فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر0%

فاسألوا اهل الذكر مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 484

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف: الدكتور محمد التيجاني السماوي
تصنيف:

الصفحات: 484
المشاهدات: 60015
تحميل: 4761

توضيحات:

فاسألوا اهل الذكر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 484 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60015 / تحميل: 4761
الحجم الحجم الحجم
فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف:
العربية

غرت على خديجة(١) لكثرة ذكر رسول الله إياها وثنائه عليها ، فقلتُ : ما تذكُر من عجوز من عجائز قريش ، حمراء الشّدقين ، هلكتْ في الدّهر ، قد أبدلك الله خيراً منها.

قالت : فتغيّر وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تغيّراً ما كنتُ أراه إلاّ عند نزول الوحي ، وقال : « لا ، ما أبدلني الله خيراً منها ، قد آمنتْ بي إذ كفر بي النّاس ، وصدّقتني إذْ كذّبني الناس ، وواستني بما لها إذ حرمني النّاس ، ورزقني الله عز وجلّ ولدها إذ حرمني أولاد النساء »(٢) .

____________

(١) قد مرّ بنا سابقاً قولها : ما غرت على امرأة كما غرت على صفية ، وقولها : ما غرت على امرأة إلاّ دون ما غرت على مارية ، لكِ الله يا عائشة ، فهل سَلمتْ واحدة من أزواج النبي من غيرتك وأذيّتك؟ ( المؤلف ).

(٢) حديث غيرة عائشة على خديجة رضي الله عنها ورد في مصادر أهل السنّة بكثرة وبألفاظ مختلفة ، والمؤلف لفق بين هذه الأحاديث ، فقولها : « ما غرت على وثنائه عليها » يوجد في البخاري ٦ : ١٥٨ ، ونحوه بلفظ قريب منه في مسلم ٧ : ١٣٤ ، وسنن ابن ماجة ١ : ٦٤٣ ، وسنن الترمذي ٣ : ٢٤٩ وغيرها.

أمّا قولها : « ما تذكر من عجوز خيراً منها » يوجد بألفاظه المختلفة في كلّ من : صحيح البخاري ٤ : ٢٣١ ، صحيح مسلم ٧ : ١٣٤ ، مسند أحمد ٦ : ١٥٤ ، السنن الكبرى النسائي ٧ : ٣٠٧ وغيرها.

أمّا قولها : « فتغيّر وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أولاد النساء » يوجد بألفاظه المختلفة في : مسند أحمد ٦ : ١١٨ عنه مجمع الزوائد ٩ : ٢٢٤ وقال : « رواه أحمد وإسناده حسن » ، فتح الباري ٧ : ١٠٣ ، فيض القدير ٤ : ١٦٤ ، البداية والنهاية ٣ : ١٥٨ وقال : « تفرّد به أحمد واسناده لا بأس به ، ومجالد روى له مسلم متابعة وفيه كلام مشهور والله أعلم ».

وانظر أيضاً المعجم الكبير للطبراني ٢٣ : ١٣ ، تاريخ دمشق ٣ : ١٩٥ ، الاصابة

١٤١

وليس هناك شكّ أنّ ردّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبطل دعوى من يقول بأنّ عائشة هي أحبّ وأفضل أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأكيد أيضاً أنّ عائشة ازدادت غيرة وكُـرهاً لخديجة عندما قرّعها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا التوبيخ ، وأعلمها بأنّ ربّه لم يُبدلَهُ خيراً من خديجة.

ومرّة أخرى يعلّمنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه لا يميل مع الهوى ، ولا يحبّ الجمال والبكارة; لأنّ خديجة سلام الله عليها تزوّجت قبله مرّتين ، وكانت تكبره بخمسة عشرة عاماً ، ومع ذلك فهو يحبّها ولا ينثني عن ذكرها ، وهذا

____________

٨ : ١٠٣.

أمّا مجالد بن سعيد فقد وثّقه غير واحد كما في مجمع الزوائد ١٠ : ٣٩٩ ، وهو حسن الحديث كما في مجمع الزوائد أيضاً ٩ : ٢٤٢.

وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء ٢ : ١١٢ من طريق مروان بن معاوية ، عن وائل بن داود ، عن عبد الله البهي ، عن عائشة ، والسند حسن كما صرّح محقّق الكتاب بذلك.

وكذلك أخرجه الدولابي في كتابه الذرية الطاهرة : ٣١ عن محمّد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، عن مروان بن معاوية الفزاري ، عن وائل بن داود ، عن عبد الله البهي ، عن عائشة. وهذا السند حسن كما ترى ، والحسن يحتج به; لأنّه من قسم الصحيح بالمعنى الأعم.

ومنه يتبيّن أن ما ذكره في « كشف الجاني » : ١٣٣ من تضعيف هذه الزيادة واتهام المؤلّف بالكذب ليس بصحيح ، وناشئ من عدم اطّلاع عثمان الخميس على رواياتهم ومباني علماء الحديث وذلك :

(١) إنّ مجالد بن سعيد مختلف فيه ، فحديثه يكون حسناً على أقل تقدير.

(٢) إنّ مجالد بن سعيد لم ينفرد بهذه الزيادة ، بل وردت عن عبد الله البهي ، وهو ثقة فيحتجّ بحديثه ، ويكون حديث مجالد بن سعيد صحيحاً; لأنّ له متابعاً صحيحاً وهو حديث عبد الله البهي ، فيكون مقوّياً له.

١٤٢

لعمري هو خُلق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يحبّ في الله ويبغض في الله.

وهناك فرق كبير بين هذه الرواية الحقيقية ، وتلك المزيّفة التي تدّعي بأنّ الرسول يميل إلى عائشة ، حتّى بعثن إليه نساؤُه ينشدنه العدل في ابنة أبي قحافة!!

وهل لنا أن نسأل أُمّ المؤمنين عائشة التي ما رأت يوماً في حياتها السيّدة خديجة رضوان الله عليها ولا التقت بها : كيف تقول عنها : عجوز حمراء الشّدقين؟ وهل هذه هي أخلاق المؤمنة العادية الّتي يحرمُ عليها أن تغتاب غيرها إذا كان حيّاً! فما بالك بالميّت الذي أفضى إلى ربِّه!! فما بالك إذا كان ضحية الغيبة زوج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي ينزل جبرئيل في بيتها ويبشّرها ببيت في الجنّة لا صخب فه ولا نصب؟!

وبالتأكيد إنّ ذلك البغض ، وتلك الغيرة التي تأجّجت في قلب عائشة من أجل خديجة لابدّ لها من فورة ومتنفّس وإلاّ انفجرت ، فلم تجد عائشة أمامها إلاّ فاطمة ابنة خديجة ربيبتها ، والتي هي في سنّها أو تكبرها قليلا على اختلاف الرّواة.

وبالتأكيد ـ أيضاً ـ أنّ ذلك الحبّ العميق من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لخديجة تجسّد وقوِيَ في ابنته ووحيدته فاطمة الزهراء ، فهي الوحيدة التي عاشت مع أبيها ، تحمـل في جنباتها أجمل الذكريات التي كان يحبّها رسول الله في خديجة ، فكان يسمّيها أمّ أبيها.

وزاد في غيرة عائشة أن ترى رسول الله يمجّد ابنته ، ويسمّيها سيّدة نساء

١٤٣

العالمين وسيّدة نساء أهل الجنة(١) ، ثمّ يرزقُه الله منها سيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين ، فترى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يذهب ويبات عند فاطمة ساهراً على تربية أحفاده ويقول : « ولداي هذان ريحانتي من هذه الأُمة »(٢) ويحملهما على كتفيه ، فتزداد بذلك عائشة غيرة لأنّها عقيم!!

ثمّ ازدادت الغيرة أكثر عندما شملت زوج فاطمة أبا الحسنين لا لشيء إلاّ لحبّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه ، وتقديمه على أبيها في كلّ المواقف ، فلا شكّ أنّها كانت تعيش الأحداث.

وترى ابن أبي طالب يفوز في كلّ مرّة على أبيها ، ويمضي بحبّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له ، وتفضيله وتقديمه على من سواه ، فقد عرفت أنّ أباها رجع مهزوماً في غزوة خيبر بمن معه من الجيوش ، وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تألّم لذلك وقال : « لأعطين الراية رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبُّهُ الله ورسوله كرّار غير فرار »(٣) ، وكان ذلك الرجل هو علي بن أبي طالب زوج فاطمة ، ثمّ رجع

____________

(١) صحيح البخاري ٤ : ١٨٣ ، ٢٠٩ و ٧ : ١٤٢.

(٢) ورد في تاريخ دمشق ١٣ : ٢٠٢ ، وكنز العمال ١٣ : ٦٦٧ ح ٣٧٦٩٩ بلفظ : « إنّ ابني هذين » ، وفي مسند أحمد ٢ : ٨٥ ـ ١١٤ وصرّح محقّق الكتاب أحمد شاكر في كلا الموضعين بصحته ، والمصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٥١٤ ح ١٦ ، والسنن الكبرى للنسائي ٥ : ٤٩ ح ٨١٦٧ ، وصحيح ابن حبان ١٥ : ٤٢٦ بلفظ : « هما ريحانتي من الدنيا ».

(٣) بهذا اللفظ في تاريخ دمشق ٤١ : ٢١٩ ، وكنز العمال ١٣ : ١٢٣ ح ٣٦٣٩٣ ، ويوجد صدر الحديث في صحيح البخاري ٥ : ٧٦ ، صحيح مسلم ٥ : ١٩٥ ، ويوجد بلفظ : « ليس بفرار » في مسند أحمد ١ : ٩٩ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٨ : ٥٢٢ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ١٠٩ ، المعجم الكبير للطبراني ٧ : ٣٥.

١٤٤

عليٌّ بعد ما فتح خيبر بصفية بنت حُيي التي تزوّجها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونزلت على قلب عائشة كالصّاعقة.

وقد عرفت ـ أيضاً ـ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث أبوها بسورة براءة ليبلّغها إلى الحجيج ، ولكنّه أرسل خلفه علي بن أبي طالب فأخذها منه ، ورجع أبوها يبكي ويسأل عن السبب ، فيجيبه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إن الله أمرني أن لا يبلّغ عني إلاّ أنا أو أحد من أهل بيتي »(١) .

وقد عرفتْ أيضاً بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّب ابن عمّه علي خليفة على المسلمين من بعده ، وأمر أصحابه وزوجاته بتهنئته بإمرة المؤمنين ، فجاءه أبوها في مقدّمة النّاس يقول : بخ بخ لك يا بن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

وقد عرفتْ بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أَمَّر على أبيها شابّاً صغيراً لا نبات بعارضيه ، عمره سبعة عشر عاماً ، وأمره بالسّير تحت قيادته والصلاة خلفه.

ولا شكّ بأنّ أُمّ المؤمنين عائشة كانت تتفاعل مع هذه الأحداث ، فكانت تحمل في جنباتها همَّ أبيها ، والمنافسة على الخلافة والمؤامرة التي تدور عند رؤساء القبائل في قريش ، فكانت تزداد بُغضاً وحنقاً على علي وفاطمة ، وتحاول بكلّ جهودها أنْ تتدخّل لتغيير الموقف لصالح أبيها بشتّى الوسائل ، كلّفها ذلك ما كلّفها.

____________

(١) انظر بألفاظه المختلفة : مسند أحمد ١ : ٣ وصرّح محقّق الكتاب أحمد شاكر بصحته ، كتاب السنّة لابن أبي عاصم : ٥٩٥ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ١٢٩ ، المعجم الأوسط ٣ : ١٦٥ ، الدر المنثور ٣ : ٢١٠.

١٤٥

وقد رأيناها كيف أرسلتْ إلى أبيها على لسان زوجها تأمره ليُصلّي بالنّاس ، عندما علمتْ بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرْسَلَ خلف علي ليكلّفَه بتلك المهمّة ، ولمّا علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتلك المؤامرة اضطرّ للخروج ، فأزاح أبا بكر عن موضعه وصلّى بالنّاس جالساً ، وغضب على عائشة وقال لها : « إنّكنّ أنتنّ صويحبات يوسف » ( يقصد أن كيدها عظيم )(١) .

والباحث في هذه القضية التي روتها عائشة بروايات مختلفة ومتضاربة يجدُ التناقض واضحاً ، وإلاّ فإنّ أباها عبّأه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جيش ، وأمره بالخروج تحتَ قيادة أُسَامة بن زيد قبل تلك الصّلاة بثلاثة أيام ، ومن المعلوم بالضرورة أنّ قائد الجيش هو إمام الصلاة ، فأُسامة هو إمام أبي بكر في تلك السرية.

فلمّا أحسّتْ عائشة بتلك الإهانة ، وفهمت مقصود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها ، خصوصاً وأنّها تفطّنت بأنّ علي بن أبي طالب لم يعيّنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك الجيش الذي عبّأ فيه وجوه المهاجرين والأنصار ، والذين لهم في قريش زعامة ومكانة ، وقد علمتْ من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كْما علم أكثر أصحابه بأنّ أيّامه أصبحتْ معدودة ، ولعلّها كانتْ على رأي عمر بن الخطّاب في أنّ رسول الله أصبح يهجرُ ولا يدري ما يفعَلُ; فدفعتها غيرتها القاتلة أن تتصرّف بما تراه يرفع من شأن أبيها وقدره مقابل منافسه علي.

ولكلّ ذلك أنكرت أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى لعلي ، ولذلك حاولت إقناع البسطاء من النّاس بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات في حجرها بين سحرها

____________

(١) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٩ : ١٩٧.

١٤٦

ونحرها ، ولذلك حدّثت بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لها وهو مريض : ادع لي أباك وأخاكِ لأكتب لهم كتاباً ، عسى أن يدّع مُدّع ويأبى الله ورسوله والمؤمنون إلاّ أبا بكر!! فهل من سائل يسألُها : ما الذي منعها من دَعوتهم؟

موقف عائشة ضدّ علي أمير المؤمنينعليه‌السلام

والباحث في موقفها تجاه أبي الحسن يجد أمراً عجيباً وغريباً ، ولا يجد له تفسيراً إلاّ الغيرة والعداء لأهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد سجّل لها التاريخ كرهاً وبغضاً للإمام علي لَمْ يُعرف له مثيلٌ ، وصل بها إلى حدّ أنّها لا تطيق ذكر اسْمِهِ(١) ، ولا تطيق رؤيته ، وعندما تسمع بأنّ الناس قد بايعوه بالخلافة بعد قتل عثمان ، تقول : وددت لو أنّ السّماء انطبقت على الأرض قبل أن يليها ابن أبي طالب(٢) . وتعمل كلّ جهودها للإطاحة به ، وتقود ضدّه عسكراً جرّاراً لمحاربته ، وعندما يأتيها خبر موته تسجد شكراً لله(٣) .

ألا تعجبون معي لأهل السنّة والجماعة الذين يروون في صحاحهم بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « يا علي لا يُحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافقٌ »(٤) ،

____________

(١) مضى تخريجه.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦ : ٢١٥.

(٣) قال أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين : ٥٥ « لمّا أن جاء عائشة قتل عليّعليه‌السلام سجدت ».

(٤) مسند أحمد ١ : ٩٥ وصرّح محقّق الكتاب أحمد شاكر بصحته ، سنن الترمذي ٥ : ٣٠٦ وقال : حسن صحيح ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ١٣٧ ح ٨٤٨٧ ، مسند أبي يعلى ١ : ٢٥١ ، تاريخ بغداد ١٤ : ٤٢٦ ح ٧٧٨٥ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٢٧١ ،

١٤٧

ثمّ يروون في صحاحهم ومسانيدهم وتواريخهم بأنّ عائشة تبغض الإمام علي ولا تطيق ذكر اسمه ، أليس ذلك شهادة منهم على ماهية المرأة؟

كما يروي البخاري في صحيحه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « فاطمة بضعة منّي من أغضبها أغضبني ، ومن أغضبني فقد أغضب الله »(١) . ثمّ يروي البخاري نفسه بأنّ فاطمة ماتت وهي غاضبة على أبي بكر فلم تكلّمه حتى ماتتْ(٢) .

أليس ذلك شهادة منهم بأنّ الله ورسوله غاضبان على أبي بكر؟ فهذا ما يفهمه كلّ العقلاء ، ولذلك أقول دائماً بأنّ الحقّ لا بدّ أن يظهر مهما ستره المُبطلون ، ومهما حاول أنصار الأمويين التمويه والتلفيق ، فإنّ حجّة الله قائمة على عباده من يوم نزول القرآن إلى قيام السّاعة ، والحمد لله ربّ العالمين.

حدّث الإمام أحمد بن حنبل أنّ أبا بكر جاء مرّة واستأذن على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقبل الدّخول سمع صوت عائشة عالياً وهي تقول للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « والله لقد عرفتُ أنّ عليّاً أحبّ إليك منّي ومن أبي ، تعيدها مرّتين أو

____________

أُسد الغابة ٤ : ٢٦ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ١٨٩.

وفي صحيح مسلم ١ : ٦١ باب الدليل على حبّ الأنصار وعلي من الإيمان عن عليّ عليه‌السلام بلفظ : « والذي فلق الحبة وبرأ النسمة انّه لعهد النبي الأُمّي إليّ أنّه لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق ».

(١) البخاري ٤ : ٢١٠ ، كتاب فضائل أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، باب مناقب فاطمةعليها‌السلام ، المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٥٢٦ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ٩٧ ح ٨٣٧١.

(٢) صحيح البخاري ٥ : ٨٢ ، كتاب المغازلي ، باب غزوة خيبر و ٨ : ٣ كتاب الفرائض ، باب قول النبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا نورث ما تركنا صدقة ».

١٤٨

ثلاثاً » الحديث(١) .

وبلغ من أمر عائشة وبُغضِهَا للإمام علي أنّها كانت تحاول دائماً إبعاده عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما استطاعتْ لذلك سبيلا.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي في « شرح النهج » : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استدنى عليّاً ، فجاء حتّى قعد بينه وبينها وهما متلاصقان ، فقالت له : أما وجدت مقعداً لكذا إلاّ فخذي(٢) .

وروي ـ أيضاً ـ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساير يوماً الإمام علي وأطال مناجاته ، فجاءت عائشة وهي سائرة خلفهما حتى دخلت بينهما ، وقالتْ لهُمَا : فيمَ أنتُما فقد أطلتما ، فغضب لذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) .

ويروي أيضاً أنّها دخلت مرّة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يناجي عليّاً ، فصرختْ وقالت : مالي ولك يا بن أبي طالب؟ إنّ لي نوبة واحدة من رسول الله ، فغضب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وكم من مرّة أغضبت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتصرّفاتها الناتجة عن الغيرة الشديدة ، وعن حدّة طبعها وكلامها اللاّذع.

وهل يرضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مؤمن أو مؤمنة ملأ قلبه كُرهاً وبغضاً

____________

(١) الإمام أحمد في مسنده ٤ : ٢٧٥ ، عنه مجمع الزوائد ٩ : ٢٠١ وقال : « رجاله رجال الصحيح ».

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٩ : ١٩٥ ، وفي تاريخ دمشق ٤٢ : ٤٥ انّهعليه‌السلام ، جلس بينهما قالت له : « أما وجدت مكاناً أوسع لك من هذا » فزجرها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٩ : ١٩٥.

١٤٩

لابن عمّه وسيّد عترته ، الذي قال فيه : « يحبّ الله ورسولَهُ ويحبّه الله ورسوله »(١) وقال فيه : « من أحبّ علياً فقد أحبّني ، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني »(٢) .

( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ )

أمر الله سبحانه نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاستقرار في بيوتهنّ ، وأن لا يخرجن متبرّجات ، وأمرهنّ بقراءة القرآن ، وإقامة الصّلاة ، وإيتاء الزكاة ، وإطاعة الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وعمل نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكلّهن امتثلْنَ أمر الله وأمر رسوله الذي نهاهنّ هو الآخرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل وفاته وحذّرهن بقوله : « أيّتكن تركب الجمل وتنبحها كلاب الحوأب »(٣) ، كلّهن ما عدا عائشة ، فقد اخترقت كلّ الأوامر ،

____________

(١) صحيح البخاري ٤ : ١٢ ، ٢٠ ، كتاب فضائل أصحاب النبي ، باب مناقب علي ابن أبي طالب ، صحيح مسلم ٧ : ١٢٠ ، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي ابن أبي طالب. سنن ابن ماجة ١ : ٤٤ ، سنن الترمذي ٥ : ٣٠٢ ، المستدرك للحاكم ٣ : ١٠٩.

(٢) المستدرك للحاكم ٣ : ١٣٠ وقال : « هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه » ، المعجم الكبير للطبراني ٢٣ : ٣٨٠ ، عنه مجمع الزوائد ٩ : ١٣٢ وقال : إسناده حسن. الجامع الصغير للسيوطي ٢ : ٥٥٤ ح ٨٣١٩ ، وصحّحه الألباني في صحيح الجامع الصغير ٢ : ١٠٣٤ ح ٥٩٦٣.

(٣) نحوه مسند أحمد ٦ : ٩٧ وسنده صحيح ، المستدرك للحاكم ٣ : ١٢٠ وسقط تصحيح الحاكم من المطبوع لكن قال ابن حجر في فتح الباري ١٣ : ٤٥ : إنّه صححه ، مجمع الزوائد ٧ : ٢٣٤ وصرّح بوثاقة رجاله ، المصنّف لعبدالرزاق ١١ :

١٥٠

____________

٣٦٥ ح ٢٠٧٥٣ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٨ : ٧٠٨ ، صحيح ابن حبان ١٥ : ١٢٦ ، فتح الباري ١٣ : ٤٥ وصرّح بوثاقة رجاله ، سير أعلام النبلاء للذهبي ٢ : ١٧٨ وصرّح بصحة الإسناد ، البداية والنهاية لابن كثير ٦ : ٢٣٦ وقال بعد أن ذكره من طريق أحمد : « وهذا إسناد على شرط الصحيحين ولم يخرجوه » ، الإصابة ٨ : ١٨٦.

وقال الشيخ الألباني في صحيحته ١ : ٨٤٨ ، ح ٤٧٤ : « والحديث من أصح الأحاديث ، ولذلك تتابع الأئمة على تصحيحه قديماً وحديثاً :

الأوّل : ابن حبان

الثاني : الحاكم

الثالث : الذهبي

الرابع : الحافظ ابن كثير

الخامس : الحافظ ابن حجر ».

ثمّ علق الشيخ الألباني على الحديث بقوله : « ولا نشكّ أنّ خروج أُمّ المؤمنين كان خطأً من أصله ، ولذلك همّت بالرجوع حين علمت بتحقّق نبوءة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الحوأب ، ولكن الزبير رضي الله عنه أقنعها بترك الرجوع بقول : عسى الله أن يصلح بك بين الناس. ولا نشكّ أنّه كان مخطئاً أيضاً ، والعقل يقطع بأنّه لا مناصّ من القول بتخطئة إحدى الطائفتين المتقاتلتين اللتين وقع فيهما مئات القتلى ، ولا نشكّ أنّ عائشة رضي الله عنها هي المخطئة; لأسباب كثيرة وأدلّة واضحة ».

وقد أجاد الشيخ الألباني في هذا الكلام إلاّ في أمرين :

الأوّل : إنّه التمس العذر لعائشة بمقولة الزبير ، مع أنّ عائشة لديها توصية من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديثه فلذلك أرادت الرجوع ، لكن الصحابي وهو الزبير ضرب كلام النبي وراء ظهره وبالتالي أقنع عائشة بذلك.

الثانية : قوله : « همّت بالرجوع حين علمت بتحقيق نبوءة النبي » ليس

١٥١

وسخرت من كلّ التحذيرات.

ويذكر المؤرّخون أنّ حفصة بنت عمر أرادت الخروج معها ، ولكن أخاها عبد الله حذّرها وقرأ عليها الآية ، فرجعت عن عزمها ، أمّا عائشة فقد ركبت الجمل ، ونبحتها كلاب الحوأب.

يقول طه حسين في كتابه « الفتنة الكبرى » : مرّت عائشة في طريقها بماء فنبحتها كلابه ، وسألتْ عن هذا الماء فقيل لها : إنّه الحوْأب ، فجزعتْ جزعاً شديداً وقالتْ :

ردّوني ردّوني ، قد سمعتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول وعنده نساؤه : « أيّتكنّ تنبحُها كِلابُ الحوأب »؟ وجاء عبد الله بن الزبير فتكلّف تهدئتها ، وجاءها بخمسين رجلا من بني عامر يحلفون لها كذباً أنّ هذا الماء ليس بماء الحوأب(١) .

وأنا أعتقد بأنّ هذه الرّواية وُضعتْ في زمن بني أُميّة; ليخفّفوا بها عن أُمّ المؤمنين ثقل معصيتها ، ظنّاً منهم بأنّ أُمّ المؤمنين أصبحتْ معذورة بعد أن خدعها ابن أُختها عبد الله بن الزّبير ، وجاءها بخمسين رجلا يحلفون بالله ويشهدون شهادة زوراً بأنّ الماء ليس هو ماء الحوأب.

إنّها سخافة هزيلةٌ يريدون أن يموّهوا بمثل هذه الروايات على بسطاء العقول ، ويُقنعونهم بأنّ عائشة خُدِعتْ; لأنّها عندما مرّتْ بالماء وسمعتْ

____________

صحيحاً ، بل الحقّ أنّ إخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، وتحقّق إخباره في الخارج دالٌ على معجزته ومدى معرفته ، وليس تنبأً كما حاول الشيخ إظهاره.

(١) المجموعة الكاملة لمؤلّفات طه حسين : ٤٦٩.

١٥٢

نباح الكلاب ، فسألت عن هذا الماء ، فقيل لها : إنّه الحوْأَبْ ، فجزعتْ وقالت : ردّوني ردّوني. فهل لهؤلاء الحمقى الذين وضعوا الرواية أن يلتمسوا لعائشة عذراً في معصيتها لأمر الله ، وما نزل من القرآن بوجوب الاستقرار في بيتها؟! أو يلتمسوا لها عذراً في معصيتها لأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوجوب لزوم الحصير وعدم ركوب الجمل ، قبل الوصول إلى نباح الكلاب في ماء الحوأب؟!!

وهل يجدون لأُمّ المؤمنين عذراً بعدما رفضت نصيحة أُمّ المؤمنين أمّ سلمة التي ذكرها المؤرّخون إذ قالت لها : أتذكرينَ يومَ أقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن معه حتى إذا هبَط من قديد ذات الشمال ، فخَلا بعلي يُناجيه فأطال ، فأردتِ أن تهجمي عليهما ، فنهيتُكِ فعصيتني وهجمتِ عليهما ، فما لبثت أن رجعتِ باكية ، فقلت : ما شأنك؟ فقلت : أتيتهما وهما يتناجيان ، فقلت لعلي : ليس لي من رسول الله إلاّ يوم من تسعة أيام أفمَا تدعني يا بن أبي طالب ويومي ، فأقبل رسول الله علىَّ وهم محمّر الوجه غضباً فقال : « ارجعي وراءك ، والله لا يبغضه أحد من النّاس إلاّ وهو خارج من الإيمان » ، فرجعت نادمةً ساخطة.

فقالت عائشة : نعم أذكر ذلك.

قالت : وأُذَكّركِ ـ أيضاً ـ كنت أنا وأنتِ مع رسول الله ، فقال لنا : « أيتكنّ صاحبة الجمل الأدب تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط »؟ فقلنا : نعوذ بالله وبرسوله من ذلك ، فضرب على ظهرك وقال : « إيّاك أن تكونيها يا حميراء »؟

قالت عائشة : أذكر ذلك.

١٥٣

فقالت أُمّ سلمة : أتذكرين يوم جاء أبوك ومعه عمر ، وقمنا إلى الحجاب ، ودخلا يحدّثانه فيما أرادا إلى أن قالا : يا رسول الله ، إنّا لا ندري أمَدُ ما تَصحبنا ، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا ليكون لنا بعدك مفزعاً؟ فقال لهما : « أما أنّي قد أرى مكانه ، ولو فعلتُ لتفرّقتم عنه كما تفرّق بنو إسرائيل عن هارون » ، فسكتا ثمّ خرجَا ، فلمّا خرجا خرجنا إلى رسول الله ، فقلتِ له أنت وكنتِ أجرأ عليه منّا : يا رسول الله مَنْ كنت مستخلفاً عليهم؟ فقال : « خاصف النّعل » ، فنزلنا فرأيناه عليّاً. فقلتِ : يا رسول الله ، ما أرى إلاّ عليّاً. فقال : « هو ذاك »؟

قالت عائشة : نعم أذكر ذلك.

فقالت لها أُمّ سلمة : فأيّ خروج تخرجين بعد هذا يا عائشة؟

فقالت : إنّما أخرج للإصلاح بين الناس(١) .

فنهتها أُمّ سلمة عن الخروج بكلام شديد وقالت لها : إنّ عمود الإسلام لا يثأب بالنساء إن مال ، ولا يَرْأبُ بهن إن صُدِعَ ، حماديات النساء غضّ الأطراف ، وخفر الأعراض ، ما كنتِ قائلة لو أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عارضك في بعض هذه الفلوات ، ناصّة قلوصاً من منهل إلى آخر؟ والله لو سرتُ سيرك هذا ثمّ قيل لي : أدخلي الفردوس ، لاستحييت أن ألقى محمّداً هاتكةً حجاباً ضربه علىَّ(٢) .

____________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦ : ٢١٧ ونحوه المعيار والموازنة : ٢٨.

(٢) غريب الحديث لابن قتيبة ٢ : ١٨٢ ، الفائق للزمخشري ٢ : ١٣٢ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦ : ٢٢٠.

١٥٤

كما لم تقبل أُمّ المؤمنين عائشة نصائح كثير من الصحابة المخلصين ، روى الطبري في تاريخه أن جارية بن قدامة السعدي قال لها : يا أُمّ المؤمنين والله لقتل عثمان بن عفّان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسّلاح ، إنّه قد كان لك من الله سترٌ وحرمة ، فهتكت سِتْرَكِ وأبحتِ حرمتك ، إنّه من يرى قتالك فإنّه يرى قتلك ، إن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلكِ ، وإن أتيتنا مستكرهة فاستعيني بالنّاس(١) .

أُمّ المؤمنين هي القائدة

ذكر المؤرّخون بأنّها كانت هي القائدة العامة ، وهي التي تولّي وتعزل وتصدر الأوامر ، حتى إنّ طلحة والزبير اختلفا في إمامة الصلاة ، وأراد كلّ منهما أن يصلّي بالنّاس ، فتدخّلت عائشة وعزلتهما معاً ، وأمّرت عبد الله بن الزبير ابن أُختها أن يصلّي هو بالنّاس.

وهي التي كانتْ ترسل الرّسل بكتبها التي بعثتها في كثير من البلدان تستنصرهم على علي بن أبي طالب ، وتثير فيهم حميّة الجاهلية. حتّى عبّأتْ عشرين ألفاً أو أكثر من أوباش العرب وأهل الأطماع لقتال أمير المؤمنين والإطاحة به ، وأثارتها فتنة عمياء قُتل فيها خلق كثير باسم الدّفاع عن أُمّ المؤمنين ونصرتها.

ويقول المؤرّخون : إنّ أصحاب عائشة لمّا غدروا بعثمان بن حنيف والي البصرة ، وأسروه هو وسبعين من أصحابه الذين كانوا يحرسون بيت المال ،

____________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٤٨٢ ، البداية والنهاية لابن كثير ٧ : ٢٥٩ ، الإمامة والسياسة ١ : ٨٨.

١٥٥

جاؤوا بهم إلى عائشة فأمرتْ بقتلهم ، فذبحوهم كما يذبح الغنم ، وقيل : كانوا أربعمائة رجل يقال : إنّهم أوّل قوم من المسلمين ضربتْ أعناقهم صبراً(١) .

روى الشعبي ، عن مسلم بن أبي بكرة ، عن أبيه قال : لمّا قدم طلحة والزبير البصرة ، تقلّدتُ سيفي وأنا أُريد نصرهما ، فدخلتُ على عائشة فإذا هي تأمُرُ وتنهي وإذا الأمر أمرها ، فتذكّرت حديثاً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كنت سمعته يقول : « لن يفلح قوم تدبّر أمرهم امرأة » فانصرفت عنهم واعتزلتهم(٢) .

كما أخرج البخاري عن أبي بكرة قوله : لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل ، لمّا بلغ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ فارساً ملّكوا ابنة كسرى قال : « لن يفلح قومٌ ولّوا أمرهم امرأة »(٣) .

ومن المواقف المُضحكة والمبكية في آن واحد أنّ عائشة أُمّ المؤمنين تخرج من بيتها عاصية لله ولرسوله ، ثمّ تأمر الصّحابة بالاستقرار في بيوتهم ، إنّه حقّاً أمرٌ عجيب!!

فكيف وقع ذلك يا ترى؟

روى ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة وغيره من المؤرّخين : إنّ عائشة كَتبتْ ـ وهي في البصرة ـ إلى زيد بن صوحان العبدي رسالة تقول له فيها : من عائشة أُمّ المؤمنين بنت أبي بكر الصدّيق زوجة

____________

(١) راجع : أنساب الأشراف : ٢٢٧ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٩ : ٣٢١.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦ : ٢٢٧.

(٣) صحيح البخاري ٨ : ٩٧ كتاب الفتن ، سنن الترمذي ٣ : ٣٦ ، البداية والنهاية ٢ : ٢٦.

١٥٦

رسول الله ، إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان ، أمّا بعد فأقم في بيتك ، وخذّل الناس عن ابن أبي طالب ، وليبلغني عنك ما أحبّ ، إنّك أوثق أهلي عندي ، والسّلام.

فأجابها هذا الرجل الصالح بما يلي : من زيد بن صوحان إلى عائشة بنت أبي بكر ، أمّا بعد; فإنّ الله أمركِ بأمر ، وأمرنَا بأمر ، أمركِ أن تقرّي في بيتكِ ، وأمرنا أن نجاهدَ ، وقد أتاني كتابك تأمريني أن أصنعَ خلاف ما أمرني الله به ، فأكون قد صنعتُ ما أمرك الله به ، وصنعتِ أنتِ ما به أمرني ، فأمْركِ عندي غير مطاع ، وكتابُك لا جواب له(١) .

وبهذا يتبيّن لنا بأنّ عائشة لم تكتفِ بقيادة جيش الجمل فقط ، وإنّما طمحتْ في إمرة المؤمنين كافّة في كلّ بقاع الأرض ، ولكلّ ذلك كانت هي التي تحكم طلحة والزبير اللذين كانا قد رشّحهما عمر للخلافة ، ولكلّ ذلك أباحتْ لنفسها أنْ تراسل رؤساء القبائل والولاة وتُطمِعُهم وتستنصِرُهم.

ولكلّ ذلك بلغتْ تلك المرتبة وتلك الشّهرة عند بني أُميّة ، فأصبحتْ هي المنظور إليها والمُهابة لديهم جميعاً ، والتي يُخشى سطوتها ومعارضتها ، فإذا كان الأبطال والمشاهير من الشجعان يتخاذلون ويهربون من الصفِّ إزاء علي ابن أبي طالب ولا يقفون أمامه ، فإنّها وقفتْ وألّبتْ واستصرختْ واستفزّت.

ومن أجل هذا حيّرتْ العقول ، وأدهشتْ المؤرّخين الذين عرفوا مواقفها في حرب الجمل الصغرى قبل قدوم الإمام علي ، وفي حرب الجمل الكبرى بعد مجي الإمام علي ودعوتها لكتاب الله ، فأبت وأصرّت على الحرب في

____________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦ : ٢٢٦ ، تاريخ الطبري ٣ : ٤٩٢.

١٥٧

عناد لا يمكنُ تفسيره إلاّ إذا عرفنا عمق وشدّة الغيرة والبغضاء التي تحملها أُمّ المؤمنين لأبنائها المخلصين لله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

تحذير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عائشة وفتنتها

لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدركُ عمق وخطورة المؤامرة التي تُدار حوله من جميع جوانبها ، ولا شكّ بأنّه عرف ما للنساء من تأثير وفتنة على الرّجال ، كما أدرك بأنّ كيدهن عظيم تكاد تزول منه الجبال.

وعرف بالخصوص بأنّ زوجته عائشة هي المؤهلة لذلك الدور الخطير ، لما تحمله في نفسها من غيرة وبغض لخليفته علي خاصة ، ولأهل بيته عامّة ، كيف وقد عاش بنفسه أدْواراً من مواقفها وعداوتها لهم ، فكان يغضب حيناً ، ويتغير وجهه أحياناً ، ويحاول اقناعهم في كلّ مرّة بأنّ حبيب علي هو حبيب الله ، والذي يبغض عليّاً هو منافق يبغضهُ الله.

ولكن هيهات لتلك الأحاديث أن تغوص في أعماق تلك النّفوس التي ما عرفتْ الحقّ حقّاً إلاّ لفائدتها ، وما عرفت الصّواب صواباً إلاّ إذا صدر عنها.

ولذلك وقف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا عرف بأنّها هي الفتنةُ التي جعلها الله في هذه الأُمّة; ليبتليها بها كما ابتلى سائر الأُمم السّابقة ، قال تعالى :( ألم * أحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) (١) .

وقد حذّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُمّته منها في مرّات متعدّدة ، حتى قام في يوم من الأيام واتّجه إلى بيتها وقال : « ههنا الفتنة ، ههنا الفتنة حيث يطلع قرن الشيطان » ، وقد أخرج البخاري في صحيحه في باب ما جاء في بيوت

____________

(١) العنكبوت : ١ ـ ٢.

١٥٨

أزواج النبي ، قال : عن نافع ، عن عبد الله ( رضي الله عنه ) ، قال : قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيباً فأشار نحو مسكن عائشة فقال : « ههنا الفتنة ـ ثلاثاً ـ من حيث يطلع قرن الشيطان »(١) .

كما أخرج مسلم في صحيحه أيضاً عن عكرمة بن عمّار ، عن سالم ، عن ابن عمر قال : خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بيت عائشة ، فقال : « رأس الكفر من ههنا من حيث يطلعُ قرنُ الشيطان »(٢) .

ولا عبرة بالزّيادة التي أضافوها بقولهم : يعني المشرق ، فهي واضحة الوضع; ليخفّفوا بها عن أم المؤمنين ، ويبعدوا هذه التهمة عنها.

وقد جاء في « صحيح البخاري » أيضاً ، قال : لما سارَ طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة ، بعث علي عمّار بن ياسر وحسن بن علي ، فقدما علينا الكوفة فصعدا المنبر ، فكان الحسنُ بن علي فوق المنبر في أعلاه ، وقام عمّار أسفل من الحسن فاجتمعنا إليه ، فسمعتُ عمّاراً يقول : إن عائشة قد سارت إلى البصرة ، ووالله إنّها لزوجة نبيّكمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدنيا والآخرة ، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلَم إيّاه تطيعون أمْ هي(٣) .

الله أكبر ، فهذا الخبر يدلّ ـ أيضاً ـ أنّ طاعتها معصية لله ، وفي معصيتها هي والوقوف ضدّها طاعةً لله.

كما نلاحظ أيضاً في هذا الحديث أنّ الرواة من بني أُميّة أضافوا عبارة

____________

(١) صحيح البخاري ٤ : ٤٦ كتاب الخمس ، باب ما جاء في بيوت أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ٤ : ٤٦.

(٢) صحيح مسلم ٨ : ١٨١ ، كتاب الفتن وأشراط الساعة ، باب الفتنة من المشرق.

(٣) صحيح البخاري ٨ : ٩٧ كتاب الفتن.

١٥٩

« والآخرة » ، في : ( أنها لزوجة نبيّكم في الدنيا والآخرة ) ليموّهوا على العامّة بأنّ الله غفر لها كلّ ذنب اقترفتْهُ ، أدخلها جنّته ، وزوجها حبيبه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلاّ من أين عَلِمَ عمَّار بأنّها زوجته في الآخرة؟

وهذه هي آخر الحيل التي تفطّن لها الوضّاعون من الروّاة في عهد بني أُميّة ، عندما يجدون حديثاً جرى على ألسنة النّاس فلا يمكنهم بعدُ نكرانه ولا تكذيبه ، فيعمدون إلى إضافة فقرة إليه أو كلمة أو تغيير بعض ألفاظه; ليخفّفوا من حدّته أو يُفْقدوه المعنى المخصوص له ، كما فعلوا ذلك بحديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » الذي أضافوا إليه : وأبو بكر أساسها ، وعمر حيطانها ، وعثمان سقفها!!

وقد لا يخفى ذلك على الباحثين المنصفين ، فيبطلون تلك الزيادات التي تدلّ في أغلب الأحيان على سخافة عقول الوضّاعين ، وبُعدهم عن حكمة ونور الأحاديث النبويّة ، فيلاحظون أنّ القول بأنّ أبا بكر أساسها ، معناه أنّ علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّه من علم أبي بكر ، وهذا كفْرٌ. كما أنّ القول بأنّ عمر حيطانها ، فمعناه بأنّ عمر يمنع الناس من الدخول للمدينة ، أعني يمنعهم من الوصول للعلم ، والقول بأن عثمان سقفها ، فباطل بالضرورة; لأنه ليس هناك مدينة مسقوفة وهو مستحيل.

كما يلاحظون هنا بأنّ عمّاراً يقسم بالله على أنّ عائشة زوجة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدنيا والآخرة ، وهو رجم بالغيب ، فمن أين لعمّار أن يقسم على شيء يجهله؟ هل عنده آية من كتاب الله ، أم هو عهد عهده إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

١٦٠