فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر0%

فاسألوا اهل الذكر مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 484

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف: الدكتور محمد التيجاني السماوي
تصنيف:

الصفحات: 484
المشاهدات: 60049
تحميل: 4761

توضيحات:

فاسألوا اهل الذكر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 484 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60049 / تحميل: 4761
الحجم الحجم الحجم
فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف:
العربية

من القتالِ ، ليُعلمَ أيّنَا المَرينُ على قلبه ، والمُغَطَّى على بصره ، فأنا أبو الحسن قاتلُ جدّكَ وخالِكَ وأخيك شدخاً يوم بدر ، وذلك السيفُ معي ، وبذلك القلب أَلْقَى عدوّي ، ما استبدلتُ ديناً ، ولا استحدثتُ نبيّاً ، وإنّي لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعينَ ودخلتم فيه مُكْرهين »(١) .

« وأمّا قولُكَ إنّا بنو عبد مناف فكذلك نحنُ ، ولكن ليس أُميةَ كهاشم ، ولا حربٌ كعبد المُطّلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا المهاجرُ كالطليقُ ، ولا الصَّريحُ كاللّصيقِ ، ولا المحقُّ كالمُبطلِ ، ولا المؤمِنُ كالمُدْغِلِ ، ولبئْسَ الخَلَفُ خَلَفٌ يتتبعُ سلفاً هَوَى في نار جهنّم.

وفي أيدينا بعدُ فضل النبوّة التي أذلَلْنا بها العزيز ، ونعشنا بها الذّليل ، ولمّا أدخل الله العرَبَ في دينه أفواجاً ، وأسلمتْ له هذه الأُمّة طوعاً وكرهاً كنتم ممّن دخَلَ في الدِّين إمّا رغبةً وإمّا رهبةً ، على حين فازَ أهل السّبقِ بسبْقِهم ، وذهب المهاجرون الأوّلون بفضلهم »(٢) .

« وقد دعوتنا إلى حُكْمِ القرآن ولَسْتَ من أَهْلِهِ ، ولسنا إيّاكَ أَجبْنَا ، ولكِنَّا أجبنَا القرآن في حُكْمِهِ ، والسّلام »(٣) .

( وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ) (٤) .

____________

(١) نهج البلاغة ٣ : ١٢ ، الخطبة ١٠.

(٢) نهج البلاغة ٣ : ١٧ ، الخطبة ١٧.

(٣) نهج البلاغة ٣ : ٧٨ ، الخطبة ٤٨.

(٤) الإسراء : ٤٨.

٢٤١

الفصل الخامس

فيما يتعلّق بالخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان

إنّ أهل السنّة والجماعة ـ وكما قدّمنا ـ لا يسمحون بنقد وتجريح أىّ صحابي من صحابتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويعتقدون بعدالتهم جميعاً ، وإذا كتب أيّ مفكر حرّ ، وتناول بالنقد أفعال بعض الصّحابة ، فهم يُشنّعون عليه بل ويكفّرونه ولو كان من علمائهم.

وذلك ما حصل لبعض العلماء المتحرّرين المصريين وغير المصريين أمثال الشيخ محمود أبو ريّة صاحب « أضواء على السنّة المحمدية » ، وكتاب « شيخ المضيرة » ، وكالقاضي الشيخ محمّد أمين الأنطاكي صاحب كتاب « لماذا اخترت مذهب أهل البيت » ، وكالسيّد محمّد بن عقيل الذي ألّف كتاب « النصائح الكافية لمن يتولّى معاوية » ، بل ذهب بعض الكتّاب المصريين إلى تكفير الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر عندما أفتى بجواز التعبّد بالمذهب الجعفري.

وإذا كان شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية يُشنّع عليه لمجرّد اعترافَه بالمذهب الشيعي ، الذي ينتسِبُ لأُستاذ الأئمة ومعلّمهم جعفر الصادقعليه‌السلام ، فما بالك بمن اعتنق هذا المذهب بعد بحث وقناعة ، وتناول بالنقد المذهب الذي كان عليه وورثه من الآباء والأجداد؟! فهذا ما لا يسمح به أهل السنّة

٢٤٢

والجماعة ، ويعتبرونه مروقاً عن الدّين وخروجاً عن الإسلام ، وكأنّ الإسلام على زعمهم هو المذاهب الأربعة ، وغيرها باطل!!

إنّها عقول متحجّرة وجامدة ، تُشبهُ تلك العقول التي يحدّثنا عنها القرآن ، والتي واجهت دعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعارضته معارضة شديدة; لأنّه دعاهم إلى التوحيد وترك الآلهة المتعدّدة ، قال تعالى :( وَعَجِبُوا أنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً وَاحِداً إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) (١) .

ولكلّ ذلك فأنا واثقُ من الهجمة الشرسة التي سوف تُواجهني من أُولئك المتعصّبين الذين جعلوا أنفسهم قوّامين على غيرهم ، فلا يحقّ لأحد أن يخرج عن المألوف لديهم ، ولو كان هذا المألوف لا يمتّ للإسلام بشيء!! وإلاّ كيف يحكم على من انتقد بعض الصّحابة في أعمالهم بالخروج عن الدّين والكفر ، والدّينُ بأُصوله وفروعه ليس فيه شيء من ذلك؟!

بعض المتعصّبين كان يروّج في أوساطه بأنّ كتابي « ثمّ اهتديت » يشبه كتاب سلمان رُشدي ، ليصدّ الناس عن قراءته بل ويحثّهم على لعن كاتبه!!

إنّه الدسّ والتزوير والبهتان العظيم الذي سوف يُحاسبه عليه ربّ العالمين ، وإلاّ كيف يُقارن كتاب « ثمّ اهتديت » الذي يدعو إلى القول بعصمة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتنزيهه ، والاقتداء بأئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً; بكتاب « الآيات الشيطانية » الذي يشتمُ فيه صاحبه الملعون الإسلام ونبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويعتبر أنّ الدين الإسلامي هو نفثة الشياطين؟!

____________

(١) ص : ٥.

٢٤٣

فالله يقول :( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أنفُسِكُمْ ) (١) .

ومن أجل هذه الآية الكريمة فأنا لا أُبالي إلاّ برضاء الله سبحانه وتعالى ، ولا أخشى فيه لومة لائم ما دمتُ أُدافعُ عن الإسلام الصحيح ، وأُنزّه نبيَّهُ الكريم عن كلّ خطأ ، ولو كان ذلك على حساب نقد بعض الصّحابة المقرّبين ، ولو كانوا من « الخلفاء الراشدين »; لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أولى بالتنزيه من كلّ البشر.

والقارئ الحرُّ اللّبيب يفهمُ من كلّ مؤلّفاتي ما هو الهدف المنشود ، فليست القضية هي انتقاصُ الصّحابة والنيل منهم بقدر ما هو دفاع عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعصمته ، ودفع الشبهات التي ألصقها الأمويون والعباسيون بالإسلام وبنبىّ الإسلام ، خلال القرون الأُولى التي تحكّموا فيها على رقاب المسلمين بالقهر والقوّة ، وغيّروا دين الله بما أملته عليهم أغراضهم الدنيئة ، وسياستهم العقيمة ، وأهواؤهم الخسيسة.

وقد أثّرتْ مؤامرتهم الكبرى على كتلة كبيرة من المسلمين الذين اتبعوهم عن حسن نيّة فيهم ، وتقبّلوا كلّ ما رووه من تحريف وأكاذيب على أنّها حقائق ، وأنّها من الإسلام ، ويجب على المسلمين أن يتعبّدوا بها ولا يُناقشوها!!

ولو عرف المسلمون حقيقة الأمر لما أقاموا لهم ولا لمروياتهم وزناً.

ثمّ إنّه لو كان التاريخُ يروي لنا بأنّ الصّحابة كانوا يمتثلون أوامر رسول

____________

(١) النساء : ١٣٥.

٢٤٤

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونواهيه ، ولا يناقشونه ولا يعترضون على أحكامه ، وأنّهم لم يعصوه في أواخر أيام حياته في عدّة أحكام; لحكمنا بعدَالتِهم جميعاً ، ولما كان لنا في هذا المجال بحثٌ ولا كلام.

أمّا وإنّ منهم مكذّبون ، ومنهم منافقون ، ومنهم فاسقون بنصّ القرآن والسنّة الثابتة الصحيحة. أمّا وأنّهم اختلفوا بحضرته ، وعصوه في أمر الكتاب حتّى اتهموه بالهذيان ، ومنعوه من الكتابة ، ولم يمتثلوا أوامره عندما أمّر عليهم أُسامة أمّا وإنّهم اختلفوا في خلافتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى أهملوا تغسيله وتجهيزه ودفنه ، واختصموا من أجل الخلافة ، فرضي بها بعضهم ورفضها بعضهم الآخر أمّا وإنّهم اختلفوا في كلّ شيء بعده حتّى كفّر بعضهم بعضاً ولعن بعضهم بعضاً ، وتحاربوا فقتل بعضهم بعضاً ، وتبرّأ بعضهم من بعض.

أمّا وإنّ دين الله الواحد أصبح مذاهب متعدّدة وآراء مختلفة; فلابدّ والحال هذه أنْ نبحث عن العلّة وعن الخللْ الذي أرجع خير أُمّة أُخرجت للنّاس ، وأهوى بها إلى الحضيض ، فأصبحتْ أذلّ وأجهل وأحقر أُمّة على وجه البسيطة ، تنتهكُ حُرماتها ، وتحتلُّ مقدساتْها ، وتستعمرُ شعوبُها ، وتشرّدُ وتطردُ من أراضيها ، فلا تقدر على دفع المعتدين ، ولا مسح العار عن جبينها؟!

والعلاج الوحيد فيما أعتقد لهذه المعضلة هو النقد الذّاتي ، فكفانا التغنّي بأسلافنا وبأمجادنا المزيّفة التي تبخَرتْ وأصبحت متاحف أثرية خالية حتى من الزوّار ، والواقع يدعونا أن نبحث عن أسباب أمراضنا وتخلّفنا ، وتفرّقنا وفشلنا حتى نكتشف الدّاء فنشخّص له الدواء الناجع لشفائنا ، قبل

٢٤٥

أن يقضي علينا ويأتي على آخرنا.

هذا هو الهدف المنشود ، والله وحده هو المعبود ، وهو الهادي عباده إلى سواء الصراط.

وما دام هدفنا سليماً ، فما قيمة اعتراض المعترضين والمتعصّبين الذين لا يعرفون إلاّ السّباب والشتائم بحجّة الدفاع عن الصّحابة ، وهؤلاء لا نلومهم ولا نحقد عليهم بقدر ما نرثي لحالهم; لأنّهم مساكين منعهم حسنُ ظنّهم بالصّحابة وحجبَهم عن الوصول للحقيقة ، فما أشبههم بأولاد اليهود والنّصارى الذين أحسنوا الظنّ بآبائهم وأجدادهم ، ولم يكلّفوا أنفسهم جهد البحث في الإسلام ، معتقدين بمقالة أسلافهم بأنّ محمّداً كذّابٌ ، وليس هو بنبىّ ، قال تعالى :( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ ) (١) .

وبمرور القرون المتتالية أصبح من العسير اليوم على المسلم أن يُقنع يهوديّاً أو نصرانيّاً بعقيدة الإسلام ، فما بالك بمن يقول لهم بأنّ التوراة والانجيل اللذين يتدالونهما هما محرّفان ، ويستدلّ على ذلك بالقرآن ، فهل يجد هذا المسلم آذاناً صاغية لديهم؟

وكذلك المسلم البسيط الذي يعتقد بعدالة كلّ الصّحابة ، ويتعصّب لذلك بدون دليل ، فهل يمكن لأحد من النّاس أن يقنعه بعكس ذلك؟

وإذا كان هؤلاء لا يطيقون جرح ونقد معاوية وابنه يزيد ، وأمثالهم كثير الذين شوّهوا الإسلام بأعمالهم القبيحة; فما بالك إذا كلّمتهم عن أبي بكر وعمر وعثمان ( الصديق والفاروق ومن تستحي منه الملائكة ) ، أو عن عائشة

____________

(١) البينة : ٣.

٢٤٦

أُمّ المؤمنين زوجة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابنة أبي بكر ، والتي تكلّمنا عنها في فصل سابق بما رواه عنها أصحاب الصحاح المعتمدين عند أهل السنة؟!

وجاء الآن دور الخلفاء الثلاثة لنكشف عن بعض أفعالهم التي سجّلها عليهم صحاح السنّة ومسانيدُهم وكتب التاريخ المعتمدة لديهم ، لنبيّن ـ أوّلا ـ أنّ مقولة عدالة الصّحابة غير صحيحة ، وأنّ العدالة انتفتْ حتى عن بعض الصّحابة المقرّبين.

ولنكشف ـ ثانياً ـ لإخواننا من أهل السنّة والجماعة بأنّ هذه الانتقادات لا تدخل في السبّ والشتم والانتقاص بقدر ما هي إزالة للحجب للوصول إلى الحقّ ، كما أنّها ليست من مختلقات وأكاذيب الروافض كما يدّعي عامّة النّاس ، وإنّما هي من الكتب التي حكموا بصّحتها ، وألزمُوا أنفسهم بها.

أبو بكر الصدّيق في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

أخرج البخاري في صحيحه من الجزء السادس صفحة ٤٦ في كتاب تفسير القرآن سورة الحجرات ، قال : حدّثنا نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، قال : كاد الخيّران أن يهلكا; أبا بكر وعمر رضي الله عنهما; رفعا أصواتُهما عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قدمَ عليه ركبُ بني تميم ، فأشار أحدُهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع ، وأشار الآخرُ برجل آخر ، قال نافع : لا أحفظ اسمه ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردتَ إلاّ خلافي ، قال : ما أردتُ خلافك ، فارتفعتْ أصواتُهما في ذلك ، فأنزل الله :( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ ) (١) الآية.

____________

(١) الحجرات : ٢.

٢٤٧

قال ابن الزبير : فما كان عمر يُسمِعُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد هذه الآية حتّى يستفهمَه ، ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر.

كما أخرج البخاري في صحيحه في الجزء الثامن صفحة ١٤٥ من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة ، باب ما يكره من التعمّق والتنازع ، قال : أخبرنا وكيع ، عن نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة قال : كاد الخيّران أن يَهلكا أبو بكر وعمر; لما قدم على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفْدُ بني تميم ، أشار أحدُهما بالأقرع ابن حابس التميمي الحنظلي أخي بني مُجَاشِع ، وأشارَ الآخرُ بغيره ، فقال أبو بكر لعمر : إنّما أردتَ خلافِي ، فقال عمر : ما أردتُ خلافكَ ، فارتفعت أصواتُهما عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت :( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أنْ تَحْبَطَ أعْمَالُكُمْ وَأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ اُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأجْرٌ عَظِيمٌ ) (١) .

قال ابن أبي مليكة : قال ابن الزبير : فكان عمر بعدُ ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر إذا حدّث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحديث حدّثه كأخي السرار لم يُسمعه حتّى يستفهمه.

كما أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الخامس صفحة ١١٦ من كتاب المغازي ـ وفد بني تميم قال : حدّثنا هشام بن يوسف ، أنّ ابن جريج أخبرهم عن ابن أبي مليكة ، أنّ عبد الله بن الزبير أخبرهم أنّه قدم ركبٌ من بني تميم على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال أبو بكر : أمرِّ القعقاع بن معبد بن زرارة ،

____________

(١) الحجرات : ٢ ـ ٣.

٢٤٨

فقال عمر : بل أمِّر الأقرع بن حابس ، قال أبو بكر : ما أردتَ إلاّ خلافي ، قال عمر : ما أردتُ خلافك ، فتمارياً حتّى ارتفعتْ أصواتهما ، فنزلت في ذلك :( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ ) (١) حتى انقضت.

والظاهر من خلال هذه الروايات أنّ أبا بكر وعمر لم يتأدّبا بحضرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالآداب الإسلامية ، وسمحا لأنفسهما بأن يُقدّمَا بين يدي الله ورسوله بغير إذن ولا طلب منهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبديا رأيهما في تأمير أحد من بني تميم ، ثمّ لم يكتفيا حتى تشاجرا بحضرته ، وارتفعتْ أصواتهما أمامه من غير احترام ولا مُبالاة بما تفرضه عليهما الأخلاق والآداب ، التي لا يمكن لأيّ أحد من الصّحابة أن يجهلها أو يتجاهلها ، بعد ما قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حياته في تعليمهم وتربيتهم.

ولو كانت هذه الحادثة قد وقعتْ في بداية الإسلام لالتمسنا للشيخين في ذلك عُذْراً ، ولحاولنا أن نجد لذلك بعض التأويلات.

ولكنّ الروايات تثبت بما لا يدع مجالا للشكّ بأنّ الحادثة وقعت في أواخر أيّام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ أنّ وفد بني تميم قدم على رسول الله في السنة التاسعة للهجرة ، ولم يعش بعدها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ بضعة شهور ، كما يشهد بذلك كلّ المؤرخين والمحدّثين الذين ذكروا قدوم الوفود على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي تحدّث عنها القرآن الكريم في أواخر السور بقوله :( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجاً ) (٢) .

____________

(١) الحجرات : ١.

(٢) النصر : ١ ـ ٢.

٢٤٩

وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف يعتذر المعتذرون عن موقف أبي بكر وعمر بحضرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! ولو اقتصرت الرواية على الموقف الذي مثله الصحابيّان فحسب لما وسعنا النقد ولا الاعتراض ، ولكنّ الله الذي لا يستحي من الحقّ سجّلها وأنزل فيها قرآناً يُتلى ، فيه التنديد والتهديد لأبي بكر وعمر بأن يحبط الله أعمالهما إنّ عادا لمثلها!! حتى إن راوي هذه الحادثة بدأ كلامه بقوله : « كاد الخيّران أن يهلكا أبو بكر وعمر »!!

ويحاول راوي الحادثة بعد ذلك ـ وهو عبد الله بن الزبير ـ أن يُقنعنا بأنّ عمر بعد نزول هذه الآية في شأنه إذا حدّث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسمعه صوته حتى يستفهمه ، ورغم أنّه لم يذكر ذلك عن جدّه أبي بكر ، فالتاريخ والأحداث التي ذكرها المحدّثون تُثبتُ عكس ذلك ، ويكفي أن تذكر رزيّة يوم الخميس قبل وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثلاثة أيام ، حتّى نجد بأنّ عمر نفسه قال قولته المشؤومة : « إنّ رسول الله يهجر وحسبنا كتاب الله » ، فاختلف القوم ، فمنهم من يقول : قرّبوا إلى الرسول يكتب لكم ، ومنهم من يقول مثل قول عمر ، فلمّا أكثروا اللّغط والاختلاف(١) قال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قوموا عنّي لا ينبغي عندي التنازع »(٢) .

فالمفهوم من كثرة اللغو واللغط والاختلاف والتنازع أنّهم تجاوزوا كلّ الحدود التي رسمها الله لهم في سورة الحجرات كما مرّ. ولا يمكن اقناعنا بأنّ اختلافهم وتنازعهم ولغطهم كان هَمْساً في الآذان ، بل يُفهم من كلّ ذلك

____________

(١) صحيح البخاري ٥ : ١٣٨ كتاب المغازي ، باب مرض النبي ووفاته.

(٢) صحيح البخاري ١ : ٣٧ كتاب العلم ، باب كتابة العلم.

٢٥٠

بأنّهم رفعوا أصواتهم حتى أن النّساء اللاتي كنّ وراء الستر والحجاب شاركن في النّزاع ، وقلنَ : قرّبوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكتب لكم ذلك الكتاب ، فقال لهنّ عمر : إنكنّ صويحبات يوسف ، إذا مرض عصرتنّ أعينكنّ ، وإذا صحّ ركبتنّ عنقه ، فقال له رسول الله : « دعوهن فإنّهن خير منكم »(١) .

والذي نفهمه من كلّ هذا بأنّهم لم يمتثلوا أمر الله في قوله :( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ ) ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) (٢) ولم يحترموا مقام الرسول ، ولا تأدّبوا عندما طعنوه بكلمة الهجر.

وقد سبق لأبي بكر أن تلفّظ بكلام بذيئ بحضرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك عندما قال لعروة بن مسعود أمصَصْ ببظر اللاّت(٣) . وقال القسطلاني شارح البخاري معلّقاً على هذه العبارة : والأمر بمصّ البظر من الشتائم الغليظة عند العرب(٤) ، فإذا كانت أمثال هذه الكلمات تُقال بحضرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما هو معنى قوله تعالى :( وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض ) (٥) ؟!

وإذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على خلق عظيم كما وصفه ربُّه ، وإذا كان أشدَّ

____________

(١) الطبقات الكبرى ٢ : ٢٤٤ وسند الحديث حسن ، المعجم الأوسط ٥ : ٢٨٨ ، كنز العمال ٥ : ٦٤٤ ح ١٤١٣٣.

(٢) الحجرات : ١ ـ ٢.

(٣) صحيح البخاري ٣ : ١٦٩.

(٤) إرشاد الساري ٦ : ٢٢٦ ، وفتح الباري ٥ : ٢٤٨ ، والشوكاني في نيل الأوطار ٨ : ١٩٧ واستدلّوا به على جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ!! ( والمؤلّف نقله بالمضمون ).

(٥) الحجرات : ٢.

٢٥١

حياءً من العذراء في خدرها ، كما أخرج ذلك البخاري ومسلم(١) ، وقد صرّح الشيخان البخاري ومسلم بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن فاحشاً ولا مُتفحّشاً ، وكان يقول : « إنّ من خياركُمْ أحسنكم أخلاقاً »(٢) فمابال صحابته المقرّبين لم يتأثّروا بهذا الخلق العظيم؟

أضف إلى كلّ ذلك بأنّ أبا بكر لم يمتثل أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما أمّر عليه أُسامة بن زيد ، وجعله من جملة عساكره ، وشدّد النكير على من تخلّف عنه ، حتى قال : « لعن الله من تخلّف عن جيش أُسامة »(٣) ، وذلك بعدما بلغهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طعن الطاعنين عليه في مسألة تأمير أُسامة ، التي ذكرها جلّ المؤرّخين وأصحاب السير.

كما أنّه سارع إلى السّقيفة وشارك في إبعاد علي بن أبي طالب عن الخلافة ، وترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مُسجّى بأبي هو وأُمّي ، ولم يهتمّ بتغسيله وتكفينه وتجهيزه ودفنه ، متشاغلا عن كلّ ذلك بمنصب الخلافة والزعامة التي أشرأبّتْ لها عنقه ، فأين هي الصّحبة المقرّبة ، والخلّة المزعومة؟! وأين هو الخلق؟!

وأنا أستغرب موقف هؤلاء الصّحابة من نبيّهم الذي قضى حياته في هدايتهم وتربيّتهم والنصح لهم( عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ

____________

(١) صحيح البخاري ٤ : ١٦٧ كتاب المناقب ، باب صفة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، صحيح مسلم ٧ : ٧٨ كتاب الفضائل باب كثرة حيائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(٢) صحيح البخاري ٤ : ١٦٦ كتاب المناقب ، باب صفة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، صحيح مسلم ٧ : ٧٨ كتاب الفضائل باب كثرة حيائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(٣) كتاب الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٣ المقدّمة الرابعة.

٢٥٢

رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (١) . فيتركونه جثّة هامدة ، ويسارعون للسّقيفة لتعيين أحدهم خليفة له!!

ونحن نعيش اليوم في القرن العشرين الذي نقول عنه بأنّه أتعس القرون ، وأنّ الأخلاق تدهورت ، والقيم تبخّرتْ ، ومع كلّ ذلك فإنّ المسلمين إذا ماتَ جارٌ لهم أسرعوا إليه ، وانشغلوا به حتّى يواروه في حفرته ، ممتثلين قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إكرام الميّت دفنه »(٢) .

وقد كشف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن تلك الوقائع بقوله : « أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة ، وإنّه ليعلَمُ أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحا »(٣) .

ثمّ بعد ذلك استباح أبو بكر مهاجمة بيت فاطمة الزّهراء ، وتهديده بحرقه إن لم يخرج المتخلّفون فيه لبيعته ، وكان ما كان ممّا ذكره المؤرّخون في كتبهم ، وتناقله الرواةُ جيلا بعد جيل ، ونحن نضرب عن ذلك صفحاً ، وعلى من أراد المزيد أن يقرأ كتب التاريخ.

أبو بكر بعد حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

تكذيبه للصّديقة الطّاهرة فاطمة الزّهراء وغصبه حقّها

أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الخامس صفحة ٨٢ في كتاب المغازي باب غزوة خيبر ، قال : عن عروة ، عن عائشة : أنّ فاطمةعليها‌السلام بنت

____________

(١) التوبة : ١٢٨.

(٢) كشف الخفاء للعجلوني ١ : ١٦٨.

(٣) نهج البلاغة ١ : ٣٠ ، الخطبة رقم ٣ المعروفة بالشقشقية.

٢٥٣

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسلتْ إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك ، وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا نوّرثُ ما تركنا صدقة ، إنّما يأكل آل محمّد في هذا المال ، وإنّي والله لا أغيّر شيئاً من صدقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حالها التي كان عليها في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك ، فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت ، وعاشتْ بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستّة أشهر ، فلمّا توفّيتْ دفنها زوجُها علي ليلا ، وصلّى عليها ، ولم يؤذن بها أبا بكر ، وكان لعلي من النّاس وجْهٌ في حياة فاطمة ، فلمّا توفيت استنكر علىٌّ وجوه النّاس ، فالتمس مصالحه أبي بكر ومبايعته ، ولم يكن يبايع تلك الأشهر(١) .

وأخرج مسلم في صحيحه من الجزء الثاني كتاب الجهاد ، باب قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا نورّث ما تركنا فهو صدقة » :

عن عائشة أُمّ المؤمنين رضي الله عنها : أنّ فاطمةعليها‌السلام ابنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سألتْ أبا بكر الصديق ، بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقسمَ لها ميراثها ممّا ترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وممّا أفاء الله عليه ، فقال لها أبو بكر : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لا نوّرث ، ما تركنا صدقة ».

فغضبت فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهجرتْ أبا بكر ، فلم تزل مهاجرتُه

____________

(١) صحيح مسلم ٥ : ١٥٣ أيضاً في كتاب الجهاد ، باب قول النبي : لا نورث ما تركنا فهو صدقة.

٢٥٤

حتى توفيتْ ، وعاشت بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستّة أشهر(١) .

قالتْ : وكانتْ فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها ممّا ترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خيبر وفدك ، وصَدَقتهُ بالمدينة ، فأبى أبو بكر عليها ذلك وقال : لستُ تاركاً شيئاً كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعمل به إلاّ عملتُ به ، فإنّي أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ ، فأمّا صدقتهُ بالمدينة فدفعها عُمر إلى علي والعبّاس ، فأمّا خيبر وفدك فأمسكها عُمرُ ، وقال : هما صدقة رسول الله كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه ، وأمرهُما إلى من ولي الأمْرَ ، فهُما على ذلك إلى اليوم.

ورغم أنّ الشّيخين البخاري ومسلم اقتضبا هذه الروايات واختصراها لئلاّ تنكشف الحقيقة للباحثين ، وهذا فنٌّ معروف لديهما توخياه للحفاظ على كرامة الخلفاء الثلاثة ـ ولنا معهما بحث في هذا الموضوع إن شاء الله سنوافيك به عمّا قريب ـ إلاّ أن الروايات التي نمّقوها كافية للكشف عن حقيقة أبي بكر الذي ردّ دعوى فاطمة الزّهراء ، ممّا استوجب غضبها عليه وهجرانها له حتى ماتتعليها‌السلام ، ودفنها زوجها سرّاً في اللّيل بوصية منها دون أن يؤذن بها أبا بكر ، كما نستفيد من خلال هذه الروايات بأنّ علياً لم يبايع أبا بكر طيلة ستّة أشهر ، وهي حياة فاطمة الزّهراء بعد أبيها ، وأنّه أضطرّ لبيعته اضطراراً لمّا رأى وجوه النّاس قد تنكّرت له ، فالتمس مُصالحة أبي بكر.

والذي غيّره البخاري ومسلم من الحقيقة هو أدّعاء فاطمةعليها‌السلام بأنّ أباها

____________

(١) هذا المقطع لا يوجد في صحيح مسلم ، بل أخذه المؤلّف من صحيح البخاري ٤ : ٤٢ ، كتاب الخمس باب فرض الخمس.

٢٥٥

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطاها فدك نحلة في حياته ، فليس هي من الإرث ، وعلى فرض أنّ الأنبياء لا يورّثون ، كما روى أبو بكر ذلك عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; كذّبتْه فاطمة الزّهراءعليها‌السلام ، وعارضت روايته بنصوص القرآن الذي يقول :( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ) (١) فإنّ فدك لا يشملها هذا الحديث المزعوم; لأنّها نحلة وليست هي من الإرث في شيء.

ولذلك تجد كلّ المؤرّخين والمفسّرين والمحدّثين يذكرون بأن فاطمةعليها‌السلام ادّعت بأنّ فدك ملك لها ، فكذّبها أبو بكر وطلب منها شهوداً على دعواها ، فجاءت بعلي بن أبي طالب ، وأُمّ أيمن ، فلم يقبل أبو بكر شهادتهما واعتبرها غير كافية(٢) .

____________

(١) النمل : ١٦.

(٢) اعطاء فدك لفاطمةعليها‌السلام رواه كلّ من أبي يعلى في مسنده ٢ : ٣٣٤ ، والحسكاني في شواهد التنزيل ١ : ٤٣٨ بطرق متعدّدة ، والسيوطي في الدر المنثور عن البزار وأبي يعلى وابن أبي حاتم وابن مروديه ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣ : ٧٦٧ ح ٨٦٩٦ ، والقندوزي في ينابيع المودة ١ : ٣٥٩ وغيرهم.

ويدلّ على أنّ فدك كانت بيد فاطمةعليها‌السلام اُمور :

(١) قول عليعليه‌السلام في كتابه لعثمان بن حنيف : « بلى كانت في أيدينا فدك » ( نهج البلاغة ٣ : ٧١ ، الكتاب ٤٥ ).

(٢) الأحاديث التي وردت في إعطاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدكاً لفاطمةعليها‌السلام .

(٣) ما ورد في الأخبار من ردّ فدك لبني هاشم ممّا يدلّل على أنّها كانت بيدهم ثمّ أُخذت ثمّ رُدت.

(٤) ما ورد في الاختصاص للشيخ المفيد : ١٨٣ من أنّ ابا بكر بعث إلى وكيل فاطمةعليها‌السلام فأخرجه من فدك.

٢٥٦

____________

(٥) شهادة بعض الصحابة بكون فدك لفاطمة ، وهم : عليّ بن أبي طالب والحسن والحسينعليهم‌السلام ، وأُم أيمن ، وغيرهم ، هذا مضافاً إلى ادّعاء فاطمة ذلك وهي معصومة لا تكذب ، وقد أقرّها عليّعليه‌السلام وابناها المعصومون على ذلك.

لا يقال : ليس من العدل أن يعطي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدك لفاطمة دون سائر بناته؟

لأنّنا نقول :

أولا : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم ولا يفعل القبيح ولا يظلم أحداً.

ثانياً : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امتثل أمر الله تعالى في إعطاء فدك لفاطمة ، ورد في الكافي ١ : ٥٤٣ ح ٥ عن موسى بن جعفرعليه‌السلام أنّه قال للمهدي العباسي بخصوص فدك لما كان يردّ المظالم : « فدعاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لها : يا فاطمة إنّ الله أمرني أن أدفع إليك فدك ، فقالت : قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك » ولا اعتراض على فعل الله تعالى.

ثالثاً : لا نسلّم أن يكون لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنات غير فاطمةعليها‌السلام والباقي ربائب ، كما حقّق في محلّه.

رابعاً : لو سلّمنا جدلا أنّهنّ بناته ، ولو سلّمنا أيضاً أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي أعطى فدك لفاطمة من تلقاء نفسه ، فنقول : كان ذلك لعلم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ ذريته ستكون من فاطمة دون سائر بناته ، فكيف لا يهتم بشؤونهم ويدعهم عيال على الناس يتصدّقون متى شاؤوا؟ أفمن العدل تركهم هكذا؟! ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي منع سعد بن أبي وقاص أن يتصدّق بثلُثَي ماله وقال له : « إنّك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس » ( صحيح البخاري ٢ : ٨٢ ) والطريف أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبّر بقوله : « ورثتك » ولم يكن لسعد إلاّ ابنة واحدة ، ولذا قال الفاكهي شارح العمدة ـ كما في نيل الأوطار للشوكاني ٦ : ١٥٠ ـ : « إنّما عبّرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالورثة; لأنّه اطلع على أنّ سعداً سيعيش ويحصل له أولاد غير البنت المذكورة ».

خامساً : لقد نحل أبو بكر ابنته عائشة دون سائر ولده ، وكذلك فعل عمر حيث

٢٥٧

____________

نحل ابنه عاصماً دون سائر ولده ( فتح الباري ٥ : ١٥٨ ) فلو قالوا : إنّما فعلا ذلك مع رضى سائر الأولاد ، قلنا : إنّما فعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك مع رضى سائر البنات.

قد يقال : ألستم تقولون بأنّ فدك إرث ، والآن تقولون هبة؟

فنقول في الجواب : الثابت الصحيح انّ فدك لم تكن إلاّ نحلة وهبة لفاطمةعليها‌السلام ، والزهراء بدعواها الإرث قد طالبت بجميع متروكات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي قبضها أبو بكر بلا فرق بين فدك ومال بني النضير وسهمه من خمس خيبر وغيرها ، فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ترك أموالا كثيرة من صدقات وموقوفات وضياع وأملاك ، والقوم أطلقوا على كلّها اسم الصدقة لمصالح سياسية ، فأخذوها من أهلها ومن له ولاية التصرّف فيها ، قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٥ : ١٤٧ « وقد مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وله ضياع كثيرة جليلة جداً بخيبر وفدك وبني النضير ، وكان له وادي نخلة وضياع أُخرى كثيرة بالطائف ، فصارت بعد موته صدقة بالخبر الذي رواه أبو بكر ».

وممّا يؤيّد أنّ الأمر تمّ لمصالح سياسية ما روي في المعجم الأوسط ٥ : ٢٨٨ عن عمر قال : لما قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جئت أنا وأبو بكر إلى عليّ فقلنا : ما تقول فيما ترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال : « نحن أحقّ الناس برسول الله وبما ترك » ، قال : فقلت : والذي بخيبر؟ قال : « والذي بخيبر » ، قلت : والذي بفدك؟ فقال : « والذي بفدك » ، قلت : أما والله حتى تحزّوا رقابنا بالمناشير فلا.

فتلخّص : أنّ فاطمةعليها‌السلام حاكمت القوم بعدّة محاكمات في عرض واحد : نحلتها ، إرثها ، موقوفات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي لها عليها‌السلام ولاية التصرّف فيها ، خمس خيبر ، سهم ذوي القربى ، وذلك لأنّ القوم أرادوا اغتصابها جميعاً بعنوان أنّها صدقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوالي أحقّ بها والنبي لا يورّث ، وإلاّ كيف جاز لعمر أن يردّ صدقات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي بالمدينة إلى عليّ والعباس ـ كما في البخاري كتاب فرض الخمس ـ مع أنّه هو الذي شهد مع أبي بكر بأنّ النبي لا يورّث؟!! ، فتبيّن

٢٥٨

وهذا ما اعترف به ابن حجر في الصواعق المحرقة ، حيث ذكر بأنّ فاطمة ادّعتْ أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحلها فدكاً ، ولم تأتِ عليها بشهود إلاّ بعلي بن أبي طالب وأُمّ أيمن ، فلم يكمل نصاب البيّنة(١) .

كما قال الإمام الفخر الرّازي في تفسيره : فلمّا مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ادّعتْ فاطمةعليها‌السلام أنّه كان ينحلها فدكاً ، فقال لها أبو بكر : أنتِ أعزّ النّاس علىَّ وأحبّهم إلىَّ غِنى ، لكنّي لا أعرف صحة قولك ، فلا يجوز أن أحكم لك ، قال : فشهدت لها أُمّ أيمن ومولى لرسول الله ، فطلب منها أبو بكر الشاهد الذي يجوز قبول شهادته في الشرع ، فلم يكن(٢) .

ودعوْى فاطمةعليها‌السلام بأنّ فدكاً أنحلها لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ أبا بكر ردّ دعوتها ، ولم يقبل شهادة عليعليه‌السلام وأُم أيمن; معلومة لدى المؤرّخين ، وقد ذكرها كلّ من ابن تيمية ، وصاحب السيرة الحلبية ، وابن القيم الجوزية وغيرهم.

ولكنّ البخاري ومسلم اختصراها ، ولم يذكرا إلاّ طلب الزهراء بخصوص الإرث ، حتّى يُوهما القارئ بأنّ غضب فاطمة على أبي بكر في غير محلّه ، ولم يعمل أبو بكر إلاّ بما سمعه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهي ظالمة وهو

____________

ممّا مضى أنّ الأمر كان ذا أبعاد متشعبة.

ومن هنا يعرف أنّ ما ذكره مؤلّف كتاب كشف الجاني في الصحفة ١٣٤ ما هو إلاّ ارتجال ناشئ عن الجهل الذي أطبق عليه.

(١) الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي ١ : ٩٣ الشبهة السابعة.

(٢) تفسير مفاتيح الغيب للفخر الرازي ١٠ : ٥٠٦ تفسير سورة الحشر الآية السادسة.

٢٥٩

مظلوم!! كلّ ذلك حفاظاً منهما على كرامة أبي بكر ، فلا مراعاة للأمانة في النقل ، ولا لصدق الأحاديث التي كانت تكشف عن عورات الخلفاء ، وتزيل الأكاذيب والحجب التي نمّقها الأمويون وأنصار الخلافة الراشدة ، ولو كان ذلك على حساب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه أو بضعته الزّهراء سلام الله عليها!!

ومن أجل ذلك حاز البخاري ومسلم على زعامة المحدّثين عند أهل السنّة والجماعة ، واعتبروا كتبهما أصحّ الكتب بعد كتاب الله ، وهذا تلفيق لا يقوم على دليل علمي ، وسنبحثه إن شاء الله في باب مستقل حتّى نكشف الحقيقة لمن يريد معرفتها.

ومع ذلك فإننا نُناقش البخاري ومسلم اللّذين أخرجا في فضائل فاطمة الزهراءعليها‌السلام الشيء اليسير ، ولكن فيه ما يكفي لإدانة أبي بكر الذي عرف الزهراء وقيمتها عند الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر ممّا عرفه البخاري ومسلم ، ومع ذلك كذّبها ولم يقبل شهادتها ، وشهادة بعلها الذي قال فيه رسول الله : « علىّ مع الحقّ والحقّ مع علىّ يدور معه حيث دار »(١) ولنكتفِ بشهادة البخاري وشهادة مسلم في ما أقرّه صاحب الرّسالةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في فضل بضعته الزهراء.

فاطمةعليها‌السلام معصومة بنصّ القرآن

أخرج مسلم في صحيحه الجزء السّابع باب فضائل أهل البيت ، قالت عائشة : خرج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود ، فجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثمّ جاء الحسين فدخل معه ، ثمّ جاءت فاطمة

____________

(١) راجع باختلاف ألفاظه تاريخ بغداد ١٤ : ٣٢٢ ح ٧٦٤٣ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٤٤٩ ، الإمامة والسياسة ١ : ٩٨.

٢٦٠