فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر0%

فاسألوا اهل الذكر مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 484

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف: الدكتور محمد التيجاني السماوي
تصنيف:

الصفحات: 484
المشاهدات: 60043
تحميل: 4761

توضيحات:

فاسألوا اهل الذكر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 484 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60043 / تحميل: 4761
الحجم الحجم الحجم
فاسألوا اهل الذكر

فاسألوا اهل الذكر

مؤلف:
العربية

فأدخلها ، ثمّ جاء علي فأدخله ، ثم قال :( إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) .

فإذا كانت فاطمة الزهراءعليها‌السلام هي المرأة الوحيدة التي أذهب الله عنها الرّجس ، وطهّرها من كلّ الذنوب والمعاصي في هذه الأُمّة ، فما بال أبي بكر يكذّبها ، يطلبُ منها الشهود يا تُرى؟

فاطمةعليها‌السلام سيّدة نساء المؤمنين وسيّدة نساء هذه الأُمّة

أخرج البخاري في صحيحه من الجزء السّابع في كتاب الاستئذان في باب من ناجى بين يدي النّاس ومن لم يخبر بسرّ صاحبه فإذا مات أخبر به ، ومسلم في كتاب الفضائل ، عن عائشة أُم المؤمنين قالت : إنّا كنّا أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنده جميعاً لم تغادر منّا واحدة ، فأقبلت فاطمةعليها‌السلام تمشي لا والله ما تخفى مشيتها من مشية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا رآها رحّب بها ، قال : « مرحباً بابنتي » ، ثمّ أجلسها عن يمينه أو عن شماله ، ثم سارّها فبكت بكاءً شديداً ، فلمّا رأى حُزْنها سارّها الثانية إذا هي تضحك ، فقلتُ لها أنا من بين نسائه : خصّك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسرِّ من بيننا ثمّ أنتِ تبكين ، فلمّا قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سألتُها عمّا سارّكِ؟ قالت : « ما كنتُ لأفشي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سِرَّهُ » ، فلمّا توفي قلتُ لها : عزمتُ عليك بما لي عليك من الحقّ لما أخبرتني ، قالت : أمّا الآن فنعم ، فأخبرتني قالت : « أمّا حين سارّني في الأمر الأول ، فإنّه أخبرني أنّ جبرئيل كان يعارضُهُ بالقرآن كل سنة مرّة ، وأنّه قد

____________

(١) الأحزاب : ٣٣.

٢٦١

عارضني به العامَ مرّتين ، ولا أرى الأجَلَ إلاّ قد اقتربَ ، فاتّقي الله واصبري فإنّي نعم السّلف أنا لك ، قالت : فبكيتُ بكائي الذي رأيت ، فلمّا رأى جزعي سارني الثانية قال : يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء المؤمنين ، أو سيّدة نساء هذه الأُمّة ».

فإذا كانت فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، وهي سيّدة نساء المؤمنين ، كما ثبت ذلك عن رسول الله يُكذّبها أبو بكر في أدّعائها فدك ولا يقبل شهادتها ، فأيّ شهادة تُقبل بعدها يا تُرى؟!

فاطمة الزهراءعليها‌السلام سيّدة نساء أهل الجنّة

أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الرابع في كتاب بدء الخلق باب مناقب قرابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة ».

فإذا كانت فاطمةعليها‌السلام سيّدة نساء أهل الجنّة ، ومعناه أنّها سيدة نساء العالمين; لأنّ أهل الجنة ليسوا أُمّة محمّد وحدهم كما لا يخفى ، فكيف يكذّبها أبو بكر الصديق؟

ألم يدّعوا بأنّ لقب الصديق أحرزه لأنّه كان يصدّق كلّ ما يقوله صاحبه محمّد! فلماذا لم يصدّقه فيما قاله بخصوص بضعته الزهراء؟! أم أنّ الأمر لم يكن يتعلّق بفدك وبالصّدقة والنّحلة بقدر ما يتعلّق بالخلافة التي هي من حقّ علي زوج فاطمة؟! فتكذيب فاطمة وزوجها الذي شهد معها في قضية النّحلة أيسر عليه ليَقطع بذلك عليهما الطريق للمطالبة بما وراء ذلك ، إنّه مكرٌ كبير تكاد تزول منه الجبال!!

٢٦٢

فاطمة بضعة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والرّسول يغضب لغضبها

أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الرّابع من كتاب بدء الخلق في باب منقبة فاطمةعليها‌السلام بنت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : حدّثنا أبو الوليد ، حدّثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن أبي مليكة ، عن المسور بن مخرمة ، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني ».

وإذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغضب لغضب بضعته الزهراء ، ويتأذّى بأذاها ، فمعنى ذلك أنّها معصومة عن الخطأ ، وإلاّ لما جاز للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول مثل هذا ; لأنّ الذي يرتكب معصية يجوز ايذاؤه وإغضابه مهما علت منزلته; لأنّ الشرع الإسلامي لا يراعي قريباً ولا بعيداً ، شريفاً أو وضيعاً ، غنيّاً أو فقيراً.

وإذا كان الأمر كذلك ، فما بال أبي بكر يؤذي الزهراء ولا يبالي بغضبها ، بل يغضبها حتى تموت وهي واجدةٌ عليه ، بل ومهاجرته فلم تكلّمه حتى توفيت ، وهي تدّعي عليه في كلّ صلاة تصلّيها ، كما جاء ذلك في تاريخ ابن قتيبة وغيره من المؤرّخين؟!

نعم ، إنّها الحقائق المرّة ، الحقائق المؤلمة التي تهزّ الأركان وتزعزع الإيمان; لأنّ الباحث المنصف المتجرّد للحقّ والحقيقة لا مناص له من الاعتراف بأنّ أبا بكر ظلم الزهراء واغتصب حقّها ، وكان بإمكانه وهو خليفة المسلمين أن يُرضيها ويعطيها ما ادّعت; لأنّها صادقة والله يشهد بصدقها ، والنّبي يشهد بصدقها ، والمسلمون كلّهم بما فيهم أبو بكر يشهدون بصدقها ، ولكنّ السيّاسة هي التي تقلّب كلّ شيء ، فيصبح الصّادق كاذباً ، والكاذب صادقاً.

٢٦٣

نعم ، إنّه فصل من فصول المؤامرة التي حيكت لإبعاد أهل البيت عن المنصب الذي اختاره الله لهم ، وقد بدأت بإبعاد علي عن الخلافة ، واغتصاب نحلة الزّهراء وإرثها ، وتكذيبها واهانتها حتّى لا تبقى هيبتها في قلوب المسلمين ، وانتهت بعد ذلك بقتل علي والحسن والحسين وكلّ أولادهم ، وسُبيت نساؤهم ، وقُتل شيعتهم ومحبّوهم وأتباعهم ، ولعلّ المؤامرة متواصلة ولا زالت حتى اليوم ، تفعل فعلها وتأتي بثمارها.

نعم ، أيّ مسلم حرّ ومنصف سوف يعلم عندما يقرأ كتب التاريخ ، ويمحّص الحقّ من الباطل ، بأنّ أبا بكر هو أوّل من ظلم أهل البيت ، ويكفيه قراءة صحيح البخاري ومسلم فقط لتنكشف له الحقيقة إذا كان من الباحثين حقّاً.

فها هو البخاري وكذلك مسلم يعترفان عفواً بأنّ أبا بكر يصدّق أيّ واحد من الصّحابة العادّيين في ادّعائه ، ويكذّب فاطمة الزهراء سيّدة نساء أهل الجنّة ، ومن شهد لها الله بإذهاب الرّجس والطّهارة ، وكذلك يكذّب عليّاً وأم أيمن ، فاقرأ الآن ما يقوله البخاري ومسلم :

أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الثالث من كتاب الشّهادات باب من أمر بإنجاز الوعد.

ومسلم في صحيحه من كتاب الفضائل باب ما سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً قط فقال لا ، وكثرة عطائه.

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال : لمّا ماتَ النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء أبا بكر مالٌ من قبل العلاء بن الحضرمىّ ، فقال أبو بكر : من كان له على

٢٦٤

النّبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دينٌ أو كانتْ له قِبلَهُ عِدَةٌ فليأتنا ، قال جابر : فقلتُ : وعدني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا ، فبسط يديه ثلاث مرّات ، قال جابر : فعدّ في يدىّ خمسمائة ثمّ خمسمائة ثمّ خمسمائة.

فهل من سائل لأبي بكر يسأله : لماذا صدّق جابر بن عبد الله في ادّعائه بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعده أن يعطيه هكذا وهكذا وهكذا ، فيملأ أبو بكر يديه ثلاثة مرّات بما قدره ألف وخمسمائة ، بدون أن يطلب منه شاهد واحد على ادّعائه؟

وهل كان جابر بن عبد الله أتقى لله وأبرّ من فاطمة سيّدة نساء العالمين؟ والأغْرب من كلّ ذلك هو ردّ شهادة زوجها علي بن أبي طالب الذي أذهب الله عنه الرّجس وطهّره تطهيراً ، وجعل الصّلاة عليه فرضٌ على كلّ المسلمين ، كما يُصلّى على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذي جعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حبّه إيمان وبغضه نفاق(١) .

أضف إلى ذلك بأنّ البخاري نفسه أخرج حادثة أُخرى تعطينا صورة حقيقية عن ظلم الزهراء وأهل البيت.

فقد أخرج البخاري في صحيحه في باب لا يحلّ لأحد أن يرجع في هبته وصدقته من كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها ، قال : إنّ بني صهيب مولى ابن جدعان ادّعوا بيتين وحُجرة ، وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى ذلك

____________

(١) صحيح مسلم ١ : ٦١ ، سنن ابن ماجه ١ : ٤٣ ، سنن النسائي ٨ : ١١٧ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٤٩٤ ، السنة لعمرو بن أبي عاصم : ٥٨٤ ، مسند أبي يعلى ١ : ٣٤٧ ، صحيح ابن حبان ١٥ : ٣٦٧ وغيرها من المصادر.

٢٦٥

صُهيباً ، فقال مروان : من يشهد لكُما على ذلك؟ قالوا : ابن عُمر! فدعاه ، فشهد لأعطى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صهيباً بيتين وحجرةً ، فقضى مروان بشهادته لهم(١) .

أنظر أيّها المسلم إلى هذه التصرّفات والأحكام التي تنطبق على البعض دون البعض الآخر ، أليس هذا من الظلم والحيف؟! وإذا كان خليفة المسلمين يحكم لفائدة المدّعين لمجرّد شهادة ابن عمر ، فهل لمسلم أن يتساءل لماذا رُدّتْ شهادة علي بن أبي طالب وشهادة أم أيمن معه؟ والحال أن الرجل والمرأة أقوى في الشهادة من الرجل وحده ، إذا ما أردنا بلوغ النّصاب الذي طلبه القرآن.

أم أنّ أبناء صُهيب أصدق في دعواهم من بنت المصطفىعليها‌السلام ؟ وأنّ عبد الله بن عمر موثوق عند الحكّام ، بينما عليّعليه‌السلام غير موثوق عندهم؟!

وأمّا دعوى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يورّث ، وهو الحديث الذي جاء به أبو بكر ، وكذّبته فاطمة الزهراء وعارضته بكتاب الله ، وهي الحجّة التي لا تُدحضُ أبداً; فقد صحّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « إذا جاءكم حديث عنّي فأعرضوه على كتاب الله ، فإن وافق كتاب الله فاعملوا به ، وإن خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الجدار »(٢) .

ولا شكّ أنّ هذا الحديث تعارضه الآيات العديدة من القرآن الكريم ، فهل من سائل يسأل أبا بكر ، ويسأل المسلمين كافة : لماذا تُقبلُ شهادة أبي بكر

____________

(١) صحيح البخاري ٣ : ١٤٣.

(٢) تفسير أبي الفتوح الرازي ٣ : ٣٩٢ نحوه ، والأخبار في ذلك كثيرة ، راجع الكافي ١ : ٦٩ باب الأخذ بالسنّة ، في أنّ ما خالف كتاب الله فهو مردود وزخرف.

٢٦٦

وحده في رواية هذا الحديث الذي يُناقض النقلَ والعقلَ ، ويعارض كتاب الله ، ولا تقبلُ شهادة فاطمة وعليّعليهما‌السلام التي توافق النقل والعقل ، ولا تتعارض مع القرآن؟!

أضف إلى ذلك بأنّ أبا بكر مهما علتْ مرتبتُه ، ومهما انتحل له مؤيدوه والمدافعون عنه من فضائل ، فإنّه لا يبلغ مكانة الزّهراء سيدة نساء العالمين ، ولا مرتبة علي بن أبي طالب الذي فضّله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كلّ الصّحابة في المواطن كلّها ، أذكر منها على سبيل المثال يوم إعطاء الرّاية ، عندما أقرّ له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه يحبّ الله ورسولَه ويحبّه الله ورسولُهُ ، وتطاول لها الصّحابة كلٌّ يُرجى أن يُعطاها ، فلم يدفعها إلاّ إليه. وقال فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ عليّاً منّي وأنا منه ، وهو وليُّ كلّ مؤمن بعدي »(١) .

ومهما شكّك المتعصّبون والنّواصب في صحة هذه الأحاديث ، فلن يشكّكوا في أنّ الصّلاة على علي وفاطمة هي جزء من الصّلاة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا تقبل صلاة أبي بكر وعمر وعثمان والمبشّرين بالجنّة ، وكلّ

____________

(١) المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٥٠٤ ، مسند الطيالسي : ١١١ ، كتاب السنّة لابن أبي عاصم : ٥٥٠ ح ١١٨٧ ، وقال محقّق الكتاب الشيخ محمّد الألباني : « إسناده صحيح ، رجاله ثقات على شرط مسلم. والحديث أخرجه الترمذي ٢ : ٢٩٧ ، وابن حبان : ٢٢٠٣ ، والحاكم ٣ : ١١٠ ـ ١١١ ، وأحمد ٤ : ٤٣٧ ، من طرق اُخرى وقال الترمذي : حديث حسن غريب ، وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ، وأقرّه الذهبي ، وله شاهد من حديث بريدة مرفوعاً به أخرجه أحمد ٥ : ٣٥٦ ، من طريق أجلح وإسناده جيّد رجاله ثقات رجال الشيخين غير أجلح وهو شيعي صدوق ».

٢٦٧

الصّحابة ومعهم كلّ المسلمين ، إذا لم يُصلّوا على محمّد وآل محمّد ، الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم ، كما جاء ذلك في صحاح أهل السنّة من البخاري ومسلم(١) وبقية الصّحاح ، حتّى قال الإمام الشافعي في حقّهم « من لم يصلّ عليكم لا صلاة له »(٢) .

فإذا كان هؤلاء يجوز عليهم الكذب والادعاء بالباطل ، فعلى الإسلام السّلام وعلى الدنيا العفا ، أمّا إذا سألتَ : لماذا تقبل شهادة أبي بكر وتردّ شهادة أهل البيت؟ فالجواب : لأنّه هو الحاكم ، وللحاكم أن يحكم بما يشاء ، والحقّ معه في كلّ الحالات ، فدعوى القوىّ كدعوى السّباع من النّاب والظّفر بُرهانُهَا.

وليتبين لك أيها القارئ الكريم صدق القول ، فتعال معي لتقرأ ما أخرجه البخاري في صحيحه من تناقض بخصوص ورثة النّبي الذي قال حسبما رواه أبو بكر : « نحن معشر الأنبياء لا نورّث ما تركنا صدقة » والذي يصدّقه أهل السنّة جميعاً ، ويستدلّون به على عدم استجابة أبي بكر لطلب فاطمة الزّهراء سلام الله عليها.

وممّا يدلك على بطلان هذا الحديث وأنّه غير معروف ، أنّ فاطمةعليها‌السلام طالبت بإرثها ، وكذلك فعل أزواج النّبي أُمّهات المؤمنين ، فقد بعثن لأبي بكر

____________

(١) صحيح البخاري ٦ : ٢٧ باب إنّ الله وملائكته يصلّون على النبي من سورة الأحزاب ، وصحيح مسلم ٢ : ١٦ كتاب الصلاة باب الصلاة على النبي.

(٢) الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي ٢ : ٤٣٥ ، الآية الثانية النازلة في أهل البيتعليهم‌السلام .

٢٦٨

يُطالبنه بميراثهن(١) . فهذا ما أخرجه البخاري ، وما يُستدلُّ به على عدم توريث الأنبياء.

ولكنّ البخاري ناقض نفسه وأثبت بأنّ عمر بن الخطاب قسّم ميراث النّبي على زوجاته ، فقد أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الحرث والمزارعة من باب المزارعة بالشطر ونحوه ، عن نافع : أنّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عَامَل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع ، فكان يُعطي أزواجه مائة وسق ثمانون وسق تمر وعشرون وسق شعير ، فقسّم عُمر خيبر ، فخيّر أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقطع لهنّ من الماء والأرض ، أو يُمضي لهنّ ، فمنهنّ من اختار الأرض ، ومنهنّ من اختار الوسْقَ ، وكانتْ عائشة قد اختارت الأرض.

وهذه الرواية تدلّ بوضوح بأنّ خيبر التي طالبت الزهراء بنصيبها منها كميراث لها من أبيها ، وردّ أبو بكر دعوتها بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يورّث ، وهذه الرواية تدلّ أيضاً بوضوح بأنّ عمر بن الخطّاب قسّم خيبر في أيّام خلافته على أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخيّرهن بين امتلاك الأرض أو الوسق ، وكانت عائشة ممّن اختار الأرض ، فإذا كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يورّث ، فلماذا ترث عائشة الزوجة ، ولا ترث فاطمة البنت؟!(٢) .

____________

(١) صحيح البخاري ٥ : ٢٤ باب حديث بني النضير من كتاب المغازي ، وصحيح مسلم ٥ : ١٥٣ باب قول النبي : « لا نورّث » من كتاب الجهاد والسير.

(٢) قال ابن حجر في فتح الباري ٦ : ١٤١ : « وكان أبو بكر يقدّم نفقة نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيرها ممّا كان يصرفه ، فيصرفه من خيبر وفدك » ، فنقول لابن

٢٦٩

أفتونا في ذلك يا أُولى الأبصار ولكم الأجر والثواب.

أضف إلى ذلك أنّ عائشة ابنة أبي بكر استولتْ على بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأكلمه ، ولم تحظ أيّ زوجة أُخرى بما حَظيتْ به عائشة ، وهي التي

____________

حجر ولغيره : كيف إذاً منع فاطمةعليها‌السلام حتى جاءت وسألته نصيبها ، كما روى ذلك البخاري في كتاب فرض الخمس عن عائشة حيث قالت : « وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها ممّا ترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر عليها ذلك فأمّا صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى عليّ والعباس ». ولا أدري كيف اجتهد عمر أمام النصّ الثابت ـ بحسب زعمهم ـ الذي تمسّك به أبو بكر في منع الإرث ، فخالفه عمر ودفع صدقات المدينة إلى علي والعباس؟ وما معنى هذا التناقض من الخليفتين؟

ثمّ لا يقال : يشهد لصنيع أبي بكر حديث أبي هريرة المرفوع بلفظ : « ما تركت نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة » ( فتح الباري ٦ : ١٤١ ) لأنّه

أولا : مرفوع كما صرّح به ابن حجر ، فكيف يعتمد عليه في مثل هذه الأمور الخطيرة وقد قال محمّد رشيد رضا : « ليس كلّ ما صح سنده من الأحاديث المرفوعة يصح متنه; لجواز أن يكون في بعض الرواة من أخطأ في الرواية عمداً أو سهواً » ( أضواء على السنّة المحمدية لأبي رية : ٢٩١ ).

ثانياً : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعدل من أن يفكّر بمستقبل أزواجه وعامله ويدع ذريته من دون أن يوصي لهم أو يترك لهم شيئاً بل ويمنعهم ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القائل لسعد بن أبي وقاص لما أراد أن يتصدّق بثلثي ماله لما ظنّ دنوّ أجله : « إنّك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس » ( البخاري ٢ : ٨٢ ) فكيف يصح أن يترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذريّته وأحبّ الخلق إليه الذين أوصى بهم كثيراً ، عالة يتكفّفون الناس؟ نحن ننزه ساحة نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذا الأمر ولا نسلم بحديث أبي هريرة ولا بحديث أبي بكر ، كيف وأوّل من رفض حديث أبي بكر وخالفه هو عمر بن الخطاب حيث سلّم صدقات المدينة إلى عليّ والعباس في حين أن أبا بكر منع فاطمة منها تمسكاً بحديث : « لا نورّث ».

٢٧٠

دفنتْ أباها في ذلك البيت ، ودفنت عمر إلى جانب أبيها ، ومنعتْ الحسين أن يدفن أخاه الحسن بجانب جدّه ، ممّا حدى بابن عبّاس أن يقول فيها :

تجمَّلْت تبغّلتِ ولو عشت تفيَّلتِ

لك التسع من الثمن وفي الكلّ تصرّفت

وعلى كلّ حال فأنا لا أُريد الإطالة في هذا الموضوع ، فإنّه لا بدّ للباحثين من مراجعة التاريخ ، ولكن لا بأس بذكر مقطع من الخطبة التي ألقتها فاطمة الزهراءعليها‌السلام بمحضر أبي بكر وجلّ الصّحابة; ليهلك من هلك منهم عن بيّنة ، وينجو من نجا منهم عن بيّنة. قالت لهم :

« أعَلى عمد تركتُم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ، إذ يقول :( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ) (١) ، وقال فيما اقتصّ من خبر زكريّا :( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) (٢) ، وقال :( وَاُوْلُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ ) (٣) ، وقال :( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنثَيَيْنِ ) (٤) ، وقال :( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى المُتَّقِينَ ) (٥) .

أفخَصّكم الله بآية أخرج منها أبي؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن

____________

(١) النمل : ١٦.

(٢) مريم : ٥ ـ ٦.

(٣) الأنفال : ٧٥.

(٤) النساء : ١١.

(٥) البقرة : ١٨٠.

٢٧١

وعمومه من أبي وابن عمّي؟ أم تقولون : أهل ملّتين لا يتوارثان؟ فدونكهما مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمّد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون »(١) .

أبو بكر يقتل المسلمين الذين امتنعوا عن إعطائه الزّكاة

أخرج البخاري في صحيحه كتاب استتابة المرتدّين باب قتل من أبى قبول الفرائض وما نُسبوا إلى الردّة ، ومسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس ، عن أبي هريرة قال : لمّا توفّي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستُخِلفَ أبو بكر وكفر من كفر من العرب ، قال عمر : يا أبا بكر ، كيف تُقاتل النّاس وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أُمرتُ أن أُقاتل النّاس حتى يقولوا : لا إله إلاّ الله ، فمن قال لا إله إلاّ الله عَصَمَ منّي مَالَه ونفسَهُ إلاّ بحقِّهِ وحسابه على الله؟

قال أبو بكر : والله لأقاتلنَّ منْ فرّق بينَ الصلاة والزّكاةِ ، فإنّ الزّكاة حقّ المال ، والله لو منعوني عُناقاً كانوا يؤدّونها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقاتلتهم على منعها ، قال عُمر : فوالله ما هو إلاّ أن رأيتُ أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتالِ ، فعرفت أنّه الحقّ.

وليس هذا بغريب على أبي بكر وعمر اللّذَيْن هدّدا بحرق بيت الزّهراء

____________

(١) وردت خطبة الزهراءعليها‌السلام في عدّة مصادر وبألفاظ مختلفة ، انظر : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٠ ، كشف الغمة للإربلي ٢ : ١٠٨ ، مروج الذهب ٢ : ٣٠٤ ، الاحتجاج للطبرسي ١ : ٢٥٣ ح ٤٩ ، بلاغات النساء لأحمد بن أبي طاهر : ١٤ ، المقتل للخوارزمي ١ : ٧٧ ، أعلام النساء ٤ : ١١٦ ، شرح الأخبار ٣ : ٣٤ ، دلائل الإمامة : ١٠٩ ح ٣٦ ، وغيرها.

٢٧٢

سيّدة النّساء بمن فيه من الصّحابة المتخلّفين عن البيعة(١) ، وإذا كان حرق علي وفاطمة والحسن والحسين ونخبة من خيرة الصّحابة الذين امتنعوا عن البيعة أمراً هيّناً عليهما ، فليس قتال مانعي الزّكاة إلاّ أمراً ميسوراً ، وما قيمة هؤلاء الأعراب الأباعد مقابل العترة الطّاهرة والصّحابة الأبرار!!

أضف إلى ذلك أنّ هؤلاء المتخلّفين عن البيعة يرون أنّ الخلافة هي حقّ لهم بنصّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحتّى على فرض عدم وجود النصّ عليهم فمن حقّهم الاعتراض والنقد والإدلاء بآرائهم إنْ كان هناك شورى كما يزعمون ، ومع ذلك فإنّ تهديدهم بالحرق أمرٌ ثابتٌ بالتّواتر ، ولولا استسلام عليّ وأمره للصّحابة بالخروج للبيعة حفاظاً على حقن دماء المسلمين ووحدة الإسلام لما تأخّر القائمون بالأمر عن إحراقهم.

أمّا وقد استتب الأمر لهم ، وقويت شوكتهم ، ولم يعدْ هناك معارضة تذكر بعد موت الزّهراء ومصالحة عليّ لهم ، فكيف يسـكتون عن بعض القبائل التي امتنعتْ عن دفع الزّكاة لهم بحجّة التريّث حتى يتبيّنوا أمر الخلافة ، وما وقع فيها بعد نبيهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تلك الخلافة التي اعترف عمر نفسه بأنّها فلتة(٢) .

____________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ : ٣٠ ، العقد الفريد ٥ : ١٣ في الذين تخلّفوا عن بيعة أبي بكر ، تاريخ أبي الفداء ١ : ٢١٩ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٨ : ٥٧٢ بسند حسن ، كنز العمال ٥ : ٦٥١ ح ١٤١٣٨ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ : ٤٥ ، فقد ورد فيها تهديد عمر بإحراق الدار.

(٢) صحيح البخاري ٨ : ٢٦ كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة ، باب رجم الحبلى من الزنا.

٢٧٣

إذاً ، ليس بالغريب أن يقوم أبو بكر وحكومته بقتل المسلمين الأبرياء ، وانتهاك حرماتهم ، وسبي نسائهم وذريتهم ، وقد ذكر المؤرّخون بأنّ أبا بكر بعث بخالد بن الوليد فأحرق قبيلة بني سليم(١) ، وبعثه إلى اليمامة ، وإلى بني تميم وقتلهم غدراً بعدما كتّفهم ، وضرب أعناقهم صبراً ، وقتل مالك بن نويرة الصّحابي الجليل الذي ولاّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على صدقات قومه ثقة به ، ودخل بزوجته في ليلة قتل زوجها(٢) ، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

وما ذنب مالك وقومه إلاّ أنّهم لمّا سمعوا بما حدث من أحداث بعد موت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما وقع من إبعاد عليّ وظلم الزّهراء حتى ماتت غاضبة عليهم ، وكذلك مخالفة سيّد الأنصار سعد بن عبادة وخروجه عن بيعتهم ، وما تناقله العرب من أخبار تُشكّك في صحّة البيعة لأبي بكر ، لكلّ ذلك تريّث مالك وقومه لإعطاء الزّكاة ، فكان الحكم الصّادر من الخليفة وأنصاره بقتلهم ، وسبي نسائهم وذريتهم ، وانتهاك حرماتهم ، وإخماد أنفاسهم ، حتّى لا يتفشّى في العرب رأي للمعارضة أو المناقشة في أمر الخلافة.

والمؤسف حقّاً أنّك تجد من يدافع عن أبي بكر وحكومته ، بل ويصحّح أخطاءه التي اعترف هُوَ بها(٣) ، ويقول كقول عمر : والله ما هو إلاّ أن رأيتُ أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال ، فعرفتُ أنّه الحقّ.

____________

(١) سير أعلام النبلاء للذهبي ١ : ٣٧٢ ، الرياض النضرة ١ : ١٢٩ ح ٣٠٢.

(٢) تاريخ الطبري ٢ : ٥٠٤ ، أُسد الغابة ٤ : ٢٩٦ ، البداية والنهاية ٦ : ٣٥٥.

(٣) عندما اعتذر لأخي مالك متمم وأعطاه ديّة مالك من بيت مال المسلمين وقال : إنّ خالداً تأوّل فأخطأ ( المؤلّف ).

٢٧٤

وهل لنا أن نسأل عمر عن سرّ اقتناعه بقتال المسلمين ، الذين شهد هو نفسه بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرّم قتالهم بمجرّد قولهم : لا إله إلاّ الله ، وعارض هو نفسه أبا بكر بهذا الحديث ، فكيف انقلب فجأة واقتنع بقتالهم ، وعرف أنّه الحقّ بمجرّد أن رأى أن قد شرح الله صدر أبي بكر ، فكيف تمت عمليّة شرح الصّدر هذه ، وكيف رآها عمر دون سائر الناس؟

وإن كانت عملية الشرح هذه معنوية وليست حقيقيّة ، فكيف يشرح الله صدور قوم بمخالفتهم لأحكامه التي رسمها على لسان رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! وكيف يقول الله لعباده على لسان نبيّه : من قال : لا إله إلاّ الله حرامٌ عليكم قتْله ، وحسابه علىَّ ، ثمّ يشرح صدر أبي بكر وعمر قتالهم؟ فهل نزل وحىٌّ عليهما بعد محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ أم هو الاجتهاد الذي اقتضته المصالح السيّاسية ، والتي ضربت بأحكام الله عرض الجدار؟

أمّا دعوى المدافعين : بأنّ هؤلاء ارتدّوا عن الإسلام فوجب قتلهم ، فهذا غير صحيح ، ومن له أيّ اطّلاع على كتب التّاريخ يعلم علم اليقين أنّ مانعي الزكاة لم يرتدّوا عن الإسلام ، كيف وقد صلّوا مع خالد وجماعته عندما حلّوا بفنائهم.

ثمّ إنّ أبا بكر نفسه أبطل هذه الدعوى الكاذبة بدفعه ديّة مالك من بيت مال المسلمين واعتذر عن قتله ، والمرتدّ لا يُعتذر عن قتله ولا تُدفع ديّته من بيت المال ، ولم يقل أحدٌ من السّلف الصالح أنّ مانعي الزكاة ارتدّوا عن الإسلام إلاّ في زمن متأخّر عندما أصبحتْ هناك مذاهب وفرق ، فأهل السنّة حاولوا جهدهم وبدون جدوى أن يبرّروا أفعال أبي بكر فلم يجدوا

٢٧٥

بدّاً من نسبة الارتداد إليهم; لأنهم عرفوا أن سبابُ المسلم فسوقٌ وقتاله كفرٌ ، كما جاء في صحاح أهل السنّة(١) .

وحتّى إنّ البخاري عندما أخرج حديث أبي بكر وقوله : « والله لأقتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة »(٢) جعلَ له باباً بعنوان : من أبى قبول الفرائض وما نُسِبُوا إلى الردّة ، وهو دليل على أنّ البخاري نفسه لا يعتقد بردّتهم ( كما لا يخفى ).

وحاول البعض الآخر تأويل الحديث كما تأوّله أبو بكر : بأنّ الزكاة هي حقّ المال ، وهو تأويل في غير محلّه.

أوّلا : لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرّم قتل من قال : لا إله إلاّ الله فقط ، وفي ذلك أحاديث كثيرة أثبتتها الصّحاح سنُوافيك بها.

ثانياً : لو كانت الزكاة حقّ المال ، فإنّ الحديث يُبيح في هذه الحالة أن يأخذ الحاكم الشرعي الزكاة بالقوّة من مانعها بدون قتله وسفك دمه.

ثالثاً : لو كان هذا التأويل صحيحاً لقاتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثعلبة الذي امتنع عن أداء الزكاة له ( القصّة معروفة لا داعي لذكرها )(٣) .

رابعاً : إليك ما أثبتته الصّحاح في حرمة من قال : لا إله إلاّ الله ، وسأقتصر على البخاري ومسلم ، وعلى بعض الأحاديث روماً للاختصار.

____________

(١) صحيح البخاري ١ : ١٧ كتاب الإيمان ، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر ، وصحيح مسلم ١ : ٥٨ كتاب الإيمان ، باب قول النبي : سباب المسلم فسوق وقتاله كفر.

(٢) صحيح البخاري ٨ : ٥٠ ، كتاب استتابة المرتدين.

(٣) راجع كتاب « ثمّ اهتديت » : ١٨٣ ، نشر مؤسسة الفجر لندن ( المؤلّف ).

٢٧٦

( أ ) أخرج مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان ، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال : لا إله إلاّ الله.

والبخاري في صحيحه في كتاب المغازي ، باب حدّثني خليفة عن المقداد بن الأسود أنّه قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أرأيتَ إن لقيتُ رجلا من الكفّار فاقتتلنا ، فضرب إحدى يدىَّ بالسّيف فقطعها؟ ثمّ لاذَ منّي بشجرة ، فقال : أسلمتُ لله ، أأقتلُهُ يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تقتُلْهُ » فقال : يا رسول الله إنّه قطع إحدى يدىَّ ، ثمّ قال ذلك بعدما قطعها ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تقْتلْهُ ، فإن قَتَلْتَهُ فإنَّهُ بمنزلتِكَ قبل أن تقتلَهُ ، وإنّك بمنزلتِهِ قبل أن يقول كلمتَهُ التي قال ».

هذا الحديث يفيد بأنّ الكافر الذي قال : لا إله إلاّ الله ولو بعد اعتدائه على مسلم بقطع يده فإنّه يحرمُ قتلُهُ ، وليس هناك اعتراف بمحمّد رسول الله ، ولا إقامة الصّلاة ، ولا إيتاء الزكاة ، ولا صوم رمضان ، ولا حجّ البيت ، فأينَ تذهبون وماذا تتأوّلون؟

( ب ) أخرج البخاري في صحيحه من كتاب المغازي ، باب بعْث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة ، وصحيح مسلم في كتاب الإيمان ، في باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال : لا إله إلاّ الله ، عن أُسامة بن زيد قال : بعثنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الحُرقة فصبحنا القوم فهزمناهُم ، ولحقت أنا ورجلٌ من الأنصار رَجُلا منهم ، فلمَّا غشينَاه قال : لا إله إلاّ الله ، فكفّ الأنصاري عنه ، وطعنتُهُ برُمحي حتّى قتلتُهُ ، فلمَّا قدمنا بلغ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « يا أُسامة أقتلتَهُ بعدما قال : لا إله إلاّ الله؟ » قلتُ : كان متعوّذاً ، فما زال

٢٧٧

يُكرّرُهَا حتّى تمنّيتُ أني لم أكنْ أسلمتُ قبل ذلك اليوم.

وهذا الحديث يفيد قطعاً بأنّ من قال : لا إله إلاّ الله يحرمُ قتله ، ولذلك ترى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشدّد النّكير على أُسامة ، حتى يتمنّى أُسامة أنّه لم يكن أسلم قبل ذلك اليوم ليشمله حديث « الإسلام يجبَّ ما قبله » ، ويطمع في مغفرة الله له ذلك الذنب الكبير.

( ت ) أخرج البخاري في صحيحه من كتاب اللّباس ، باب الثياب البيض ، وكذلك مسلم في صحيحه كتاب الإيمان ، باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة :

عن أبي ذر الغفاري ( رضي الله عنه ) ، قال : أتيتُ النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليه ثوبٌ أبيضٌ وهو نائم ، ثمّ أتيتُه وقد استيقظ ، فقال : « ما من عبد قال : لا إله إلاّ الله ثمّ ماتَ على ذلك إلاّ دخل الجنّة » ، قلتُ : وإن زنى وإن سرق؟ قال : « وإن زنى وإن سرق » ، قلتُ : وإن زنى وإن سَرَقَ؟ قال : « وإن زنى وإن سرقَ » ، قلتُ : وإن زنى وإن سرق؟ قال : « وإن زنى وإن سَرَقَ على رغم أنفِ أبي ذرّ ». وكان أبو ذرّ إذا حدّث بهذا الحديث قال : وإن رغم أنف أبي ذرّ.

وهذا الحديث هو الآخر يثبت دخول الجنّة لمن قال : لا إله إلاّ الله ، ومات على ذلك فلا يجوز قتلهم ، وذلك رغم أنف أبي بكر وعمر ، وكلّ أنصارهم الذين يتأوّلون الحقائق ويَقبلونها حفاظاً على كرامة أسلافهم وكبرائهم الذين غيّروا أحكام الله.

وبالتأكيد أنّ أبا بكر وعمر يعرفان كلّ هذه الأحكام ، فهما أقرب منّا لمعرفتها ، وألصق بصاحب الرسالة من غيرهما ، ولكنّهما ومن أجل الخلافة

٢٧٨

تأوّلا جُلّ أحكام الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على علم وبيّنة.

ولعلّ أبا بكر لمّا عزم على قتال مانعي الزّكاة ، وعارضه عمر بحديث الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يحرمَ ذلك أقنع صاحبه بأنّه هو الذي حمل الحطب ليحرق بيت فاطمة بنفسه ، وأنّ فاطمة أقلّ ما يقال بحقها : إنّها كانت تشهد أن لا إله إلاّ الله ، ثمّ أقنعه بأنّ فاطمة وعلىّ لم يعد لهما كبير شأن في عاصمة الخلافة ، بينما هؤلاء القبائل الذين منعوا الزكاة لو تركوهم واستشرى أمرهم في داخل البلاد الإسلامية ، فسيكون لهم تأثير كبير على مركز الخلافة ، عند ذلك رأى عمر أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال ، فاعترف بأنّه الحقّ.

أبو بكر يمنع من كتابة السنّة النبويّة

وكذلك يفعل بعده عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان

إنّ الباحث إذا ما قرأ كتب التّاريخ ، وأحَاط ببعض الخلْفيّات التي توخّتها حكومة الخلفاء الثلاثة ، علم عِلم اليقين بأنّهم هم الذين منعوا من كتابة الحديث النّبوي الشريف وتدوينه ، بل منعوا حتى التحدّث به ونقله إلى النّاس; لأنّهم بلا شكّ علموا بأنّه لا يخدم مصالحهم ، أو على الأقل يتعارض ويتناقض مع الكثير من أحكامهم ، وما تأوّلوه حسب اجتهاداتهم ، وما اقتضته مصالحهم.

وبقي حديث النبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذي هو المصدر الثاني للتشريع الإسلامي ، بل هو المفسّر والمبيّن للمصدر الأوّل ألا وهو القرآن الكريم ، بقىّ ممنوعاً ومحرَّماً على عهدهم ، ولذلك اتفقت كلمة المحدّثين والمؤرّخين على بداية جمع الحديث والتدوين في عهد عمر بن عبد العزيز ( رضي الله عنه ) أو بعده بقليل.

٢٧٩

فقد نقل البخاري في صحيحه في كتاب العلم ، باب كيف يقبض العلم قال : وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم : أنظر ما كان من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاكتبه ، فإنّي خفتُ دروس العلم وذهاب العلماء ، ولا يقبل إلاّ حديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليفشوا العلم ، وليجلسوا حتّى يُعلَّمَ من لا يعلمُ ، فإنّ العلمَ لا يهلكُ حتّى يكون سرّاً.

فهذا أبو بكر يخطب في النّاس بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا لهم : إنّكم تحدّثون عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديث تختلفون فيها ، والنّاس بعدكم أشدّ اختلافاً ، فلا تحدّثوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلّوا حلاله وحرّمواحرامه(١) .

عجيبٌ والله أمر أبي بكر! ها هو وبعد أيام قلائل من ذلك اليوم المشـؤوم الذي سُمِّيَ برزيّة يوم الخميس ، يُوافق ما قاله صاحبه عمر بن الخطّاب بالضّـبط عندما قال : إنّ رسول الله يهجر وحسبنا كتاب الله يكفينا!!

وها هو يقول : لا تُحدّثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه.

والحمد لله على اعترافه صراحة بأنّهم نبذوا سنّة نبيّهم وراء ظهورهم ، وكانت عندهم نسياً منسياً!!

والسّؤال هنا إلى أهل السنّة والجماعة الذين يدافعون عن أبي بكر وعمر ، ويعتبرانهما أفضل الخلق بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا كانت صحاحكم كما تعتقدون تروي بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « تركت فيكم خليفتين ما إن

____________

(١) تذكرة الحفاظ للذهبي ١ : ٣.

٢٨٠