فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر0%

فاسألوا اهل الذكر مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 484

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف: الدكتور محمد التيجاني السماوي
تصنيف:

الصفحات: 484
المشاهدات: 60001
تحميل: 4761

توضيحات:

فاسألوا اهل الذكر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 484 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60001 / تحميل: 4761
الحجم الحجم الحجم
فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف:
العربية

النبي إلى رسول الله بطعام قد صنعته له ، وهو عندي ، فلما رأيتُ الجارية أخذتني رعدة حتّى أستقلّني أفكل ، فضربتُ القصعة ورميتُ بها ، قالت : فنظر إلىّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعرفت الغضب في وجهه ، فقلتُ : أعوذ برسول الله أن يلْعنني اليومَ ، قالت ، قال : « أَوِّلي » ، قلت : وما كفّارته يا رسول الله؟ قال : « طعام كطعامها ، وإناء كإنائها »(١) .

ومرّة أُخرى تروي عن نفسها ، قالت : قلتُ للنبي : حسبُك من صفيّة كذا وكذا ، فقال لي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لقد قُلتِ كلمة لو مُزجتْ بماء البَحْرِ لمزجته »(٢) .

سبحان الله! أين أُمّ المؤمنين من الأخلاق ، وأبسط الحقوق التي فرضَها الإسلام في تحريم الغيبة والنّميمة؟! ولا شكّ بأنّ قولها : « حسبك من صفية كذا وكذا » ، وقول الرسول بأنّها كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجتْهُ; بأنّ ما قالته عائشة في ضرّتها أُمّ المؤمنين صفية أمرٌ عظيم ، وخطبٌ جسيم.

وأعتقد بأنّ رواة الحديث استفضعوها واستعظموها ، فأبدلوها بعبارة ( كذا وكذا ) كما هي عادتهم في مثل هذه القضايا(٣) .

____________

(١) مسند الإمام أحمد بن حنبل ٦ : ٢٧٧ ، فتح الباري ٥ : ٩٠ وقال : إسناده حسن ، فيض القدير ٤ : ٣٥٢ ، مجمع الزوائد للهيثمي ٤ : ٣٣١ وصرّح بوثاقة رجاله.

(٢) سنن أبي داود ٢ : ٤٥٠ ح ٤٨٧٥ ، تفسير ابن كثير ٤ : ٢٢٩ ، أحكام القرآن للجصاص ٣ : ٥٤١ ، تحفة الأحوزي في شرح سنن الترمذي ٧ : ١٧٦ ونقل المنذري تصحيح الترمذي للحديث وأقرّه. قال النووي في الأذكار النووية : ٣٣٧ بعد إيراد الحديث : « وهذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها ، وما أعلم شيئاً من الأحاديث بلغ في ذمّها هذا المبلغ ».

(٣) ولا تستغرب من فعل المحدّثين هذا ، ولا تظنه تقولا من المؤلف; إذ إن لهم في

١٢١

وها هي عائشة أُمّ المؤمنين تحكي مرّة أُخرى عن غيرتها من أُمهات المؤمنين ، قالت : ما غرتُ على امرأة إلاّ دون ما غرت على مارية ، وذلك أنّها كانتْ جميلة جعدة وأعجب بها رسول الله ، وكان أنزلها أوّل ما قدم بها في بيت حارثة بن النعمان ، وفزعنا لها فجزعتُ ، فحوّلها رسول الله إلى العالية ، فكان يختلف إليها هناك ، فكان ذلك أشدّ علينا ، ثمّ رزقه الله الولد منها وحرمناه(١) .

كما أنّ عائشة تعدتْ غيرتها دائرة مارية ضرّتها إلى إبراهيم المولود

____________

هذه المسألة باعاً طويلا ، وقدماً راسخة يقرون ويعترفون بذلك ، فقد أخرج أبو داود في سننه ٢ : ٤٠١ ح ٤٦٣٦ عن عبد الله بن ظالم المازني قال : « ذكر سفيان رجلا فيما بينه وبين عبد الله بن ظالم المازني ، قال : سمعت سعيد بن زيد بن عمرو ابن نفيل قال : لما قدم فلان إلى الكوفة أقام فلان خطيباً ». فعلق العظيم آبادي في عون المعبود ١٢ : ٣١٣ قال : « قال في الفتح الودود : ولقد أحسن أبو داود في الكناية عن اسم معاوية ومغيرة بفلان ستراً عليهما في مثل هذا المحل ».

قال بعض العلماء : كان في الخطبة تعريضاً بسب علي « ، وكذلك فعل ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان ١٩ : ١٤٩ في قضية نزول قوله تعالى ( وَأنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) ودعاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاقربائه على أن يؤازره في هذا الأمر ويكون وصيه وخليفته كما ورد في ذلك في تاريخه ٢ : ٦٣ ، إلاّ أن الطبري في تفسيره المشار إليه أبدل قوله : ( هذا أخي ووصيي وخليفتي ) بقوله : ( هذا أخي وكذا وكذا ) ، مع أنّه رواها في التفسير والتاريخ بنفس السند!!

وهناك شواهد كثيرة موجودة في كلمات المحدّثين ، تتكتّم على فضائل أهل البيتعليهم‌السلام ، أو تتستر على فضائح القوم الذين يحبونهم ، فلا ينقلونها بأمانة وإنما يقوموم ببترها وقطعها. وهذا كثير في كتب المحدثين الأمناء!!

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ٨ : ٢١٢ ، الإصابة في معرفة الصحابة للعسقلاني ٨ : ٣١١.

١٢٢

الرضيع البريء! قالتْ : لما وُلد إبراهيم جاء به رسول الله إلىَّ ، فقال : « أنظري إلى شبهه بي » ، فقلتُ : ما أرى شبهاً ، فقال رسول الله : « ألا ترين إلى بياضه ولحمه »؟ قالت : فقلت : من سُقِيَ ألبانُ الضّأن ابيضّ وسمن(١) .

وقد تعدّت غيرتها كلّ الحدود وفاقت كل تعبير عندما وصلت بها الظّنون والوساوس إلى الشكّ في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكانت كثيراً ما تتظاهر بالنّوم عندما يبات عندها رسول الله ، ولكنّها ترقبُ زوجها وتتحسّسُ مكانه في الظلام ، وتتعقّبه أين ما ذهب.

وإليك الرواية عن لسانها والتي أخرجها مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده وغيرهم ، قالت : لمّا كانتْ ليلتي التي كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها عندي ، انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه ، وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع ، فلم يلبث إلاّ ريثما ظنّ أن قد رقدتُ فأخذ رداءهُ رويداً ، وانتعل رويداً وفتح الباب فخرج ثم أجافَهُ رويداً.

فجعلتُ درعي في رأسي ، واختمرتُ وتقنّعتُ إزاري ، ثمّ انطلقت على أثره حتّى جاء البقيع ، فقام فأطال القيام ، ثمّ رفع يديه ثلاث مرّات ، ثمّ انحرف فانحرفتُ ، فأسرَعَ فاسرعْتُ ، فهروَلَ فهرولتُ ، فأحضر فأحضرتُ ، فسبقته فدخلتُ فليس إلاّ أن اضطجعتُ فدخل فقال : « ما لك يا عائش حشْياً رابيةً؟ » قالتْ : فقلتُ : لا شيء ، قال : « لتخبريني أو ليخبرني اللّطيف الخبير » ، قالت : قلت : يا رسول الله بأبي أنت واُمّي فأخبرتُه ، قال : « فأنت

____________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ١ : ١٣٧ ترجمة إبراهيم بن النبي ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٨٧.

١٢٣

السّوادُ الذي رأيت أمامي »؟ ، قلت : نعم ، فلهدني في صدري لهدة أوجعتني ، ثمّ قال : « أظننت أنْ يحيفَ اللّهُ عليك ورسولُهُ »(١) .

ومرّة أُخرى قالت : فقدتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فظننتُ أنّه أتى بعض جواريه ، فطلبته فإذا هو ساجد يقول : « ربّ اغفر لي »(٢) .

وأُخرى قالت : إنّ رسول الله خرج من عندي ليلا ، قالت : فغرتُ عليه ، قالت : فجاء فرأَى ما أصنع ، فقال : « ما لك يا عائشة ، أغرتِ »؟ فقلت : ومالي أن لا يغار مثلي على مثلك! فقال رسول الله : « أفأخذكِ شيطانك »(٣) .

وهذه الرواية الأخيرة تدلُّ دلالة واضحة على أنّها عندما تغارُ تخرجُ عن أطوارها ، وتفعل أشياء غريبة كأنْ تكسّر الأواني ، أو تمزّق الملابس مثلا ، ولذلك تقول في هذه الرواية : فلمّا جاء ورأى ما أصنعُ قال : « أفأخذكِ شَيطانكِ »؟

ولا شكّ أنّ شيطان عائشة كان كثيراً ما يأخذها أو يلبسها ، وقد وجد لقلبها سبيلا من طريق الغيرة ، وقد روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « الغيرة للرّجل إيمان وللمرأة كفرٌ » باعتبار أن الرّجل يغار على زوجته لأنّه لا يجوز شرعاً أن يشاركه فيها أحد ، أمّا المرأة فليس من حقّها أن تغار على زوجها; لأنّ الله سبحانه أباح له الزواج بأكثر من واحدة.

____________

(١) صحيح مسلم ٣ : ٦٤ ، باب ما يقال عند دخول القبور ، مسند أحمد بن حنبل ٦ : ٢٢١.

(٢) مسند الإمام أحمد ٦ : ١٤٧ ، سنن النسائي ٢ : ٢٢٠ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٣٤ ، والسند صحيح.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ٦ : ١١٥ ، صحيح مسلم ٨ : ١٣٩.

١٢٤

فالمرأة الصالحة المؤمنة التي أذعنتْ لأحكام الله سبحانه تتقبّل ضرّتها بنفس رياضية كما يقال اليوم ، وخصوصاً إذا كان زوجها عادلا مستقيماً يخاف الله ، فما بالك بسيّد الإنسانية ، ورمز الكمال والعدل ، والخلق العظيم؟

على أنّنا نجد تناقضاً واضحاً في خصوص حبّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعائشة ، وما يقوله أهل السنّة والجماعة من أنّها كانت أحبّ نسائه إليه وأعزّهم لديه ، حتّى إنّهم يروون أنّ بعض نسائه وهبْنَ نوبتهنّ لعائشة لمّا علمن بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّها ولا يصبر عليها ، فهل يمكن والحال هذه أن نجد مبرّراً وتفسيراً لغيرة عائشة المفرطة؟ والمفروض أنّ العكس هو الصحيح ، أي أن تغار بقية أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عائشة لشدّة حبّه إياها وميله معها ، كما يروون ويزعمون ، وإذا كانت هي المدلّلَة عند الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما هو مبرّر الغيرة؟

والتاريخ لم يحدّثْ إلاّ بأحاديثها ، وكتب السيرة طافحة إلاّ بتمجيدها ، وأنّها حبيبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدلّلة التي كان لا يطيق فراقها.

واعتقد بأنّ كلّ ذلك من الأمويين الذين أحبّوا عائشة ، وفضّلوها لمّا خدمت مصالحهم ، وروت لهم ما أحبّوا ، وحاربت عدُوّهم علي بن أبي طالب.

وكما أعتقدُ بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يحبّها لما فعلتهُ معه كما قدّمنا; وكيف يحبّ رسول الله من تكذبُ ، وتغتابُ ، وتمشي بالنميمة ، وتشكّ في الله ورسوله ، وتظنّ منهما الحيف؟!

كيف يحبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تتجسّس عليه ، وتخرج من بيتها بدون

١٢٥

إذنه لتعلم أين يذهبُ؟!

كيف يحبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تشتم زوجاته بحضرته ولو كنّ أمواتاً؟!

كيف يحبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبغض ابنه إبراهيم ، وترمي أُمّه مارية بالإفك(١) .

كيف يحبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تتدخّل بينه وبين زوجاته بالكذب مرّة ، وبإثارة الأحقاد أُخرى ، وتتسبب في طلاقهنّ؟!

كيف يحبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبغض ابنتهُ الزهراء ، وتبغض أخاه وابن عمّه علي بن أبي طالب إلى درجة أنّها لا تذكر اسمه ولا تطيب له نفساً بخير(٢) ؟!

كلّ هذا وأكثر في حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أمّا بعد وفاته فحدّث ولا حرج.

وكلّ هذه الأفعال يمقُتها الله ورسولُهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يحبّان فاعلها; لأنّ الله هو الحقّ ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمثل الحقّ ، فلا يمكن له أن يُحبّ من كان على غير الحقّ.

وسوف نعرف خلال الأبحاث القادمة بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يُحبّها ،

____________

(١) يراجع في هذا الموضوع كتاب حديث الإفك للعلامة جعفر مرتضى العاملي. ( المؤلّف ).

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ : ١٧٩ ، تاريخ الطبري ٣ : ١٨٩ ، والمصنّف لعبد الرزاق الصنعاني ٥ : ٤٣٠ بسند صحيح ، وفي إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل للألباني ١ : ١٧٨ ح ١٤٧ قال بعد ـ ذكر الحديث ـ : « ورواه أحمد ٦ : ٢٢٨ مختصراً وزاد في آخره » ولكن عائشة لا تطيب له نفساً « وسنده صحيح ».

١٢٦

بل إنّه حذّرَ الأُمّة من فتنتها(١) .

سألتُ بعض شيوخنا مرّة عن سبب حبّ النبي المفرط لعائشة بالذّات دون سواها؟ فأجابوني بأجوبة عديدة كلّها مزيّفة.

قال أحدهم : لأنّها جميلة وصغيرة ، وهي البكر الوحيدة التي دخل بها ، ولم يشاركه فيها أحدٌ سواه.

وقال آخر : لأنّها ابنة أبي بكر الصدّيق صاحبه في الغار.

وقال ثالث : لأنّها حفظت عن رسول الله نصف الدّين ، فهي العالمة الفقيهة.

وقال رابع : لأنّ جبرئيل جاءه بصورتها ، وكان لا يدخل على النبي إلاّ في بيتها.

وأنت كما ترى أيّها القارئ بأنّ كلّ هذه الدّعايات لا تَقومُ على دليل ، ولا يقبلها العقل والواقع ، وسوف نأتي على نقضها بالأدلّة ، فإذا كان الرسول يحبّها لأنّها جميلة ، وهي البكر والوحيدة التي دخل بها ، فما الذي يمنعه من الزواج بالأبكار الجميلات اللآتي كنّ بارعات في الحسن والجمال وكنّ مضرب الأمثال في القبائل العربية ، وكنّ رهن إشارته؟! على أنّ المؤرّخين يذكرون غيرة عائشة من زينب بنت جحش ، ومن صفية بنت حيي ، ومن مارية القبطية لأنهنّ كنّ أجمل منها.

روى ابن سعد في طبقاته ٨ : ١٤٨ ، وابن كثير في تاريخه ٥ : ٣٢٠ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزوّج مليكة بنت كعب ، وكانت تعرف بجمال بارع ، فدخلتْ

____________

(١) صحيح البخاري ٤ : ٤٦ ، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي من كتاب الجهاد والسير.

١٢٧

عليها عائشة ، فقالت لها : أما تستحين أن تنكحي قاتل أبيك ، فاستعاذتْ من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فطلّقها ، فجاء قومها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا رسول الله إنّها صغيرة ، وإنّها لا رأي لها ، وإنّها خُدِعتْ فارتجِعْهَا ، فأبى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان أبوها قد قُتِلَ في يوم فتح مكّة ، قتله خالد بن الوليد بالخندمة.

وهذه الرواية تَدُلّنا بوضوح بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان همّه من الزواج الصغر والجمال ، وإلاّ لما طلّق مُليكة بنت كعب ، وهي صغيرة وبارعة في الجمال ، كما تدلّنا هذه الرواية وأمثالها على الأساليب التي اتّبعتها عائشة في خداع المؤمنات البريئات ، وحرمانهن من الزواج برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد سبق لها أن طلّقت أسماء بنت النّعمان لمّا غارت من جمالها وقالت لها : إنّ النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول له : أعوذ بالله منك. وهذه مليكة ، تُثير فيها حساسية مقتل أبيها ، وأنّ قاتله هو رسول الله وتقول لها : أما تستحين أن تنكحي قاتل أبيك!

فما كان جواب هذه المسكينة إلاّ أنّها استعاذت من رسول الله! وما عساها أن تقول غير ذلك ، والناس لا يزالون حديثي عهد بالجاهلية الذين يأخذون بالثأر ويعيّرون من لا يثأر لأبيه؟

بقي أن نتساءل ويحقّ لنا أن نتساءل : لماذا يطلّق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هاتين المرأتين البريئتين ، واللّتين ذهبتا ضحية مكر وخداع عائشة لهنّ؟

وقبل كلّ شيء لابدّ لنا أن نضع في حسابنا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم ، ولا يظلم أحداً ، ولا يفعل إلاّ الحقّ ، فلا بدّ أن يكون في تطليقهنّ حكمة يعلمها الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنّ عدم تطليق عائشة رغم أفعالها فيه ـ أيضاً

١٢٨

ـ حكمة ، ولعلّنا نقفُ على شيء منها في الأبحاث المقبلة.

أمّا بالنسبة للمرأة الأُولى ، وهي أسماء بنت النعمان فقد ظهرت سذاجتها عندما انطلتْ عليها حيلة عائشة ، فأوّل كلمة قابلت بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما مدّ يده إليها هي : « أعوذُ بالله منك ». ورغم جمالها البارع فلم يبقها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبلاهتها.

يقول ابن سعد في طبقاته في ٨ : ١٤٥ وغيره عن ابن عبّاس : قال : « تزوّج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسماء بنت النعمان ، وكانت من أجمل أهل زمانها وأتمّه ».

ولعلّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يعلّمنا أنّ رجاحة العقل أولى من الجمال ، فكم من امرأة جميلة جرّها غباؤها للفاحشة.

أمّا بالنسبة للمرأة الثانية ، وهي مليكة بنت كعب ، والتي عيّرتها عائشة بأنّ زوجها هو قاتل أبيها ، فلم يرد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تعيش هذه المسكينة ، والتي هي صغيرة السنّ ، ولا رَايَ لها كما شهد بذلك قومُها على هواجس ومخاوف قد تُسبّب مصائب كبرى ، خصوصاً وأنّ عائشة سوف لن تتركها ترتاح مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ولا شكّ أنّ هناك أسباباً أُخرى يعلمها رسول الله وغابت عنّا.

والمهم أن نعرف بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يجري وراء الجمال والشهوات الجسدية والجنسية كما يتوهّمه بعض الجاهلين ، وبعض المستشرقين الذين يقولون : كان همّ محمّد هو النساء الحسناوات!!

وقد رأينا كيف طلّق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هاتين المرأتين رغم صغرهما

١٢٩

وجمالهما ، فكانتا أجمل أهل زمانهما وأتمّه كما جاء في كتب التاريخ وكتب الحديث ، فقول من يدّعي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّ عائشة لصغرها وجمالها مردود ولا يقبل.

أمّا القائلين بأنّ حبّه إيّاها لأنّها ابنة أبي بكر فهذا غير صحيح ، ولكن يمكننا أن نقول بأنّه تزوّجها من أجل أبي بكر; لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزوّج من عدّة قبائل زواجاً سياسياً لتأليف القلوب ، ولتسُود المودّة والرحمة في تلك القبائل بدلا من التنافر والتباغض.

فقد تزوّج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأُمّ حبيبة أخت معاوية ، وهي بنت أبي سفيان العدوّ الأوّل للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك لأنّه لا يحقد وهو رحمة للعالمين ، وقد تعدّى عطفه وحنانه القبائل العربية إلى مصاهرة اليهود والنصارى والأقباط; ليقرّب أهل الأديان بعضهم من بعض.

وبالخصوص إذا عرفنا من خلال ما نقرأه في كتب السّيرة بأنّ أبا بكر هو الذي طلب من النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يتزوّج من ابنته عائشة ، كما طلب عمر من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يتزوّج ابنته حفصة ، وقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ قلبه يسعُ أهل الأرض كلّهم.

قال تعالى :( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (١) .

وإذا رجعنا إلى الرواية التي روتها عائشة ، وقالت فيها بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يلبث إلاّ ريثما ظنَّ أن قد رقدتُ ، فأخذ رداءه رويداً وفتح الباب

____________

(١) آل عمران : ١٥٩.

١٣٠

فخرج ثمّ أجافه ، عرفنا كذب الزعم بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يصبر عنها(١) .

وهذا الاستنتاج ليس استنتاجاً عفوياً ألّفه خيالي ، كلاّ فإنّ له أدلّة في صحاح السنّة ، فقد روى مسلم في صحيحه وغيره من صحاح أهل السُنّة أنّ عمر بن الخطاب قال : لمّا اعتزل نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساءَهُ ، قال : دخلت المسجد فإذا النّاسُ ينكُتون بالحصَى ويقولون : طلّق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساءه ، وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب.

فقال عمر : فقلتُ : لأعلمنَّ ذلك اليوم ، قال : فدخلت على عائشة فقلتُ : يا بنت أبي بكر أقد بلغ من شأنك أن تُؤذي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! فقالت : مالي ومالك يابن الخطّاب عليكَ بعيبتك! قال : فدخلتُ على حفصة بنت عمر فقلت لَها : يا حفصة أقد بلغ من شأنكِ أنْ تُؤذي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! واللّهِ لقد علمت أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يُحِبّكِ ، ولولا أنَا لطلَّقكِ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبكتْ أشدّ البكاءِ الحديث(٢) .

إنّ هذه الرواية تدلّنا بوضوح لا يقبلُ الشكّ في أنّ زواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حفصة بنت عمر لم يكن عن محبّة ، ولكنّه لمصلحة سياسية اقتضتها الظروف.

وممّا يزيدنا يقيناً بصحّة ما ذهبنا إليه في هذا الاستنتاج ، أنّ عمر بن الخطّاب يُقسمُ بالله بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يُحبُّ حفصة ، ويزيدنا عمر يقيناً

____________

(١) صحيح مسلم ٣ : ٦٤ ، ومسند أحمد ٦ : ٢٢١.

(٢) صحيح مسلم ٤ : ١٨٨ في باب الايلاء واعتزال النّساء وتخييرهنّ ، وقوله تعالى : ( وَإنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ ) ، مسند أبي يعلى ١ : ١٥٠ ، صحيح ابن حبان ٩ : ٤٩٦.

١٣١

جديداً بأنّ ابنتَهُ حفصة تعلمُ هي الأُخرى هذه الحقيقة المؤلمة ، إذ يقول لها : « والله لقد علمت بأنّ رسول الله لا يُحبُّكِ ».

ثمّ لا يبقي لنا أدنى شكّ في أنّ الزواج منها كان لمصلحة سياسيّة عندمَا قالَ : « ولولا أنَا لطلّقَكِ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

فهذه الرّواية تعطينا أيضاً فكرة على زواج النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعائشة بنت أبي بكر ، وأنّه صبر وتحمّل كلّ أذاها من أجل أبي بكر أيضاً ، وإلاّ فإنّ حفصة أولى بحبّ الرسول وتقديره; لأنّه لم يصدر منها ما يُسيء للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشر معشار ما فعلته عائشة بنت أبي بكر.

وإذا بحثنا في الواقع العملي بقطع النّظر عن الروايات الموضوعة الّتي نمّقها بنو أُميّة في فضائل عائشة ، لوجدنا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان كثيراً ما يتأذّى منها ، وكثيراً ما يغضب عليهَا ، وها نحن ننقُل رواية واحدة أخرجها البخاري وكثير من المحدّثين من أهل السنّة ، تعرب عن مدى النفور الذي كانت تشعُرُ به أُمّ المؤمنين عائشة من قبلِ زوجها رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أخرج البخاري في صحيحه في الجزء السابع في باب قول المريض : إنّي وجعٌ ، أَوْ وا رأسَاهُ ، قال : سمعتُ القاسم بن محمّد قال : قالت عائشة : وا رأسَاهُ! فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ذاك لو كان وأنا حىٌّ فأستغفر لكِ وأدعو لَكِ » ، فقالت عائشة : وا ثكليَاهُ ، واللّهِ إنّي لأظنّكَ تحِبُّ موتي ، ولو كانَ ذاكَ لظَلِلْتَ آخر يومك مُعرِّساً ببعض أزواجِكَ(١) .

فهل تدلّك هذه الرّواية على حبّ النبىّ لعائشة؟

____________

(١) صحيح البخاري ٧ : ٨ من كتاب المرضى والطبّ ، مسند أحمد ٦ : ٢٢٨.

١٣٢

ونخلص بالأخير إلى أنّ بني أُميّة ، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان يبغضون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنذ أن آلتُ إليهم الخلافة عملوا على تقليب الحقائق ظهراً على عقب ، ورفعوا أقواماً إلى القمّة من المجد والعظمة ، بينما كانوا في حياة النبىّ أُناساً عاديّين وليس لهم شأن كبير ، ووضعوا آخرين كانوا في قمّة الشرف والعزّ أيام النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأعتقد أنّ ميزانهم الوحيد في الرفع والوضع هو فقط عداؤهم الشديد وبغضهم اللاّمحدود لمحمّد وأهل بيته علي وفاطمة والحسن والحسين ، فكلّ شخص كان ضدّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وضدّ أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً رَفعوا من شأنه ، واختلقوا له روايات وفضائل ، وقرّبوه وأعطوه المناصب والعطايا ، فأصبح يحظى بتقدير النّاس واحترامهم.

وكلّ شخص كان يحبّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويدافع عنه عملوا على انتقاصه ، وخلق المعايب الكاذبة له ، واختلاق الروايات التي تنكر فضله وفضائله.

وهكذا أصبح عمر بن الخطّاب الذي كان يعارضه في كلّ أوامره ، حتّى رماه بالهجر في أواخر أيام حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; أصبح هذا الرجل هو قمّة الإسلام عند المسلمين زمن الدولة الأمويّة!

أمّا علي بن أبي طالب الذي كان منه بمنزلة هارون من موسى ، والذي يحبّ الله ورسوله ويُحبُّه اللّهُ ورسولُهُ ، والذي هو وليّ كلّ مؤمن; أصبح يلعنُ على منابر المسلمين ثمانين عاماً!!

وهكذا أصبحتْ عائشة الّتي جرّعت رسول الله الغُصص ، وعصتْ أوامره كما عصتْ أمر ربّها ، وحاربتْ وصىّ رسول الله ، وتسبّبت في أكبر فتنة

١٣٣

عرفها المسلمون والتي قُتل فيها آلاف المسلمين; أصبحتْ هذه المرأة هي أشهر نساء الإسلام وعنها تُؤخذُ الأحكام ، أمّا فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين التي يغضبُ ربّ العزّة لغضبها ويرضى لرضاها ، أصبحت نسياً منسيّاً ، ودُفنتْ في الليل سرّاً بعدما هدّدوها بالحرق ، وعصروا على بطنها بالباب حتى أسقطتْ جنينها ، ولا أحد من المسلمين من أهل السنّة يعرف رواية واحدة تنقُلها عن أبيها!!

وهكذا أصبح يزيد بن معاوية ، وزياد بن أبيه ، وابن مرجانة ، وابن مروان ، والحجّاج ، وابن العاص وغيرهم من الفسّاق الملعونين بنصّ الكتاب على لسان نبي الله ، نعم أصبح هؤلاء أُمراء المؤمنين وولاة أُمورهم ، أمّا الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ، وريحانتا النبي من هذه الأُمّة ، والأئمة من عترة الرسول الذين هم أمانُ الأُمة ، أصبحوا مشرّدين مسجونين مقتولين مسمومين!!

وهكذا أصبح أبو سفيان المنافق الذي ما وقعت حربٌ ضدّ الرّسول إلاّ وكان هو قائدها ، أصبح محموداً مشكوراً حتّى قيل : من دخل داره كان آمناً ، أمّا أبو طالب حامي النبي وكفيله والمدافع عنه بكلّ ما يملك ، والذي قضى حياته مناوئاً لقومه وعشيرته من أجل دعوة ابن أخيه ، حتّى قضى ثلاث سنوات في الحصار مع النبىّ في شعب مكة ، وكتم إيمانه لمصلحة الإسلام ، أي لإبقاء بعض الجسور مفتوحة مع قريش ، فلا يؤذون المسلمين كما يريدون ، وذلك كمؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه ، أمّا هذا فكان جزاؤه ضحضاح من نار يضع فيها رجله فيغلي منها دماغه!!

١٣٤

وهكذا أصبح معاوية بن أبي سفيان ، الطليق بن الطليق ، واللعين بن اللعين ، ومن كان يتلاعب بأحكام الله ورسوله ولا يقيم لها وزناً ، ويقتل الصلحاء والأبرياء في سبيل الوصول إلى أهدافه الخسيسة ، ويسبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مرأى ومسمع من المسلمين(١) ، أصبح هذا الرّجل يسمّى كاتب الوحي ، ويقولون بأن الله ائتمنَ على وحيه جبرئيل ومحمّداً ومعاوية ، وأصبح يوصف بأنّه رجل الحكمة والسياسة والتدبير.

أمّا أبو ذر الغفاري الذي ما أقلّت الخضراء ولا أظلت الغبراء أصدق ذي لهجة منه ، فأصبح صاحب فتنة ، يضربُ ويشرّد ويُنفى إلى الربذة ، وأمّا

____________

(١) يقول الشاعر في هذا المعنى :

عاندوا « أحمد » وعادوا عليّاً

وتولّوا منافقاً وغويّاً

وأسرّوا سبّ النبي نفاقاً

حين سبّوا جهراً أخاهُ عليّاً

( المؤلف )

وقد ذكر الشيخ الألباني في صحيحته حديث رقم ٣٣٣٢ : « عن أبي عبد الله الجدلي قال : قالت لي أُم سلمة : أيُسبُ رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينكم على المنابر؟!

قلت : سبحانه الله! وأنّى يسب رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

قالت : أليس يُسبُّ علي بن أبي طالب ومن يحبّه ، وأشهد أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يُحبه

قلت : وهذا إسناد جيد ورجاله كلّهم ثقات ».

وهذا من الطامات الكبرى والرزايا العظمى أن يسب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعهد منه قريب جداً ، وجسده الشريف لم يبرد بعد ، وكفنه لم يبل ، لكن الطلقاء وأبناء الطلقاء أرادوا حجب نور الشمس قبل بزوغها ، وإطفاء نورها قبل ظهورها ، فسعوا إلى ذلك بكلّ ما أُتوا من قوّة; إلاّ أَن الله كان لهم بالمرصاد ، فأخمدهم وأخمد فتنتهم قبل انتصاب الأمور وتحقيق غاياتهم الفاسدة.

١٣٥

سلمان ، والمقداد ، وعمّار ، وحُذيفة ، وكلّ الصحابة المخلصين الذين والوا عليّاً وتشيّعوا له ، فقد لاقوا التعذيب والتشريد والقتل.

وهكذا أصبح أتباع مدرسة الخلفاء ، وأتباع معاوية ، وأصحاب المذاهب الذين أوجدتهم السلطة الجائرة ، أصبحوا هم أهل السنّة والجماعة ، وهم الذين يمثّلون الإسلام ، ومن خالفهم كان من الكافرين ، ولو اقتدى بأئمة أهل البيت الطيبين الطاهرين.

أمّا أتباع مدرسة أهل البيت الذين اتّبعوا باب مدينة العلم ، وأوّل النّاس إسلاماً ، ومن كان الحقّ يدور معه حيث دار ، وتشيّعوا لأهل البيت واتّبعوا الأئمة المعصومين ، أصبحوا هم أهل البدعة والضلالة ، ومن خالفهم وحاربهم كان من المسلمين ، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم وصدق الله إذ يقول :

( وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * ألا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ * وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ألا إنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

وإذا رجعنا إلى موضوع حبّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعائشة; لأنّها حفظت عنه نصف الدّين ، وكان يقول : « خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء » ، فهذا حديث باطل لا أساس له من الصّحة ، ولا يستقيم مع ما روي عن عائشة من أحكام مضحكة مبكية يتنزّه عن ذكرها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويكفينا مثلا على ذلك قضية رضاعة الكبير التي كانت ترويها عن

____________

(١) البقرة : ١١ ـ ١٣.

١٣٦

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي أخرجها مسلم في صحيحه ، ومالك في موطّأه ، والتي وافينا البحث فيها في كتابنا « لأكون مع الصادقين » ، فمن أراد التفصيل والوقوف على جلية الأمر فليراجعه.

ويكفي في هذه الرواية الشنيعة أنّ زوجات النبي كلّهن رفضن العمل بها وأنكرنها ، وحتّى أنّ راويها بقي عاماً كاملا يتهيّب أن يذكرها لفظاعتها وقلّة حيائها.

وإذا ما رجعنا إلى « صحيح البخاري » في باب يقصر من الصّلاة إذا خرج من موضعه ، قال : عن الزهرىّ ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : الصّلاة أوّل ما فُرِضتْ ركعتان ، فأْقرّتْ صلاة السّفر وأُتِمَّتْ صلاة الحضَر ، قال الزهري : فقلتُ لعروة : فما بال عائشة تُتمُ؟ قال : تأَوَّلتْ ماتأَوَّلْ عثمان(١) .

وأخرجها مسلم في صحيحه في باب صلاة المسافرين وقصرها وبعبارة أوضح ممّا في البخاري ، قال : عن الزهريّ ، عن عروة ، عن عائشة أنّ الصلاة أوّل ما فُرضت ركعتين ، فأقرّت صلاة السفر وأتِمّتْ صلاة الحضر ، قال الزهريُّ : فقلْتُ لعروة : ما بال عائشة تُتم في السّفرِ؟ قال : إنّها تأولتْ كما تأوّل عثمان(٢) .

إنّه التناقُض الصريح ، فهي التي تروي بأنّ صلاة المسافر فُرضتْ ركعتين ، ولكنّها تخالف ما افترضه الله وعمل به رسولهُصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتتأوّل لتغيّر أحكام الله

____________

(١) صحيح البخاري ٢ : ٣٦.

(٢) صحيح مسلم ٢ : ١٤٢.

١٣٧

ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إحياء لسنّة عثمان ، ولهذه الأسباب نجد كثيراً من الأحكام في صحاح أهل السنّة والجماعة ولكن لا يعملون بها; لأنّهم في أغلب الأحيان يأخذون بتأوّل أبي بكر ، وتأوّل عمر ، وتأوّل عثمان ، وتأوّل عائشة ، وتأوّل معاوية بن أبي سفيان ، وغيرهم من الصحابة.

فإذا كانت الحميراء التي يؤخذ عنها نصف الدّين تتأوّل في أحكام الله كيف تشاء ، فلا أعتقدُ بأنّ زوجها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرضى منها هذا ويأمر الناس بالاقتداء بها ، على أنّه ورد في « صحيح البخاري » وصحـاح أهل السنّة إشارة إلى أنّ في اتّباعها معصية لله ، وسنُوافيك بذلك في أوانه إن شاء الله.

وأمّا القائلون بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يُحبّها; لأنّ جبرئيل أتاه بصورتها قبل الزواج ، وأنّه لا يدخل عليه إلاّ في بيتها ، فهذه روايات تُضحك المجانين.

ولستُ أدري أكانت الصورة التي جاء بها جبرئيل فوتوغرافية أم لوحة زيتية ، على أنّ صحاح أهل السنّة يروون بأنّ أبا بكر بعث بعائشة إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومعها طبق من التمر لينظر إليها ، وهو الذي طلب من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتزوّج ابنته ، فهل هناك داع لينزل جبرئيل بصورتها ، وهي تسكن على بعد بضع أمتار من مسكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!! وأعتقد أنّ مارية القبطية التي كانت تسكنُ مصر ، وهي بعيدة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما كان أحد يتصوّر مجيئها ، هي أولى بأن ينزل جبرئيل بصورتها ، ويبشّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ الله سيرزقه منها إبراهيم.

١٣٨

ولكن هذه الروايات هي من وضع عائشة التي كانتْ لا تجدُ شيئاً تفتخر به على ضرّاتها إلاّ الأساطير التي يخلقها خيالها ، أو أنّها من وضع بني أُميّة على لسانها ليرفعوا من شأنها عند بسطاء العقول.

وأمّا أنّ جبرئيل كان لا يدخل على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مضطجع إلاّ في بيت عائشة فهي أقبحُ من الأُولى ، والمعلوم من القرآن الكريم أنّ الله هدّدها عندما تظاهرت على رسوله ، هدّدها بجبرئيل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيراً.

فما أقوال شيوخنا وعلمائنا إلاّ ضربٌ من الظنّ والخيال ، وإنّ الظنّ لا يُغني من الحق شيئاً( قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ الظَّنَّ وَإنْ أنْتُمْ إلاّ تَخْرُصُونَ ) (١) .

عائشة فيما بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

أمّا إذا درسنا حياة أُمّ المؤمنين عائشة ابنة أبي بكر بعد لحوق زوجها بالرفيق الأعلى روحي له الفداء ، وبعد ما خلاَ لها الجوّ وأصبح أبوها هو الخليفة والرئيس على الأُمّة الإسلامية ، وأصبحت هي حينذاك المرأة الأُولى في الدولة الإسلامية; لأنّ زوجها رسول الله وأبوها هو خليفة رسول الله.

ولأنّها كما تعتقد هي أو توهمُ نفسها بأنها أفضلُ أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا لشيء إلاّ لأنّه تزوّجها بكراً وما تزوّج بكراً غيرها!! وقد توفّي عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي في عزّ شبابها وزهرة عمرها ، فكان عمرها يوم وفاة زوجها

____________

(١) الأنعام : ١٤٨.

١٣٩

ثمانية عشر عاماً على أكثر التقادير وأشهر الروايات ، ولم تعاشر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوى ستّ أو ثمان سنوات على اختلاف الرّواة ، قضتْ السنوات الأُولى منها تلعب ألعاب الأطفال وهي زوجة النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي كما وصفتها بريرة جارية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما قالت في عائشة : « إنّها جارية حديثة السنّ تنام عن العجين فتأتي الدّاجنُ فتأكُله »(١) .

نعم ، ثمانية عشر عاماً لفتاة بلغت سنّ المراهقة كما يقال اليوم ، وقضت نصف عمرها مع صاحب الرسالة ، وبين ضرّات يبلغ عددهن عشر أو تسع زوجات ، وهناك امرأة أُخرى أغفلنا ذكرها في حياة عائشة ، وكانت أشدّ عليها من كلّ ضرّة ، لأنّ حبّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها فاق التصوّر ، وهذه المرأة هي فاطمة الزهراء ربيبة عائشة ابنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خديجة ، وما أدراك ما خديجة الصدّيقة الكبرى التي سلّم عليها جبرئيل ، وبشّرها ببيت لها في الجنّة لا صخَب فيه ولا نصب(٢) .

والتي كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدع مناسبة تفوته إلاّ ويذكر خديجة ، فيتفطر كبد عائشة ويحترق قلبها غيرة ، فتثور ثائرتها وتخرج عن أطوارها ، فتشتم بما يحلو لها ، ولا تبال بعواطف زوجها ومشاعره.

ولنستمع إليها تحدّث عن نفسها بخصوص خديجة ، كما روى البخاري ، وأحمد ، والترمذي ، وابن ماجة ، قالت : ما غرتُ على امرأة لرسول الله كما

____________

(١) صحيح البخاري ٣ : ١٥٦ ، كتاب الشهادات ، باب تعديل النساء بعضهن بعضاً.

(٢) صحيح البخاري ٤ : ٢٣١ ، صحيح مسلم ٧ : ١٣٣ ، باب فضائل أم المؤمنين خديجة.

١٤٠