بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة0%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 607

  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29820 / تحميل: 8555
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 1

مؤلف:
العربية

آخرون : هو جسم زجاجي يقلّ ناريّة في العالم و يرسل عليه شعاعها . و قال آخرون : هو صفو لطيف ينعقد ماء البحر ، و قال آخرون : هو أجزاء كثيرة مجتمعة من النار . و قال آخرون : هو من جوهر خامس سوى الجواهر الأربعة .

ثم اختلفوا في شكلها . . . و كذلك اختلفوا في مقدارها . . . ففي اختلاف هذه الأقاويل منهم في الشمس دليل على أنّهم لم يقفوا على الحقيقة من أمرها ، فإذا كانت هذه الشمس التي يقع عليها البصر و يدركها الحسّ قد عجزت العقول عن الوقوف على حقيقتها ، فكيف ما لطف عن الحسّ و استتر عن الوهم ١ .

هذا ، و زاد في رواية التوحيد بعد « من تقدير جلال عزّته » : « لبعده من أن يكون في قوى المحدودين لأنّه خلاف خلقه فلا شبه له من المخلوقين ، و إنّما يشبه الشي‏ء بعديله ، فأمّا ما لا عديل له ، فكيف يشبه بغير مثاله » ٢ .

١٢

من الخطبة ( ٨٩ ) بعد ما مرّ :

اَلَّذِي اِبْتَدَعَ اَلْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ اِمْتَثَلَهُ وَ لاَ مِقْدَارٍ اِحْتَذَى عَلَيْهِ مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَهُ وَ أَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ وَ عَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِهِ وَ اِعْتِرَافِ اَلْحَاجَةِ مِنَ اَلْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ اَلْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَظَهَرَتِ فِي اَلْبَدَائِعِ اَلَّتِي أَحْدَثَتْهَا آثَارُ صَنْعَتِهِ وَ أَعْلاَمُ حِكْمَتِهِ فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَ دَلِيلاً عَلَيْهِ وَ إِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ وَ دَلاَلَتُهُ عَلَى اَلْبُدِعِ قَائِمَةٌ

ــــــــــــــــ

( ١ ) توحيد المفضل : ١٧٨ .

( ٢ ) التوحيد للصدوق : ٥٢ ح ١٣ .

٢٢١

« الذي ابتدع الخلق » أي : اخترعه ، قال تعالى : بديع السماوات و الأرض . . . ١ .

« على غير مثال امتثله » لنفسه ، كالصائغ الّذي يصوغ حلقة من رصاص ،

ثمّ يصوغ حلقة من ذهب عليها ، و كالبنّاء الّذي يخطّ في الأرض أو غيرها خطوطا ، ثمّ يبني بحسبها ، و كالّذي يضرب اللّبن على القالب .

« و لا مقدار احتذى عليه » أي : جعله مقابلا له ، يقال : حذو النّعل بالنّعل ،

و القذّة بالقذّة ٢ . و القذّة ، ريش السّهم .

« من خالق معبود » و في ( المصرية ) : « معهود » و هو غلط ٣ .

« كان قبله » كصنّاع يتّبعون صنّاعا قبلهم كانوا مخترعي تلك الصنعة .

« و أرانا من ملكوت قدرته » قال تعالى : و من آياته أن خلقكم من تراب ثمّ إذا أنتم بشر تنتشرون ٤ ، فهل قدرة أملك من تلك القدرة التي جعلت التراب بشرا ينتشر ؟

« و عجائب ما نطقت به آثار حكمته » و من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا اليها و جعل بينكم مودّة و رحمة إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون ٥ .

فهل من حكمة أعجب من هذه فلو لم تكن أزواج الناس من جنس

ــــــــــــــــ

( ١ ) البقرة : ١١٧ .

( ٢ ) هذا اصطلاح سائد في لغة العرب ، و جاء في الحديث النبوي : « لتتبعنّ سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة » ، رواه رزين في الجمع عنه جامع الاصول ١٠ : ٤٠٨ ح ٧٤٧١ ، و الطوسي في الاقتصاد : ٢١٣ ، و المفصح : ١٢٧ ،

و أورد الميداني في مجمع الأمثال ١ : ١٩٥ و الزمخشري في المستقصى ٢ : ٦١ : « حذو القذة بالقذة » ، و قال الزمخشري يضرب في التماثلين .

( ٣ ) لفظ شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٤٣ : « معبود » ، و لفظ شرح ابن ميثم ٢ : ٣٢٩ : « معهود » .

( ٤ ) الروم : ٢٠ .

( ٥ ) الروم : ٢١ .

٢٢٢

أنفسهم لنفروا عنها و لم يسكنوا اليها ، و لنفرت الأزواج عنهم ، و لم تسكن إليهم ، كما أنّه لو لم يكن جعل تعالى بينهم مودّة و رحمة ، كيف كان الرجال يتحمّلون مشاق مؤونات النساء ، و كيف كانت النساء يتحملن مشاقّ تكليفات الرجال ، الى غير ذلك من غرائب قدرته و عجائب حكمته في خلقه الّذي لا يحصى .

« و اعتراف الحاجة من الخلق » بلسان الحال .

« إلى أن » هكذا في النسخ ١ ، و الظاهر كونه مصحّف ( إلى من ) .

« يقيمها بمساك قوّته » إنّ اللّه يمسك السماوات و الأرض أن تزولا و لئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده . . . ٢ .

« ما » مفعول ثان لقوله « و أرانا » .

« دلّنا باضطرار قيام الحجّة له على معرفته » بالوجود و القدرة و الحكمة .

« و ظهرت في البدائع التي أحدثها آثار صنعته و أعلام حكمته » هكذا في ( النهج ) ٣ ، و الظاهر وقوع سقط لعدم ربط الكلام من أوّله بما قبله .

و يشهد للسّقط رواية ( التوحيد ) ففيها قبله « الّذي صدرت الأمور عن مشيئته ، و تصاغرت عزّة المتجبرين دون جلال عظمته ، و خضعت له الرقاب ،

و عنت الوجوه من مخافته » ٤ .

« فصار كلّ ما خلق حجّة له و دليلا عليه » قال :

فوا عجبا كيف يعصى الإله

أم كيف يجحده الجاحد

ــــــــــــــــ

( ١ ) كذا في نهج البلاغة ١ : ١٦٣ ، و شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٤٣ ، و شرح ابن ميثم ٢ : ٣٢٩ .

( ٢ ) فاطر : ٤١ .

( ٣ ) كذا في نهج البلاغة ١ : ١٦٣ ، و شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٤٣ ، و شرح ابن ميثم ٢ : ٣٢٩ .

( ٤ ) التوحيد للصدوق : ٥٢ ح ١٣ .

٢٢٣

و في كلّ شي‏ء له آية

تدلّ على أنّه واحد

١ « و إن كان خلقا صامتا » و في ( ابن ميثم ) ٢ : « و إن كان صامتا » .

« فحجّته بالتّدبير » أي : بوجود مدبّر للخلائق .

« ناطقة » بلسان الحال .

« و دلالته على البدع » : أي كونه تعالى مبدعا لها .

« قائمة » بشهادة العقول ، قال بعضهم في وصف النّرجس :

عيون في جفون في فنون

بدت فأجاد صنعتها المليك

بأبصار التغنج لا محات

كأنّ حداقها ذهب سبيك

على غصن الزمرد مخبرات

بأنّ اللّه ليس له شريك

١٣

من الخطبة ( ٨٩ ) بعد ما مرّ :

فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ وَ تَلاَحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ اَلْمُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ وَ لَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ اَلْيَقِينُ بِأَنَّهُ لاَ نِدَّ لَكَ وَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤَ اَلتَّابِعِينَ مِنَ اَلْمَتْبُوعِينَ إِذْ يَقُولُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعالَمِينَ ١ ١٠ ٢٦ : ٩٧ ٩٨ ٣ كَذَبَ اَلْعَادِلُونَ بِكَ إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ وَ نَحَلُوكَ حِلْيَةَ اَلْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهِمْ وَ جَزَّءُوكَ تَجْزِئَةَ اَلْمُجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ وَ قَدَّرُوكَ عَلَى اَلْخِلْقَةِ اَلْمُخْتَلِفَةِ اَلْقُوَى بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مَنْ

ــــــــــــــــ

( ١ ) أورده ابن أبي الحديد في شرحه ٢ : ١٤٤ .

( ٢ ) في شرح ابن ميثم ٢ : ٣٢٩ ، و في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٤٣ « خلقا صامتا » أيضا .

( ٣ ) الشعراء : ٩٧ ٩٨ .


٢٢٤
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الأوّل الشيخ محمّد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

سَاوَاكَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ وَ اَلْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا نَزَلَتْ بِهِ مُحْكَمُ آيَاتِكَ وَ نَطَقَتْ بِهِ شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ وَ أَنْتَ اَللَّهُ اَلَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي اَلْعُقُولِ فَتَكُونَ فِي مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً وَ لاَ فِي رَوِيَّاتِ خَاطِرِهَا مَحْدُوداً مُصَرَّفاً « فأشهد » إخباره عليه السّلام عن شهادته لتأكيد المطلب نظير قول هود عليه السّلام لقومه : . . . إنّي أشهد اللّه و اشهدوا أنّي بري‏ء ممّا تشركون . من دونه . . . ١ .

« أنّ من شبّهك بتباين أعضاء خلقك » في كون بعضها أفرادا و بعضها أزواجا ، قال الصادق عليه السّلام للمفضّل : فالرّأس ممّا خلق فردا ، و لم يكن للإنسان صلاح في أن يكون له أكثر من واحد ، ألا ترى أنّه لو أضيف إلى رأس الإنسان رأس آخر لكان ثقلا عليه من غير حاجة اليه ، لأنّ الحواس الّتي يحتاج إليها مجتمعة في رأس واحد ، ثمّ كان الإنسان ينقسم قسمين لو كان له رأسان ، فإن تكلّم من أحدهما كان الآخر معطلا لا إرب فيه و لا حاجة اليه ، و إن تكلّم منهما جميعا بكلام واحد كان أحدهما فضلا لا يحتاج اليه ، و إن تكلّم بأحدهما بغير الّذي تكلّم به من الآخر ، لم يدر السّامع بأيّ ذلك يأخذ ، و أشباه هذه من الأخلاط . و اليدان ممّا خلق أزواجا ، و لم يكن للإنسان خير في أن يكون له يد واحدة ، لأنّ ذلك كان يخلّ به في ما يحتاج إلى معالجته من الأشياء ، أ لا ترى أنّ النّجار و البنّاء لو شلّت إحدى يديه لا يستطيع أن يعالج صناعته ، و إن تكلّف ذلك لم يحكمه ، و لم يبلغ منه ما يبلغه إذا كانت يداه تتعاونان على العمل ٢ .

« و تلاحم » أي : تلاصق ، من تلاحمت الشجّة : تلاءم لحمها .

« حقاق » جمع الحقّ بالضمّ ، و في ( الجمهرة ) : الحقّ رأس العضد الذي فيه

ــــــــــــــــ

( ١ ) هود : ٥٤ ٥٥ .

( ٢ ) توحيد المفضل : ٦١ .

٢٢٥

الوابلة ، و أصل الورك الّذي فيه عظم رأس الفخذ ١ ، و زاد ( اللّسان ) : و النقرة التي في رأس الكتف أيضا ٢ .

« مفاصلهم المحتجبة » عن العيون ، و في ( توحيد المفضل ) : و لو رأيت الدّماغ اذا كشف عنه لرأيته قد لفّ بحجب بعضها فوق بعض لتصونه من الأعراض و تمسكه فلا يضطرب ، و لرأيت عليه الجمجمة بمنزلة البيضة كيما تقيه هدّ الصدمة و الصكّة التي ربّما وقعت في الرّأس ، ثمّ قد جلّلت الجمجمة بالشعر حتّى صارت بمنزلة الفرو للرأس ، يستره من شدّة الحرّ و البرد ، فمن حصّن الدماغ هذا التّحصين إلاّ الّذي خلقه ، و جعله ينبوع الحس و المستحقّ للحيطة و الصيانة بعلوّ منزلته من البدن ، و ارتفاع درجته و خطير مرتبته . تأمّل يا مفضّل الجفن على العين كيف جعل كالغشاء ، و الأشفار كالأشراح و أولجها في هذا الغار ، و أظلّها بالحجاب ، و ما عليه من الشعر .

يا مفضل من غيّب الفؤاد في جوف الصدر ، و كساه المدرعة التي هي غشاوة و حصّنه بالجوانح ، و ما عليها من اللّحم و العصب لئلاّ يصل إليه ما ينكؤه ٣ .

« لتدبير حكمتك » في تباين ما تباين من الأعضاء ، و تلاحم حقاق ما احتجبت من المفاصل على ما عرفت .

هذا و قال ابن أبي الحديد : روى بعضهم قوله عليه السّلام : « المحتجبة لتدبير حكمتك » : ( المحتجة ) فمن قال : المحتجّة ، أراد أنّها بما فيها من لطيف الصنعة كالمحتجّة المستدلّة على التدبير الحكمي من لدنه سبحانه ، و من قال :

ــــــــــــــــ

( ١ ) جمهرة اللغة لابن دريد ١ : ٦٣ .

( ٢ ) لسان العرب ١٠ : ٥٦ مادة ( حقق ) .

( ٣ ) توحيد المفضل : ٦٤ .

٢٢٦

المحتجبة ، أراد المستترة لأنّ تركيبها الباطن خفي محجوب ١ .

و الاشكال عليه أنّ ابن ميثم الّذي نسخته بخطّ المصنّف لم ينقل غير « المحتجبة » ٢ ، و رواية التوحيد أيضا بلفظ « المحتجبة » نسخة واحدة ٣ ، و قد عرفت أنّ التدبير مربوط بجميع الكلام لا بخصوص تلاحم حقاق المفاصل .

و كيف كان فبيانه عليه السّلام لتدبير حكمته تعالى في الأعضاء و المفاصل ضمنيّ ، فإنّه عليه السّلام في مقام إنكار تشبيه الخالق بالخلائق ، كما أنّه قد يكون الكلام في غير مقام المدح و القدح ، و يحصلان ضمنا .

كما أنّ قوله عليه السّلام : « شبّهك بتباين » جعل وجه الشبه و المشبّه و المشبّه به اختصارا و ايضاحا لشناعة فعالهم .

« لم يعقد غيب ضميره على معرفتك » أي أنّ المشبّه له تعالى بالخلق ، و إن ادّعى أنّه عرفك ، إلاّ أنّه لم يصل إلى معرفتك ، حيث إنّ ما تصوره الربّ ليس بربّ .

و لمّا اتّهم الواثق أحمد بن نصر الخزاعيّ بالخروج عليه ، فأخذ و حمل اليه ، قال له الواثق : دع ما أخذت له ، أ فترى ربّك في القيامة ؟

قال : كذا جاءت الرواية .

فقال : ويحك يرى كما يرى المحدود المتجسم يحويه مكان ، و يحصره الناظر ، أنا أكفر بربّ هذه صفته ، ما تقولون فيه ؟

فقال ابن أبي داود : شيخ مختل لعلّ به عاهة أو تغيّر عقل .

قال الواثق : ما أراه إلاّ مؤدّيا لكفره قائما بما يعتقده ، و دعا بالصّمصامة

ــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٤٤ .

( ٢ ) في شرح ابن ميثم ٢ : ٣٢٩ ( المحتجبة ) .

( ٣ ) التوحيد للصدوق : ٥٤ ح ١٣ و لم ينقل في الهامش اختلاف بين النسخ .

٢٢٧

و قال : إذا قمت إليه ، فلا يقومنّ أحد معي ، فإنّي أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الّذي يعبد ربّا لا نعبده ، و لا نعرفه بالصفة التي وصفه بها . و مشى إليه حتّى ضرب عنقه ١ .

و من المضحك أنّ الخطيب الحشويّ وضع له نومين ، أحدهما : رأوه في النوم ، فقال : لقيت اللّه فضحك إليّ . و الثاني : رأوه في النوم ، فقال : غضبت للّه فأباحني النّظر الى وجهه . تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا .

و روى ذاك الحشوي في عنوانه للحسين بن شبيب خبرا عن أبي بكر الصيد لاني عن أبي بكر المروزيّ بأسناد له أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال : الكرسيّ الّذي يجلس عليه الربّ و ما يفضل منه إلاّ قدر أربع ، و إن له أطيطا كأطيط الرّحل الجديد ( أي صوته ) .

و قال ذاك الحشويّ : من ردّ هذا فإنّما أراد الطعن على أبي بكر المروزي ،

و على أبي بكر بن سلم . و هل كانا إلاّ رجلين معروفين بالمنكر ؟ و من العجب أنّ ذاك الحشوي يطعن على أدلّة العقول و على كلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله ، و يذعن و يسكن الى جمع حشويّين ناصبيّين معتقدين بما تكاد السماوات يتفطرن منه و تنشقّ الأرض و تخرّ الجبال هدّا ٢ .

و قال الرّضا عليه السّلام : إلهي بدت قدرتك ، و لم تبد هيئة ، فجهلوك و قدّروك ،

و التقدير على غير ما به وصفوك ، و إنّي بري‏ء يا الهي من الذين بالتّشبيه طلبوك ٣ .

ــــــــــــــــ

( ١ ) نقله الطبري في التاريخ ٧ : ٣٢٨ ( سنة ٢٣١ ) ، و نقله الشارح بتصرف ، و قد سبق بعض القصة في العنوان ( ٨ ) من هذا الفصل .

( ٢ ) رواه الخطيب في تاريخ بغداد ٨ : ٥٢ ، و الآية ( ٩٠ ) من سورة مريم .

( ٣ ) أخرجه الصدوق في التوحيد : ١٢٤ ح ٢ ، و العيون ١ : ٩٥ ح ٥ ، و أماليه : ٤٨٧ ح ٢ المجلس ( ٨٩ ) ، و نقله المجلسي عن الكتاب العتيق للغروي في بحار الأنوار ٩٤ : ١٨١ ح ٩ عن الرضا عليه السّلام ، و أخرجه المفيد في الارشاد : ٢٦٠ عن السجاد عليه السّلام .

٢٢٨

« و لم يباشر قلبه اليقين بأنّه لا ندّ » أي : مثل .

« لك » و إنّما استندوا إلى أوهام ، و اعتمدوا على أباطيل ، و منهم أبو إسماعيل الهرويّ ، فاستند في ما توهم إلى ما عن مرامه بمراحل ، فقال : لما عاب تعالى الأصنام بعدم أرجل يمشون بها ، و أيد يبطشون بها ، و أعين يبصرون بها ، و آذان يسمعون بها حيث قال : ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها . . . ، ١ و قال : إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم . . . ، ٢ و قال : . . . أ لم يروا أنّه لا يكلّمهم و لا يهديهم سبيلا . . . ، ٣ و قال : أفلا يرون ألاّ يرجع إليهم قولا . . . ٤ تبيّن أنّه تعالى تمدّح بها ، و أنّها حقائق فيه ٥ .

فإنّ عيبهم بما قال لا يستلزم مدحه بها كما توهّم ، و إلاّ لزم أن يكون جميع البشر آلهة ، فعاب آلهتهم بعدم كونهم مثلهم تهجينا لعقولهم ، و لا ينافي ذلك اختصاص الإله من عبيده بكونه جامعا للصفات الكماليّة بدون الحاجة إلى الجوارح الظاهرية .

« و كأنّه لم يسمع تبرؤ التابعين من المتبوعين إذ يقولون تاللّه إن كنّا لفي ضلال مبين . إذ نسوّيكم بربّ العالمين » ٦ و الآيتان في الشعراء ، و قبلهما :

قالوا و هم فيها يختصمون ٧ . و المراد من التابعين : الغاوون ، و من

ــــــــــــــــ

( ١ ) الأعراف : ١٩٥ .

( ٢ ) فاطر : ١٤ .

( ٣ ) الأعراف : ١٤٨ .

( ٤ ) طه : ٨٩ .

( ٥ ) نقله عن ابن طاووس في الطرائف ٢ : ٣٤٥ .

( ٦ ) الشعراء : ٩٧ ٩٨ .

( ٧ ) الشعراء : ٩٦ .

٢٢٩

المتبوعين : ما يعبدون من دون اللّه ، قال تعالى : و برزت الجحيم للغاوين .

و قيل لهم أين ما كنتم تعبدون . من دون اللّه هل ينصرونكم أو ينتصرون ١ .

و خطابه عليه السّلام و إن كان مع الموحّدين ، و الآيات في المشركين ، إلاّ أنّهم لمّا شبّهوه بخلقه صاروا كالمشركين غيره تعالى له عزّ وجلّ كما قال عليه السّلام ٢ .

« إذ شبّهوك بأصنامهم » في إثبات الجسميّة له ، و في ( التوحيد ) بدل ( بأصنامهم ) ( بأصنافهم ) ٣ .

« و نحلوك » أي : ادّعوا لك باطلا .

« حلية المخلوقين » التي يكون الخالق منزّها عنها .

« بأوهامهم » و لم يراجعوا عقولهم .

« و جزّؤوك تجزئة المجسّمات بخواطرهم ، و قدّروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم » الناقصة ، و المراد : باستنباط عقولهم الضعيفة ، و الأصل في القريحة أوّل ماء يستنبط من البئر .

قال الدواني : المشبّهة منهم من قال : إنّه جسم حقيقة . ثم افترقوا ، فقال بعضهم : إنّه مركّب من لحم و دم . و قال بعضهم : هو نور متلألئ كالسبيكة البيضاء طوله سبعة أشبار بشبر نفسه ، و منهم من قال : إنّه على صورة إنسان . و منهم من يقول : إنّه شاب أمرد جعد قطط . و منهم من قال : إنّه شيخ أشمط الرأس و اللحية . و منهم من قال : هو في جهة الفوق مماسّ للصّفحة العليا من العرش ، و يجوز عليه الحركة و الانتقال ، تبدل الجهات و يئطّ العرش

ــــــــــــــــ

( ١ ) الشعراء : ٩١ ٩٣ .

( ٢ ) لم يتعرض الشارح لشرح فقرة « كذب العادلون بك » .

( ٣ ) التوحيد للصدوق : ٥١ ح ١٣ و نصه : « إذ شبّهوه بمثل أصنافهم » و في نسخة ( أصنامهم ) .

٢٣٠

تحته أطيط الرحل الجديد تحت الرّاكب الثقيل ، و هو يفضل على العرش بقدر أربع أصابع . و منهم من قال : هو محاذ للعرش غير مماسّ له ، و بعده عنه بمسافة متناهية ، و قيل : بمسافة غير متناهية ١ . . . إلى غير ذلك من خرافاتهم .

تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا .

« و أشهد أنّ من ساواك بشي‏ء من خلقك فقد عدل بك » عن جلالك .

« و العادل بك » غيرك .

« كافر بما نزّلت به محكم آياتك » قال تعالى : . . . أإله مع اللّه بل هم قوم يعدلون ٢ ، . . . و لا تتّبع أهواء الّذين كذبوا بآياتنا و الّذين لا يؤمنون بالآخرة و هم بربّهم يعدلون ٣ ، . . . ثم الّذين كفروا بربّهم يعدلون ٤ .

« و نطقت به شواهد حجج بيّناتك » من دلالة العقول على عدم إمكان كون الخالق كالخلائق .

« و أنت اللّه الذي لم تتناه في العقول » لقصورها عن الإحاطة بك .

« فتكون في مهبّ » رياح .

« فكرها » ككثير من الأشياء .

« مكيّفا » بكيفيّة .

« و لا في رويّات خاطرها » أي تفكّرها في الأمور .

« محدودا مصرّفا » كخلقه ، ورد أنّ رجلا قال له عليه السّلام : أين المعبود ؟

فقال عليه السّلام : لا يقال له : أين . لأنّه أيّن الأينية ، و لا يقال له : كيف . لأنّه كيّف الكيفيّة ، و لا يقال له : ما هو . لأنّه خلق الماهية . سبحانه من عظيم تاهت الفطن

ــــــــــــــــ

( ١ ) نقله عن الدواني المجلسي في بحار الأنوار ٣ : ٢٨٩ .

( ٢ ) النمل : ٦٠ .

( ٣ ) الأنعام : ١٥٠ .

( ٤ ) الأنعام : ١ .

٢٣١

في تيّار أمواج عظمته ، و حصرت الألباب عن ذكر أزليته ، و تحيّرت العقول في أفلاك ملكوته ١ .

هذا ، و في ( منهاج العلاّمة ) : حكي عن بعض المنقطعين التاركين من شيوخ الحشويّة أنّه اجتاز عليه في بعض الأيام نفّاط و معه أمرد حسن الصورة قطط الشعر على الصفات التي يصفون ربّهم بها ، فألحّ بالنّظر إليه و كرّره ، فتوهم منه النّفاط أمرا ، فجاء إليه ليلا و قال له : رأيتك تلحّ بالنّظر إلى هذا الغلام و قد أتيتك به ، فإن كان لك فيه نيّة فأنت الحاكم . فحرد عليه ، و قال :

إنّما كرّرت النظر لأنّ مذهبي : أنّ اللّه ينزل على صورة هذا الغلام ، فتوهّمت أنّه اللّه . فقال له النفّاط : و اللّه ما أنا عليه من النفاطة أجود ممّا أنت عليه من الزّهد مع هذه المقالة .

و فيه : و ذهب بعضهم إلى أنّه تعالى ينزل في كلّ ليلة جمعة على شكل أمرد ببغداد راكبا على حمار ، حتى انّ بعضهم ببغداد صنع على سطح داره معلفا ، و يضع كلّ ليلة جمعة فيه شعيرا و تبنا ، فلعلّ ينزل اللّه على حماره على ذلك السطح ، فيشتغل الحمار بالأكل ، و يشتغل الرّبّ بالنّداء ، و يقول : هل تائب مستغفر ؟ ٢

١٤

من الخطبة ( ٨٩ ) بعد ما مرّ :

قَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَلْطَفَ تَقْدِيرَهُ وَ دَبَّرَهُ فَأَحْكَمَ تَدْبِيرَهُ وَ وَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ وَ لَمْ يَقْصُرْ دُونَ اَلاِنْتِهَاءِ إِلَى غَايَتِهِ وَ لَمْ

ــــــــــــــــ

( ١ ) رواه الفتال في روضة الواعظين ١ : ٣٧ و روى في معناه كثيرا لم يسع المقام لذكره .

( ٢ ) نقلهما العلاّمة الحلي في منهاج الكرامة : ٧ و نقلناهما بتصرف يسير .

٢٣٢

يَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِهِ وَ كَيْفَ وَ إِنَّمَا صَدَرَتِ اَلْأُمُورُ عَنْ مَشِيئَتِهِ اَلْمُنْشِئُ أَصْنَافَ اَلْأَشْيَاءِ بِلاَ رَوِيَّةِ فِكْرٍ آلَ إِلَيْهَا وَ لاَ قَرِيحَةِ غَرِيزَةٍ أَضْمَرَ عَلَيْهَا وَ لاَ تَجْرِبَةٍ اِسْتَفَادَهَا مِنْ حَوَادِثِ اَلدُّهُورِ وَ لاَ شَرِيكٍ أَعَانَهُ عَلَى اِبْتِدَاعِ عَجَائِبِ اَلْأُمُورِ فَتَمَّ خَلْقُهُ وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ وَ أَجَابَ إِلَى دَعْوَتِهِ وَ لَمْ يَعْتَرِضْ دُونَهُ رَيْثُ اَلْبَطِئِ وَ لاَ أَنَاةُ اَلْمُتَلَكِّئِ فَأَقَامَ مِنَ اَلْأَشْيَاءِ أَوَدَهَا وَ نَهَجَ حُدُودَهَا وَ لاَءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضَادِّهَا وَ وَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا وَ فَرَّقَهَا أَجْنَاساً مُخْتَلِفَاتٍ فِي اَلْحُدُودِ وَ اَلْأَقْدَارِ وَ اَلْغَرَائِزِ وَ اَلْهَيْئَاتِ بَدَايَا خَلاَئِقَ أَحْكَمَ صُنْعَهَا وَ فَطَرَهَا عَلَى مَا أَرَادَ وَ ابْتَدَعَهَا « قدّر ما خلق فألطف » هكذا في ( المصرية ) ١ ، و الصواب : ( فأحكم ) .

« تقديره » فالق الإصباح و جعل اللّيل سكنا و الشمس و القمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم ٢ ، سبحان الذي خلق الأزواج كلّها ممّا تنبت الأرض و من أنفسهم و ممّا لا يعلمون . و آية لهم الليل نسلخ منه النّهار فإذا هم مظلمون . و الشمس تجري لمستقرّ لها ذلك تقدير العزيز العليم . و القمر قدرناه منازل حتّى عاد كالعرجون القديم ٣ .

« و دبّره فأحكم » هكذا في ( المصرية ) ، و الصّواب : ( فألطف ) كما في غيرها ٤ .

« تدبيره » قل أنّكم لتكفرون بالّذي خلق الأرض في يومين و تجعلون له أندادا ذلك ربّ العالمين . و جعل فيها رواسي من فوقها و بارك فيها و قدّر

ــــــــــــــــ

( ١ ) في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٤٥ « فأحكم » و في شرح ابن ميثم ٢ : ٣٤٠ « فألطف » .

( ٢ ) الأنعام : ٩٦ .

( ٣ ) يس : ٣٦ ٣٩ .

( ٤ ) في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٣٥ « فألطف » ، و في شرح ابن ميثم ٢ : ٣٤١ « فأحكم » .

٢٣٣

فيها أقواتها في أربعة أيّام سواء للسائلين ١ .

و في دعاء الهلال : « سبحانه ما أعجب ما دبّر في أمرك ، و ألطف ما صنع في شأنك ، جعلك مفتاح شهر حادث لأمر حادث » ٢ .

و في ( توحيد المفضل ) قال الصادق عليه السّلام : « انظر الآن يا مفضّل إلى هذه الحواسّ التي خصّ بها الإنسان في خلقه ، و شرّف بها على غيره ، كيف جعلت العينان في الرأس كالمصابيح فوق المنارة ليتمكّن من مطالعة الأشياء ، و لم تجعل في الأعضاء التي تحتهنّ كاليدين و الرجلين فتعترضها الآفات ،

و يصيبها من مباشرة العمل و الحركة ما يعلّلها و يؤثّر فيها ، و ينقص منها ، و لا في الأعضاء التي وسط البدن كالبطن و الظهر ، فيعسر تقلّبها و اطّلاعها نحو الأشياء » ٣ . و فيه أيضا : « اعتبر الآن يا مفضل بعظم النعمة على الانسان في مطعمه و مشربه ، و تسهيل خروج الأذى ، أليس من حسن التقدير في بناء الدار أن يكون الخلاء في أستر موضع منها ؟ فكذا جعل اللّه سبحانه المنفذ المهيّا للخلاء من الإنسان في أستر موضع منه ، فلم يجعله بارزا من خلفه ، و لا ناشرا من بين يديه ، بل هو مغيّب في موضع غامض من البدن ، مستور محجوب يلتقي عليه الفخذان ، و تحجبه الإليتان بما عليهما من اللّحم فتواريانه ، فإذا احتاج الإنسان الى الخلاء و جلس تلك الجلسة ألفى ذلك المنفذ منه منصبا مهيّئا لانحدار الثفل ، فتبارك من تظاهرت آلاؤه و لا تحصى نعماؤه » ٤ .

« و وجّهه » أي : ما خلق .

« لوجهته » التي ينبغي أن يكون عليها .

ــــــــــــــــ

( ١ ) فصلت : ٩ ١٠ .

( ٢ ) الصحيفة السجادية الكاملة : ٢١٠ ، الدعاء ( ٤٣ ) .

( ٣ ) توحيد المفضل : ٥٨ .

( ٤ ) توحيد المفضل : ٧٠ .

٢٣٤

« فلم يتعدّ حدود منزلته ، و لم يقصر دون الانتهاء إلى غايته » بل يصير إلى ما خلق له بلا زيادة و لا نقصان .

في ( توحيد المفضل ) : انظر الآن كيف حياء الأنثى من الفيلة في أسفل بطنها ، فإذا هاجت للضّراب ارتفع و برز حتّى يتمكّن الفحل من ضربها ، فاعتبر كيف جعل حياء الأنثى من الفيلة على خلاف ما عليه في غيرها من الأنعام ، ثمّ جعلت فيه هذه الخلّة ليتهيّأ للأمر الّذي فيه قوام النّسل و دوامه ١ .

« و لم يستصعب » ما خلق .

« إذ أمر بالمضيّ » و النفوذ .

« على إرادته » و وفق مشيئته ، قال تعالى : ثم استوى إلى السماء و هي دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين . فقضاهنّ سبع سماوات في يومين و أوحى في كلّ سماء أمرها و زيّنّا السماء الدنيا بمصابيح و حفظا ذلك تقدير العزيز العليم ٢ ، و : لا الشّمس ينبغي لها أن تدرك القمر و لا الليل سابق النهار و كلّ في فلك يسبحون ٣ .

« و كيف » يستصعب شي‏ء عن إرادته تعالى .

« و إنّما صدرت الأمور عن مشيئته » إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ٤ ، و ما تشاؤون إلاّ أن يشاء اللّه . . . ٥ .

« المنشئ أصناف الأشياء بلا رويّة » أي : تأمّل .

« فكر آل » أي : رجع .

ــــــــــــــــ

( ١ ) توحيد المفضل : ١٠٤ .

( ٢ ) فصلت : ١١ ١٢ .

( ٣ ) يس : ٤٠ .

( ٤ ) يس : ٨٢ .

( ٥ ) الانسان : ٣٠ .

٢٣٥

« اليها » كالناس في أفعالهم و هو الّذي أنشأ جنّات معروشات و غير معروشات و النّخل و الزّرع مختلفا أكله و الزّيتون و الرّمان متشابها و غير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر و آتوا حقّه يوم حصاده و لا تسرفوا إنّه لا يحبّ المسرفين . و من الأنعام حمولة و فرشا . . . ١ .

« و لا قريحة » و الأصل في القريحة أوّل ماء يستنبط من البئر ، ثمّ استعير لما يستنبط بجودة الطبع .

« غريزة » بتقديم الرّاء على الزّاء ، أي : الطبيعة .

« أضمر » أي : عمل في الضمير .

« عليها » أي : على تلك القريحة .

« و لا تجربة استفادها من حوادث الدهور » كالنّاس المعمّرين .

« و لا شريك أعانه على ابتداع عجائب الأمور » حسب شأن الخلائق .

« فتمّ خلقه » من حيث جمعه لجميع مصالحه . . . ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت . . . ٢ .

« و أذعن » أي : خضع و ذلّ .

« لطاعته » أي : إطاعته .

« و أجاب إلى دعوته » فلمّا قال بلسان القدرة للسّماء و الأرض : . . . ائتيا طوعا أو كرها . . . قالتا بلسان المذلّة له : . . . أتينا طائعين ٣ .

« و لم يعترض دونه ريث » الرّيث : ضد العجلة كالبطء .

« البطي‏ء و لا أناة » أي : تأن .

ــــــــــــــــ

( ١ ) الأنعام : ١٤١ ١٤٢ .

( ٢ ) الملك : ٣ .

( ٣ ) هذا اقتباس من قوله تعالى : ثم استوى الى السماء و هي دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فصلت : ١١ .

٢٣٦

« المتلكّئ » أي : المتباطئ ، في رواية ( التوحيد ) بدل « و أجاب إلى دعوته . . .

أناة المتلكّئ » : « و وافى الوقت الّذي أخرجه إليه إجابة لم يعترض دونها ريث المبطئ ، و لا أناة المتلكّئ » ١ . و هو الأقرب لإفادة المقصد .

و المراد : أنّ ما يحصل في الوجود كالأسنان للرّضيع ، و اللحية للرجل ،

و الثّدي للمرأة ، إنّما كان لأنّ الأوّل إنّما يوافي الوقت الذي يحتاج إلى الأكل ،

و الثاني إنّما يوافي الوقت الذي يتميّز الرّجل من الطفل ، و الثالث إنّما يوافي الوقت الذي تستعدّ المرأة للحمل ، و كلّ منها قبل ذلك وجوده لغو ، لا أنّها تلكّأت و أبطأت عليه تعالى كالناس يريدون شيئا لا يحصل لهم في ذاك الوقت .

« فأقام من الأشياء أودها » أي : عوجها .

« و نهج » أي : أوضح .

« حدودها » و نقله ابن أبي الحديد ( جددها ) ، و قال : أي طريقها ٢ . مع أنّ في ( الصحاح ) : الجدد ، بالفتح ، الأرض الصّلبة ٣ ، و في ( اللسان ) قال ابن شميل :

الجدد ما استوى من الأرض ٤ .

قلت : و يشهد للثاني المثل : من سلك الجدد أمن العثار ٥ . ثم في ( التوحيد ) بدل الجملة « و نهى معالم حدودها » ٦ .

« و لاءم بقدرته بين متضادّها » فسّر متضادّ الأشياء التي لاءم تعالى

ــــــــــــــــ

( ١ ) التوحيد للصدوق : ٥٣ ح ١٣ .

( ٢ ) في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٤٥ « حدودها » أيضا ، و في : ١٤٦ شرح فقرة « نهج البلاغة » بلفظ « أوضح الطريق » ، و في شرح ابن ميثم ٢ : ٣٤٤ « جددها » ، و في : ٣٤٤ جعل « حدودها » رواية و شرح الفقرة بلفظ « هو ايضاحه لكلّ شي‏ء و جهته و غايته التي تيسرها له » .

( ٣ ) صحاح اللغة للجوهري ١ : ٤٤٩ مادة ( جدد ) .

( ٤ ) لسان العرب ٣ : ١٠٩ مادة ( جدد ) .

( ٥ ) أورده الميداني في مجمع الأمثال ٢ : ٣٠٦ و الزمخشري في المستقصى ٢ : ٣٥٦ و قالا : يضرب في طلب العافية .

( ٦ ) التوحيد للصدوق : ٥٤ ح ١٣ .

٢٣٧

بينها بعضهم بالحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة ، و بعضهم بالنّار و الماء و الريح و التراب .

« و وصل أسباب قرائنها » قيل : المراد اقتران النفوس بالأبدان . و قيل :

هدايتها لما هو الأليق بها في معاشها و معادها . و زاد ( التوحيد ) « و خالف بين ألوانها » ١ .

« و فرّقها أجناسا مختلفات » الإنسان و أنواع الحيوانات و الطيور و الهوامّ .

« في الحدود و الأقدار » أي : المقادير .

« و الغرائز » بتقديم الرّاء ، أي : الطبائع .

« و الهيئات » أي : الأشكال ، قال الصادق عليه السّلام للمفضّل : فكّر يا مفضّل في هذه الأصناف الثلاثة من الحيوان ، و في خلقها على ما هي عليه ممّا صلاح كلّ واحد منها ، فالإنس لمّا قدروا أن يكونوا ذوي ذهن و فطنة و علاج لمثل هذه الصناعات من البناء و النجارة و الصباغة و غير ذلك خلقت لهم أكفّ كبار ذوات أصابع غلاظ ، ليتمكنوا من القبض على الأشياء و أوكدها هذه الصناعات ، و آكلات اللحم لمّا قدّر أن تكون معائشها من الصيد خلقت لهم أكفّ لطاف مدمجة ذوات براثن و مخالب تصلح لأخذ الصيد و لا تصلح للصناعات ، و آكلات النبات لمّا قدّر أن يكونوا لا ذوات صنعة و لا ذوات صيد ،

خلقت لبعضها أظلاف تقيها خشونة الأرض إذا حاولت طلب المرعى ،

و لبعضها حوافر ململمة ذوات قعر كأخمص القدم تنطبق على الأرض عند تهيّئها للركوب و الحمولة . تأمّل التدبير في خلق آكلات اللحم من الحيوان حين خلقت ذوات أسنان حداد و براثن شداد و أشداق و أفواه واسعة ، فإنّه لمّا قدّر أن يكون طعمها اللّحم ، خلقت خلقة تشاكل ذلك ، و أعينت بسلاح و أدوات

ــــــــــــــــ

( ١ ) التوحيد للصدوق : ٥٤ ح ١٣ .

٢٣٨

تصلح للصيد ، و كذلك تجد سباع الطير ذوات مناقير و مخالب مهيّأة لفعلها ،

و لو كانت الوحوش ذوات مخالب كانت قد أعطيت ما لا تحتاج إليه ، لأنّها لا تصيد و لا تأكل اللّحم ، و لو كانت السباع ذوات أظلاف كانت قد منعت ما تحتاج إليه ، أعني السلاح الذي تصيد و تتعيّش . أفلا ترى كيف أعطي كلّ واحد من الصنفين ما يشاكل صنفه و طبقته ، بل ما فيه بقاؤه و صلاحه ١ .

« بدايا خلائق أحكم صنعها » قال الصادق عليه السّلام للمفضّل : فكّر في خلق الزرافة و اختلاف أعضائها ، و شبهها بأعضاء أصناف من الحيوان ، فرأسها رأس فرس ، و عنقها عنق جمل ، و أظلافها أظلاف بقرة ، و جلدها جلد نمر ،

و زعم ناس من الجهّال باللّه تعالى أنّ نتاجها من فحول شتّى قالوا : و سبب ذلك أنّ أصنافا من حيوان البرّ إذا وردت الماء تنزو على بعض السائمة و ينتج مثل هذا الشخص الذي هو كالملتقط من أصناف شتّى ، و هذا جهل من قائله و قلّة معرفة بالبارئ جلّ قدسه ، و ليس كلّ صنف من الحيوان يلقح كلّ صنف ، فلا الفرس يلقح الجمل ، و لا الجمل يلقح البقر ، و إنّما يكون التلقيح من بعض الحيوان في ما يشاكله ، و يقرب من خلقه كما يلقح الفرس الحمار ، فيخرج بينهما البغل ، و يلقح الذئب الضبع ، فيخرج بينهما السمع ٢ .

« و فطرها على ما أراد و ابتدعها » سبّح اسم ربّك الأعلى . الذي خلق فسوّى . و الّذي قدّر فهدى ٣ .

و قال الصادق عليه السّلام للمفضّل : فكّر في الفطن الّتي جعلت في البهائم لمصلحتها بالطبع و الخلقة ، لطف من اللّه عزّ و جلّ لهم لئلاّ يخلو من نعمه جلّ

ــــــــــــــــ

( ١ ) توحيد المفضل : ٩٦ .

( ٢ ) توحيد المفضل : ١٠٤ .

( ٣ ) الأعلى : ١ ٣ .


٢٣٩
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الأوّل الشيخ محمّد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

و عزّ أحد من خلقه ، لا بعقل و رويّة ، فإنّ الأيل يأكل الحيات فيعطش عطشا شديدا ، فيمتنع عن شرب الماء خوفا من أن يدبّ السمّ في جسمه فيقتله ، و يقف على الغدير و هو مجهود عطشا ، فيعجّ عجيجا عاليا و لا يشرب منه ، و لو شرب لمات من ساعته . فانظر إلى ما جعل من طباع هذه البهيمة من تحمّل الظماء الغالب الشديد خوفا من المضرّة في الشرب ، و ذلك ممّا لا يكاد الإنسان العاقل المميّز يضبطه من نفسه ١ .

هذا ، و زاد ( التوحيد ) على ما مرّ : « انتظم علمه صنوف ذرئها ، و أدرك تدبيره حسن تقديرها » ٢ .

١٥

من الخطبة ( ١٠٦ ) و من خطبة له عليه السّلام ( و هي من خطب الملاحم ) :

اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلْمُتَجَلِّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ وَ اَلظَّاهِرِ لِقُلُوبِهِمْ بِحُجَّتِهِ خَلَقَ اَلْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ إِذْ كَانَتِ اَلرَّوِيَّاتُ لاَ تَلِيقُ إِلاَّ بِذَوِي اَلضَّمَائِرِ وَ لَيْسَ بِذِي ضَمِيرٍ فِي نَفْسِهِ خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَيْبِ اَلسُّتُرَاتِ وَ أَحَاطَ بِغُمُوضِ عَقَائِدِ اَلسَّرِيرَاتِ قول المصنّف : « و هي من خطب الملاحم » الملاحم : الوقائع العظيمة في الفتن ، جعلها منها لأنّ فيها : « رأيت ضلالة قد قامت على قطبها . . . » ، كما يأتي في فصل إخباره عليه السّلام بالملاحم ٣ .

قوله عليه السّلام : « الحمد للّه المتجلّي لخلقه » تجلّيا أجلى من الشمس فقد يشكّ

ــــــــــــــــ

( ١ ) توحيد المفضل : ١٠٩ .

( ٢ ) التوحيد للصدوق : ٥٤ ح ١٣ .

( ٣ ) يأتي في العنوان ( ٣٠ ) منه .

٢٤٠