كتاب شرح نهج البلاغة الجزء ٢٠

كتاب شرح نهج البلاغة0%

كتاب شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 351

كتاب شرح نهج البلاغة

مؤلف: ابن أبي الحديد
تصنيف:

الصفحات: 351
المشاهدات: 37417
تحميل: 4941


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 351 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 37417 / تحميل: 4941
الحجم الحجم الحجم
كتاب شرح نهج البلاغة

كتاب شرح نهج البلاغة الجزء 20

مؤلف:
العربية

كلما أخطأ لم يلبث أن يتدارك ذلك بتوبة و ندامة على ما فرط منه فيمحو ذنوبه و يبقى له فضل يدخل به الجنة

نكت في مدح العقل و ما قيل فيه

و قد تقدم من قولنا في العقل و ما ذكر فيه ما فيه كفاية و نحن نذكر هاهنا شيئا آخر كان يقال العاقل يروي ثم يروي و يخبر ثم يخبر.و قال عبد الله بن المعتز ما أبين وجوه الخير و الشر في مرآة العقل.

لقمان يا بني شاور من جرب الأمور فإنه يعطيك من رأيه ما قام عليه بالغلاء و تأخذه أنت بالمجان.أردشير بن بابك أربعة تحتاج إلى أربعة الحسب إلى الأدب و السرور إلى الأمن و القرابة إلى المودة و العقل إلى التجربة.الإسكندر لا تحتقر الرأي الجزيل من الحقير فإن الدرة لا يستهان بها لهوان غائصها.مسلمة بن عبد الملك ما ابتدأت أمرا قط بحزم فرجعت على نفسي بلائمة و إن كانت العاقبة علي و لا أضعت الحزم فسررت و إن كانت العاقبة لي.وصف رجل عضد الدولة بن بويه فقال لو رأيته لرأيت رجلا له وجه فيه ألف عين و فم فيه ألف لسان و صدر فيه ألف قلب.أثنى قوم من الصحابة على رجل عند رسول الله ص بالصلاة و العبادة و خصال الخير حتى بالغوا

فقال ص كيف عقله قالوا يا رسول الله

٤١

نخبرك باجتهاده في العبادة و ضروب الخير و تسأل عن عقله فقال إن الأحمق ليصيب بحمقه أعظم مما يصيبه الفاجر بفجوره و إنما ترتفع العباد غدا في درجاتهم و ينالون من الزلفى من ربهم على قدر عقولهم.الريحاني العقل ملك و الخصال رعيته فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل إليها و سمع هذا الكلام أعرابي فقال هذا كلام يقطر عسله.قال معن بن زائدة ما رأيت قفا رجل إلا عرفت عقله قيل فإن رأيت وجهه قال ذا كتاب يقرأ.بعض الفلاسفة عقل الغريزة مسلم إلى عقل التجربة.بعضهم كل شي‏ء إذا كثر رخص إلا العقل فإنه إذا كثر غلا.قالوا في قوله تعالى( لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا ) أي من كان عاقلا.و من كلامهم العاقل بخشونة العيش مع العقلاء آنس منه بلين العيش مع السفهاء.أعرابي لو صور العقل أظلمت معه الشمس و لو صور الحمق لأضاء معه الليل.قيل لحكيم متى عقلت قال حين ولدت فأنكروا ذلك فقال أما أنا فقد بكيت حين جعت و طلبت الثدي حين احتجت و سكت حين أعطيت يريد أن من عرف مقادير حاجته فهو عاقل.المأمون إذا أنكرت من عقلك شيئا فاقدحه بعاقل.بزرجمهر العاقل الحازم إذا أشكل عليه الرأي بمنزلة من أضل لؤلؤة فجمع ما حول مسقطها من التراب ثم التمسها حتى وجدها و كذلك العاقل يجمع وجوه

٤٢

الرأي في الأمر المشكل ثم يضرب بعضها في بعض حتى يستخلص الرأي الأصوب.كان يقال هجين عاقل خير من هجان جاهل.كان بعضهم إذا استشير قال لمشاوره أنظرني حتى أصقل عقلي بنومة.إذا نزلت المقادير نزلت التدابير من نظر في المغاب ظفر بالمحاب من استدت عزائمه اشتدت دعائمه الرأي السديد أجدى من الأيد الشديد.بعضهم:

و ما ألف مطرور السنان مشدد

يعارض يوم الروع رأيا مسددا

أبو الطيب:

الرأي قبل شجاعة الشجعان

هو أول وهى المحل الثاني

فإذا هما اجتمعا لنفس حرة

بلغت من العلياء كل مكان

و لربما طعن الفتى أقرانه

بالرأي قبل تطاعن الأقران

لو لا العقول لكان أدنى ضيغم

أدنى إلى شرف من الإنسان

و لما تفاضلت النفوس و دبرت

أيدي الكماة عوالي المران

ذكر المأمون ولد علي ع فقال خصوا بتدبير الآخرة و حرموا تدبير الدنيا.كان يقال إذا كان الهوى مقهورا تحت يد العقل و العقل مسلط عليه صرفت مساوئ صاحبه إلى المحاسن فعدت بلادته حلما و حدته ذكاء و حذره بلاغة و عية صمتا و جبنه حذرا و إسرافه جودا.

٤٣

و ذكر هذا الكلام عند بعضهم فقال هذه خصيصة الحظ نقلها مرتب هذا الكلام إلى العقل.سمع محمد بن يزداد كاتب المأمون قول الشاعر:

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة

فإن فساد الرأي أن تترددا

فأضاف إليه:

و إن كنت ذا عزم فأنفذه عاجلا

فإن فساد العزم أن يتفندا

٤٤

416

وَ قَالَ ع : مَنْ صَارَعَ اَلْحَقَّ صَرَعَهُ هذا مثل قوله في موضع آخر من أبدى صفحته للحق هلك و نحو هذا قول الطائي:

و من قامر الأيام عن ثمراتها

فأحج بها أن تنجلي و لها القمر

٤٥

417

وَ قَالَ ع : اَلْقَلْبُ مُصْحَفُ اَلْبَصَرِ هذا مثل قول الشاعر:

تخبرني العينان ما القلب كاتم

و ما جن بالبغضاء و النظر الشزر

يقول ع كما أن الإنسان إذا نظر في المصحف قرأ ما فيه كذلك إذا أبصر الإنسان صاحبه فإنه يرى قلبه بوساطة رؤية وجهه ثم يعلم ما في قلبه من حب و بغض و غيرهما كما يعلم برؤية الخط الذي في المصحف ما يدل الخط عليه.و قال الشاعر:

إن العيون لتبدي في تقلبها

ما في الضمائر من ود و من حنق

٤٦

418

وَ قَالَ ع : اَلتُّقَى رَئِيسُ اَلْأَخْلاَقِ يعني رئيس الأخلاق الدينية لأن الأخلاق الحميدة كالجود و الشجاعة و الحلم و العفة و غير ذلك لو قدرنا انتفاء التكاليف العقلية و الشرعية لم يكن التقى رئيسا لها و إنما رئاسة التقى لها مع ثبوت التكليف لا سيما الشرعي و التقى في الشرع هو الورع و الخوف من الله و إذا حصل حصلت الطاعات كلها و انتفت القبائح كلها فصار الإنسان معصوما و تلك طبقة عالية و هي أشرف من جميع الطبقات التي يمدح بها الإنسان نحو قولنا جواد أو شجاع أو نحوهما لأنها طبقة ينتقل الإنسان منها إلى الجنة و دار الثواب الدائم و هذه مزية عظيمة يفضل بها على سائر طبقات الأخلاق

٤٧

419

وَ قَالَ ع : لاَ تَجْعَلَنَّ ذَرَبَ لِسَانِكَ عَلَى مَنْ أَنْطَقَكَ وَ بَلاَغَةَ قَوْلِكَ عَلَى مَنْ سَدَّدَكَ يقول لا شبهة أن الله تعالى هو الذي أنطقك و سدد لفظك و علمك البيان كما قال سبحانه( خَلَقَ اَلْإِنْسانَ عَلَّمَهُ اَلْبَيانَ ) فقبيح أن يجعل الإنسان ذرب لسانه و فصاحة منطقه على من أنطقه و أقدره على العبادة و قبيح أن يجعل الإنسان بلاغة قوله على من سدد قوله و جعله بليغا حسن التعبير على المعاني التي في نفسه و هذا كمن ينعم على إنسان بسيف فإنه يقبح منه أن يقتله بذلك السيف ظلما قبحا زائدا على ما لو قتله بغير ذلك السيف و ما أحسن قول المتنبي في سيف الدولة:

و لما كسا كعبا ثيابا طغوا بها

رمى كل ثوب من سنان بخارق

و ما يوجع الحرمان من كف حازم

كما يوجع الحرمان من كف رازق

٤٨

420

وَ قَالَ ع : كَفَاكَ أَدَباً لِنَفْسِكَ اِجْتِنَابُ مَا تَكْرَهُهُ مِنْ غَيْرِكَ قد قال ع هذا اللفظ أو نحوه مرارا و قد تكلمنا نحن عليه و ذكرنا نظائر له كثيرة نثرا و نظما.و كتب بعض الكتاب إلى بعض الملوك في حال اقتضت ذلك:

ما على ذا افترقنا بشبذان إذ كنا

و لا هكذا عهدنا الإخاء

تضرب الناس بالمهندة البيض

على غدرهم و تنسى الوفاء

٤٩

421

وَ قَالَ ع يُعَزِّي قَوْماً مَنْ صَبَرَ صَبْرَ اَلْأَحْرَارِ وَ إِلاَّ سَلاَ سُلُوَّ اَلْأَغْمَارِ وَ فِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّهُ ع قَالَ لِلْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ مُعَزِّياً عَنِ اِبْنٍ لَهُ إِنْ صَبَرْتَ صَبْرَ اَلْأَكَارِمِ وَ إِلاَّ سَلَوْتَ سُلُوَّ اَلْبَهَائِمِ أخذ هذا المعنى أبو تمام بل حكاه فقال:

و قال علي في التعازي لأشعث

و خاف عليه بعض تلك المآثم

أتصبر للبلوى عزاء و حسبة

فتؤجر أم تسلو سلو البهائم

٥٠

422

وَ قَالَ ع فِي صِفَةِ اَلدُّنْيَا اَلدُّنْيَا تَغُرُّ وَ تَضُرُّ وَ تَمُرُّ إِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ تَعَالَى لَمْ يَرْضَهَا ثَوَاباً لِأَوْلِيَائِهِ وَ لاَ عِقَاباً لِأَعْدَائِهِ قد تقدم لنا كلام طويل في ذم الدنيا و من الكلام المستحسن قوله تغر و تضر و تمر و الكلمة الثانية أحسن و أجمل.و قرأت في بعض الآثار أن عيسى ع مر بقرية و إذا أهلها موتى في الطرق و الأفنية فقال للتلامذة إن هؤلاء ماتوا عن سخطة و لو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا فقالوا يا سيدنا وددنا أنا علمنا خبرهم فسأل الله تعالى فقال له إذا كان الليل فنادهم يجيبوك فلما كان الليل أشرف على نشز ثم ناداهم فأجابه مجيب فقال ما حالكم و ما قصتكم فقال بتنا في عافية و أصبحنا في الهاوية قال و كيف ذلك قال لحبنا الدنيا قال كيف كان حبكم لها قال حب الصبي لأمه إذا أقبلت فرح بها و إذا أدبرت حزن عليها و بكى قال فما بال أصحابك لم يجيبوني قال لأنهم ملجمون بلجم من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد قال فكيف أجبتني أنت من بينهم قال لأني كنت فيهم و لم أكن منهم فلما نزل بهم العذاب أصابني معهم فأنا معلق على شفير جهنم لا أدري أنجو منها أكبكب فيها فقال المسيح لتلامذته لأكل خبز الشعير بالملح الجريش و لبس المسوح و النوم على المزابل و سباخ الأرض في حر الصيف كثير مع العافية من عذاب الآخرة

٥١

423

وَ إِنَّ أَهْلَ اَلدُّنْيَا كَرَكْبٍ بَيْنَا هُمْ حَلُّوا إِذْ صَاحَ بِهِمْ سَائِقُهُمْ فَارْتَحَلُوا روي بيناهم حلول و بينا هي بين نفسها و وزنها فعلى أشبعت فتحة النون فصارت ألفا ثم قالوا بينما فزادوا ما و المعنى واحد تقول بينا نحن نفعل كذا جاء زيد أي بين أوقات فعلنا كذا جاء زيد و الجمل قد يضاف إليها أسماء الزمان نحو قولهم أتيتك زمن الحجاج أمير ثم حذفوا المضاف الذي هو أوقات و ولي الظرف الذي هو بين الجملة التي أقيمت مقام المحذوف.و كان الأصمعي يخفض بعد بينا إذا صلح في موضعه بين و ينشد قول أبي ذؤيب بالكسر:

بينا تعنقه الكماة و روغه

يوما أتيح له جري سلفع

و غيره يرفع ما بعد بينا و بينما على الابتداء و الخبر فأما إذ و إذا فإن أكثر أهل العربية يمنعون من مجيئهما بعد بينا و بينما و منهم من يجيزه و عليه جاء كلام أمير المؤمنين و أنشدوا:

بينما الناس على عليائها

إذ هووا في هوة منها فغاروا

٥٢

و قالت الحرقة بنت النعمان بن المنذر:

و بينا نسوس الناس و الأمر أمرنا

إذا نحن فيهم سوقة نتنصف

و قال الشاعر:

أستقدر الله خيرا و أرضين به

فبينما العسر إذ دارت مياسير

و بينما المرء في الأحياء مغتبط

إذ صار في اللحد تعفوه الأعاصير

و مما جاء في وصف الدنيا مما يناسب كلام أمير المؤمنين قول أبي العتاهية:

إن دارا نحن فيها لدار

ليس فيها لمقيم قرار

كم و كم قد حلها من أناس

ذهب الليل بهم و النهار

فهم الركب قد أصابوا مناخا

فاسترحوا ساعة ثم ساروا

و كذا الدنيا على ما رأينا

يذهب الناس و تخلو الديار

٥٣

424

وَ قَالَ ع لاِبْنِهِ اَلْحَسَنِ ع يَا بُنَيَّ لاَ تُخَلِّفَنَّ وَرَاءَكَ شَيْئاً مِنَ اَلدُّنْيَا فَإِنَّكَ تَخَلِّفُهُ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ إِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِيهِ بِطَاعَةِ اَللَّهِ فَسَعِدَ بِمَا شَقِيتَ بِهِ وَ إِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِيهِ بِمَعْصِيَةِ اَللَّهِ فَشَقِيَ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ فَكُنْتَ عَوْناً لَهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَ لَيْسَ أَحَدُ هَذَيْنِ حَقِيقاً أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِكَ قَالَ اَلرَّضِيُّ وَ يُرْوَى هَذَا اَلْكَلاَمُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَ هُوَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلَّذِي فِي يَدَيْكَ يَدِكَ مِنَ اَلدُّنْيَا قَدْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ قَبْلَكَ وَ هُوَ صَائِرٌ إِلَى أَهْلٍ بَعْدَكَ وَ إِنَّمَا أَنْتَ جَامِعٌ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ رَجُلٍ عَمِلَ فِيمَا جَمَعْتَهُ بِطَاعَةِ اَللَّهِ فَسَعِدَ بِمَا شَقِيتَ بِهِ أَوْ رَجُلٍ عَمِلَ فِيمَا جَمَعْتَهُ فِيهِ بِمَعْصِيَةِ اَللَّهِ فَشَقِيَ فَشَقِيتَ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ وَ لَيْسَ أَحَدُ هَذَيْنِ أَهْلاً أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِكَ أَوْ وَ لاَ أَنْ تَحْمِلَ لَهُ عَلَى ظَهْرِكَ فَارْجُ لِمَنْ مَضَى رَحْمَةَ اَللَّهِ وَ لِمَنْ بَقِيَ رِزْقَ اَللَّهِ تَعَالَى روي فإنك لا تخلفه إلا لأحد رجلين و هذا الفصل نهي عن الادخار و قد سبق لنا فيه كلام مقنع.و خلاصة هذا الفصل أنك إن خلفت مالا فإما أن تخلفه لمن يعمل فيه بطاعة الله أو لمن يعمل فيه بمعصيته فالأول يسعد بما شقيت به أنت و الثاني يكون معانا

٥٤

منك على المعصية بما تركته له من المال و كلا الأمرين مذموم و إنما قال له فارج لمن مضى رحمة الله و لمن بقي رزق الله لأنه قال في أول الكلام قد كان لهذا المال أهل قبلك و هو صائر إلى أهل بعدك.و الكلام في ذم الادخار و الجمع كثير و للشعراء فيه مذاهب واسعة و معان حسنة و قال بعضهم:

يا جامعا مانعا و الدهر يرمقه

مدبرا أي باب عنه يغلقه

و ناسيا كيف تأتيه منيته

أ غاديا أم بها يسري فتطرقه

جمعت مالا فقل لي هل جمعت له

يا جامع المال أياما تفرقه

المال عندك مخزون لوارثه

ما المال مالك إلا يوم تنفقه

أرفه ببال فتى يغدو على ثقة

أن الذي قسم الأرزاق يرزقه

فالعرض منه مصون لا يدنسه

و الوجه منه جديد ليس يخلقه

إن القناعة من يحلل بساحتها

لم يلق في ظلها هما يؤرقه

٥٥

425

وَ قَالَ ع لِقَائِلٍ قَالَ بِحَضْرَتِهِ أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ أَ تَدْرِي مَا اَلاِسْتِغْفَارُ إِنَّ لِلاِسْتِغْفَارِ دَرَجَةَ اَلْعِلِّيِّينَ اَلاِسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ اَلْعِلِّيِّينَ وَ هُوَ اِسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ أَوَّلُهَا اَلنَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى وَ اَلثَّانِي اَلْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ اَلْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً وَ اَلثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى اَلْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اَللَّهَ عزوجل أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ وَ اَلرَّابِعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا وَ اَلْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اَللَّحْمِ اَلَّذِي نَبَتَ عَلَى اَلسُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالْأَحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ اَلْجِلْدَ بِالْعَظْمِ وَ يَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ وَ اَلسَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ اَلْجِسْمَ أَلَمَ اَلطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاَوَةَ اَلْمَعْصِيَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ

قد روي أن الاستغفار درجة العليين.فيكون على تقدير حذف مضاف أي أن درجة الاستغفار درجة العليين و على الرواية الأولى يكون على تقدير حذف مضاف أي أن لصاحب الاستغفار درجة العليين و هو هاهنا جمع على فعيل كضليل و خمير تقول هذا رجل علي أي كثير العلو و منه العلية للغرفة على إحدى اللغتين و لا يجوز أن يفسر بما فسر به الراوندي من قوله إنه اسم السماء السابعة و نحو قوله هو سدرة المنتهى و نحو قوله هو موضع تحت قائمة العرش اليمنى لأنه لو كان كذلك لكان

٥٦

علما فلم تدخله اللام كما لا يقال الجهنم و كذلك أيضا لا يجوز تفسيره بما فسره الراوندي أيضا قال العليين جمع علي الأمكنة في السماء لأنه لو كان كذلك لم يجمع بالنون لأنها تختص بمن يعقل و تصلح أن تكون الوجوه الأولى تفسيرا لقوله تعالى( كَلاَّ إِنَّ كِتابَ اَلْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ) .قوله نبت على السحت أي على الحرام يقال سحت بالتسكين و سحت بالضم و أسحت الرجل في تجارته أي اكتسب السحت

فصل في الاستغفار و التوبة

و ينبغي أن نذكر في هذا الموضوع كلاما مختصرا مما يقوله أصحابنا في التوبة فإن كلام أمير المؤمنين هو الأصل الذي أخذ منه أصحابنا مقالتهم و الذي يقولونه في التوبة فقد أتى على جوامعه ع في هذا الفصل على اختصاره.قال أصحابنا الكلام في التوبة يقع من وجوه منها الكلام في ماهية التوبة و الكلام في إسقاطها الذم و العقاب و الكلام في أنه يجب علينا فعلها و الكلام في شرطها أما ماهية التوبة فهي الندم و العزم لأن التوبة هي الإنابة و الرجوع و ليس يمكن أن يرجع الإنسان عما فعله إلا بالندم عليه و العزم على ترك معاودته و ما يتوب الإنسان منه إما أن يكون فعلا قبيحا و إما أن يكون إخلالا بواجب فالتوبة من الفعل القبيح هي أن يندم عليه و يعزم ألا يعود إلى مثله و عزمه على ذلك هو كراهيته لفعله و التوبة من الإخلال بالواجب هي أن يندم على إخلاله بالواجب

٥٧

و يعزم على أداء الواجب فيما بعد فأما القول في أن التوبة تسقط العذاب فعندنا أن العقل يقتضي قبح العقاب بعد التوبة و خالف أكثر المرجئة في ذلك من الإمامية و غيرهم و احتج أصحابنا بقبح عقوبة المسي‏ء إلينا بعد ندمه و اعتذاره و تنصله و العلم بصدقه و العلم بأنه عازم على ألا يعود.فأما القول في وجوب التوبة على العصاة فلا ريب أن الشرع يوجب ذلك فأما العقل فالقول فيه أنه لا يخلو المكلف إما أن يعلم أن معصيته كبيرة أو يعلم أنها صغيرة أو يجوز فيها كلا الأمرين فإن علم كونها كبيرة وجب عليه في العقول التوبة منها لأن التوبة مزيلة لضرر الكبيرة و إزالة المضار واجبة في العقول و إن جوز كونها كبيرة و جوز كونها صغيرة لزمه أيضا في العقل التوبة منها لأنه يأمن بالتوبة من مضرة مخوفة و فعل ما يؤمن من المضار المخوفة واجب و إن علم أن معصيته صغيرة و ذلك كمعاصي الأنبياء و كمن عصى ثم علم بإخبار نبي أن معصيته صغيرة محبطة فقد قال الشيخ أبو علي إن التوبة منها واجبة في العقول لأنه إن لم يتب كان مصرا و الإصرار قبيح.و قال الشيخ أبو هاشم لا تجب التوبة منها في العقل بالشرع لأن فيها مصلحة يعلمها الله تعالى قال إنه يجوز أن يخلو الإنسان من التوبة عن الذنب و من الإصرار عليه لأن الإصرار عليه هو العزم على معاودة مثله و التوبة منه أن يكره معاودة مثله مع الندم على ما مضى و يجوز أن يخلو الإنسان من العزم على الشي‏ء و من كراهته.و مال شيخنا أبو الحسينرحمه‌الله إلى وجوب التوبة هاهنا عقلا لدليل غير دليل أبي عليرحمه‌الله .

٥٨

فأما القول في صفات التوبة و شروطها فإنها على ضربين أحدهما يعم كل توبة و الآخر يختلف بحسب اختلاف ما يتاب منه فالأول هو الندم و العزم على ترك المعاودة.و أما الضرب الثاني فهو أن ما يتوب منه المكلف إما أن يكون فعلا أو إخلالا بواجب فإن كان فعلا قبيحا وجب عند الشيخ أبي هاشمرحمه‌الله أن يندم عليه لأنه فعل قبيح و أن يكره معاودة مثله لأنه قبيح و إن كان إخلالا بواجب وجب عليه عنده أن يندم عليه لأنه إخلال بواجب و أن يعزم على فعل مثل ما أخل به لأنه واجب فإن ندم خوف النار فقط أو شوقا إلى الجنة فقط أو لأن القبيح الذي فعله يضر ببدنه كانت توبته صحيحة و إن ندم على القبيح لقبحه و لخوف النار و كان لو انفرد قبحه ندم عليه فإن توبته تكون صحيحة و إن كان لو انفرد القبح لم يندم عليه فإنه لا تكون توبته صحيحة عنده و الخلاف فيه مع الشيخ أبي علي و غيره من الشيوخ رحمهم الله و إنما اختار أبو هاشم هذا القول لأن التوبة تجري مجرى الاعتذار بيننا و معلوم أن الواحد منا لو أساء إلى غيره ثم ندم على إساءته إليه و اعتذر منها خوفا من معاقبته له عليها أو من معاقبة السلطان حتى لو أمن العقوبة لما اعتذر و لا ندم بل كان يواصل الإساءة فإنه لا يسقط ذمه فكذلك التوبة خوف النار لا لقبح الفعل.و قد نقل قاضي القضاة هذا المذهب عن أمير المؤمنين ع و الحسن البصري و علي بن موسى الرضا و القاسم بن إبراهيم الزينبي.قال أصحابنا و للتوبة شروط أخر تختلف بحسب اختلاف المعاصي و ذلك أن

٥٩

ما يتوب منه المكلف إما أن يكون فيه لآدمي حق أو لا حق فيه لآدمي فما ليس للآدمي فيه حق فنحو ترك الصلاة فإنه لا يجب فيه إلا الندم و العزم على ما قدمنا و ما لآدمي فيه حق على ضربين أحدهما أن يكون جناية عليه في نفسه أو أعضائه أو ماله أو دينه و الآخر ألا يكون جناية عليه في شي‏ء من ذلك فما كان جناية عليه في نفسه أو أعضائه أو ماله فالواجب فيه الندم و العزم و أن يشرع في تسليم بدل ما أتلف فإن لم يتمكن من ذلك لفقر أو غيره عزم على ذلك إذا تمكن منه فإن مات قبل التمكن لم يكن من أهل العقاب و إن جنى عليه في دينه بأن يكون قد أضله بشبهة استزله بها فالواجب عليه مع الندم العزم و الاجتهاد في حل شبهته من نفسه فإن لم يتمكن من الاجتماع به عزم على ذلك إذا تمكن فإن مات قبل التمكن أو تمكن منه و اجتهد في حل الشبهة فلم تنحل من نفس ذلك الضال فلا عقاب عليه لأنه قد استفرغ جهده فإن كانت المعصية غير جناية نحو أن يغتابه أو يسمع غيبته فإنه يلزمه الندم و العزم و لا يلزمه أن يستحله أو يعتذر إليه لأنه ليس يلزمه أرش لمن اغتابه فيستحله ليسقط عنه الأرش و لا غمه فيزيل غمه بالاعتذار و في ذكر الغيبة له ليستحله فيزيل غمه منها إدخال غم عليه فلم يجز ذلك فإن كان قد أسمع المغتاب غيبته فذلك جناية عليه لأنه قد أوصل إليه مضرة الغم فيلزمه إزالة ذلك بالاعتذار

٦٠