار ذلك فيه احتمال الوقوع في الهلكة برد ما هو ثابت وصحيح، وبالإقدام على النيل من العترة النبوية الطاهرة، عصمنا الله من ذلك بمنّه وكرمه. وقد مر ما ينفع في المقام آنفاً عند ذِكرنا للأحاديث الناهية عن رد ما يقوله أهل الكتاب، فراجعه.

١٠٤

وتعليل خروج من يعتقد بهذا الأمر عن دائرة الإسلام وجماعة المسلمين بأنه يعيش على علوم ومعارف وهداية ليس للمسلمين منها شيء تعليل باطل، لأن اعتقاد ذلك لا يعني أن هذه الكتب والصحف هي في حيازة الشيعة يهتدون بها دون سائر المسلمين، ولو سلَّمنا بذلك فلا محذور في أن يتمسك الشيعة الإمامية بالعترة النبوية الطاهرة، فيأخذون بهديهم، ويتزوَّدون من علومهم، وينهلون من معارفهم اتباعاً لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسك بالثقلين الذين خلَّفهما للأمة، إذ قال: إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلُّوا بعدي الثقلين، أحدهما أكبـر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض(١) .

هذا مضافاً إلى أن الفرقة الناجية لا بد أن تكون لها هداية ومعارف ليست لغيرها من الطوائف، وإلا لما كان في المسلمين فرقة ناجية واحدة، ووجب أن تكون كل فِرَق المسلمين ناجية، وهو باطل.

* * *

قال الجزائري:٧ - وأخيراً فهل مثل هذا الهراء الباطل والكذب السخيف تصح نسبته إلى الإسلام، دين الله الذي لا يقبل غيره؟!

( ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبَل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) .

والجــواب:

أنَّا أوضحنا بما لا مزيد عليه أن كل ما أنكره الجزائري وشنع به على الشيعة لا محذور فيه، والأحاديث الصحيحة المروية في كتب أهل السنة تعضِّده وتؤيِّده، مع أن مثله مذكور في كتب أهل السنة أو أكثر منه. وكل ما ذكره من اللوازم غير لازم، فإنه حمَّل حديث « الكافي » الذي افتتح به حقيقته هذه ما لا يحتمل من الخيالات الباطلة والأوهام الفاسدة، التي كان الداعي إلى ذكرها هو التعلق بكل ما يكفّر به الشيعة وإن كان باطلاً.

وعليه فأي هراء باطل في هذا الحديث وأي كذب سخيف؟!

____________________

(١) سبق تخريج مصادره في صفحة ٧٣ من هذا الكتاب.

١٠٥

والذي رأيناه في كلمات القوم أنهم يرون كل فضيلة لأهل البيت عليهم السلام هراءاً باطلاً وكذباً سخيفاً، وكل فضيلة لغيرهم هي من الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، وكلام الجزائري هنا جارٍ على هذا المنوال، فلا نتعجب من صدور ذلك منه وممن هو على شاكلته، والله المستعان وإليه المشتكى، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

١٠٦

كشف

الحقيقة الخامسة

١٠٧

١٠٨

قال الجزائري:

الحقيقة الخامسة

اعتقاد أن موسى الكاظم قد فدى الشيعة بنفسه!!

أورد صاحب الكافي هذه الحقيقة بقوله: إن أبا الحسن موسى الكاظم - وهو الإمام السابع من أئمة الشيعة الاثني عشرية - قال: الله عز وجل غضب على الشيعة، فخيَّرني نفسي أو هم، فوقيتهم بنفسي.

أقــول:

هذا الحديث رواه الكليني رحمه الله عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن بعض أصحابنا، عن أبي الحسن موسى عليه السلام. فهو حديث ضعيف الإسناد، لأنه مرسَل قد جُهل بعض رواته.

* * *

قال الجزائري: والآن أيها الشيعي، فما مدلول هذه الحكاية التي ألزموك باعتقادها، بعدما فرضوا عليك الإيمان بها وتصديق مدلولها حسب ألفاظها قطعاً؟

إن موسى الكاظم رحمه الله تعالى قد رضي بقتل نفسه فداءً لأتباعه، من أجل أن يغفر الله لهم، ويدخلهم الجنة بغير حساب.

والجواب:

أنا ذكرنا أن هذا الحديث ضعيف السند، فلا يصح العمل به ولا الاعتقاد بمضمونه، لأنا أوضحنا مكرراً أن الحديث الضعيف لا يحتج به لا في المعتقدات ولا في

١٠٩

الفروع الفقهية، فكل ما ذكره الجزائري مما زعم أنها لوازم غير لازم.

وعليه، فزعم الجزائري أن مضمون هذا الخبر مما أُلزم الشيعي باعتقاده وفُرض عليه الإيمان به زعم باطل لم يستند إلى حجة، ومجرد روايته في الكافي لا يدل على أن الشيعة يعتقدون به كما أوضحناه فيما تقدم.

وما ذكره من التعليل في قوله: « إن موسى الكاظم رحمه الله تعالى قد رضي بقتل نفسه فداءً لأتباعه من أجل أن يغفر الله لهم، ويدخلهم الجنة بغير حساب » لا يدل عليه الحديث، فإن ظاهر الحديث قد دلَّ على أن الإمام الكاظم عليه السلام قد وقى الشيعة بنفسه من القتل في الدنيا، أما أنه علي السلام قد فداهم بنفسه لغفران ذنوبهم ولإدخالهم الجنة بغير حساب فلا يدل عليه الحديث بأي دلالة كما هو واضح.

معنى الحديث

قوله عليه السلام: « إن الله غضب على الشيعة » يعني به جماعة من الشيعة المعاصرين له عليه السلام، وإنما غضب عليهم لأمور وقعت منهم.

قال المولى المجلسي أعلى الله مقامه: « غضب على الشيعة » إما لتركهم التقية، فانتشر أمر إمامته عليه السلام، فتردد الأمر بين أن يقتل الرشيد شيعته ويتتبعهم، أو يحبسه عليه السلام ويقتله، فدعا عليه السلام لشيعته، واختار البلاء لنفسه. وإما لعدم انقيادهم لإمامهم وخلوصهم في متابعته وإطاعة أوامره، فخيَّره الله تعالى بين أن يخرج على الرشيد فتُقتل شيعته إذا يخرج، فينتهي الأمر إلى ما انتهى إليه.

وقيل: خيَّرني الله بين أن أوطِّن نفسي على الهلاك والموت، أو أرضى بإهلاك الشيعة، « فوقيتهم والله بنفسي » يعني فاخترتُ هلاكي دونهم.

وقيل: أي فخيرني بين إرادة موتي أو موتهم، لتحقّق المفارقة بيني وبينهم، فاخترتُ لقاء الله شفقة عليهم(١) .

وحاصل معنى الحديث أن الله سبحانه قد غضب على بعض الشيعة لأمور قبيحة صدرت منهم، فدار الأمر حينئذ بين قتل الإمام موسى بن جعفر عليه السلام وبين هلاك الشيعة، فاختار الإمام عليه السلام قتله، ووقى شيعته بنفسه، فحصلت لهم بذلك

____________________

(١) مرآة العقول ٣/١٢٦.

١١٠

النجاة من القتل والبلاء.

قال الجزائري: تأمل أيها الشيعي وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه من صالح المعتقد والقول والعمل. تأمل هذه الفرية ولا أقول غير الفرية(١) ، وذلك لمجانبتها الحق، وبعدها كل البعد عن الواقع والصدق، تأملها فإنك تجدها تلزم معتقدها بأمور عظيمة، كل واحد لا ترضى أن ينسب إليك أو تنتسب أنت إليه ما دمت ترضى بالله ربًّا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيًّا.

والجــواب:

أنَّا أوضحنا أن هذا الحديث ضعيف السند، والحديث الضعيف كما مر لا يُلزم الشيعة بشيء مما جاء فيه، ولا يُحتج عليهم به.

على أنَّا لو سلَّمنا بصحة هذا الحديث فإن معناه لا تردُّه العقول، ولا يستلزم شيئاً من اللوازم الفاسده التي ذكرها الجزائري، لإمكان حمله على وجوه صحيحة لا تأباها ألفاظ الحديث كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

* * *

ثم إن الجزائري أخذ في سرد أمور جعلها لوازم يُلزَم بها كل واحد من الشيعة الإمامية، فقال:

وتلك الأمور: ١ - الكذب على الله عز وجل في أنه أوحى إلى موسى الكاظم بأنه غضب على الشيعة، وأنه خيَّره نفسه أو شيعته، وأنه فداهم بنفسه، فهذا والله لكذب عليه عز وجل، وهو يقول ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ) .

والجـواب:

١ - أن الحديث لا دلالة فيه على أن الله أوحى إلى الإمام موسى الكاظم عليه السلام أنه غضب على الشيعة وأنه خيَّره نفسه أو الشيعة، لأنه عليه السلام لم يقل: « إن الله عز وجل أوحى إليَّ ذلك ».

____________________

(١) صدق الجزائري في هذا القول، فإنه لم يقل في كتيبه هذا على الشيعة إلا الفرية.

١١١

والحديث لا يدل على أكثر من أن الإمام عليه السلام علم بأن الله سبحانه قد غضب على جمع من الشيعة، أما كيف علم الإمام عليه السلام بذلك فهذا شيء آخر.

ويحتمل في المقام أمران:

١ - أنه عليه السلام علم ذلك بالإلهام، فإن الإلهام يقع في هذه الأمَّة، وأثبته أهل السنة لجمع من الناس، منهم عمر بن الخطاب.

واستدلوا على ثبوت الإلهام لخصوص عمر بن الخطاب بما أخرجه البخاري مسلم والترمذي وأحمد والحاكم وابن حبان والطيالسي والطحاوي وغيرهم عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدَّثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر(١) .

قال ابن حجر: « محدَّثون » جمع محدَّث، واختُلف في تأويله، فقيل: مُلهَم. قاله الأكثرون، قالوا: المحدَّث هو الرجل الصادق الظن، وهو مَن أُلقي في روعه شيء من قِبَل الملأ الأعلى، فيكون كالذي حدَّثه غيره به(٢) .

وقال أيضاً: وتمحَّضت الحكمة في وجودهم - يعني المحدَّثين - وكثرتهم بعد العصر الأول في زيادة شرف هذه الأمة بوجود أمثالهم فيه، وقد تكون الحكمة في تكثيرهم مضاهاة بني إسرائيل في كثرة الأنبياء فيهم، فلما فات هذه الأمة كثرة الأنبياء فيها لكون نبيّها خاتم الأنبياء، عُوِّضوا بكثرة الملهَمين(٣) .

وعلى هذا فليس بمستبعد أن يكون الإمام الكاظم عليه السلام واحداً من هؤلاء المحدَّثين الكثيرين في هذه الأمة. لأنه إمام من أئمة المسلمين وواحد من رؤساء الدين. وهذه كلمات أعلام أهل السنة تصدح في الإشادة بجلالته والتنويه بعظمته وسمو مكانته، وهي أكثر من أن يتسع لها المقام، وإليك بعضاً منها:

قال ابن حجر: موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، أبو

____________________

(١) صحيح البخاري ٤/٢١١ كتاب الأنبياء، باب رقم ٥١. صحيح مسلم ٤/١٨٦٤ كتاب فضائل الصحابة، باب رقم ٢. سنن الترمذي ٥/٦٢٢. مسند أحمد ٢/٣٣٩، ٦/٥٥. المستدرك ٣/٨٦. الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ٩/٢١. مسند أبي داود الطيالسي، ص٣٠٨. مشكل الآثار ٢/٢٥٦. فضائل الصحابة ١/٣٥٤ - ٣٥٥، ٣٦١، ٣٦٢. در السحابة، ص١٦١. مشكاة المصابيح ٣/١٧٠٢. الفردوس بمأثور الخطاب ٣/٢٧٨.

(٢) فتح الباري ٧/٣٩.

(٣) المصدر السابق ٧/٤٠.

١١٢

الحسن الهاشمي، المعروف بالكاظم، صدوق عابد(١) .

وقال: ومناقبه كثيرة(٢) .

وقال أبو حاتم: ثقة صدوق، إمام من أئمة المسلمين(٣) .

وقال الذهبي: كان صالحاً عابداً جواداً حليماً كبير القدر(٤) .

وقال: قد كان موسى من أجواد الحكماء ومن العُبَّاد الأتقياء، وله مشهد معروف ببغداد(٥) .

وقال أيضاً: أجلّ آل جعفر وأشرفهم ابنه موسى الكاظم، الإمام القدوة السيد أبو الحسن العلوي والد الإمام علي بن موسى الرضا، مدني نزل بغداد(٦) .

وقال كذلك: روى أصحابنا أنه دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسجد سجدة في أول الليل، فسُمع وهو يقول في سجوده: « عظُم الذنب عندي، فليحسن العفو من عندك، يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة »، فجعل يردّدها حتى أصبح. وكان سخيًّا كريماً، يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فيبعث إليه بصرّة فيها ألف دينار(٧) .

وقال يحيى بن الحسن بن جعفر النسابة: كان موسى بن جعفر يُدعى العبد الصالح من عبادته واجتهاده(٨) .

وقال ابن الجوزي: كان يُدعى العبد الصالح، لأجل عبادته واجتهاده وقيامه بالليل، وكان كريماً حليماً، إذا بلغه عن رجل أنه يؤذيه بعث إليه بمال(٩) .

وقال ابن كثير: كان كثير العبادة والمروءة، إذا بلغه عن أحد أنه يؤذيه أرسل له بالذهب والتحف(١٠) .

____________________

(١) تقريب التهذيب، ص٥٥٠.

(٢) تهذيب التهذيب ١٠/٣٠٣.

(٣) الجرح والتعديل ٨/١٣٩.

(٤) العبر في خبر من غير ١/٢٢٢.

(٥) ميزان الاعتدال ٤/٢٠٢.

(٦) سير أعلام النبلاء ٦/٢٧٠.

(٧) المصدر السابق ٦/٢٧١.

(٨) تهذيب التهذيب ١٠/٣٠٢.

(٩) صفة الصفوة ٢/١٨٤.

(١٠) البداية والنهاية ١٠/١٨٩.

١١٣

وقال ابن تيمية: وموسى بن جعفر مشهور بالعبادة والنّسك(١) .

وقال السويدي: هو الإمام الكبير القدر، الكثير الخير، كان يقوم ليله، ويصوم نهاره، وسُمّي كاظماً لفرط تجاوزه عن المعتدين... وكانت له كرامات ظاهرة ومناقب لا يسع مثل هذا الموضع ذكرها(٢) .

وبالجملة، فالإمام موسى بن جعفر عليه السلام هو بدرجة من الجلالة والرفعة وعظم الشأن بحيث لا يُنكر في حقه أن يكون واحداً من أولئك المحدَّثين.

٢ـ لعلَّ الإمام عليه السلام إنما قال ذلك بناءً على ما هو الظاهر من أن الله سبحانه يغضب على مَن فعَل فعلاً من الأمور العظيمة التي يكون لها آثار سيّئة على الإسلام والمسلمين، فإن الإمام عليه السلام لما رأى أن جماعة من الشيعة قد تركوا التقية وصرَّحوا باسم الإمام عليه السلام، علِمَ أن الله قد غضب عليهم، بتعريضهم الإمام عليه السلام أو باقي الشيعة للقتل والهلاك، لأن مَن أعان على قتل امرئ مسلم ولو بشطر كلمة لقي الله مكتوباً بين عينيه: « آيس من رحمة الله » كما جاء في الخبر(٣) ، فكيف بمن تسبَّب في قتل إمام المسلمين؟!

* * *

قال الجزائري: ٢ - الكذب على موسى الكاظم رحمه الله وبهته بهذه الفرية التي هو منها والله لبراء.

والجـواب:

أن الكليني قدس سره روى هذا الحديث في كتابه الكافي بظن أنه معتبر، وغيره من علماء الشيعة لم يوافقوه في ذلك، فالكليني اجتهد في الحديث فأخطأ في الحكم عليه بالاعتبار، وهذا من الأمور المغتفرة للعالم المجتهد كما هو معلوم.

والحديث مع قولنا بضعفه إلا أنّا لا نجزم بأنه مكذوب على الإمام الكاظم

____________________

(١) منهاج السنة النبوية ٢/١٢٤.

(٢) سبائك الذهب، ص٧٥.

(٣) أخرجه ابن ماجة في السنن ٢/٨٧٤، والبيهقي في السنن الكبرى ٨/٢٢، والمنذري في الترغيب والترهيب ٣/١٨٥، والتبريزي في مشكاة المصابيح ٢/١٠٣٥ وغيرهم.

١١٤

عليه السلام، وقد اتضح ذلك مما تقدم. على أنه لو ثبت أن هذا الحديث مكذوب على الإمام الكاظم عليه السلام فمن الجور أن يُنْسب الشيعة كلهم إلى الكذب في الوقت الذي نرى فيه علماء الشيعة لا يصحّحون هذا الحديث ولا يعتقدون بمضونه.

وكيف كان فلو جاز ذلك لحق لنا نسبة كل الطوائف إلى الكذب، لأنه ما من طائفة إلا وفي كتبها المعتمدة كثير من الأحاديث المكذوبة كما لا يخفى على من تتبّع كتب الأحاديث.

وقوله: «وبهته بهذه الفرية التي هو منها والله براء » فيه أن البهتان هو الكذب على المرء بما ليس فيه مما يشينه ويضعه كما دلَّت عليه الأحاديث المفرِّقة بين الغيبة والبهتان، فإن الغيبة هي أن تتكلم في الرجل بما فيه، والبهتان هو أن تتكلم فيه بما ليس فيه(١) .

وما نحن فيه ليس كذلك، فإن الحديث فيه مدح للإمام عليه السلام بأنه وقى شيعته بنفسه، فكيف يتحقق بهته عليه السلام بذلك؟!

هذا مع أن الجزائري قد أكثر من الحلف بالله على ما لا يعلم، والله سبحانه يقول( ولا تجعلوا الله عرضة لأَيمانكم ) (٢) ، فحلفه دائر بين أمرين اثنين، لأنه لا يخلو إما أن يكون كاذباً فحلفه محرَّم، وإما أن يكون صادقاً فحلفه مكروه.

قال الفخر الرازي: الذي ذكره أبو مسلم الأصفهاني - وهو الأحسن - أن قوله( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ) نهي عن الجراءة على الله بكثرة الحلف به.

وقال: وقد ذم الله تعالى مَن أكثر الحلف بقوله( ولا تطع كل حلاَّف مهين ) وقال( واحفظوا أيمانكم ) ، والعرب كانوا يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف... والحكمة في الأمر بتقليل الأَيمان أن مَن حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه

____________________

(١) من ذلك ما أخرجه مسلم - واللفظ له - والترمذي وأبو داود وأحمد والدارمي وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته. راجع صحيح مسلم ٤/٢٠٠١ كتاب البر والصلة والآداب، باب رقم ٢٠. سنن أبي داود ٤/٢٦٩. سنن الترمذي ٤/٣٢٩. مسند أحمد ٢/٢٣٠،٣٨٤، ٣٨٦، ٤٥٨. سنن الدارمي ٢/٢٩٩.

(٢) سورة البقرة، الآية ٢٢٤.

١١٥

بذلك، ولا يبقى لليمين في قلبه وقع، فلا يؤمَن إقدامه على اليمين الكاذبة، فيختل ما هو الغرض الأصلي في اليمين، وأيضاً: كلما كان الإنسان أكثر تعظيماً لله تعالى كان أكمل في العبودية، ومن كمال العبودية أن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية(١) .

* * *

قال الجزائري:٣ - اعتقاد نبوّة موسى الكاظم رحمه الله، وما هو والله بنبي ولا رسول، فقول المفتري: إن الله أخبر موسى الكاظم بأنه غضبان على الشيعة، وأنه خيَّره بين نفسه وشيعته فاختار شيعته، ورضي لنفسه بالقتل فداءاً لهم، يدل دلالة واضحة بمنطوقه ومفهومه على نبوة موسى الكاظم، مع العلم بأن المسلمين مجمعون على كفر من اعتقد نبوة أحد بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لتكذيبه بصريح قوله تعالى ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) .

والجـواب:

أن عقيدة الشيعة الإمامية في الأئمة الاثني عشر عليهم السلام أشهر من أن تُذكر، وأظهر من أن تُنكر، ولا أحد من الشيعة يعتقد بنبوة الإمام الكاظم أو غيره من الأئمة عليهم السلام.

والحديث الذي رواه الكليني رحمه الله مع ضعفه لا يدل على أن الله سبحانه أوحى إلى الإمام عليه السلام، ولو سلَّمنا بدلالته على ذلك فالوحي لا يستلزم النبوة، فإن الله جل شأنه أوحى إلى أُم موسى عليه السلام، فقال( وأوحينا إلى أُم موسى أن أرضعيه فإذا خفتِ عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنَّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) (٢) .

قال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى( قال قد أُوتيتَ سؤلك يا موسى * ولقد منَنَّا عليك مرة أخرى * إذ أوحينا إلى أُمك ما يوحى ) (٣) : اتفق الأكثرون على أن أُم موسى عليه السلام ما كانت من الأنبياء والرسل، فلا يجوز أن يكون المراد من هذا الوحي هو الوحي

____________________

(١) التفسير الكبير ٦/٧٥.

(٢) سورة القصص، الآية ٧.

(٣) سورة طه، الآيات ٣٦ - ٣٨.

١١٦

الواصل إلى الأنبياء. وكيف لا نقول ذلك والمرأة لا تصلح للقضاء والإمامة، بل عند الشافعي رحمه الله لا تمكَّن من تزويج نفسها، فكيف تصلح للنبوة؟! ويدل عليه قوله تعالى( وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم ) ، وهو صريح في الباب، وأيضاً فالوحي قد جاء في القرآن لا بمعنى النبوة، قال تعالى( وأوحى ربّك إلى النحل ) ، وقال( وإذ أوحيت إلى الحواريين ) (١) .

وقال القرطبي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: أُوحي إليها كما أوحي إلى النبيين(٢) .

والحاصل أن زعمه بأن الحديث يدل دلالة واضحة بمنطوقه ومفهومه على نبوة موسى الكاظم زعم باطل، فإن الحديث بمنطوقه لا يدل - كما قلنا - على أكثر من أن الإمام الكاظم عليه السلام قد علم أن الله غضب على جماعة من الشيعة، فخيَّره الله نفسه أو الشيعة، فاختار عليه السلام وقايتهم بنفسه.

أما كيف علم الإمام عليه السلام أن الله قد غضب على الشيعة، وكيف خيَّره الله بين ذينك الأمرين، فهذا لم يتضح لا من منطوق الحديث ولا من مفهومه كما هو واضح، وقد بيَّنَّاه فيما تقدم.

وأما المفهوم، فإن كان لهذا الحديث مفهوم فهو مفهوم اللقَب، وهو غير حجة كما هو معلوم عند الأصوليين.

والظاهر أن الجزائري ذكر هذه الكلمة وهو لا يعرف معناها في الاصطلاح، ويدل على ذلك زعمه دلالة المنطوق والمفهوم كليهما على معنى واحد، وهو غير صحيح، لأن المنطوق والمفهوم لا بـد أن يـدل كل واحد منهما على معنى لا يدل عليه الآخر، وهو واضح لمن لديه أدنى معرفة بالمفاهيم.

وعلى كل حال، فإنا لو سلَّمنا جدَلاً بدلالة هذا الحديث على ما قاله فعقيدة الشيعة في الإمام موسى الكاظم عليه السلام معروفة غير خافية على أحد، ولا يمكن أن يُشكَّك فيها بحديث ضعيف مروي في كتاب الكافي أو في غيره من مصادر الحديث المعتمدة عند الشيعة.

____________________

(١) التفسير الكبير ٢٢/٥١.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١١/١٩٥.

١١٧

قال الجزائري:٤ - إتحاد الشيعة والنصارى في عقيدة الصلب والفداء، فكما أن النصارى يعتقدون أن عيسى فدى البشرية بنفسه، إذ رضي بالصلب تكفيراً عن خطيئة البشرية، وفداءً لها من غضب الرب وعذابه، فكذلك الشيعة يعتقدون بحكم هذه الحقيقة أن موسى الكاظم خيَّره ربه بين إهلاك شيعته أو قتل نفسه، فرضي بالقتل وفدى الشيعة من غضب الرب وعذابه، فالشيعة إذن والنصارى عقيدتهما واحدة، والنصارى كفَّار بصريح كتاب الله عز وجل، فهل يرضى الشيعي بالكفر بعد الإيمان؟

قد هيَّؤوكَ لأمــرٍ لو فطنتَ له * فاربأ بنفسِكَ أن ترعَى مع الهمَلِ

والجـواب:

أنا قد أوضحنا أن الحديث الذي بنى عليه الجزائري حقيقته هذه مع ضَعفه لا يدل على ما ادَّعى الجزائري دلالته عليه، والذي دلَّ عليه الحديث - كما مرَّ مكرَّراً - أن الإمام عليه السلام قد وقى الشيعة بنفسه لئلا يقتلهم هارون الرشيد، لا أن قتله عليه السلام كان تكفيراً عن ذنوب الشيعة وفداءً لهم من غضب الرب وعذابه كما زعم الجزائري.

ولعل غضب الله عليهم إنما كان لتركهم التقية كما تقدم، إذ صرَّحوا باسم الإمام عليه السلام، أو لأنهم تركوا طاعة الإمام عليه السلام فعملوا ما يستوجب غضب الرشيد، فرأى الإمام عليه السلام أنه إن نجا بنفسه تتبَّع الرشيد الشيعة ولاحقهم، فإما أن يهلكهم، أو يظفر بالإمام عليه السلام، فاختار الإمام عليه السلام أن يظهر للرشيد وقاية للشيعة مما يتوقع نزوله بهم من القتل.

فالإمام عليه السلام أخبر بأنه فعل ما يوجب حفظ الشيعة وحقن دمائهم مع ما صدر منهم من الأفعال التي نتج عنها تعريض الإمام عليه السلام للقتل.

والحاصل أن الحديث لا يدل على أن الإمام فدى الشيعة من غضب الله وعذابه حتى يلزم منه اتحاد الشيعة والنصارى في عقيدة الصلب والفداء، ولو سلَّمنا بدلالة الحديث على ذلك فمع ضعف سنده لا يصلح للاحتجاج به على شيء.

ومع الإغماض عن ذلك، وتسليم أن الشيعة يعتقدون أن الإمام الكاظم عليه السلام قد فداهم من غضب الرب وعذابه، فهذا لا يستلزم أن تكون عقيدة الشيعة والنصارى واحدة، لأن النصارى يعتقدون ذلك في المسيح عليه السلام لا الإمام الكاظم،

١١٨

ولو سلمنا بأن الشيعة يعتقدون الفداء من الإمام الكاظم عليه السلام، فهم لا يعتقدون ذلك من المسيح عليه السلام، ومجرد تشابه المعتقدات من بعض الجهات لا يعني اتحادها، فإن النصارى يعتقدون أن المسيح عليه السلام هو خاتم الأنبياء، والمسلمون يعتقدون أن خاتمهم هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا لا يعني اتحاد المسلمين والنصارى في إحدى العقائد، وإلا لكان المسلمون والوثنيون وعُبَّاد غير الله سبحانه متَّحدين في عقيدة الربوبية، وهذا باطل بالإتفاق.

هذا مع أن مجرد الإتحاد بين الإديان في بعض المعتقدات لا يدل على اتحادها في كل العقائد، فإن المسلمين والنصارى يعتقدون بنزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، وهـذا لا يعني اتحاد المسلمين والنصارى في عقائدهم حتى يترتب على أولئك ما يترتب على هؤلاء، ويلزم إحدى الطائفتين ما يلزم الأخرى.

والحاصل أن الشيعة والنصارى لم تتَّحد عقيدتهم في هذه المسألة التي ذكرها، وهي عقيدة الصلب والفداء، ولو سلَّمنا جدلاً باتحادهم فيها، فهذا لا يعني أن عقائد الشيعة والنصارى واحدة كما هو واضح.

ومنه يتَّضح وجه المغالطة الواهية في قوله: فالشيعة إذن والنصارى عقيدتهم واحدة، والنصارى كفَّار بصريح كتاب الله عز وجل، فهل يرضى الشيعي بالكفر بعد الإيمان؟!

* * *

قال الجزائري: وأخيراً، انقذ نفسك أيها الشيعي، وتبرَّأ من هذه الخزعبلات والأباطيل، ودونك صراط الله وسبيل المؤمنين.

وأقول:

إن الشيعي بحمد الله ومنِّه قد أنقذ نفسه بالسير في صراط الله المستقيم، واتَّباع سبيل المؤمنين، والتمسّك بكتاب الله العزيز، والعترة النبوية الطاهرة، أخذاً بوصية النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأمته حيث قال: إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي

١١٩

أهل بيتي، ولن يتفرّقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلِّفونِّي فيهما.

وقال: النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس(١) .

وقال: مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق(٢) .

وما أحسن قول القائل:

لما رأيتُ النــاسَ قد ذهبتْ بهـم * مذاهبُهم في أبحــر الغي والجهـلِ

ركبت على اسم الله في سفن النجا * وهم أهل بيت المصطفى سيدِ الرُّسْلِ

وأمسكتُ حبلَ الله وهـو ولاؤهــم * كما قد أُمرنا بالتمسُّــك بالحبــلِ

إذا افترقتْ في الدين سبعون فرقـةً * فقُل لي بها يا ذا الرجاحة والعقــلِ

أفي الفِرقــة الهُلاَّك آلُ محمــدٍ * أم الفرقة اللاتي نجَتْ؟ قــل لـي

فإن قلتَ في الناجين فالقـول واحد * وإن قلتَ في الهُلاَّك حدتَ عن العدل

إذا كان مولى القوم منهــم فإننـي * رضيتُ بهم لا زال في ظلِّهم ظلّـي

رضيتُ عليًّا لي إمامـاً ونسلَـــه * وأنت من الباقين في أوسـع الحِـل

ولهذا كان الشيعة هـم الفائزين الناجين من كـل فِرَق هذه الأمة، وهـذا ما أخبر بـه الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: عليٌّ وشيعته هم الفائزون يوم القيامة(٣) .

ولما نزل قوله تعالى( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ) (٤) ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: هو أنت وشيعتك، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين

____________________

(١) المستدرك ٣/١٤٩ وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. مجمع الزوائد ٩/١٦٨. إحياء الميت، ص٤١ - ٤٢. الخصائص الكبرى ٢/٢٦٦. حلية الاولياء ٤/٣٠٦. تاريخ بغداد ١٢/٩١. وأخرجه السيوطي في الجامع الصغير ٢/٥٣٣ ورمز له بالحسن.

(٢) المستدرك ٢/٣٤٣، ٣/١٥٠. مجمع الزوائد ٩/١٦٨. مشكاة المصابيح ٣/١٧٤٢. إحياء الميت، ص٤١ - ٤٢. الخصائص الكبرى ٢/٢٦٦. حلية الاولياء ٤/٣٠٦. تاريخ بغداد ١٢/٩١. المعجم الصغير ١/١٣٩/١٤٠.

(٣) الدر المنثور ٨/٥٨٩. فتح القدير ٥/٤٧٧. ترجمة الامام علي بن أبي طالب عليه السلام من تاريخ دمشق ٢/٣٤٨. شواهد التنزيل، ص٨٢٠. الفردوس بمأثور الخطاب ٣/٦١.

(٤) سورة البينة، الآية ٧.

١٢٠