فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر0%

فاسألوا اهل الذكر مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 484

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف: الدكتور محمد التيجاني السماوي
تصنيف:

الصفحات: 484
المشاهدات: 60036
تحميل: 4761

توضيحات:

فاسألوا اهل الذكر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 484 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60036 / تحميل: 4761
الحجم الحجم الحجم
فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف:
العربية

( وَيَوْمَ حُنَيْن إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً ) ، من كتاب المغازي.

إنّ أبا قتادة قال : لمّا كان يوم حُنين نظرتُ إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلا من المشركين ، وآخر من المشركين يختله من وراءه ليقتُلَهُ ، فأسرعتُ إلى الذي يختله فرفع يده ليضربني ، فضربت يده فقطعتها ، ثمّ أخذني فضمّني ضمّاً شديداً حتّى تخوّفتُ ، ثمّ ترك فتحلّل ودفعته ثمّ قتلته ، وانهزم المسلمون وانهزمتُ معهم ، فإذا بعمر بن الخطّاب في النّاس ، فقُلت له : ما شأن النّاس؟ قال : أمرُ اللّهِ ( صحيح البخاري ٥ : ١٠١ ).

عجيبٌ والله أمر عمر بن الخطّاب الذي هو معدود عند أهل السنّة من أشجع الصّحابة إذا لم يكن أشجعهم على الإطلاق ، لأنّهم يروون بأنّ الله أعزّ به الإسلام ، وأنّ المسلمين لم يجهروا بالدعوة إلاّ بعد إسلامه!!

وقد أوقفنا التاريخ على الصحيح والواقع ، وكيف أنّه ولّى دبره وهرب من المعركة يوم أُحد ، كما ولّى دبره وفرّ هارباً يوم خيبر عندما أرسله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مدينة خيبر ليفتحها ، وأرسل معه جيشاً فانهزم هو وأصحابه ورجعوا يجبّنونه ويجبّنهم(١) ، كما ولّى دبره وهرب يوم حنين مع الهاربين ، أو لعلّه كان أوّلَ الهاربين ، وتبعه النّاس إذ كان هو أشجعهم ، ولذلك نرى أبَا قتادة يلتفت من بين أُلوف المنهزمين إلى عمر بن الخطّاب ويسأله كالمستغرب : ما شأن النّاس؟ ولم يكتف عمر بن الخطّاب بهروبه من الجهاد ،

____________

(١) مستدرك الحاكم ٣ : ٣٧ ، كما أخرجه الذهبي في تلخيصه وقال عنه : صحيح ، كنز العمال للمتقي الهندي ١٠ : ٤٦٢ وقال : « ش البزار ، وسنده حسن » ، المصنّف لابن أبي شيبة ٨ : ٥٢٥ وسنده حسن.

٢٠١

وترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسط الأعداء من المشركين ، حتّى يموّه على أبي قتادة بأنّه أمرُ الله!

فهل أمر اللّهُ عمر بن الخطّاب بالفرار من الزّحف؟ أم أنّه أمرهُ بالثّبات والصبر في الحروب وعدم الفرار؟ فقد قال له ولأصحابه :( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ ) (١) .

كما أخذ اللّهُ عليه وعلى أصحابه عهداً بذلك ، فقد جاء في الذكر الحكيم :( وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْؤُولا ) (٢) .

فكيف يُولّي أبو حفص الدّبر من الزّحف ويدّعي أنّ ذلك أمر الله؟؟

فأين هو من هذه الآيات البيّنات ، أم على قلوب أقفالها؟!

ولسنا هنا بصدد البحث عن شخصية عمر بن الخطّاب ، فسوف نُفرِدُ له باباً خاصّاً به ، ولكنّ حديث البخاري مثيرٌ لم يترك لنا مندوحة من هذه الملاحظة السّريعة.

والذي يهمّنا الآن هو شهادة البخاري بأنّ الصحابة على كثرة عددهم ولّوا مُدبرين يوم حنين ، والذي يقرأ كتب التاريخ في تلك الحروب والغزوات يظهر له العجب العجاب!!

وإذا كان أمرُ الله لا يطاع من أكثر الصحابة ـ كما عرفنا من خلال الأبحاث السّابقة ـ فلا يُستغرب منهم الإعراض عن أوامر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو حىٌّ معهم ، أمّا أوامره بعد وفاته ـ بأبي هو وأمّي ـ ، وما لقيت منهم من

____________

(١) الأنفال : ١٥.

(٢) الأحزاب : ١٥.

٢٠٢

اهمال وتبديل فحدّث ولا حرج.

الصحابة تجاه أوامر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته

ولنبدأ بالأوامر التي أمر بهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته ، والتي قُوبلتْ بالتمرّد والعصيان من قبل هؤلاء الصّحابة.

وسوف لن نتحدّثْ إلاّ بما أخرجه البخاري في صحيحه روماً للاختصار ، وضارباً على بقية صحاح أهل السنّة صفحاً ، وإلاّ فإنّ فيها أضعاف الأضعاف ، وبعبارات أكثر وضوحاً ، وأكثر تحدّياً.

أخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثالث في باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحروب من كتاب الشروط ، وبعد ما أورد البخاري قصة صلح الحديبية ، ومعارضة عمر بن الخطّاب لما وافق عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشكّه فيه حتّى قال له صراحة : أَلسْتَ نبيّ الله حقّاً؟ إلى آخر القضيّة. قال البخاري : فلمّا فرغ من قضية الكتاب قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه : « قوموا فانحروا ثمّ أحلقوا » ، قال : فوالله ما قام منهم رجلٌ حتّى قال ذلك ثلاث مرّات ، فلم يقم منهم أحدٌ ، فدخل على أُمّ سلمة فذكر لها ما لقي من النّاس. ( صحيح البخاري ٣ : ١٨٢ )!!

ألا تعجب أيّها القارئ من تمرّد الصّحابة وعصيانهم تجاه أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورغم تكرار الأمر ثلاث مرات فلم يستجب له منهم أحد؟!

ولا بدّ هنا من ذكر محاورة دارت بيني وبين بعض العلماء في تونس بعد صدور كتابي « ثمّ اهتديت » ، وأنّهم قرأوا فيه تعليقي على صلح الحديبية ، فعلّقوا بدورهم على هذه الفقرة بقولهم : إذا كان الصّحابة قد عصوا أمر

٢٠٣

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنحر والحلق فلم يمتثل لأمره أحد ، فإنّ عليّاً بن أبي طالب كان معهم ولم يمتثل هو الآخر لأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

وأجبتهم بما يلي :

أولا : لم يكن علي بن أبي طالب معدوداً من الصّحابة ، فهو أخ رسول الله وابن عمّه وزوج ابنته وأبو ولده ، وقد كان علىّ مع رسول الله في جانب وبقية النّاس في جانب ، فإذا قال الرّاوي في صحيح البخاري بأنّ النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرَ أصحابه بالنحر والحلق ، فإنّ أبا حسن سلام الله عليه لم يكن معدوداً ضمنهم ، فهو بمنزلة هارون من موسى ، ألا ترون أنّ الصلاة على محمّد لا تكون كاملة إلاّ إذا أُضيف إليها الصلاة على آله ، وعلي هو سيّد آل محمّد بدون منازع ، فأبو بكر وعمر وعثمان وكلّ الصّحابة لا تصحُّ صلاتهم إلاّ إذا كان فيها ذكر علي بن أبي طالب مع محمّد بن عبد الله.

ثانياً : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان دائماً يُشركُ عليّاً أخاه في هَدْيهِ ، كما وقع ذلك في حجّة الوداع عندما قدم علىٌّ من اليمن ، وسأله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بماذا أهللتَ يا علي »؟ فقال : « بما أهلّ رسول الله » ، فأشركه النبي في هديه ، وقد ذكر هذه القضيّة كلّ المحدّثين والمؤرّخين ، فلا بدّ أن يكون شريكه يوم الحديبية ـ أيضاً ـ.

ثالثاً : إنّ عليّ بن أبي طالب هو الذي كتب الصُّلح يوم الحديبية بإملاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يعترض عليه في شيء طيلة حياته ، لا بمناسبة الحديبية ولا في غيرها ، ولم يسجّل التاريخ بأنّهعليه‌السلام تأخّر عن أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عصاه مرّة واحدة ـ حاشاه ـ ، ولا فرّ مرّة من الزحف وترك

٢٠٤

أخَاه وابن عمّه بين الأعداء ، بل كان دائماً يفديه بنفسه ، والخلاصة أنّ عليّاً ابن أبي طالب هو كنفس النّبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذلك كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « لا يحلّ لأحد أن يجنُب في المسجد إلاّ أنا وعلي »(١) .

واقتنع أغلب المحاورين بما أوردْتُه ، واعترفوا بأنّ عليّ بن أبي طالب ما خالف في حياته أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثامن في الباب كراهية الخلاف من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة :

عن عبد الله بن عباس قال : لمّا احتضر النبىُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب ، قال : « هلمّ أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده » ، فقال عمر : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غَلبهُ الوجْع ، وعندكم القرآنُ فحسبُنا كتاب الله ، واختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتاباً لن تضلّوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عُمر.

فلمّا أكثروا اللّغط والاختلاف عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : « قوموا عنّي » ، فكان ابن عباس يقول : إنّ الرّزية كلّ الرزّية ما حال بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. ( صحيح البخاري ٨ : ١٦١ و ١ : ٣٧ و ٥ : ١٣٨ ).

____________

(١) سنن الترمذي ٥ : ٣٠٣ وقال : « حديث حسن » ، تفسير القرطبي ٥ : ٢٠٧ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ١٤٠ ، سير أعلام النبلاء ١٣ : ٢٧٢ ، السنن الكبرى للبيهقي ٧ : ٦٦ ، فتح الباري لابن حجر ٧ : ١٣ ، وفي أجوبة المصابيح قال ابن حجر : « وورد لحديث أبي سعيد شاهد نحوه من حديث سعد بن أبي وقاص أخرجه البزار من رواية خارجة بن سعد عن أبيه ، ورواته ثقات ».

٢٠٥

وهذا أمرٌ آخر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقابله الصّحابة بالرفض والعصيان ، وبانتقاص النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

مع الملاحظة بأنَّ عمر بن الخطاب قال بحضرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لمّا طلب منهم إحضار الكتف والدّواة ليكتب لهم الكتاب الذي يمنعهم من الضّلالة قال : إنّ رسول الله يهجُرُ ، بمعنى يهذي ـ والعياذ بالله ـ.

ولكنّ البخاري هذّب تلك العبارة وأبدلها بـ « غلبه الوجع »; لأنّ قائلها عمر بن الخطّاب!! وتراه إذا أهمل اسم عمر في الرواية قال : فقالوا : هجر رسول الله ، وهذه أمانة البخاري في نقل الحديث ( وسوف نعقد له باباً خاصّاً ).

وعلى كلّ حال ، فإنّ أكثر المحدّثْين والمؤرّخين ذكروا بأنّ عمر بن الخطاب قال : إنّ رسول الله يهجرُ(١) ، وتبعه كثير من الصّحابة فقالوا مقالته

____________

(١) ذكر ذلك كلّ من الغزالي في سرّ العالمين : ٤٠ ، سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص : ٦٥ ، ابن الأثير في النهاية ٥ : ٢٤٥ ، الجوهري في السقيفة وفدك ، كما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦ : ٥١ ، ابن تيمية في منهاج السنة ٦ : ٢٤ ، ٣١٥ تحقيق محمّد رشاد سالم.

لكن صاحب كتاب كشف الجاني : ١٣٤ يضع رأسه في الرمل كالنعامة عند الوصول إلى هذ النقاط الخطرة ، والتي تقلب الصورة المصطنعة عنده وعند غيره لعمر بن الخطّاب ، فأخذ كعادته بالاستهزاء والسخرية ، والتهجّم على المؤلّف وعموم الشيعة ، ونسبته عدم العقل إليهم ، مع أنّ إمامه ابن تيمية يقرّ بذلك ويعترف بأنّ الذي قالها عمر بن الخطّاب!! فليس أمام عثمان الخميس إلاّ خيارين وأحلاهما مرٌّ وهو : إمّا القول بأنّ عمر بن الخطاب لم يقل ذلك ـ وهو غير صحيح ـ وفي ذلك ردّ على شيخه ابن تيمية!! وإمّا القول بأنّ عمر بن الخطّاب

٢٠٦

بحضرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولنا أن نتصوّر ذلك الموقف الرّهيب ، وتلك الأصوات المرتفعة ، وكثرة اللّغط والاختلاف بحضرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومهما تكن الرّواية معبّرة فلا تعبّر في الواقع إلاّ قليلا عن المشهد الحقيقي ، كما إذا قرأنا كتاباً تاريخياً يحكي حياة موسىعليه‌السلام ، فمهما يكن الكتاب معبّراً فلا يبلغ تعبير الفيلم السينمائي الذي نُشاهده عياناً.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه السّابع في باب ما يجوز من الغضب والشدّة لأمر الله عزّ وجلّ من كتاب الأدب ، قال :

احتجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجيرة مُخصّفةً أو حصيراً ، فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُصلّي إليها ، فتبعه رجالٌ وجاؤوا يُصلّون بصلاته ، ثم جاؤوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم فلم يخرج إليهم ، فرفعوا أصواتهم وحصبوا البابَ ، فخرج إليهم مغضباً فقال لهم : « ما زال بكم صنعكم حتى ظننتُ أنّه سيكتب عليكم ، فعليكم بالصّلاة في بيوتكم ، فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة ». ( صحيح البخاري ٧ : ٩٩ و ٢ : ٢٥٢ ).

ومع كلّ الأسف فإنّ عمر بن الخطّاب خالف أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجمع النّاس على صلاة النّافلة أيام خلافته ، وقال في ذلك : إنّها بدعة ونعم البدعة(١) ، وتبعه على بدعته أكثر الصّحابة الذين كانوا يرون رأيّه ، ويُؤيّدونه

____________

قال ذلك ، وفي ذلك تجريح بعبقريه العظيم واسطورته المصطنعة عمر بن الخطّاب!! فأيّهما اختاره كان مرّاً!

(١) صحيح البخاري ٢ : ٢٥٢ ، كتاب صلاة التراويح.

٢٠٧

في كلّ ما يفعل ويقول ، وخالفه علي بن أبي طالب وأهل البيت الذي لا يعملون إلاّ بأوامر سيّدهم رسول الله صلّى الله عليه وعليهم ، ولا يبغون عنها بدلا ، وإذا كانت كلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النّار ، فما بالك بالّتي جُعلتْ لتُخالف أحكام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !!

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الخامس في باب غزوة زيد بن حارثة من كتاب المغازي ، عن ابن عمر قال :

أمَّرَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُسامة على قوم فطعنوا في إمارته ، فقال : « إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتُم في إمارة أبيه من قبله ، وأيم الله لقد كان خليقاً للإمارة ، وإن كان من أحبّ النّاس إلَىَّ ، وإنّ هذا لمن أحبّ النّاس إلىَّ بعده » ( صحيح البخاري ٥ : ٨٤ ).

وهذه القصّة ذكرها المؤرّخون بشيء من التفصيل ، وكيف أنّهم أغضبوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى لعن المتخلّفين عن بعث أُسامة ، وهو القائد الصغير الذي لم يبلغ عمره سبعة عشر عاماً ، وقد أمّره النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على جيش فيه أبو بكر ، وعمر ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وكلّ وجوه قريش ، ولم يعيّن في ذلك الجيش علي بن أبي طالب ، ولا أحداً من الصّحابة الذين كانوا يتشيّعون له.

ولكن البخاري دائماً يقتصر الحوادث ويبتر الأحاديث حفاظاً على كرامة السّلف الصّالح من الصّحابة!! ، ومع ذلك ففيما أخرجه كفاية لمن أرادَ الوصول إلى الحقّ.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الثّاني في باب التنكيل لمن أكثر

٢٠٨

الوصال من كتاب الصوم ، عن أبي هريرة قال :

نهى رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الوصال في الصّوم ، فقال له رجلٌ من المسلمين : إنّك تواصل يا رسول الله! قال : « وأيّكم مثلي؟ إنّي أبيت يُطعمني ربّي ويسقين » ، فلمّا أبوا أن ينتهوا عن الوصال ، واصل بهم يوماً ثمّ يوماً ثمّ رأوا الهلال ، فقال : « لو تأخّر لزدْتكم » ، كتنكيل لهم حينَ أبوا أن ينتهوا. ( صحيح البخاري ٢ : ٢٤٣ ).

مرحى لهؤلاء الصّحابة الذين ينهاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الشيء فلا ينتهوا ، ويكرّر لهم نهيه فلا يسمعوا! أفلم يقرأوا قول الله تعالى :( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللّهَ إنَّ اللّهَ شَدِيدُ العِقَابِ ) (١) .

ورغم تهديد الله سبحانه لمن خالف رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعقاب الشّديد فإنّ بعض الصّحابة لا يُقيمون لتهديده ووعيده وزناً.

وإذا كان حالهم على هذا الوصف فلا شكّ في نفاقهم ولو تظاهروا بكثرة الصّلاة والصّيام والتشدّد في الدّين ، إلى درجة أنّهم يحرّموا نكاح نسائهم لئلاّ يروحوا ومذاكيرهم تقطر منيّاً! ويتنزّهون عمّا يفعله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !! كما تقدّم في الأبحاث السّابقة.

وأخرج البخاري في صحيحه من جزئه الخامس في باب بعث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة من كتاب المغازي ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه قال :

بعث النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام ،

____________

(١) الحشر : ٧.

٢٠٩

فلم يُحسنُوا أن يقولوا : أسلمنا ، فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا ، فجعل خالد يقتُل منهم ويأسر ، ودفع إلى كلّ رجل منّا أسره ، حتّى إذا كان يومٌ أمر خالدٌ أن يقتل كلّ رجل منّا أسيره ، فقلتُ : والله لا أقتل أسيري ، ولا يقتُلُ رجلٌ من أصحابي أسيره حتّى قدمنا على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فذكرناه له ، فرفع النبىُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده فقال : « اللهمَّ إنّي أبرأُ إليك ممّا صنع خالد » مرّتين!! ( صحيح البخاري ٥ : ١٠٧ و ٨ : ١١٨ ).

ذكر المؤرّخون هذه الحادثة بشيء من التفصيل ، وكيف ارتكب خالد بن الوليد هذه المعصية الشنيعة ، هو وبعض الصحابة الذين أطاعوه ولم يمتثلوا أوامر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تحريم قتل من أسلم ، إنّها من أكبر المعاصي التي أراقت دماء بريئة ، ولأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره بدعوتهم للإسلام ولم يأمُره بقتالهم!!

ولكنّ خالد بن الوليد تغلّبتْ عليه دعوى الجاهلية ، وأخذته الحمية الشيطانية; لأنّ بني جذيمة قتلوا عمّه « الفاكه بن المغيرة » أيام الجاهلية ، فغدر بهم ، وقال لهم : ضعُوا أسلحتكم فإنّ الناس قد أسلموا ، ثمّ أمر بهم فكُتّفوا وقتل منهم خلقاً كثيراً.

ولمّا علم بعض الصّحابة المخلصين نوايا خالد هربوا من الجيش والتحقوا بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعادوا عليه الخبر ، فتبرّأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فعله ، وأرسل علي بن أبي طالب فودّى لهم الدّماء والأموال.

ولمعرفة هذه القضية بشيء من التفصيل لا بأس بقراءة ما كتبهُ عباس محمود العقاد في كتابه « عبقرية خالد » إذ قال العقّاد بالحرف في صفحه ٤٥ ما يلي :

٢١٠

فبعد فتح مكّة ، توجّهتْ عنايتهعليه‌السلام إلى تطهير البوادي المحيطة بها من عبادة الأصنام ، فأرسل السرايا إلى قبائلها لدعوتها والاستيثاق من نيّاتها ، ومنها سريّة خالد إلى بني جذيمة في نحو ثلاثمائة وخمسين من المهاجرين والأنصار وبني سليم ، أرسلها دعاة ولم يأمرهم بقتال ، وكان بنو جذيمة شرّ حىّ في الجاهلية يسمّون لعقة الدم ، ومن قتلاهم الفاكه بن المغيرة وأخوه عمّا خالد بن الوليد ووالد عبد الرحمن بن عوف ، ومالك بن الشريد وإخوته الثلاثة من بني سليم في موطن واحد ، وغير هؤلاء من قبائل شتّى.

فلمّا أقبل عليهم خالد وعلموا أنّ بني سليم معه ، لبسوا السّلاح وركبوا للحرب وأبوا النزول ، فسألهم خالد : أمسلمون أنتم؟ فقيل : إنّ بعضهم أجابه بنعم ، وبعضهم أجابه : صبأنا صبأنا! أي تركنا عبادة الأصنام ، ثمّ سألهم : فما بال السّلاح عليكم؟ قالوا : إنّ بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم فأخذنا السّلاح! فناداهم : ضعوا السّلاح فإنّ الناس قد أسلموا.

فصاح بهم رجلٌ منهم يقال له جحدم : ويلكم يا بني جذيمة إنّه خالد ، والله ما بعد وضع السّلاح إلاّ الأسار ، وما بعد الأسار إلاّ ضرب الأعناق ، والله لا أضع سلاحي أبداً ، فما زالوا به حتّى نزع سلاحه في من نزع وتفرّق الآخرون.

فأمر خالد بهم فكتّفوا وعرضهم على السّيف ، فأطاعه في قتلهم بنو سليم ومن معه من الأعراب ، وأنكر عليه الأنصار والمهاجرون أن يقتل أحداً غير مأمور من النّبيعليه‌السلام بالقتال ، ثمّ انتهى الخبر إلى النّبي ، فرفع يديه إلى السّماء وقال ثلاثاً : « اللهمّ إنّي أبرأُ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد » وبعث بعلي بن

٢١١

أبي طالب إلى بني جذيمة ، فودّى دماءهم وما أصيب من أموالهم

وقد عمّ النّكير على الحادث بين أجلاّء الصحابة ، من حضر منهم السَّرية ومن لم يحضرها ، واشتدّ عبد الرحمن بن عوف حتى رمى خالداً بقتل القوم عمداً ليدرك ثار عميّه « انتهى كلام العقّاد.

نعم ، هذا ما ذكره العقّاد بالحرف في كتابه عبقرية خالد ، والعقّاد كغيره من مفكّري أهل السنّة بعد ما يورد القصّة بكاملها يلتمسُ أعذاراً باردة ملفّقة لخالد بن الوليد ، لا تقوم على دليل ولا يقبلها عقل سليم ، وليس للعقّاد عُذرٌ سوى أنّه يكتب « عبقرية خالد » ، فكلّ ما جاء به من أعذار لخالد فهي واهية كبيت العنكبوت ، والذي يقرأها يشعر بسخافة الدفاع ووهنه.

فكيف وقد شهد هو بنفسه في كلامه بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسلهم دعاة ولم يأمرهم بقتال؟! وأعترف بأنّ بني جذيمة نزعوا سلاحهم بعد ما لبسوه عندما خدعهم خالد بقوله لأصحابه : ضعوا السّلاح فإنّ الناس قد أسلموا؟! واعترف ـ أيضاً ـ بأنّ جحدم الذي رفض نزع السّلاح ، وحذّر قومه بأنّ خالداً سيغدر بهم بقوله : ويلكم يا بني جذيمة إنّه خالد ، والله ما بعد وضع السّلاح إلاّ الأسار ، وما بعد الأسار إلاّ ضرب الأعناق ، والله لا أضع سلاحي أبداً؟!! وقال العقّاد : بأنّ بني جذيمة ما زالوا به حتّى نزع سلاحه ، وهذا ما يدلُّ على إسلام القوم وحسن نيّتهم.

فإذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسلهم دُعاة ولم يأمرهم بقتال ، كما شهدتَ يا عقّاد ، فما هو عذر خالد لمخالفة أوامر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ هذه عقدة لا أحسبك تحلّها يا عقّاد.

٢١٢

وإذا كان القوم قد نزعوا السّلاح ، وأعلنوا إسلامهم ، وغلبوا صاحبهم الذي أقسم أن لا يضع سلاحه حتّى أقنعوه كما اعترفت به يا عقّاد ، فما هو عذر خالد للغدر بهم وقتلهم صبراً وهم عُزّل من السلاح؟

وقد قلتَ بأنّ خالد أمر بهم فكُتّفوا وعرضهم على السّيف ، وهذه عقدة أُخرى ما أظنّك قادراً على حلّها يا عقّاد ، وهل الإسلام أمر المسلمين بقتل من لم يقاتلهم على فرض أنّهم لم يُعلنوا إسلامهم ، كلا فهذه حجّة المستشرقين أعداء الإسلام والتي يروّجونها اليوم.

ثمّ اعترفت مرّةً أُخرى بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأمره بقتال القوم ، إذ قُلتَ : بأنّ المهاجرين والأنصار أنكروا على خالد أن يقتل أحداً غير مأمور من النّبيعليه‌السلام بالقتال ، فما هو عُذرك ـ يا عقّاد ـ في التماس العذر لخالد؟

ويكفينا ردّاً على العقّاد ، أنّه أبطل أعذاره بنفسه وناقضها بأكلمها حين اعترف بقوله :

« وقد عمّ النّكير على الحادث بين أجلاّء الصحابة ، من حضر منهم السرية ومن لم يحضرها » ، فإذا كان أجلاّء الصّحابة شدّدوا النّكير على خالد حتّى هربوا من جيشه ، واشتكوه للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذا كان عبد الرحمن بن عوف قد اتّهم خالداً بقتل القوم عمداً ليدرك ثأر عمّيْه كما شهد بذلك العقّاد ، وإذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد رفع يديه إلى السماء ، وقال ثلاث مرّات : « اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد » ، وإذا كان النّبي بعث بعليّ ومعه أموالٌ ، فودّى لبني جذيمة دماءهم وما أُصيب من أموالهم حتى استرضاهم ـ كما شهد العقاد ـ ; فكلّ هذا يدلّ على أنّ القوم أسلموا ، ولكنّ خالد

٢١٣

ظلمهم واعتدى عليهم!!

فهل من سائل يسأل العقّاد الذي يحاول جهده تبرير فعل خالد : إن كان هو أعلم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي تبرّأ إلى الله ثلاثاً من فعله؟ أو من أجلاّء الصّحابة الذين أنكروا عليه؟ أو من الصّحابة الذين حضروا الواقعة ، وهربوا من السّرية لهول ما رأوه من صنيعه المُنكر؟ أو من عبد الرحمن بن عوف الذي كان معه في السّرية ، وهو لا شكّ أعرف بخالد من العقّاد ، والذي اتهمه بقتل القوم عمداً ليدرك ثأرَ عمَّيه؟

قاتل الله التعصّب الأعمى ، والحمية الجاهلية التي تقلب الحقائق!

ومهما اختصر البخاري القضية في أربعة سطور ، فإنّ فيما أورده كفاية لإدانة خالد ، وبقية الصّحابة الذي أطاعوه في قتل المسلمين الأبرياء ، والذين ذكرهم العقاد بقوله : فأطاعه في قتلهم بنو سليم ومن معه من الأعراب.

ولكنّ البخاري لا يستثني من الصحابة الذين أطاعوه إلاّ اثنين أو ثلاثة ، هربوا من الجيش ورجعوا للنبي يشتكون خالد ، فلا يمكن لك أن تقنعنا ـ يا عقّاد ـ بأنّ المهاجرين والأنصار ـ وعددهم ثلاثمائة وخمسون كما صرّحت أنت بذلك ـ لم يطيعوا خالداً في قتل القوم ، وهربوا كلّهم من الجيش!! فهذا لا يصدّقه أحدٌ من الباحثين.

ولكنّها محاولة منك للحافظ على كرامة السّلف الصّالح من الصّحابة ، وستر الحقائق بأىّ ثمن ، وجاء الوقت لإزاحة السّتار ومعرفة الحقّ.

وكم لخالد بن الوليد من مجازر شنيعة حدّثنا عنها التاريخ ، خصـوصاً يوم البـطاح عندما انتدبه أبو بكر على رأس جيش كبير مؤلّـف من

٢١٤

الصّـحابة الأولين ، فغدر ـ أيضاً ـ بمالك بن نويرة وقومه ، ولمّا وضعوا السّلاح أمر بهم فكُتّفوا وضرب أعناقهم صبراً ، ودخل بزوجة مالك ليلى أم تميم في نفـس الليلة التي قتل فيها بعلها ، ولمّا وقف عمر بن الخـطاب يقتص منه وقال له : قتلت امرئاً مسلماً ثمّ نزوتَ على زوجته!! والله لأرجُمنّك بأحجارك يا عدوّ الله! وقف أبو بكر إلى جانب خالد وقال لعمر : إرفع لسانك عن خالد فإنّه تأوّل فأخطأ(١) .

وهذه قضية أُخرى يطول شرحها ويقبحُ عرضُها ، فكم من مظلوم يهضم حقّه; لأنّ ظالمه قوىٌّ عزيز ، وكم من ظالم يُنصَرُ ظلمه وباطله; لأنّه غنىٌّ ومقرّبٌ للجهاز الحاكم!! فهذا البخاري عندما يستعرض قصّة بنو جذيمة يبترها بتراً ويقول : بعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خالداً إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام ، فلم يُحسنوا أن يقولوا أسلمنا ، فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا.

فهل كان بنو جذيمة فرس أم أتراك أم هنود وألمان ، حتى لا يحسنوا أن يقولوا أسلمنا يا بخاري؟! أم هم من القبائل العربية التي نزل القرآن بلغتهم؟ ولكن التعصّب الأعمى والمؤامرة الكبرى التي حيكت للحفاظ على كرامة الصحابة هي التي جعلت البخاري يقول مثل هذا القول ليبرّر فعل خالد بن الوليد!!

وهذا العقّاد ـ أيضاً ـ يقول : فسألهم خالد أمسلمون أنتم؟ ثم يقول العقّاد :

____________

(١) راجع بألفاظه المختلفة : تاريخ الطبري ٢ : ٥٠٤ ، أُسد الغابة ٤ : ٢٩٥ ، البداية والنهاية ٦ : ٣٥٥ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٧ : ٢٠٦ ، تاريخ خليفة بن الخياط ٦٨ ، الإصابة لابن حجر ٥ : ٥٦٠.

٢١٥

فقيل : إنّ بعضهم أجابه بنعم ، وبعضهم أجابه صبأنا صبأنا وكلمة « فقيل » تدلّ دلالة واضحة على أنّ القوم يتمسكون بأيّ شيء قد يوهمون به النّاس ليعذروا خالد بن الوليد ، لأنّ خالد بن الوليد هو سيف الحاكم المسلول ، وهو المدافع عن الخلافة المغصوبة ، وهو وأتباعه يُمثلون القوّة الضّاربة لكلّ من تحدِّثه نفسه بالخروج والتمرّد عمّا أبرمه أبطال السقيفة يوم وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !! فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.

معاملة الصحابة لأوامر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاته

تضييعهم سنّة النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

أخرج البخاري في جزئه الأوّل في باب تضييع الصّلاة عن غيلان قال أنس بن مالك : ما أعرفُ شيئاً ممّا كان على عهدِ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! قيل : الصّلاةُ ، قال : أليسَ ضيّعتُم ما ضيّعتُم فيها.

وقال : سمعت الزهري يقول : دخلتُ على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي ، فقلتُ له : ما يُبكيك؟ قال : لا أعرف شيئاً ممّا أدركتُ إلاّ هذه الصّلاة ، وهذه الصّلاة قد ضُيّعَتْ. ( صحيح البخاري ١ : ١٣٤ ).

كما أخرج البخاري في جزئه الأوّل في باب فضل صلاة الفجر في جماعة قال : حدّثنا الأعمش قال : سمعت سالماً قال : سمعتُ أُمّ الدرداء تقولُ : دخل علىَّ أبو الدردَاء وهو مُغضَبٌ ، فقلت : ما أغضبك؟ فقال : واللّهِ ما أعرفُ من أُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً إلاّ أنّهم يصلّون جميعاً. ( صحيح البخاري ١ : ١٥٩ ).

وأخرج البخاري في جزئه الثاني في باب الخروج إلى المصلّى بغير

٢١٦

منبر ، عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلّى ، فأوّل شيء يبدأ به الصّلاة ، ثمّ بعد ذلك يعظ النّاس ، فلم يزل النّاس على ذلك حتّى خرجتُ مع مروان ، وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر ، فأراد أن يرتقي المنبر قبل أن يُصلّي ، فجذبتُ بثوبه ، فجذبني فارتفع فخطب قبل الصّلاة ، فقلت له : غيّرتم والله ، فقال : أبا سعيد قد ذهب ماتعلم ، فقلت : ما أعلَمُ والله خيرٌ ممّا لا أعلم ، فقال : إنّ الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصّلاة ، فجعلتها قبل الصّلاة. ( صحيح البخاري ٢ : ٤ ).

إذا كان الصحابة في عهد أنس بن مالك ، وعلى عهد أبي الدرداء ، وفي حياة مروان بن الحكم ، وهو عهد قريب جدّاً بحياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; يغيّرون سنن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويضيّعون كلّ شيء حتّى الصّلاة ـ كما سمعت ـ ، ويقلّبون سنن المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمصالحهم الخسيسة ، وهي أنّ بني أُمية اتخذوا سنّة سبّ ولعن علي وأهل البيت على المنابر بعد كلّ خطبة ، فكان أكثر النّاس في عيد الفطر والأضحى عندما تنتهي الصّلاة يتفرّقون ، ولا يحبّون الاستماع إلى الإمام يلعن عليّ بن أبي طالب وأهل البيت ، ولذلك عمد بنو أُميّة إلى تغيير سنّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقدّموا الخطبة على الصّلاة في العيدين; ليتسنّى لهم سبّ ولعن علي بمحضر المسلمين كافّة ، ويُرغِمُون بذلك أُنوفَهم ، وعلى رأس هؤلاء معاوية بن أبي سفيان ، فهو الذي سنَّ لهم تلك السنّة التي أصبحتْ عندهم من أعظم السنن التي يتقرّبون بها إلى الله ، حتى إنّ بعض المؤرّخين حكى أنّ أحد أئمّتهم أتَمَّ خطبتَه في يوم الجمعة ، ونَسيَ لعن علي وهمّ بالنزول للصّلاة ، فإذا النّاس يتصايحون من كلّ جانب : تركت السُنّة! نسيت السُنّة! أين هي السنّة؟!

٢١٧

نعم ، وللأسف فهذه البدعة التي ابتدعها معاوية بن أبي سفيان بقيت ثمانين عاماً متداولة على منابر المسلمين ، وبقيت آثارها حتّى اليوم ، ومع ذلك فأهل السنّة والجماعة يترضّون على معاوية وأتباعه ، ولا يطيقون فيه نقداً ولا تجريحاً بدعوى احترام الصّحابة؟!!

والحمد لله فإنّ الباحثين المخلصين من أُمّة الإسلام بدأوا يعرفون الحقّ من الباطل ، وبدأ الكثير منهم يتخلّص من عقدة الصّحابة التي ما كوَّنها إلاّ معاوية وأشياعه وأتباعه ، وأهل السنّة والجماعة بدأوا يفيقون لِهذا التناقض الشنيع ، في الوقت الذي يُدافعُون فيه عن الصّحابة أجمعين حتّى يلعنوا من انتقص واحداً منهم. وإذا قُلتَ لهم : إنّ لعنكم هذا يشمل معاوية بن أبي سفيان ، لأنّه سبّ ولعن أفضلُ الصّحابة على الإطلاق ، وهو يقصد بالطبع سبّ رسول الله الذي قال : « من سبّ علياً فقد سبّني ومن سبّني فقد سبّ الله »(١) .

____________

(١) تاريخ دمشق ٤٢ : ٥٣٣ ، الجامع الصغير للسيوطي ٢ : ٦٠٨ ح ٨٧٣٦ ، نظم درر السمطين : ١٠٥ ، وروي صدره فقط في المستدرك ٣ : ١٢١ وصحّحه ووافقه الذهبي على تصحيحه ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ١٣٣ ، مسند أحمد ٦ : ٣٢٣ ، عنه مجمع الزوائد ٩ : ١٣٠ وقال : « رجاله رجال الصحيح غير أبي عبد الله الجدلي وهو ثقة ».

وكذلك الحديث الذي مرّ عليك آنفاً في هامش ص ١٣١.

وقد سب معاوية بن أبي سفيان ومن تبعه علي بن أبي طالبعليه‌السلام فقد أخرج ابن ماجة في سننه عن سعد بن أبي وقاص قال : قدم معاوية في بعض حجاته فدخل عليه سعد ، فذكروا علياً ، فنال منه ، فغضب سعد وقال : تقول هذا لرجل سمعت

٢١٨

____________

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول فيه : « من كنت مولاه فعلي مولاه » ، وسمعته يقول : « أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي » ، وسمعته يقول : « لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله ».

وعلّق الشيخ الألباني عليه بقول : « فنال منه » ، أي نال معاوية من علي وتكلّم فيه «. راجع صحيح سنن ابن ماجة للألباني ١ : ٧٦ ح ١٢٠.

وقال الشيخ عبد الباقي في تعليقه على سنن ابن ماجه : « قوله ( فنال منه ) أي نال معاوية من علي ووقع فيه وسبّه » سنن ابن ماجه تحقيق الشيخ عبد الباقي ١ : ٨٢ ح ١٢١.

وقد مرّ عليك حديث أُم سلمة في ص ١٣١ عندما اعترضت عليهم بأنّ الرسول يسبّ فيهم لأنّهم يسبّون علياً ومن يحبه ، ورسول الله كان يحبه.

وأخرج مسلم في صحيحه ٤ : ١٤٩٠ كتاب الفضائل ، باب فضائل علي بن أبي طالب ، عن سعد بن أبي وقاص قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أن تسبّ أبا تراب؟

فقال : أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلن أسبّه سمعت رسول الله يقول له ، خلفه في بعض مغازيه فقال له علي : « يا رسول الله! خلفتني مع النساء والصبيان »؟ فقال له رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبوّة بعدي » وسمعته يقول يوم خيبر : « لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ، ويُحبُّه الله ورسوله ».

وعند ترتّب القضايا السابقة وهي : أن معاوية كان يسبّ علياً كما ذكر ذلك ابن ماجة بسند صحيح كما ذكر الألباني.

وأنّ سابّ علياً ، أو ساب من يحبّه يكون ساباً لله كما ذكر ذلك الألباني وصححه.

وأنّ الله يحبّ علياً كما هو واضح; لأنّ مسلماً أخرج ذلك في صحيحه.

فعند ترتيب هذه الأُمور يتّضح بلا أدنى شكّ أنّ معاوية بن أبي سفيان كان يسب الله سبحانه وتعالى ، وقد اتفق عموم المسلمين على أنّ ساب الله كافر سواء كان

٢١٩

عند ذلك يتلجلجون ويتلكّؤون في الجواب ، ويقولون أشياء إن دلّتْ على شيء فلا تدلّ إلاّ على سخافة العقول والتعصّب الأعمى المقيت ، يقول بعضهم مثلا : هذه أكاذيب من موضوعات الشيعة! والبعض الآخر يقول : هم صحابة رسول الله ، ولهم أن يقولوا في بعضهم ما شاؤوا ، أمّا نحنُ فلسنا في مُستَواهم لكي ننتقدهم!!

____________

سبه عن جد أو هزل. راجع المغني لابن قدامة ١٠ : ١١٣ ، المحلي لابن حزم ١١ : ٤١١ وغيرها.

إذن معاوية بن أبي سفيان يكون كافراً بنصّ أحاديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقواله.

وهذا الحكم على معاوية بن أبي سفيان لابدّ أن يلتزم به الشيخ الألباني طبقاً لمبانيه; لأنّه لم يلتزم بعدالة عموم الصحابة ، بل حكم على بعضهم بأنّهم في النار تبعاً لأحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد ذكر تحت حديث : « قاتل عمّار وسالبه في النار » ، أنّ أبا الغادية الجهني ( واسمه يسار بن سبع ) ، وهو صحابي ، وهو قاتل عمّار ، وبما أنّه صحّ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ قاتل عمار في النار ، فيكون أبو الغادية الجهني من أهل النار مع أنّه صحابي ، قال الشيخ الألباني في صحيحته ٥ : ١٨ ح ٢٠٠٨بعد تصحيحه حديث ( قاتل عمّار وسالبه في النار ، قال : « وأبو الغادية هو الجهني ، وهو صحابي كما أثبت ذلك جمع وجزم ابن معين أنّه قاتل عمار لا يمكن القول بأنّ أبا غادية القاتل لعمار مأجور لأنه قتله مجتهداً ، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « قاتل عمّار في النار » ، فالصواب أن يقال : إنّ القاعدة صحيحة إلاّ ما دلّ الدليل القاطع على خلافها ، فيستثنى ذلك منها ، كما هو الشأن هنا ، وهذا خبر من ضرب الحديث الصحيح بها » ومراد من القاعدة هي : إنّ جميع الصحابة مجتهدون ، والله راض عنهم الخ.

فهنا على كلام الشيخ الألباني يلزم إخراج معاوية من القاعدة والحكم بكونه من أهل النار ، وإلاّ يلزم ضرب الأحاديث الصحيحة والتي صحح جميعها بالقاعدة ، وهو لا يقبل ذلك بل يقول : بلزوم تقديم الحديث الصحيح على القاعدة!!

٢٢٠